الاصداراتتقدير موقف

مأزق حكومة دياب

(بين الاقتصاد والسياسية)

مقدمة:

في ظل تصاعد الأزمات الاقتصادية والسياسية اللبنانية منذ انطلاق احتجاجات 17- تشرين الثاني/نوفمبر 2019، أصبحلبنان مُقبلًا على مرحلة حرجة تُنذر بانهيار اقتصاده وإفلاس مصارفه البنكية، ونزيف مجتمعي قد يُدخل البلاد في أتون حرب كارثية تُعيدنا لأحداث الحرب الأهلية في سبعينيَّات القرن الماضي، وأزمات ما سمي بثورة الأرز 2005 التي نتج عنها اغتيال رفيق الحريري،[1] وتوترات 7 أيار التي أحكمت قبضة حزب الله الأمنية على بيروت.[2]

كل هذه الأزمات وأكثر قد تظهر من جديد في الشارع اللبناني، في حال لم تستطع الحكومة السياسية الجديدة بقيادة حسان دياب إيجاد حلول سريعة تُنقذ البلاد من خطر الإفلاس المالي، وتمنع انهيار قطاعاته الزراعية والصناعية والصحية والتعليمية، تُحسن من دخل ومستوى المعيشة للفرد، وتجد حلولًا منطقية لكيفية التعامل مع الديون الخارجية التي يضع المانحون شروطًا على الحكومة في سبيل معالجتها ضمن برنامج- سيدر.[3] إضافًة إلى أن غياب القطع الأجنبية ومشاكل المصارف مع فئات الشعب والاشتباك المالي مع نظام الحكم في دمشق، قد زاد من مأزق الحكومة ووضعها وجهًا لوجه أمام تحديات قد تفوق كامل قدراتها.

 وعليه تسود حالة ترقب دولي ومحلي على لبنان لمعرفة مآلات المرحلة القادمة المرهونة بخيارات وتوجهات الحكومة المنتجة من وراء الكواليس بجهود بعض الشخصيات السياسية كرئيس الجمهورية ميشيل عون ووزير الخارجية جبران باسيل والأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصرالله، وفي حال عدم نجاح الحكومة تجاوز الأزمات فإن خياراتها ستكون ضيقة كونها أساسًا لم تحظَ بثقة الشعب الرافض لها، بعد اتهامها بأنها حكومة لون واحد ولا تُعبّر عن مطلب الحراك في تشكيل حكومة مستقلين واختصاصين، بل على العكس ذهبوا لاعتبار حكومة دياب أنها حكومة سياسية جاءت بدعم حسن نصرالله بهدف الإبقاء على سلطة المحاصصة الطائفية كأساس الحكم في البلاد منذ توقيع اتفاق الطائف.[4]

وفي سياق ذلك فإن إشكالية لبنان باتت معقّدة ولا تقتصر على طرف دون آخر، أو قطاع بمعزل عن آخر، بل إن تراكم الأزمات على مدار ثلاثة عقود ماضية، أفرزت إشكاليات متعدّدة، بحيث أصبحت أزمة المصارف لا تنفصل عن تردي المستوى المعيشي وغياب فرص العمل، وارتفاع خط الفقر، وتراجع الحريات وارتفاع منسوب العنف على وقع تدمير آخر جسور الثقة بين الحكومة والشعب، فضلّا عن حالة التصدّع والانقسام السياسي بين تحالف 8 آذار و14 أيار.

رغم ذلك يتضح أن ملف الاقتصاد واستشراء الفساد في كافة مؤسسات الدولة، هما اللذان كشفا عن فشل إدارة البلاد لملف الاقتصاد عبر حكومات متعاقبة، ولأول مرة يصبح لبنان على حافة الانهيار الكلي ماليًا، الأمر الذي قاد _في موجة الاحتجاجات الراهنة_ لتجاوز كل الشعارات الطائفية، بحيث ارتفع سقف مطالب الحراك من اجتماعية واقتصادية إلى سياسية تُطالب بتغيير كامل رموز النظام السياسي، والتحول لدولة مدنية تصون الحقوق والحريات.[5]

 وما بين مطالب الحراك وترنّح اقتصاد البلاد تغدو الحكومة أمام تحديات قد تفوق قدراتها، فهي من جهة تبحث عن نيل ثقة الشارع وتتعهد في تلبية مطالبهم وإنقاذ البلاد من حالة العجز الاقتصادي علمًا أنها تفتقر للتمثيل السني، ومن جهة أخرى تبحث عن مخارج لجذب المنح المالية من الخارج وإعادة عجلة الاستثمار في ظل ترددها في الاستجابة لرغبة الدول التي رهنت شروط  تقديم المساعدات بحزمة من الشروط الإصلاحية كإحداث تغيير في بنية النظام وتطبيق إصلاحات اقتصادية وتشكيل حكومة تكنوقراط، وتحديد موقف الحكومة في مصير مستقبل ترسيم الحدود البحرية والأحواض الغازية المكتشفة المتنازع عليها بين الدول الكبرى.

ومن خلال وصف المشهد العام اللبناني، فإن محاولة التكهن بخيارات الحكومة تستدعي إعادة النظر في مسببات الحراك الأخير والأسباب التي دفعت الأطراف السياسية للتوافق على إنتاج حكومة جديدة، وصولًا للتحديات الماثلة أمامها في معادلة قد تبدو شبه مستحيلة تتمحور حول كيفية التوفيق بين مطالب الحراك السلمي، وإرضاء الحلفاء السياسيين والرغبة الدولية.

دوافع الحراك

الأسباب الاقتصادية كانت الشرارة الأولى التي تسببت في اندلاع الاحتجاجات الأخيرة، فلبنان يُعاني من تراكم ديون ضحمة جعلته يحتل المرتبة الثالثة عالميًّا من ناحية حجم الدين العام.[6] كما أن النمو في البلاد منخفض والتضخم وصل 2.90% في 2019، وفقَ “إدارة الإحصاء المركزي”.[7] وفي دراسة أجرتها جمعية “مبادرات وقرارات”[8] لمعرفة أسباب توجه الشباب نحو الإرهاب والمخدرات وآفات المجتمع، تبين أنّ نسبة البطالة في لبنان بلغت 36%، أي 660 ألف شخص عاطلون عن العمل.

ليس ذلك فحسب إذ يعاني لبنان من أزمات مالية حادة اشتدت مؤخرًا بعد فرض الحكومة قيود على البنوك في سحب نسب للمودعين، وقد جاء هذه الإجراء بعد ازدياد الطلب على الدولار في سوق النقد، حيث بلغت نسبة استعمال الدولار بدل العملة الوطنية  73.4وهو أعلى مستوى لها منذ يوليو/تموز 2008،[9] الأمر الذي خلق أزمة مصرفية ونقدية حقيقية. وعلى الرغم من كل الوعود التي أطلقها السياسيون لحل المشكلة لكنها لم تتوّج في إيجاد حلول تخفف من مواجهة الطلب المتزايد على الدولار، ويعود السبب الفعلي في تفسير ذلك، لحالة العجز التي تفوق مقومات الحكومة اللبنانية، فهي ترى أن حل المشكلة يتطلّب اللجوء إلى استخدام احتياطي النقد الأجنبي لديها والذي يُقدر بنحو خمسة إلى عشرة مليارات دولار، لكن بنفس الوقت لا ترغب في استعمال هذا الخيار على الأقل في الوقت الحالي، لأنها قد تضطر إلى استخدامه في المدفوعات القادمة لخدمة الدين الخارجي للحكومة.

كما يُضاف لدوافع الحراك الملف الأكثر حساسية لدى شرائح لبنانية كبيرة متعلق بملف الكهرباء فلبنان يُعاني من انقطاع للكهرباء وعدم توفيرها بما يلبي احتياجات الشعب لأكثر من عقدين من الزمن، ويكلف خزينة الدولة حوالي ملياري دولار.[10] ومن هذا المنطلق، يتضح غياب إرادة حقيقية عند بعض السياسيين وسلطة الأحزاب المنتفعين من تأمين الطاقة البديلة الخاصة التي تعود عليهم بأرباح طائلة في إيجاد حل لهذا الملف والذي أصبح مطروحًا بشكل دائم داخل حزمة أزمات لبنان الاقتصادية الجديدة وفق مؤشرات موضحة كما في الشكل.

وتماشيًا مع أزمات الاقتصاد والمال لا تغيب بين دوافع الحراك حقيقة استياء اللبنانيين من سياسات حزب الله اللبناني السياسية والاقتصادية في لبنان، حيث قادت استراتيجيات الأخير إلى إنشاء اقتصادٍ موازٍ خاصٍّ به استنزف بشكل مباشر اقتصاد لبنان عبر مصادرته القرار السيادي في لبنان وإدخال البلاد في أتون صراعات التيارات الإقليمية لصالح إيران والتي أعلن صراحة أنه ذراعها فيما سمَّاه محور المقاومة في المنطقة.

ولعل سطوة حزب الله تعود لنجاحه في توظيف كل الأزمات التي مر بها لبنان لصالح أجندته الخاصة، بدءًا من حرب تموز وأحداث 7 أيار وصولًا لحصوله على الغالبية المطلقة داخل البرلمان في انتخابات 2018،[11] حيث تمكن من بناء منظومة تسليح قوية أصبحت أشبه بجيش موازي داخل دولة لبنان للقوات النظامية، خصوصًا بعد أن أصبحت ميليشياته عابرة للحدود وانخرطت بشكل مباشر في قمع احتجاجات العراق، وسورية واليمن. 

وبما يتعلق بنموذج الاقتصاد الموازي، استطاع حزب الله توسيع شبكته المالية ومصادر تمويل أنشطته داخل لبنان وخارجها، بحيث أصبحت شبكاته عابرة للحدود، وقد ساعدته الظروف التي مرت بها دول الربيع العربي على استغلال بعض مواردها في رفع منسوب اقتصاده الخاص، كما استثمر في البيئة الجغرافية لتلك الدول واستخدامها في تجارة المخدرات وتهريب السلاح لجني أموال إضافية. فضلا عن الدعم المقدم من إيران والذي يقدر بـ 800 مليون دولار سنويًا،[12] حيث يتم صرف تلك الأموال بأمر من المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي مباشرة، وبعد الضغوطات الاقتصادية التي تم فرضها على إيران من قبل الولايات المتحدة، وتأثيرها على مستقبل الدعم المقدم للحزب، اتجه الأخير إلى تكثيف أنشطته الاقتصادية غير القانونية عبر إدارته لشبكات مافيا وعصابات في دول كولومبيا وأمريكا اللاتينية وشرق أوروبا. عدا عن إدارته شركات وهمية تشارك في مناقصات ومشاريع داخل لبنان وخارجه، وتعود أرباحها إليه مباشرة.

كل هذه الأسباب مجتمعة دفعت اللبنانيين إلى النزول للشارع بهدف مواجهة كامل رموز السلطة التي تورطت في أزمة الفساد مترافقًا ذلك مع اقتسام السياسيين للمال العام وخزينة الدولة، ووفقًا لـ “مؤشر مدركات الفساد”[13] الذي تصدره “منظمة الشفافية الدولية” المسؤولة عن مراقبة الفساد، حلّ لبنان في المرتبة 138 عالميًا من أصل 180 دولة.

وقد استطاع الحراك في أسابيعه الأولى وبعد تجاوزه كل حدود الطائفية إسقاط حكومة سعد الحريري ودفعِه للاستقالة في 29- تشرين الثاني/ نوفمبر2019 بعد أن أدرك أن بقاءه على رأس حكومة سيُشكل خطرًا على مستقبل تيار المستقبل في الحياة السياسية اللبنانية المقبلة. بالتالي فإن خطوة الحريري كانت هروبًا إلى الأمام للتخلص من المسؤولية الملقاة على عاتقه بإدارة الحكومة، فكان أفضل الخيارات بالنسبة للتيار وللحريري مواكبة مطالب المحتجين، لكن قد يبقى ذلك في الظاهر بعد ظهور بوادر عودته للحياة السياسية وبحلة جديدة وببرنامج سياسي جديد.[14] وبالنسبة للتيارات الفاعلة الأخرى التي أيدت الحراك ومنها حزب القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي والكتائب اللبنانية، فهي تتطلّع للعب دور المُمثّل لصوت المتظاهرين، وأن تكون الغطاء السياسي لمطالبهم، في توليفة الحكومة الجديدة مع حسان دياب والذي وصل لرئاسة الحكومة بعد مخاص عسير وصراع حاد بين الأحزاب السياسية، مما طرح عدة تساؤلات عن كيفية التوافق التي تشكلت بين القوى السياسية والتي وصلت بهم لتصدير دياب لواجهة الحكومة، في وقت كان فيه بعض السياسيين كحزب الله ورئيس الجمهورية ميشيل عون يتمسكون بحكومة الحريري ويتوعدون المتظاهرين بمصير مشابه لسورية واليمن.

انبثاق حكومة دياب

توجد عدة دلائل ومعطيات دفعت جميع القوى السياسية في لبنان للوقوف على مسافة واحدة مع حزب الله اللبناني، كون أن جميع الأحزاب لديها مصلحة في استمرار تفاهمات ضمنية مع صاحب التمثيل الأكبر داخل البرلمان للحفاظ على مصالحها، وكون أن حزب الله لن يقبل بإقصائه خارج معادلة السلطة السياسية، اختار الانحياز إلى الحفاظ على توازن القوى السياسية داخل لبنان وبقاء قرارها بيده، بنفس الوقت يطمح إلى إبعاد خطر عزلة لبنان عن محيطها الحيوي، عبر تبنّي استراتيجيات الضغط على الولايات المتحدة والحلفاء الأوربيين المانحين للمساعدات اللبنانية كفرنسا، كي يبقي على مصالحه التي بناها خلال العقود السابقة.

بالتالي عندما شعر أن حجم الأزمات الشاملة التي يمر بها لبنان تفوق قدراته في ضبطها والسيطرة عليها في ظل استمرار تنامي الحراك، رأى أن التنازل أصبح أمر حتمي ولا بد منه، بخلاف موقفه الأولي في بداية الحراك المّوجه لمنع سقوط حكومة العهد، مع ذلك ورغم أن استقالة سعد الحريري  قلبت الحسابات السياسية لحزب الله، إلا أن الأخير لم يرفع من سقف تنازلاته للخروج من المأزق بل لجأ إلى مناورة سياسية واستفاد من مواقف رئيس الجمهورية ميشيل عون المساندة له، في تجيير الظروف لصالحه، حيث نجح في قطع الطريق على كامل المرشحين الذين قدمهم الحريري ومنهم نواف سلام الذي استلم سابقا منصب سفير لبنان لدى الأمم المتحدة، ودفع حسان دياب للواجهة لتشكيل حكومة ظاهرية.

 وحسب الأسماء التي تم الاتفاق عليها لتشكيل الحكومة يوجد 12 وزير داخلها لديهم جنسية أمريكية وهي الورقة التي سيستغلها حزب الله في إنشاء قناة تواصل مع أمريكا للتفاوض معها على اعتبار الحزب قوة أساسية في نظام الحكم السياسي في لبنان، أي أن الحزب يراهن على نزع موافقة الولايات المتحدة إبقائه داخل معادلات الحكم في لبنان مقابل التفاوض معها عن طريق حكومة دياب على مصالحها الحيوية في موضوع أمن إسرائيل في الجبهة الشمالية بالإضافة إلى محاولة تخفيف العقوبات المفروضة عليه ومنع إدراج شخصيات أخرى تابعة له على قائمة الإرهاب.[15]

مجمل ذلك يفسر أن الكتل السياسية ذهبت لترشيح دياب في تشكيل حكومة تكنو سياسية، بهدف الخروج من المأزق السياسي والاقتصادي، فبالنسبة لتحالف 14 آذار يرغب في إبعاده تحميله المسؤولية عن أزمات الاقتصاد التي تمر بها البلاد، تماشيًا مع رغبتهم في تشكيل حكومة كواجهة يكون المتحكمين الرئيسيين فيها من الخلف جبران باسيل ونبيه بري وميشيل عون.

بالمقابل فإن تحالف 8 آذار بما فيها حركة أمل والتيار الوطن الحر وحزب الله سيكون لهم الدور الأبرز في خيارات حكومة دياب والتحكم بها بما يتناسب مع إدارة الأزمة ضمن فلك أجندات الحزب داخل لبنان وخارجه مع الأطراف الدولية، وبذلك تصبح الحكومة عبارة عن غطاء سياسي لجأ إليها حزب الله على وجه الخصوص لاستخدامها كقوة ضاغطة على الإدارة الأمريكية الرافضة لأي وجود له فيها، وما يعزز هذه الوقائع تسريب بعض المعلومات التي تؤكد دور حسن نصر الله في تبني دعم حسان دياب لرئاسة الحكومة وتشكيلها وتمريرها رغم مخالفة قوانين الدستور في جلسة الثقة التي تمت في فبراير 2020.[16]

كما رأت بعض المصادر الدبلوماسية أن المناورة التي لجأ إليها حزب الله عبر تعيين شخصية سنيّة لا وزن لها داخل الأوساط السنية اللبنانية هي بمثابة رسالة للولايات المتحدة مفادها أن حزب الله يبلغ الإدارة الأميركية بأن القرار السياسي في لبنان له، وأن سلسلة العقوبات القاسية التي فرضتها على الحزب منذ إدارة الرئيس باراك أوباما لم تغير شيئا من توازن القوى السياسية في لبنان، وأن هيمنته ما زالت هي القاعدة في البلد.

وبذلك يضرب حزب الله عرض الحائط كامل مطالب الحراك السلمي، ويضع حكومة دياب وجهًا لوجه أمام الكم الهائل من التحديات والأزمات، على حساب تحديد دوره المستقبلي في لبنان ونفوذه في جواره الحيوي، وكل ذلك سيتضح في الموقف النهائي للولايات المتحدة حول مآلات المفاوضات الخاصة بتحديد مستقبل نفوذ إيران في المنطقة.

تحديات حكومة دياب ومستقبلها

تُدرك حكومة دياب أن الأزمة المالية ووضع البنوك وبقية القطاعات التي تغذي الاقتصاد هي العقبة الرئيسية التي تقف أمامها، وهي بمثابة اختبار قد يحدد أطر بقائها أو حلها على ضوء السلوك والمنهج المُتبّع في إدارة الأزمة، كما تعي الحكومة أن النجاح في الاختبار يتطلب تجاوز ثلاثة عقبات رئيسية تتمثل في إعادة الثقة مع المجتمع الدولي، وتشجيع الدول المانحة على تقديم الدعم المالي المطلوب للنهوض لإنعاش اقتصاد لبنان وتدوير عجلته الإنتاجية، يُضاف لذلك استعادة الثقة الداخلية مع فئات الشعب والحراك السلمي وإنهاء حالة التشظي المجتمعي والتوجه نحو الاستقرار المالي ويمكن النظر لهذه التحديات وفقً ما يأتي:

نيل ثقة الشعب

منذ اللحظة الأولى لإعلان الحكومة تحرك الشارع اللبناني ضدها وأعلن رفضه لها وتعود مسببات الرفض إلى رؤية الحراك ذاته الذي يرى أن الحكومة هي محاولة التفاف على مطالب الشعب وإعادة تدوير لزوايا السلطة بنفس النهج القديم القائم على نظام المحاصصة الطائفي، وهو ما دفعها لتسميتها بحكومة اللون الواحد وطالبت بإسقاطها.

وفي طرق كسب ثقة الشارع يكمن التحدي الأساسي أمام حكومة دياب، فهي بحاجة لإقناع المحتجين والمعتصمين بأنها ليست حكومة السياسيين المتهمين بانهيار البلاد وانتشار الفساد، بل هي حكومة تحاكي تطلعات المعتصمين والمحتجين، وستعمل على تلبية تطلعاتهم وحل الأزمة المالية الاقتصادية وستكافح الفساد وستضع حدًا للهدر والسرقة والتهرب والتهريب وستعمل على إعادة الأموال المنهوبة.

لذا تسود حالة ترّقب داخل الأوساط اللبنانية للنظر في مدى إمكانية الحكومة إرضاء الشعب، أو اللجوء لخيار المواجهة معهم، لكن إذا ما نجحت حكومة دياب في إقناع الشارع بذلك تكون نجحت في الخطوة الأولى التي يمكن البناء عليها مستقبلًا، أما إذا فشلت فإنها لن تتمكن من الصمود طويلًا أمام الأزمات التي ستتوالد وتتكاثر ولن تجد لها حلًا وقد تلجأ للاعتذار وحل نفسها والعودة للمربع الأول.

عائق الاقتصاد

تتلخّص عقبات الاقتصاد التي ستواجه حكومة دياب في ثلاثة محطات (أزمات الديون الخارجية، وأزمة البنوك مع المواطنين، واشتباك مالي مع النظام السوري).

_ الديون الخارجية

ستُواجه الحكومة الجديدة صعوبات كثيرة في مواجهة أزمات الاقتصاد المتعلقة بأزمة المصارف والبنوك والتهرب الضريبي وأزمة الديون والسندات المالية المستحقة والتي سددت الحكومة في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم سندًا سياديًّا بقيمة 1.5 مليار دولار لكن هناك استحقاق آخر في مارس/آذار 2020، قيمته 1.2 مليار دولار، و700 مليون دولار في أبريل/نيسان، و600 مليون دولار في يونيو/حزيران 2020.

ونظرًا لعدم وجود برنامج واضح لدى الحكومة في التعامل مع هذا الملف، لجأت مؤخرًا لإجراء سلسلة مباحثات مع صندوق البنك الدولي،[17] وطرحت عليه هيكلة الديون، وفي حال فشلت جهودها في تحقيق هذا الطلب قد تضطر في نهاية المطاف إلى السيطرة على جزء من الودائع المصرفية للمودعين لسداد المبالغ المالية المستحقة، وتعتبر هذه الاستحقاقات من أهم التحديات التي ستواجه هذه الحكومة من أجل تحسين التصنيف الائتماني للبنان، وعدم الوصول إلى مرحلة الإفلاس، وما له من تبعات خطيرة، وأيضًا من أجل الحفاظ على الثقة بسندات الدين اللبنانية.

_ أزمة البنوك

يُعدّ البنك المصرفي المركزي اللبناني عصب اقتصاد لبنان والمسؤول الأول عن تنفيذ السياستين المالية والنقدية التي تحدد بشكل كبير الأهداف الاقتصادية للدولة، وحتى مطلع 2019، استطاع البنك تحقيق توازن وضبط التعاملات المالية للدولة، لكن سرعان ما تغيّرت الأمور على وقع تصاعد الأزمات وغياب قدرة المصرف تأمين سيولة للمودعين ما أدى إلى حدوث اعتداء على المصارف من المواطنين وتدخل قوات الأمن وشن اعتقالات.

ويعود السبب الرئيسي في تفاقم الأزمة المالية مع المواطنين، إلى ارتفاع مستوى الدين العام إلى مستويات قياسية للدولة، ما يفسر أنّ القطاع المصرفي ليس المُسبب المباشر للأزمة بل التخبط السياسي للأحزاب السياسية وفشلها في إدارة البلاد، حيث أظهرت الاحتجاجات الراهنة مدى افتقارهم لأبسط مقومات النهوض الاقتصادي، ولا يوجد دراسة جدية للحل رغم ادعاء الحكومة الجديدة امتلاكها لها، فما زالت السلطات تفكر في أسلوب بعيد عن مستقبل لبنان واللبنانيين، وهذا ما يجعل كل مؤشرات النمو إلى انحدار سريع.[18]

وفي ظل بحث الحكومة عن حلول توافقية لأزمة الديون والمصارف المالية ستضطر أيضًا إلى النظر في أزمة الكهرباء وإيجاد حلٍّ لها إذا ما أرادت إعادة جسور الثقة مع المحتجين الذين يراهنون على فشل هذه الحكومة لاعتبارات تتعلق بوجود حالة تنافسية منفعية عند بعض السياسيين الذين يشرفون على إدارة هذا الملف عبر تأمين حلول بديلة كمولدات خاصة تعود عليهم بمبالغ طائلة، وفي حال مارست حكومة دياب ضغوطًا لتحسين وضع الكهرباء قد تشتد الصراعات البينية بين شخصيات سياسية إذا ما دعت الحلول إلى إنهاء سيل المال بأيدي قلة قليلة من المستفيدين والفاسدين الذين سيشكلون أيضًا عقبة أمام الحكومة حيال إقرارها تطبيق برنامج متكامل لمكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة لا سيما أن هذه النداءات كانت حاضرة في أدبيات الحراك والاحتجاجات الشعبية، حيث تم التركيز بشكل خاص وتحولت لمطلب أساسي في المظاهرات التي شهدتها معظم المناطق اللبنانية.

_اشتباك مالي مع النظام السوري

منذ اندلاع الأحداث في سوريا منتصف مارس/آذار 2011 تم استهداف اقتصاد النظام السوري بسلسلة من العقوبات الأمريكية والتي قادت خلال سنوات إلى إحداث شلل في عجلة الاقتصاد وانهيار في العملة السورية مقابل الدولار لمستويات لم تبلغها منذ عقود، ما أدى إلى لجوء رجال المال السوريين المتحكمين برأس المال السياسي والداعمين الفعليين لاقتصاده إلى الاعتماد على المصارف اللبنانية لإدخال العملية الصعبة للبلاد بهدف منع انهيار كلي لليرة السورية، لكن مع الأحداث الأخيرة في لبنان ووصول الأزمة لدرجة التهديد بإفلاس مصارفها المالية، بات الأمر يجري بشكل معاكس، حيث أصبح التجار اللبنانيون يشترون الدولار من السوق السورية، ما زاد الطلب عليه أكثر، وبالتالي تراجع سعر صرف الليرة السورية وتجاوز عتبة الألف دولار، وبالتالي أصبح التراجع والانهيار للسيولة بين البلدين يجري بشكل طردي، خصوصًا بعد قيام بعض رجال أعمال سوريين سحب أموالهم من بنوك لبنان وتهريبها للخارج.

التحدي مع المجتمع الدولي

يعد موضوع إعادة كسب ثقة المجتمع الدولي، العائق الأكبر والتحدي الأهم أمام حكومة دياب، لأنه المدخل الأول والجوهري لحلحلة أزمات الاقتصاد وإبعاد لبنان عن هواجس سياسات التقشف لعقود من الزمن، لكن لا يبدو الأمر سهلًا في ظل قوة التأثير لحزب الله اللبناني، والذي يرغب بتأمين المساعدات دون تقديمه تنازلات جوهرية، وهذا ما دعا وزير الخارجية الأمريكي للرد على رسائل حزب الله في لقاء مع وكالة ” بلومبيرغ”[19] بالقول إن بلاده مستعدة لتقديم الدعم للبنان ولكن فقط لحكومة ملتزمة في تطبيق سياسات إصلاحية.

ومن المعروف أن الولايات المتحدة تُمارس ضغوطًا على النظام في لبنان عبر فرض عقوبات على شخصيات من حزب الله وشخصيات أخرى اعتبرتها مرتبطة به، ومن المتوقع أن تستمر إدارة ترامب في نفس النهج وممكن أن توسع دائرة الاستهداف لزعماء سياسيين من الكتل والتيارات السياسية قريبة في ميولها مع توجهات الحزب أو متحالفة معها، والجدير ذكره أن الولايات المتحدة تضغط أيضًا على حلفائها الأوربيين للمضي قدمًا في نفس النهج الأمريكي، أي استمرار وضع القيود على المنح المالية ريثما تظهر نتائج عملية خاصة في برامج الحكومة وطريقة تعاملها مع الحراك وإدارتها لبرامج إصلاحية.

وأمام هذه التحديات يبدو أن حكومة دياب ستكون أمام مسؤولية كبرى ومهمة صعبة في نيل ثقة المجتمع الدولي والعربي، فضلًا عن أنها أمام تحدي إبعاد لبنان عن المحاور الإقليمية والصراعات القائمة في المنطقة، وإلًا فإن الفشل في ذلك سيفاقم الأزمة ويضع لبنان في مواجهة كبرى وستكون تبعاتها حاضرة في كافة مجالات الحياة.

خاتمة

بناءً على ما تم ذِكره يبدو أن لبنان دخل فعليًا مرحلة مغايرة  تختلف عن كل المراحل السابقة من حيث سياقاتها عن الأحداث الجارية، والعلامة الفارقة تكمن في انتقال لبنان إلى مسار التغيير الجزئي، حيث استطاعت موجات الحراك منذ انطلاقها في 17- تشرين الثاني تغيير التوازنات بين الكتل السياسية والأحزاب، وذلك عبر إسقاط حكومة العهد واستقالة الحريري، وصولًا إلى إجبار القوى الفعلية المتحكمة في المشهد السياسي، إلى استخدام آخر أوراقها في مناورة إنتاج حكومة دياب، علمًا أن الفرز الراهن ورغم التقاء الجميع على ضرورة إنقاذ لبنان من أزماته الاقتصادية والمالية، إلا أن ذلك لا يعني إنهاء حالة التنافس على الحصص الوزارية الحساسة كوزارة الدفاع والخارجية والمالية، ناهيك عن إنتاج معارضة للنظام الحالي ممثلة بتيار المستقبل والقوات اللبنانية وكتل أخرى كانت قد أعلنت رفضها المشاركة في تشكيل الحكومة الحالية، وربما يعود السبب الحقيقي من وراء الرفض الهروب نحو الأمام والعودة للحياة السياسية كما يفعل سعد الحريري، إذ تشير تحركاته الأخيرة أنه يعمل على إعادة ترتيب البيت الداخلي لحزبه في تيار المستقبل بهدف الظهور في مرحلة قد تظهر لاحقًا إذا ما فشلت حكومة دياب أو تم التخطيط لإفشالها.

من ناحية أخرى تبقى التحديات الماثلة أمام حكومة دياب هي الرهان الحقيقي التي ستحدد اتجاهات ومستقبل لبنان وهذه الرؤية ستتضح أكثر على خلفية النتائج التي ستترتب من وراء خيارات الحكومة في التعاطي مع الأزمات الاقتصادية والمالية ومطالب الحراك السلمي، وبموجبه وبعد إعادة النظر في طريقة تشكيل حكومة دياب وانبثاقها يبدو أن سقف الآمال تبقى منخفضة لإنقاذ لبنان مع وجود قوة ضاغطة عليها كحزب الله اللبناني، الأمر الذي يرجح فشل الحكومة في التزامها بكامل تعهداتها، وقد يكون مصيرها مشابه لحكومة سعد الحريري، أي العودة للمربع الأول وإعادة ترشيح شخص آخر يكون محل ثقة حقيقية لكل الأطراف الداخلية والخارجية، ما سيجعل الكلفة باهظة الثمن على اللبنانيين والذين قد يعيدون زخم حراكهم من جديد إلى الشارع اللبناني.


[1] http://bit.ly/2Ta7VfD

الشرق الأوسط، أبرز الأحداث التي مر بها لبنان منذ اغتيال الحريري، ن- بـ 13- فبراير- 2018.

[2] http://bit.ly/32kdexn

برق للسياسات والاستشارات، نفوذ حزب الله وذكرى أحداث 7 أيار، ن- بـ 29- يونيو- 2019.

[3] http://bit.ly/2Ve5gUS

لبنان 24- تفاصيل وحصص “سيدر”: إليكم المشاريع والمناطق وكيف سيقسّم الـ11 مليار دولار، ن- بـ 13- نيسان- 2019.

[4] http://bit.ly/38XCaxa

موقع ردار، حزب الله يقف وراء تكليف حسّان دياب، شوهد – بـ 25- فبراير – 2020.

[5] http://bit.ly/2ukBpiy

الجزيرة للدراسات، الحراك اللبناني: البواعث والمكونات والتداعيات، ن- بـ 23- تشرين الثاني 2019.

[6] http://bit.ly/2VcUxdv

علي باكير، الثورة اللبنانية الثانية: تحدّيات التغيير الجذري في لبنان، ن- بـ 8- فبراير- 2020.

[7] http://bit.ly/3c3ItBp

النهار، معدل التضخم السنوي للعام 2019 في لبنان، ن- بـ 28- فبراير- 2020.

[8] http://bit.ly/2ViqJfw

النهار 24- قام البطالة في لبنان تنذر بكارثة اجتماعية.. ولجنة الشباب والرياضة تتحرك، ن- بـ 3-3- 2019.

[9] http://bit.ly/2SQ3x6L

 الجزيرة للدراسات، الأزمة الاقتصادية في لبنان: الحكومة الجديدة وفرص التعافي، ن- بـ 12- 2- 2020.

[10] http://bit.ly/2v9eBmn

عربي 21- نقلا عن لومند الفرنسية تسليط الضوء على أزمة الكهرباء في لبنان، ن- بـ 17- نوفمبر- 2019.

[11] http://bit.ly/2uopZdH

فرنس 24- الانتخابات التشريعية اللبنانية: حزب الله أكبر الفائزين وتراجع كبير لكتلة الحريري، م- بـ 7-5- 2018.

[12] http://bit.ly/37Td2X4

 عكاظ، إيران تدعم إرهاب حزب الله بـ 800 مليون دولار سنويًا، ن- بـ 13- 13- 2018.

[13] http://bit.ly/2usyJj8

مؤشر مدركات الفساد لعام 2018، شوهد بـ 25- فبراير- 2010.

[14] http://bit.ly/2HLgbO6

موقع المدن، عودة الحريري وحزب الله إلى السلطة بشروط دولية، ن- بـ 19- 2- 2020.

[15] http://bit.ly/2Ve8nMy

 العربية نت، واشنطن تستعد لفرض عقوبات على حلفاء حزب الله بلبنان، ن- بـ 130 سبتمبر 2019.

[16] http://bit.ly/2w01bZQ

 موقع المدن، “تهريبة” جلسة الثقة: بيان حكومة الفراغ وتخشّب السلطة، ن- بـ 11- 2- 2020.

[17] http://bit.ly/2VfxcI4

صحيفة العرب، غموض موقف صندوق النقد الدولي يربك حكومة حسان دياب، ن- بـ  22-2- 2020,

[18] http://bit.ly/2VoloDB

النهار، بين القطاع المصرفي والسياسة الاقتصادية، الأزمة الحالية في لبنان، ن- بـ 12- كانون الثاني 2020.

[19] https://bbc.in/38U2x7g

bbc، مظاهرات لبنان: ما هي أبرز التحديات أمام الحكومة الجديدة، ن- بـ 24- يناير- 2020.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى