الاصداراتتقارير جديدمتفرقات 1

الشمال السوري والسيناريوهات المحتملة

الشمال السوري والسيناريوهات القادمة (1)
أولاً – تمهيد
تشكل مناطق شمال سورية معادلة معقدة في الحسابات الإقليمية والدولية، لما تحمله تلك المناطق من محددات ديمغرافية وجغرافية متشابكة، تلقي بظلالها على دول الطوق الإقليمي، مما جعل منها محط مشاريع ورؤى متباينة للفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، وذلك في إطار تصورات هؤلاء ودرجة التأثير الميداني لكل منهم على أرض الواقع. وتسعى هذه الورقة لمعالجة موضوعها المتعلق بمناطق الشمال السوري، تبعاً للمحددات والمخرجات الداخلية منها والخارجية، ليتم بحث ذلك في إطار التفاعلات الأوسع إقليمياً ودولياً، بعد أن باتت الأمور تُسيّر لمصالح الخارج، ساعين بالتالي للإجابة عن التساؤلات الآتية:

  • ما أبرز التطورات الميدانية وكيف تسير الأحداث ولصالح من؟
  • في إطار المواقف والاستراتيجيات القائمة للأطراف المختلفة، ما هي السيناريوهات المتوقعة لمناطق الشمال، وكيف ستكون مخرجاتها؟
  • ما انعكاسات تلك المخرجات على مستقبل الشمال؟

ثانياً –خارطة السيطرة الميدانية
تسيطر القوات الكردية على معظم مناطق الشمال السوري، وتمتد سيطرتها ابتداء من المالكية في أقصى شمال شرق سورية عند الحدود مع إقليم كردستان العراق، لتمتد سيطرتها بمحاذاة الحدود التركية  حتى حدود إقليم هاتاي التركي غرباً، باستثناء مثلث جرابلس-أعزاز-الباب، الذي تسيطر عليه كتائب الجيش السوري الحر المنضوية ضمن تشكيلات درع الفرات المدعومة من تركيا، فيما تسيطر هيئة تحرير الشام التي تشكل “النصرة” القوة الأساسية فيها على محافظة إدلب وخط الحدود الإدارية مع تركيا، بعد أن استطاعت إبعاد حركة أحرار الشام عن تلك المناطق، إضافة لسيطرة قوات النظام السوري والقوى الحليفة له على مركز محافظة حلب، وتمتد  سيطرته حتى جنوب شرق محافظة الرقة، بعد كسبه للمزيد من الأراضي على حساب تنظيم داعش المتراجع مؤخراً، إضافة لسيطرته على بعض النقاط الأمنية والإدارية في القامشلي ومركز محافظة الحسكة.
1
– خريطة(1) تظهر مساحات السيطرة بين القوى المختلفة في سورية حتى تاريخ 15.08.2017 [1]
أ- القوات الكردية:
مع بداية الثورة في سورية مطلع عام 2011 وتوسع العمليات العسكرية، شكلت وحدات حماية الشعب الكردية وهي الذراع العسكري  لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD الكردي، أبرز القوى التي اضطلعت  بمهمة شغل الفراغ الذي تركه انسحاب قوات النظام السوري من مناطق الأكراد، إضافة لمنع توسع المعارضة السورية المسلحة نحو المدن الكردية، مع تنسيق غير معلن بين الوحدات الكردية والنظام السوري. ومع التقلبات الداخلية والخارجية، وظهور تنظيم داعش، انجرت القوات الكردية نحو الصراع السوري، حتى أصبحت جزءاً أساسياً فيه، لتسيطر -لاحقاً-على مساحات واسعة من شمال سورية، مستغلة حالة الحرب بين النظام والمعارضة من جهة، وبين الطرفين السابقين وتنظيم الدولة من جهة أخرى.  ومدفوعة بدعم دولي كبير في حربها ضد تنظيم داعش الذي هدد مدن ذات غالبية كردية مرات عدة، مما أكسب الأكراد وضعاً ميدانياً مميزاً، نتيجة تفوقهم العسكري سواء على تنظيم داعش أو المعارضة السورية، تطور لاحقاً لصياغة مشاريعهم الذاتية الخاصة بإدارة المناطق التي سيطروا عليها تحت مسمى ” فدرالية شمال سورية” أو ما يدعى “فدرالية روج آفا” بعد أن باتت ربع مساحة سورية تقريباً تحت سيطرتهم. وتنضوي القوات الكردية تحت 3 تشكيلات رئيسية وهي:

  • وحدات حماية الشعب YPG: الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، وهي من أولى التشكيلات العسكرية الكردية التي ظهرت في سورية في الحرب الدائرة. تغيب عن هذه القوات التراتبية العسكرية، وتعمل وفق نظام عسكري يتمتع بمجلس قيادة وفق النظام الداخلي الخاص بها، كما أن الكثير من قيادات “وحدات الحماية” هم: إما مقاتلون سوريون كانوا ضمن حزب “العمال الكُردستاني” وعادوا إلى سوريا مع انطلاق الثورة، أو من كُرد تركيا، وهو ما ورد في تقرير مجموعة الأزمات الأخير الذي تناول موضوع قيادة عناصر من “حزب العمال” لأكثر المفاصل في المناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية.[2]
  • قوات سورية الديمقراطية (قسد):وهي أقل تناسقاً في تشكيلها من قوات الـ “YPG” المؤلفة من عناصر كردية بشكل رئيسي[3]، تشكلت قوات سورية الديمقراطية في أكتوبر 2015 وتعتبر وحدات حماية الشعب الكردية عصبها الأساسي، وهي تحالف يضم ميليشيات كردية وعربية وسريانية وأرمنية وتركمانية، وتشكل المظلة التي تعمل تحتها الوحدات الكردية مؤخراً. ومن الفصائل العاملة ضمنها وحدات حماية المرأة وجيش الثوار وغرفة عمليات بركان الفرات وقوات الصناديد وتجمع ألوية الجزيرة والمجلس العسكري السرياني.[4]
  • قوات “الدفاع الذاتي” والتي تضم بشكل رئيسي مقاتلين كرد يجري تجنيدهم إجبارياً، ويخدمون في صفوفها مدة 9 أشهر، و تُعتبر قوات إسناد، وغالباً ما يكون عناصرها في الصف الثاني من الجبهات خصوصاً في الفترة الأولى من ضمهم إلى “الخدمة الإلزامية”.

وتسعى القوات الكردية إلى دمج التشكيلات السابقة ضمن جسم واحد حسب الباحث ملا رشيد مع نهاية عملية الرقة التي تخوضها قوات سورية الديمقراطية للقضاء على داعش، ويرى رشيد أن التشكيل سيبتعد في تسميته عن كلمات تحمل دلالات عرقية، أو طائفية، مرجحاً أن يُطلق عليها اسم “قوات فيدرالية الشمال”، وفسر ذلك من خشية القوات المندمجة أن تُشكل تسميتها حساسية خصوصاً في المناطق العربية الموجودة فيها، أو التي من المحتمل أن تدخلها عسكرياً  إن سمح لها في المرحلة المقبلة كـ “دير الزور”.[5]
ويكثر الحديث عمّا بعد الرقة أكثر من الحديث عن معركة الرقة ذاتها، فمن المتوقع أن تسيطر قوات قسد على مركز محافظة الرقة خلال فترة وجيزة بعد أن استطاعت حصارها من كافة الجهات، مدعومة بالتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب والذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. فيما ترى تركيا فيها امتداداً لحزب العمال الكردستاني وتصنفه إرهابياً، وتعتبر تركيا التأثير المتنامي لوحدات الحماية الشعبية وحزب الاتحاد الديمقراطي داخل قوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا بمثابة تهديد كبير لأمنها القومي، رغم عدم اعتراف الولايات المتحدة بالعلاقة بين حزب العمال الكردستاني، المصنف على أنه منظمة إرهابية، ووحدات الدفاع الشعبية، حليفتها الأساسية ضد “الجهاديين” في سوريا. [6]
أضفى الدعم الأمريكي للوحدات الكردية المزيد من التوتر على العلاقات الأمريكية التركية، وكانت وكالة الأنباء التركية “الأناضول” كشفت في “تموز- يوليو /2017” الماضي عن معلومات سرية بخصوص 10 قواعد عسكرية أمريكية في سورية في مناطق سيطرة الأكراد، وقالت الوكالة: في تقرير خاص أعدته بهذا الصدد، إن القوات الأمريكية تستمر، منذ العام 2015، بتوسيع وجودها العسكري في المناطق الخاضعة لتحالف “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تشمل في هيكلها العسكري الأساسي “وحدات حماية الشعب” الكردية، في الشمال السوري. ورغم التصريحات الأمريكية المتكررة من أن الوحدات الكردية لن يكون لها دور في حكم الرقة بعد طرد داعش، إلا أن صالح مسلم الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي، كان قد صرح في مرحلة سابقة أنه يمكن للرقة أن تنضم للحكم اللامركزي في شمال سورية، الذي تعكف قوات قسد على تأسيسه.[7] ويبدو أن الوعود الأمريكية لأنقرة بعدم وجود دور للأكراد في الرقة لاحقاً ليس مقنعاً تبعاً لما هو معلن من قبل الأكراد، حيث أعلنت قوات سوريا الديمقراطية «قسد» رسميًا تأسيس مجلس مدينة الرقة المدني تحت شعار (أخوة الشعوب والتعايش ضمانة الأمة الديمقراطية )، الثلاثاء 18 نيسان ابريل الماضي، في بلدة عين عيسى 65 كم شمال مدينة الرقة، وذلك خلال اجتماع حضره قياديون في قوات سوريا الديمقراطية.[8] وبالتالي تظهر استراتيجية الكرد في سورية على أساس السيطرة على مزيد من الأراضي ما أمكن، تمهيداً لترتيبات الحل النهائي، ويرى الأكراد أن من حقهم تأسيس كيانهم المستقل شمال سورية، لا بل الوصول إلى البحر المتوسط عبر جيب يمتد بين عفرين والبحر المتوسط مروراً بإدلب، كمكافأة يمكن أن يمنحها لهم الغرب لدورهم بما سمي “محاربة الإرهاب”[9]. وبالتالي تتكامل الصورة لنرى رؤية الكرد لمستقبل الشمال، وهنا تصطدم رؤيتهم بمصالح تركيا وإيران، مما يفتح المجال للتنسيق بين هاتين الأخيرتين في الملف الكردي تحديداً، مع اقتراب موعد الاستفتاء المزمع إجراؤه لتحديد مصير إقليم كردستان العراق.
2
خريطة(2) تظهر توزع القواعد العسكرية الأمريكية في مناطق شمال سورية [10]
ب – قوات درع الفرات:
كانت تركيا قد شنت في آب الماضي 2016 ، عملية عسكرية في شمال سورية بالتعاون مع فصائل من الجيش السوري الحر،  أطلقت عليها اسم درع الفرات، أعلنت أهداف تلك العملية بإبعاد التنظيمات الإرهابية عن حدودها الجنوبية وأهمها داعش وقوات سورية الديمقراطية، وتمكنت قوات درع الفرات من طرد تنظيم داعش من مدن عدة أهمها جرابلس ودابق والراعي وآخرها الباب، وكانت قد أعلنت أنها بصدد  طرد قوات سورية الديمقراطية من منبج لكنها اصطدمت بموقف أميركي روسي حال دون ذلك، وتسليم الوحدات الكردية لبعض القرى على خط التماس لقوات النظام السوري. وقد أعلنت تركيا انتهاء عملية درع الفرات في نهاية آذار الماضي، تاركة المجال لعمليات محتملة مستقبلاً تبعاً لضرورات الأمن القومي التركي[11]، ولا تزال القوات التركية متمركزة في تلك المناطق، مع دور فاعل في نواحي الحياة الإدارية والتنظيمية والخدمية، بعد أن توقف قصف قوات النظام وحلفائه، نتيجة ترتيبات دولية، وهذا ما ساعد في عودة آلاف الأسر لقراهم الواقعة في مناطق درع الفرات لتصبح من المناطق الآمنة للنازحين. ويحدث أحياناً بعض الاشتباكات المحدودة سواء مع قوات النظام الموجودة جنوباً أو قوات قسد في عفرين أو القرى العربية التي تحتلها كـ منغ وتل رفعت، دون تطورها لمعارك واسعة حتى الآن. ومن أبرز الفصائل المنضوية في درع الفرات، الجبهة الشامية ، وفيلق الشام، حركة نور الدين الزنكي.
تغيب الخطط الاستراتيجية عن فصائل “درع الفرات” إن صحت التسمية، ويكاد يضعف دورها العسكري دون الدعم التركي، الذي يرى في استمرار وجوده في تلك المناطق حائلاً دون وصول الأكراد مقاطعتي ” عين العرب – كوباني” و”عفرين”، ويكاد لا يمر يوم دون سماع  تصريح من مسؤول تركي بنية تركيا القيام بعملية عسكرية استكمالاً لدرع الفرات ضد ” التنظيمات الإرهابية”، في إشارة لقوات سورية الديمقراطية، لكن عملية عسكرية مماثلة دونها عدة صعوبات تدركها تركيا جيداً، كما تدرك مخاطر التأخر بمثل تلك العملية، وهذا ما دفع بالتنسيق التركي الإيراني الروسي مؤخراً نحو مستويات متقدمة، من المنتظر أن تتمخض نتائجه قريباً.
جـ – مناطق سيطرة النظام السوري وحلفاؤه:
يسيطر النظام السوري وحلفاؤه من الميليشيات الأجنبية على كامل مركز محافظة حلب  باستثناء حيي الأشرفية والشيخ مقصود اللذان تسيطر عليهما الوحدات الكردية، وقد استطاعت قوات النظام السوري إجبار قوى المعارضة المسلحة على الانسحاب من حلب مع نهاية العام الماضي بعد شنها مع حلفائها لحملة عسكرية عنيفة وواسعة. واستطاعت قوات النظام التوسع شرقاً في ريف حلب والوصول إلى الضفة الغربية لنهر الفرات، بعد انسحاب  تنظيم داعش، لتقترب قوات النظام لأول مرة منذ سنوات من الريف الشمالي الغربي لدير الزور من جهة الرقة، كما تمتد سيطرتها غرباً حتى بلدتي نبل والزهراء في ريف حلب الشمالي الغربي.
لقد شكلت اتفاقات خفض التصعيد تحت الرعاية الروسية، فرصة للنظام السوري وحلفائه بالتوجه شرقاً نحو البادية السورية ودير الزور، واستطاعت قواته طرد داعش من مناطق واسعة من ريف حماه وحمص الشرقيين، و خصوصاً مدينة السخنة الاستراتيجية، إضافة لوصوله للحدود العراقية في ريف حمص الشرقي، وتمكنه  مؤخراً من الوصول لمركز محافظة دير الزور، وفك الحصار عن قواته المتواجدة هناك، ومد سيطرته على طول طريق دمشق-دير الزور،  بدعم جوي روسي ضخم. وتدرك جميع القوى في الأرض السورية أن السيطرة اللاحقة على دير الزور ستكون مفتاح أساسي في رسم خارطة السيطرة ما بعد داعش، وملامح سورية المستقبل، ومن هنا يمكن الحديث عن ملامح صراع قادم قد ينهي شكل العلاقة الحالي بين النظام السوري والوحدات الكردية، وتبدل محتمل للتحالفات القائمة. هذا ما دفع بقوات سورية الديمقراطية لإطلاق عملية عسكرية في شمال دير الزور منذ أيام، رغم انشغالها بمعركة الرقة، بعد أن استشعرت أهمية وصول قوات النظام لدير الزور.  ورغم الدعم الأمريكي لتلك الوحدات والذي وصل لحد إسقاط طائرة للنظام السوري في منطقة الرصافة في يونيو حزيران الماضي[12] بعد اشتباك محدود مع الوحدات الكردية، لكن استراتيجية النظام السوري وحلفائه وتحديداً الإيرانيون، لا تقبل بمشروع كردي في سورية، وما حالة الوئام السابقة سوى خطى تكتيكية كان لا بد منها.
د – محافظة إدلب:
بعد انسحاب قوات المعارضة السورية من حلب تحت ضربات النظام  السوري وحلفائه، باتت محافظة إدلب المركز الرئيس لكبرى فصائل المعارضة السورية في الشمال، أهمها حركة أحرار الشام الإسلامية، إضافة لما بات يعرف لاحقاً بهيئة تحرير الشام، والتي تشكلت من تجمع هيئة فتح الشام (النصرة سابقاً) مع عدد من الفصائل المنشقة عن أحرار الشام وفصائل صغيرة أخرى، ليندفع المشهد في إدلب نحو صراع بارد وخفي بين هاتين القوتين على مدى شهور، وذلك قبل أن ينفجر المشهد وتندلع اشتباكات واسعة  في ال19 من تموز يوليو الماضي في عدة مناطق من المحافظة بين هيئة تحرير الشام من جهة وحركة أحرار الشام من جهة، الاقتتال الذي لا يبدو مستغرباً بقدر ما كان منتظراً ومؤجلاً، سواء لجهة الاحتقان القديم بين الطرفين والذي ظهر ميدانياً في عدة محطات فارقة، أو لجهة ما أمنته مناطق “خفض التصعيد” من هدوء جبهات أتاح لمختلف القوى إعادة ترتيب أوراقها العسكرية وتوسيع مناطق نفوذها تأهباً لأي سيناريو محتمل في الشمال السوري.
وعلى الرغم من أن هذا الاقتتال كان متوقعاً كمحطة في علاقة الطرفين؛ إلا أنه بدا الأوسع والأضخم، خاصة وأنه اندلع في سياق متغيرات محلية وإقليمية ودولية ضمن الملف السوري، قد تدفعه باتجاهات مختلفة وتجعل منه مؤهلاً للاستثمار في إطار التفاهمات والتوافقات الإقليمية والدولية حول الشمال السوري. [13]  ويوم 23 يوليو 2017 هدأت الاشتباكات وحسمت هيئة تحرير الشام القتال لمصلحتها، وبسطت سيطرتها على كامل مدينة إدلب وريفها، وسيطرت بشكل غير مباشر على معبري باب الهوى وخربة الجوز، فيما تراجعت أحرار الشام  إلى مناطق نفوذها في سهل الغاب وجبل شحشبو.
وشكلت سيطرة الهيئة على إدلب ردود فعل دولية سريعة خصوصاً أن إدلب من مناطق “خفض التصعيد” التي اتفق عليها إبان اتفاق أستانة4، حيث قيدت تركيا بشكل مباشر حركة عبور بعض السلع والمواد إلى سورية عبر معبر باب الهوى، وأبقت على عبور السلع (الإنسانية)، فيما جاء على لسان رئيس الوزراء التركي أن ” احتمال التحرك ضد التنظيمات الإرهابية في إدلب قائم”.[14] وتلتزم تركيا بالتصنيفات الدولية لـ ” التنظيمات الإرهابية” في سورية، والتي تعتبر النصرة جزءاً منها، ولم يشفع لها تحالفاتها أو عمليات إعادة الهيكلة التي تقوم بها بين الفينة والأخرى ، من إبعاد هذه الصفة عنها، وبالتالي فإن الدول الفاعلة في سورية تكاد تجمع على اعتبار هيئة تحرير الشام” إرهابية”، وهذا ما سيلقي بدوره لاحقاً في تطورات المشهد  في إدلب تحديداً، وليست تحركات الهيئة الأخيرة سوى استباق لما يخطط له في تلك المنطقة من الدول الفاعلة.
ثالثاً- السيناريوهات القادمة، وتغير خارطة المصالح
كان التمدد الحاصل خلال السنة الماضية لقوى الميدان يتم على حساب تنظيم داعش في معظمه، الذي كان له سيطرة على مساحات واسعة من الأراضي السورية، إضافة لتقهقر قوى المعارضة السورية أمام قوات النظام والأكراد في حلب وريفها. فتراجع تنظيم داعش ابتداء من خروجه من الموصل وهزيمته القريبة في الرقة، إضافة لدخول تركيا عبر عملية درع الفرات مرحلة التواجد العملياتي، ويضاف ما حققه النظام وحلفاؤه من سيطرة في حلب وريفها وصولاً للرقة والحدود العراقية، ستشكل بمجملها بداية لمرحلة جديدة في خارطة الميدان السوري ومعادلة الشمال تحديداً، وهذا ما سنسعى لاستشرافه في الفقرة التالية.
 ملامح التوجهات الإقليمية والدولية وخارطة التحالفات القادمة:        
الولايات المتحدة:
في رصد الموقف الأمريكي الملتبس في سورية؛ نجد عدداً من الإشكاليات، أهمها:
-1- جدلية العلاقة مع الأكراد وتركيا.
-2- كيفية التعامل مع العمق الخلفي لما تعتبره حركات إرهابية، وهنا الحديث عن المجتمع العربي السني الذي تعول عليه أمريكا في دير الزور والرقة والبادية السورية.
-3- العلاقة مع الأطراف الإقليمية والدولية في سورية كروسيا وايران والدول العربية.
-4- مقاربة الولايات المتحدة لحالة الفصائل الإسلامية المقاتلة في سورية على اختلافها. وأهمها:  هيئة تحرير الشام ” جبهة النصرة”[15].
مجمل تلك الإشكاليات تصوغ التوجه الأمريكي القادم في سورية، والذي سيكون متفاعلاً مع أدوار باقي اللاعبين وليس مهيمناً عليها.
روسيا:
تبدو الاستراتيجية الروسية أوضح من نظرائها  بعد أن أدركت جميع الدول مصالح روسيا هناك، لذا فإن أي تنسيق لن يتم دون التشاور مع روسيا، سواء في العمليات العسكرية أو في عمليات الحل السياسي، وبات الجميع بحاجة لروسيا.
إن فكرة مناطق خفض التصعيد والتي أقرها اتفاق أستانة 4 جعلت الدور الروسي أوسع جغرافياً، وهو ما مهد لاتفاق (بوتين – ترمب) في هامبورغ لهدنة جنوب سورية، وباتت فكرة مناطق خفض التصعيد نموذجاً للحل في العديد من المناطق وتتم برعاية روسية، كما فتحت روسيا قنوات اتصال مع فصائل المعارضة المسلحة في سورية وباتت وسيطاً يتم التعامل معه من كافة الأطراف، رغم دورها السابق في إقصاء المعارضة ودعم النظام. وإضافة للوجود الروسي في الساحل السوري، تسعى روسيا لإيجاد موطئ قدم في الشرق وقطع الطريق على الولايات المتحدة للوصول إلى دير الزور، وتمثل ذلك في الحملة الضخمة التي تدعم بها روسيا قوات النظام في معارك البادية الأخيرة. ومع تعقد الموقف مع الولايات المتحدة بعد فرض العقوبات الأخيرة على موسكو، زادت وتيرة التنسيق الروسي مع تركيا في الشأن السوري، وتبدو ملامح اتفاق جديد بخصوص إدلب في الطريق، ستتبلور ملامحه بعد الزيارة المرتقبة لرئيس الأركان الروسي لتركيا في منتصف أيلول والتي تتزامن مع الجولة السادسة لمحادثات أستانة،  بعد أن زار قائد الجيش الإيراني تركيا والتقى الرئيس التركي منذ أيام.
تركيا:
تعاني تركيا من مشكلة أمنية ديمغرافية معقدة نتيجة الصراع في سورية، فالوحدات الكردية والتي تعتبر امتداداً لحزب العمال الكردستاني ومصنفة إرهابية لدى تركيا، باتت تسيطر على طول مناطق حدودها مع سورية، وهي تستعد لإعلان فدرالية في الشمال، وإضافة لعدد اللاجئين السوريين الضخم في تركيا، فإن احتمال لجوء المزيد منهم قائم في كل وقت مع أي توتر جديد تشهده المدن السورية، سيما تلك القريبة من الحدود. فكانت الرؤية التركية ولازالت هي توفير مناطق آمنة لتكون مأوى للفارين من الصراع، وهذا ما تحقق لاحقاً في قرى ريف حلب الشمالي في عملية درع الفرات. وقد أدركت تركيا أن التنسيق مع روسيا أجدى من التنسيق مع  الولايات المتحدة، سواء في الملف الكردي أو ملف إدلب. كما ترى مصلحة  في التنسيق مع إيران في الملف الكردي تحديداً.
إيران:
ما تسعى له إيران استمرار السيطرة على خطها الحيوي الذي يربط بغداد بلبنان مروراً بدمشق، فقد كانت الخاصرة الغربية لإيران هدفاً استراتيجياً تاريخياً. ورغم تباين المصالح سواء بين ايران الولايات المتحدة من جهة، أوبين إيران وتركيا من جهة أخرى، يظهر الدور الروسي كمعادل أو موازن لتلك العلاقات كونه صاحب الثقل في الملف السوري. إن الانتشار الذي حققته إيران عبر الميليشيات الشيعية في العراق وسورية في السنوات الماضية لحماية مشروعها الاستراتيجي في المنطقة، يصطدم بمصالح دول أخرى خصوصاً تركيا والولايات المتحدة. لكن الإعلان عن موعد اجراء استفتاء كردستان العراق، ورغبة أكراد سورية في تنظيم انتخابات في الشهر القادم، عجل من وتيرة التنسيق التركي الإيراني، مما دعا الرئيس التركي للتلميح بإمكانية عمل عسكري يجمع بلاده مع إيران ضد حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل[16].
وفي ضوء ما ذكرناه سابقاً سنناقش السيناريوهات المحتملة لمناطق شمال سورية ضمن إطارين مكانيين مع إدراكنا بأن ما يحدث في أي بقعة من سورية يؤثر ويتأثر بالضرورة بما يجري بباقي أنحاء سورية، وبالتالي فإسقاطنا المكاني لا يعني انفصالاً في وحدة التحليل:
المشروع الكردي: ” فدرالية الشمال”  ( فدرالية روج آفا)
يرى أكراد سورية في نتائج الصراع الحاصل فرصة مواتية لإقامة كيان أو إقليم خاص بهم، بعد أن استطاعوا السيطرة على مساحات واسعة تضم مناطق وجودهم والمناطق القريبة منها، دون وجود قدرة لأطراف الصراع على الوقوف في وجه مشروعهم الذي كان في الأمس القريب مجرد أمنيات، لاختلال ميزان القوى مع المعارضة السورية لصالح الأكراد من جهة ، وعدم رغبة وقدرة النظام وحلفائه في إشعال صراع مع الكرد في السنوات الماضية من جهة أخرى . وقد حاولت القوى الكردية  منذ سنوات صياغة توليفة ما تحدد شكل هذا الكيان المرغوب، فتارةً سمي بفدرالية “روج آفا”، وتارة فدرالية شمال سورية، وعملوا على جمع بعض القوى العربية من أبناء تلك المناطق شكلياً، ودمجهم في مشروعهم السياسي كمحاولة لكسب شرعية لهذا المشروع، وقد صادق ما يسمى المجلس التأسيسي للنظام الفيدرالي الديمقراطي لشمال سوريا[17] على قانونين بخصوص المناطق الفيدرالية، كما حدّد المجلس موعد الانتخابات الفيدرالية خلال اجتماعه الذي عقد في بلدة رميلان شمال سورية نهاية تموز يوليو المنصرم. وبعد يومين من النقاشات صادق المجلس على قانون ” التقسيمات الإدارية” وقانون  “الانتخابات” لمناطق “الفيدرالية” الديمقراطية شمال سورية.
ومن أهم البنود التي تضمنها قانون “التقسيمات الإدارية” هو تقسيم مناطق الفدرالية إلى /3/ أقاليم تضم /6/ مقاطعات، على النحو التالي: “إقليم الجزيرة”، ويضم مقاطعتي “قامشلو، والحسكة”، و”إقليم الفرات” ويضم مقاطعتي “كوباني، وتل أبيض”، و”إقليم عفرين” ويضم مقاطعتي “عفرين والشهباء”.
ولم يتطرق القانون إلى وضع مدينة “منبج”، وكذلك وضع مدينة “الرقة” التي تسعى قوات سوريا الديمقراطية للسيطرة عليها من مُسلّحي تنظيم “داعش” ، علماً أن بعض ممثلي عشائر الرقة كانوا قد صرحوا في وقت سابق رغبتهم في الانضمام إلى فدرالية شمال سوريا.
كما وحدّد المجلس التأسيسي موعداً للانتخابات البرلمانية وانتخابات الإدارة المحلية والمجالس في شمال سوريا، وقرر تحديد يوم /22/ أيلول عام 2017 موعد إجراء انتخابات الكومينات وهي أصغر الوحدات المجتمعية التنظيمية، ويوم /3/ تشرين الثاني عام 2017 موعد إجراء انتخابات مجالس “القرى، البلدات، النواحي، والمقاطعات”، كما حدّد يوم /19/ كانون الثاني عام 2018 موعد انتخابات الأقاليم الثلاثة ومؤتمر الشعوب الديمقراطي (البرلمان الفدرالي) في شمال سوريا.[18]
لقد بات المشروع الكردي في سورية بحكم الأمر الواقع، والحديث عن السيناريوهات القادمة إنما يهدف لرسم ملامح وحدود وطموحات هذا المشروع وطبيعة علاقاته بمحيطه. ونقف اليوم أمام عدة سيناريوهات تواجه  المشروع الكردي في إنشاء فيدرالية شمال سورية:
الأول:  يحمل طبيعة الصدام المستقبلي مع قوى النظام السوري وحلفائه، التي وصلت مؤخراً لجنوب الرقة وباتت قريبة من دير الزور، إضافة لتوسعها من جهة البادية، نظراً للدعم الضخم من حلفائها الروس والإيرانيين، وهذا ما أعطى قوات النظام موقف ميداني أقوى. ما يدعم هذا السيناريو هو أن النظام السوري ومن خلفه الإيرانيون ليسوا متقبلين لفكرة وجود كيان كردي شمال سورية، رغم التوافق بين الطرفين خلال سني الحرب، فكان لافتاً التصريحات التي أدلى بها نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد منذ أيام بخصوص الانتخابات المزمع إجراؤها في شمال سورية والتي وصفها بأنها “مزحة”، وأضاف المقداد في حديثه لهيئة الإذاعة البريطانية في دمشق ووكالة رويترز: “نعتقد أن المواطنين السوريين في شمال سوريا لن يعرضوا الوضع للخطر في البلاد أو يتحركوا باتجاه أي شكل من أشكال تقسيم سوريا. من سيتحركون في تلك الاتجاهات يعرفون الثمن الذي سيدفعونه”.[19]  كما أن هناك فرصة لزيادة التنسيق الإيراني التركي في الملف الكردي تحديداً قد يحد من الطموحات الكردية في الأيام القادمة، وحديث تركيا عن عملية عسكرية مرتقبة تسعى لحصار عفرين واستعادة القرى العربية في ريف حلب الشمالي من قوات قسد. لكن التنسيق الروسي الأمريكي قد يمنع مثل هذا التصادم، خصوصاً أن الولايات المتحدة ترى في الوحدات الكردية أحد الأسلحة الفعالة لإدارة ملفات الحدود السورية العراقية التركية في السياسة الأمريكية، إضافة إلى أن مواجهة الطموح الكردي يحتاج لتبلور موقف موحد من كافة الأطراف الأخرى التي لن تغامر بمواجهة الطموحات الكردية منفردة، لذا نرى سعي تركي لتحييد الروس على الأقل، وكسب موقف إيراني يتماهى ضمنه موقف النظام السوري، لتغطية أي تحرك تركي في هذا الخصوص.
 أما السيناريو الثاني:  فهو التوافق واستمرار الحالة الراهنة؛ بمعنى إقرار كل طرف بنفوذ الأطراف الأخرى وذلك بضمانات دولية، دون سعي أي طرف لتحقيق نفوذ جديد على حساب الأطراف الأخرى، وهذا ما تدعم به الولايات المتحدة، التي دخلت مؤخراً على خط اتفاقات خفض التصعيد ابتداء من جنوب سورية، ويعد هذا المنظور جزءاً من خطة مماثلة  أعدها باحثون من مؤسسة راند منذ أشهر تهدف للحد من الاقتتال في سورية تحت اسم” مناطق السيطرة واللامركزية والإدارة الدولية” (zones of control) ، وتقوم هذا الخطة على خمس عناصر أساسية:[20]  “تأجيل الانتقال السياسي الشامل ومسألة مصير بشار الأسد حتى الوصول إلى اتفاق أكثر ملائمة، و تجميد الصراع في أكثر المناطق المضطربة إن لم يكن كلها، والاتفاق على لا مركزية “راديكالية” في حكم سوريا وتسييرها، بالإضافة إلى الحصول على ضمانات أمنية من قبل القوى الخارجية التي تشرف على تنفيذ وقف إطلاق النار في المناطق الإقليمية المتفق عليها (agreed regional zones) ، وأخيراً بدء المفاوضات بين جميع القوى المحلية والإقليمية ذات الصلة بالوضع السوري من أجل الوصول إلى الإصلاح السياسي في نهاية المطاف.”
تدرك تركيا أن تدخلاً ضد الوحدات الكردية في سورية يحمل تكلفة عالية سياسياً وعسكرياً، خارجياً وداخلياً، وهذا ما يفسر التردد التركي في توسيع عملية درع الفرات، وما يمكن أن يشكل ردود فعل، لكن الموقف المتطور في إدلب قد يخلق معادلة جديدة لدى صانع القرار التركي، سيما أن الولايات المتحدة وحلفائها باتت تدرس التدخل في إدلب عبر ذراعها قوات سورية الديمقراطية، وهذا ما شكل قلقاً غير مسبوق لدى تركيا،  دفعها مؤخراً للعمل بشكل متسارع لتشكيل موقف موحد مع ايران وروسيا من المنتظر تبلوره قريباً في إطار تفعيل خطة خفض التوتر في إدلب، بعد زيارة قائد الجيش الإيراني لأنقرة منذ أيام، والزيارة القادمة لرئيس الأركان الروسي. ويسير الموقف التركي القادم لقطع الطريق على أي تدخل أميركي محتمل في إدلب، والعمل في نفس الوقت على توجيه ضربة لقوات سورية الديمقراطية في ريف حلب الشمالي وعزل عفرين وحصر نشاطها شرق الفرات، لكن كل ذلك قابل للتبدل تبعاً للتفاهمات والتحالفات الإقليمية والدولية.
 إدلب والمرحلة القادمة وحسابات ما بعد داعش:
أدركت حركة تحرير الشام والتي تشكل  “جبهة النصرة” عمودها الفقري، أنها تشكل عائقاً أمام التسويات الإقليمية والدولية في سورية، بعد بدء تنفيذ اتفاقات خفض التوتر بين الدول الضامنة، والموقف المعلن للدول الفاعلة من الهيئة كـجهة  “إرهابية” كونها –باعتبارهم- تشكل امتداداً لتنظيم القاعدة ورفضها المسبق الانخراط في تلك الترتيبات، وقد تصاعد الحديث عن محاربة  النصرة بعد هزيمة تنظيم داعش في الموصل وتراجعه الكبير في العراق وسورية عموماً، وأدى الهدوء النسبي للجبهات، إلى عملية إعادة هيكلة وترتيب للصفوف وفرز  لكافة الفصائل المسلحة في مناطق المعارضة السورية، استفادت منها النصرة في تشكيل هيئة تحرير الشام. لكن تغيير الاسم لم يُخرج الهيئة من دائرة ” الإرهاب” التي أجمعت روسيا والولايات المتحدة على محاربته في سورية. وكان تحركها الأخير في إدلب إستباقياً كعملية إعادة تموضع وبلورة مناطق نفوذها، إذ كان لهدنة الجنوب أثراً بالغاً في دوافع الهيئة، بعد ان  التمست ملامح التحركات الإقليمية سريعاً [21]، فأقصت حركة أحرار الشام المقبولة دولياً من المشهد، ودفعت بالمواجهة مع تركيا إلى الأمام.  فالهيئة رغم براغماتيتها النسبية، تحمل مشروعاً لإقامة نظام  يحتكم للشريعة الإسلامية وبصيغة  تشابه الحكم الذي أقامه طالبان في السابق، فهي حتى اليوم تحارب أي رمز من رموز الثورة السورية وأهمها علم الثورة. ويدعم هذا المشروع الجناح المتشدد في الهيئة بقيادة الجولاني  إضافة للعناصر الأجنبية ضمن الهيئة، وهذا ما سيذهب بإدلب لتكون إمارة أخرى من الإمارات المتشددة كالموصل والرقة، وما يؤدي بالنتيجة لتدخل دولي سيتحمل المدنيون عناءه. وتلك المؤشرات تدفع باتجاه السيناريو الأول.
ينطلق السيناريو الأول لمحافظة إدلب من القلق التركي المتزايد من نوايا الولايات المتحدة والأكراد، خصوصاً بعد سيطرة هيئة تحرير الشام، وهو ما  دفع الأتراك لفتح ملف إقامة منطقة تخفيف التوتر في إدلب ومحيطها تنفيذاً لاتفاق أستانة بين تركيا وروسيا وايران، وتشير التقارير الصحفية إلى أن تركيا قد أنهت الترتيبات لتطبيق الاتفاق، وأن التقارب الإيراني التركي الحالي يهدف لإيجاد صيغة مشتركة ربما تكون في إطار تحرك تركي عسكري في إدلب، ولا سيما أن أجواء اتفاقات أستانة أشارت إلى أن قوات عسكرية روسية وتركية ستشرف على محافظة إدلب لضمها لاتفاق تخفيف التوتر. كما أنه من المنتظر أن تقر الجولة السادسة من محادثات أستانة، آليات فرض منطقة خفض تصعيد رابعة في إدلب. وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا وخاروفا: ” إن خبراء من روسيا وتركيا وإيران يواصلون العمل من أجل تحديد مناطق تخفيف التوتر في محافظة إدلب شمالي سورية”.[22] ، فإدلب تشكل أكبر خزان بشري للمعارضة السورية وتحوي أكثر من مليونين ونصف المليون إنسان، وأي توتر فيها يؤثر بشكل مباشر على تركيا. وقال الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان “: نحن مصممون على البدء بعملية جديدة تكون توسيعاً لعملية درع الفرات، التي كانت كالخنجر في قلب مشروع الإرهابيين في سوريا، وسوف نتخذ قريباً خطوات جديدة وهامة في هذا الصدد”.
وأكدت صحيفة الصباح التركية، أن: ” الخطوة الثانية من” درع الفرات” التي منعت قيام ممر للإرهابيين، يجري العمل عليها حالياً، وستكون باسم” حبل الوريد”، وهدفها تطهير مدينة إدلب من العناصر الإرهابية، وعزل ميليشيات الحماية الكردية الإرهابية عن عفرين”.[23]
تصطدم احتمالات عملية عسكرية مرتقبة في إدلب تقودها تركيا، بغض النظر عن تسميتها ” سيف الفرات” أو “حبل الوريد”، بجملة من التحديات، أولاً: قوة هيئة تحرير الشام وخبرتها الميدانية وهو ما قد يجعل تركيا تتردد في الدخول في مواجهة قد تطول وإمكانية تنفيذ عناصر النصرة لعمليات داخل تركيا نفسها، وثانيا:ً ورغم وجود تأييد في أوساط واسعة  في إدلب للدور التركي، إلا أن النصرة والتي كانت من أبرز أعداء النظام السوري وأكثرها فاعلية  تملك مؤيدين ولا يمكن تجاهل ردة فعلهم المحتملة، خصوصاً اذا ما حصل التدخل التركي بمساندة روسية وأدى لسقوط ضحايا مدنيين. وثالثاً: ضعف البنى المؤسساتية العسكرية لفصائل المعارضة السورية التي من الممكن أن تعتمد عليها تركيا في هذه العملية. ورابعاً مدى إمكانية توسيع العملية التركية لتشمل ريف حلب الشمالي تمهيداً لعزل عفرين ومدى قبول الولايات المتحدة لذلك.
أما لجهة دعم هذا السيناريو، فقد يلقى دعماً دولياً كونه يستهدف حركة ” إرهابية” وهي النصرة، كما يساعد في تطويع أكبر معقل للمعارضة السورية تمهيداً لترتيبات الحل الدولي في سورية. كما أن التنسيق الإيراني التركي في الملف الكردي قد يخلق سلة تفاهمات تبدأ من جبال قنديل ولا تنتهي بإدلب مروراً بشرق وشمال سورية.
أما السيناريو الثاني: فهو التغيير الداخلي عبر الضغط من الخارج مع التلويح بعمل عسكري، وقد أشارت صحيفة يني شفق إلى أن “عملية عسكرية تتصدرها الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا يجري الإعداد لها، وهذا ما تخشاه تركيا، لذا ولتجنيب المحافظة المزيد من الويلات، تجري جهات رسمية تركية اتصالات مع المعارضة السورية والتنظيمات الفاعلة في إدلب من أجل التوصل إلى حل ينفي أسباب القيام بعملية عسكرية في المحافظة، وبحسب ما نقلت الصحيفة يتضمن المقترح التركي  ثلاث نقاط أساسية:  1-تشكيل هيئة إدارة محلية مدنية، 2-وتحييد التنظيمات المسلحة عن إدارة المدينة، 3-ونقل العناصر في المعارضة إلى جهاز شرطة رسمي يتكفل بحفظ الأمن، بالإضافة لحل هيئة تحرير الشام”[24]. وما يدعم هذا السيناريو التقارير الواردة عن عملية إعادة هيكلة تجريها هيئة تحرير الشام[25] ستتبلور قريباً، تتشابه بعض الشيء مع الخطة التركية السابق ذكرها، وقد شهدت إدلب مؤخراً اجتماعات مكثفة للهيئة بخصوص البحث في مستقبل وشكل الهيئة والمناطق التي تسيطر عليها وكيفية إدارة تلك المناطق[26] إضافة لذلك، ورغم سيطرة الهيئة على طول الحدود مع تركيا مؤخراً إلا أن تركيا أبقت على عمل معبر باب الهوى الحدودي، وسمحت للمواطنين السوريين اللاجئين في تركيا الدخول في إجازة عيد الأضحى إلى الأراضي السورية، مما يعني أن قلق تركيا الأكبر يتمثل في التمدد الكردي المحتمل.
أما السيناريو الثالث: الذي قد يقل احتماليته عن سابقيه، فيتمثل بعملية عسكرية تنفذها قوات سورية الديمقراطية انطلاقاً من عفرين تنتهي بالسيطرة على إدلب والوصول لشواطئ البحر المتوسط بدعم من قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي تقوده الولايات المتحدة. وعوامل ضعف هذا السيناريو هي أولاً: افتقاد قوات سورية الديمقراطية للعمق الاستراتيجي الذي تتمتع به في منطقة حوض الفرات، وثانياً: أن الفصائل المسلحة في إدلب ستتوحد لصد هكذا هجوم محتمل، وثالثاً: الموقف التركي الذي لن يتوانى عن التدخل كما تدخل في أزمة قبرص عام 1974، ورابعاً: الموقف الإيراني والروسي الذي لن يدعم  هكذا سيناريو نظراً  لآثاره  الاستراتيجية  السلبية على كلتا الدولتين.
وبالتالي نحن أمام مشهد معقد ينتظر الشمال السوري، في انتظار تبلور التفاهمات الإقليمية والدولية التي يجري مناقشتها، لتبقى الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها لتغيير خارطة تحالفات المنطقة، في ظل غياب شبه كامل لمشروع سوري وطني يجنب المحافظة مصيراً أسود كالرقة والموصل يدفع المدنيون ثمنه.
 رابعاً -خاتمة
نخلص مما سبق لجملة من الاستنتاجات:

  • أن الوجود الأمريكي في شمال سورية، يدعم باتجاه تشكيل مناطق نفوذ مدعومة من قوى دولية وإقليمية، بما فيها تشكيل إقليم كردي شمالي سورية.
  • تركيا ستكون الفاعل الأبرز في المرحلة القادمة خصوصا في ترتيبات محافظة إدلب المستقبلية سواء لجهة بناء مجلس حكم مدني أو تدخل عسكري محتمل  تمتد آثاره حتى حوض الفرات.
  • الدعم الأمريكي للوحدات الكردية يدفع باتجاه زيادة تنسيق بين باقي الأطراف خصوصاً تركيا وإيران.
  • غياب أي مشروع سوري مستقل يقدم رؤية وطنية في مقابل المشاريع الأخرى في مناطق الشمال.

وهنا يكون المشهد السوري خرج من أيدي السوريين، وهذا ينسحب على مناطق شمال سورية، والتي سيرتبط مصيرها بشكل أساسي بالدور التركي القادم، الذي ستسعى من خلاله  لتوسيع نطاق تدخلها الميداني، وتأسيس  البنى الإدارية والتنظيمية والتعليمية في المناطق التي تقع تحت نفوذها، وبناء منطقة آمنة من تبعات الحرب تشكل مأوى للنازحين، ومركزاً اقتصادياً يتم تفعيل عناصره الصناعية والتجارية والخدمية، مما يسمح بعودة مئات آلاف اللاجئين، وقطع الطريق على طموحات حكم فدرالي ممتد شمال سورية حتى البحر المتوسط.
 
[1] Territorial control map20.08.2017 ،  مركز عمران للدراسات، 20\08\2017
[2] The PKK’s Fateful Choice in Northern Syria.CRISIS GROUP ,4 MAY2017.
[3] سيناريو لتشكيل “جيش فدرالي” شمال سوريا،  السورية نت ، 4آب 2017.
[4] القوات الكردية في سورية، سكاي نيوز23 آب 2016.
[5] سيناريو لتشكيل “جيش فدرالي” شمال سوريا،  السورية نت ، مرجع سابق.
[6] العداء بين تركيا والأكراد يلهي الأنظار،آرين لوند،إيرين نيوز، 2 مايو 2017.
[7] للمزيد، يمكن متابعة الرابط التالي.
[8] “قسد تعلن تشكيل مجلس الرقة”، المصري اليوم، الموقع الالكتروني، 18 نيسان 2017، للمزيد انظر الرابط.
[9] سوريا.. الأكراد يخططون لإقامة منفذ على المتوسط”،الخليج الجديد، موقع الكتروني 4 ايار مايو 2017.
[10] تركيا تكشف معلومات سرية عن 10 قواعد أمريكية في سوريا (بالخارطة)، موقع روسيا اليوم، 19 تموز يوليو 2017.
[11] تركيا تعلن انتهاء عملية درع الفرات في سورية،الجزيرة نت،30 آذار 2017.
[12] “الدفاع السورية: التحالف الدولي يسقط مقاتلة للجيش بريف الرقة وفقدان الطيار”،روسيا اليوم، الموقع الالكتروني،18 يونيو 2017.
[13] الهيئة والأحرار.. صراع “الرايات” لرسم مستقبل الشمال،ساشا العلو، عمران للدراسات، الموقع الالكتروني،23 تموز2017.
[14] “يلدرم: التحرك ضد التنظيمات الإرهابية في ادلب محتمل”، الجزيرة نت، 19 آب 2017.
[15] خطة أمريكية بديلة لترمب، للمزيد انظر الرابط التالي.
[16] “أردوغان يلمّح إلى عملية تركية إيرانية مشتركة ضد التنظيمات الإرهابية”،العربي الجديد،21 اب2017.
[17] للمزيد عن المجلس الديمقراطي لشمال سورية، تابع الرابط التالي.
[18] “تحديد موعد الانتخابات الفيدرالية في شمال سوريا.”،آدار برس،الموقع الالكتروني،29 يوليو 2017.
[19] دمشق تعلق على انتخابات الأكراد، روسيا اليوم 6 اب 2017 .
[20] للمزيد تابع الرابط التالي: خطة سلام من اجل سورية
[21] الهيئة والأحرار.. صراع “الرايات” لرسم مستقبل الشمال،عمران للدراسات 23يوليو2017.
[22] “تحركات سياسية تنذر بفتح ملف تخفيف التوتر في إدلب وجوارها”،راديو الكل، 20اب اغسطس.
[23] حبل الوريد – خطة تركية روسية ايرانية”، الوطن fm ، 18 اب 2017.
[24] “صحيفة: عملية عسكرية غربية في ادلب وخطة تركية”، موقع عكس السير 22 آب 2017.
[25] “قريبا: إعادة هيكلة لهيئة تحرير الشام ونظام حكومي مفاجئ”، الرافد،الموقع الالكتروني، 21آب أأغسطس 2017.
[26] هذه الاجتماعات ناقشت إعادة هيكلة كاملة لهيئة تحرير الشام؛ وذلك عبر تشكيل هيئة عسكرية تحت مسمى “جيش الشمال” وهيئة مدنية تكون مسؤولة عن تسيير أمور الشمال بكل نواحيه. وستضم الهيئة المدنية المحاكم والدوائر الحكومية وجهاز الشرطة الجنائية؛ بحيث تكون مفصولة بالكامل عن القسم العسكري، وترجّح المصادر أن جهاز الشرطة سيكون نفسه جهاز “الشرطة الحرة” الذي ينتشر في مناطق الشمال، وأثبت كفاء ته في الفترات الماضية. أما الهيئة العسكرية فستضم جميع المقاتلين بما فيهم غير السوريين، بشرط موافقتهم الواضحة على إعادة الهيكلة، وبالنسبة لرافضي إعادة الهيكلة فسيطلب منهم إما الانسحاب من الهيئة وعودة غير السوريين إلى دولهم، أو استمرارهم في الشمال كمدنيين فقط دون أي صفة قتالية أو سياسية. وبحسب المعلومات فإن طرحاً خلال المباحثات يتضمن إنشاء هيئة سياسية تفتتح مكاتبها في بعض الدول، بمثابة التمثيل السياسي للحكومة المستقبلية، على وجه مشابه للسفارات، ويتوقع أن يفتتح بعضها في تركيا وقطر. ووضحت المصادر بأن التشكيلات المدنية التي من المفترض أن تُسيّر الأمور في المدن والقرى والبلدات ستكون قوانينها ومرجعياتها مدنية بالكامل، وقانونية، ولا مكان فيها لما عرف في الفترة الماضية؛ كالشرعيين والمحاكم الشرعية. كذلك سيجري منع دخول أي من عناصر الجناح العسكري إلى المدن والقرى بسلاحه أو بصفته العسكرية؛ وإنما سيبقى تواجدهم خارج المناطق المأهولة، في نقاط التماس مع النظام السوري وتنظيم “داعش” والميليشيات الانفصالية الكردية. وأشارت المصادر إلى أن من بين الأفكار التي تم طرحها أيضا هو تبني علم الثورة كعلم وحيد، وأهداف الثورة، وجوبه هذا الاقتراح باعتراضات كبيرة من الشرعيين، إلّا أن الطرح لا زال موجودا للنقاش وبقوة؛ حيث أنه يحظى بالموافقة بنسبة أكبر بكثير من تلك التي ترفضه.
للتحميل من هنا

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2017

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى