الاصداراتالدراسات الاستراتيجيةمشاهد

الوصول إلى استقرار الاقتصاد السوداني وفرص تحقيق التنمية

بعد الإطاحة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير كانون الثاني/ديسمبر 2019، دخلت السودان في مرحلة انتقالية ستحدد مصير ومستقبل البلاد خصوصًا على الصعيد الاقتصادي، الذي شكل عاملًا أساسيًا – إلى جانب تقييد الحريات والقمع السياسي- في تحريك الانتفاضة السودانية، وزيادة الاستياء الشعبي بسبب حالة الاقتصاد المتدهور منذ تولي البشير لزمام السلطة عام 1989 بعد انقلابٍ قاده على حكومة الصادق المهدي، وتعيينه لحكومات أثرت بسياساتها الاقتصادية الداخلية بشكل سلبي على مسار التنمية ومستوى دخل الفرد ومشاريع البنى التحتية، وعلى الصعيد الخارجي أدى فرض العقوبات الأمريكية على السودان بذريعة رعايتها للإرهاب إلى تعميق أزمة الاقتصاد السوداني، لعدم وجود آليات ناجعة من الحكومة لتجاوز تلك العقوبات؛ ما جعل الاقتصاد متقلبًا وغير مستقر بين حالة الركود والعجز والنمو، على الرغم من امتلاك البلاد لموارد طبيعية وقوى محركة اقتصادية قادرة على تحقيق نهضة اقتصادية شاملة إذا ما تم استثمارها بالشكل الأمثل خصوصًا أن موقع السودان الجيو-اقتصادي المطل على البحر الأحمر الذي يعد ممرًا لشحنات النفط القادمة من الخليج باتجاه قناة السويس عبر موانئ التصدير السعودية الموازية للموانئ السودانية، يؤهل السودان للعب دور فعال في الاقتصاد العالمي.

 بالإضافة إلى وجود اهتمام دولي متزايد بالقارة الإفريقية عبر تحقيق مشاريع استثمارية تنموية فيها بعيدة المدى؛ لإنشاء سوق عالمية قد تكون بديلًا للسوق الصينية والهندية التي تغذي القارة الأوروبية والأمريكية بمنتجاتها وصناعاتها، ما يجعل السودان أمام فرصة حقيقية للدخول ضمن مسار التنمية الاستراتيجية طويل الأمد الذي تسعى إلى تطبيقه الدول العظمى والكبرى العالمية. 

من جهة أخرى وحول أسباب انكماش الاقتصاد السوداني في عهد البشير، فقد أدى تقسيم السودان عام 2011 إلى خسارة الخرطوم لموارد اقتصادية هامة في الجنوب، إلى جانب ما سببته العمليات العسكرية في إقليم دارفور من عرقلة التنقيب عن آبار النفط والذهب بالإضافة إلى خسارة أراضٍ صالحة للزراعة التي تعتبر من أهم الموارد الاقتصادية للبلاد.

 لذلك فإن المرحلة الحالية الاقتصادية تثير التساؤلات حول قدرة الحكومة السودانية القادمة بقيادة عبد الله حمدوك على سد الفجوة والعجز في الموازنة العامة مع تحسين مستوى دخل الفرد ودفع عجلة التنمية إلى الأمام.

سمات الاقتصاد السوداني في عهد البشير

منذ فترة ما قبل تسلم عمر البشير، كان الاقتصاد السوداني في الثمانينات منكمشًا وهشًا ومتأثرًا بالمناخ السياسي المتقلب الذي شهدته السودان في تلك الفترة ولم تستطع الحكومات المتوالية من إحداث تغيير بنيوي في حالة الاقتصاد المتدهورة([1]).

ومع تسلم البشير لزمام السلطة في 1989 لم يتغير الوضع لكن حالة الاستقرار السياسي التي فرضها البشير عبر إقصاء خصومه وتثبيت مقاليد حكمه انعكست بشكل إيجابي ضئيل وأدى لوصول الاقتصاد السوداني إلى حالة سيئة لكنها مستقرة نوعًا ما في أول فترة حكمه، لكن لم يستمر هذا الاستقرار طويلًا إذ فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عام 1993 عقوبات على السودان بسبب استضافة البشير لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في الخرطوم([2])، ما زاد من حجم المخاطر التي يواجهها الاقتصاد، وجعله ينتقل إلى سمة التقلب بشكل حاد، حيث اضطربت معايير النمو والانكماش والركود بين سنة وأخرى، وصولًا إلى عام 2011، الذي شهد انعطافًا خطرًا في مسار التنمية بسبب انفصال جنوب السودان الذي قاد إلى “فقدان السودان ثلاثة أرباع إنتاج النفط، ونصف إيرادات المالية العامة، وثلثي قدرته على سداد المدفوعات الدولية وحوالي 90% من عائدات الصادرات، ونحو 50 % من الإيرادات”([3]).

وفيما يخص الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمواجهة هذا التدهور فقد قامت عام 2011 بوضع خطة طوارئ مدتها ثلاث سنوات وطبقت بعض التدابير التصحيحية تضمنت في أهم بنودها زيادات في الأسعار المحلية للنفط بنسبة 67-75% وتوحيد أسعار الصرف الرسمية المتعددة، وتخفيض القيمة الموحدة للعملة في خطوة واحدة بنسبة 22%.

لكن بالنسبة للأرقام والبيانات، لم تفلح التدابير السابقة في تلافي الضرر الذي أحدثه انفصال السودان، حيث “تراجع المعدل السنوي لنمو الناتج المحلي الإجمالي من 7.8% في عام 2008 إلى 3.1% في عام 2014، في حين بلغ معدل البطالة 19.2% في عام 2014. ووصل حجم الدين الخارجي للسودان في نهاية 2013 ما يعادل 45 مليار دولار”([4]). واستمرت السياسات الخاطئة للخرطوم بتشديد الأزمة على المواطنين خصوصًا عندما قامت عام 2017 برفع الدعم عن المحروقات والأدوية والكهرباء([5])، وعقبها رفع الدعم عن مادة الخبز في عام 2018([6])، بالإضافة إلى ارتفاع معدل التضخم الذي وصل إلى 72% وانخفاض سعر صرف الجنيه السوداني أمام الدولار([7])؛ ما أدى إلى غلاء السلع الأساسية مقابل مستوى دخل فرد متدنٍ واتسعت الهوة بين إمكانية استثمار الموارد والاستفادة من عائداتها وبين تحسين مستوى المعيشة، لذلك بات عمل الحكومة السودانية في عهد البشير ترحيلًا للمشكلات الاقتصادية الرئيسية التي تعيق التطور وبناء استراتيجية اقتصادية متينة ومرنة تستطيع التعامل مع كافة العقبات التي يواجهها المسار الاقتصادي.

أهم الموارد الاقتصادية

يعتبر النفط المصدر الأساسي للدخل القومي، ويبلغ حجم الإنتاج ما يقارب 120 ألف برميل يوميًا، وتمثل عائداته حوالي 50% من الإيرادات العامة. فيما تصل احتياطيات السودان إلى حوالي 6.4 مليارات برميل. وفقد السودان حوالي 75% من إنتاجه النفطي بعد انفصال جنوب السودان حيث كان حجم الإنتاج يصل إلى حوالي 470 ألف برميل يوميًا، وحاولت الحكومة منذ ذلك الوقت إيجاد حقول نفط جديدة بالتنقيب عنها بإقليم دارفور([8])، لكن العمليات العسكرية حالت دون نجاح الحكومة في تحقيق ذلك وبقي حجم الإنتاج عند مستويات دنيا، وحاليًا تسعى حكومة حمدوك والمجلس العسكري السوداني لنقل الاتفاق الإطاري للسلام مع الفصائل المسلحة في دارفور لحيز التنفيذ وهو ما يتيح فرصًا جديدة للتنقيب عن النفط في تلك المنطقة([9]).

في حين تأتي بالمرتبة الثانية إيرادات الزراعة، التي “تساهم بثلث الناتج المحلي الإجمالي، ويعمل 48% من القوى العاملة في المجال الزراعي، ويشكل ما يقارب 80% من عائدات الصادرات، وقد خسر السودان حوالي 25% من الأراضي الصالحة للزراعة عقب انفصال الجنوب، وتنتج الحقول بشكل أساسي القطن والذرة، ويعد السودان ثالث أكبر منتج في العالم لبذور السمسم، بعد كل من الهند والصين”([10]).

مستقبل اقتصاد البلاد ما بعد الانتفاضة الشعبية

على الرغم من تحقيق الانتفاضة السودانية لأهم مطالبها وهو إزاحة عمر البشير، إلا أن المطالب الأخرى المتعلقة بالجانب الاقتصادي لا تزال معلقة إلى حين إثبات الحكومة السودانية بقيادة عبد الله حمدوك فاعليتها في تطبيق خطتها الاقتصادية التي أوضح ملامحها الأخير والمستندة إلى شرطين أساسيين هما رفع العقوبات الأمريكية عن بلاده، وخفض الإنفاق العسكري الذي يصل إلى 80% من ميزانية الدولة([11]). وتواجه الحكومة عدة عقبات للنهوض بالاقتصاد منها:

  • ضعف النقد الأجنبي في خزينة البنك المركزي السوداني، وهو لا يكفي لتغطية كلفة واردات البلاد أو أقساط الديون الخارجية بالإضافة إلى عدم تمكن البنك من السيطرة على مستوى التضخم في العملة، ولذلك أوضح رئيس الحكومة حمدوك أن السودان يحتاج ثماني مليارات دولار مساعدة أجنبية خلال العامين المقبلين لتغطية الواردات([12]).
  • طبيعة علاقة الحكومة مع العسكر وضعف إمكانية إقناعهم بتطبيق خطة خفض الإنفاق العسكري خصوصًا وأن خطر عودة نشاط الجماعات المتمردة في دارفور لا يزال قائمًا.
  • الموائمة بين تطبيق مشاريع التنمية الاقتصادية والبنى التحتية وبين سد العجز في الموازنة والسيطرة على غلاء السلع الأساسية ورفع مستوى دخل الفرد وهو ما قد يتطلب فترة زمنية طويلة ستؤدي إلى فقد الشعب ثقته بالحكومة.
  • إمكانية عودة عدم الاستقرار السياسي وتصاعد الخلافات بين قوى المعارضة والمجلس العسكري في المجلس السيادي، وهو ما سينعكس سلبًا على أداء الحكومة.
  • عدم استقرار الوضع الأمني ووجود جهات وشخصيات داخل الدولة تسعى إلى إحداث فوضى لتحقيق مكاسب -منها التغطية على ملفات فساد تدين تلك الشخصيات- وعليه قام بعض الضباط في جهاز الاستخبارات السوداني بمحاولة انقلاب في العاصمة الخرطوم مؤخرًا([13])، وعلى الرغم من عدم نجاحه إلا أنه أعطى مؤشرات واضحة على أن الوضع الأمني في البلاد لا يزال غير مستقر بالتالي فإن خطط التنمية الاقتصادية قد تكون مهددة بعدم إمكانية تطبيقها لأن العامل الرئيس لتحقيق النمو الاقتصادي هو عامل الاستقرار.
  • صعوبة بناء دبلوماسية اقتصادية خارجية متوازنة لتشجيع الاستثمارات في السودان، بسبب عدم وضوح الموقف الأمريكي حيال رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب([14]).

وبناء على ما سبق فإن مستقبل اقتصاد البلاد لايزال غير واضح المعالم ما يزيد المخاوف من تدهور حالته إلى حين الخروج من سمة الركود والوصول إلى حالة الاستقرار ومن ثم النمو وتحقيق التنمية ويقع على عاتق المحيط الإقليمي والدولي المساندة لمسار الانتقال السياسي في البلاد تقديم المساعدات اللازمة للنهوض بالاقتصاد، لكن تباين في المواقف الدولية قد يؤدي إلى عرقلته وعدم تحقيقه للفاعلية المطلوبة أيضًا، ما يطرح تساؤلًا هل سيتمكن السودان من تحقيق النهضة ومواكبة التطور الاقتصادي الذي ستشهده إفريقيا([15]) ضمن المسار الاستراتيجي الدولي الساعي إلى تنميتها على المدى البعيد؟


([1]) للمزيد من المعلومات حول هذه الفترة انطر تقريرًا بعنوان “اقتصاد السودان.. القشة التي قصمت ظهر البشير”. العربية نت، 17-4-2019. https://bit.ly/2lYzoEA

([2]) “عمر البشير… “الانقلاب” يرتد إلى صاحبه”. إنديبندينت عربية، 12-4-2019. https://bit.ly/2mKmZoe

([3]) الحسن عاشي “أزمة اقتصاد السودان وكرة الثلج منذ انفصال الجنوب”. مركز كارنيغي للدراسات، 15-10-2013. https://bit.ly/2nxFSuI

([4]) “الثورة السودانية ومستقبل الاقتصاد السوداني”. مرصد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الإعلامي، 19-8-2019. https://bit.ly/2nxLhBU

([5]) “السودان يعلن رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء والأدوية”. الأناضول، 4-11-2016. https://bit.ly/2xwPreR

([6]) “تظاهرات في السودان اثر ارتفاع سعر الخبز”. فرانس 24، 6-1-2018. https://bit.ly/2ogMvBV

([7]) “اقتصاد السودان وعسكرة الدولة”. العربي الجديد، 28-2-2019. https://bit.ly/2IzRg37

([8]) “السودان يبحث عن النفط في إقليم دارفور”. صحيفة العرب اللندنية، 21-3-2015. https://bit.ly/2nCRg8I

([9]) “اتفاق إطاري بين الحكومة السودانية وحركات دارفور المسلحة”. الشرق الأوسط، 29- 12- 2019. https://bit.ly/2RGAVfM

([10]) انظر المرجع رقم (4).

([11]) “كيف سينقذ حمدوك اقتصاد السودان؟ خطته تستند لشرطين أساسيين قد يُغضبان الجيش”. عربي بوست، 25-8-2019. https://bit.ly/2mJdoxX

([12]) “اقتصاد السودان وعسكرة الدولة”. العربي الجديد، 25-2-2019. https://bit.ly/2IzRg37

       “حمدوك: اقتصاد السودان يحتاج 8 مليارات دولار مساعدات”. الشرق الأوسط، 24-8-2019. https://bit.ly/2mIUSFO

([13]) “انقلاب “مخابراتي” في السودان.. هذا ما ينتظر المتورطين”. العربية نت، 15-1-2020. https://bit.ly/2S011t4

([14]) “السودان: أخطر التصريحات بشأن رفع السودان من قائمة الإرهاب”. الانتباهة السودانية أونلاين، 25-1-2020. https://bit.ly/2vrGu8W

([15]) للمزيد من الاطلاع انظر “ما بين الخلافات الصومالية الكينية وتطبيع العلاقات”. برق للسياسات، 6-1-2020. https://bit.ly/37QOmPy

      “المشهد الأثيوبي: أثر التحوُّل في الدبلوماسية الخارجية لأثيوبيا”. برق للسياسات، 30-8-2019. https://bit.ly/2ObVLBp

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى