الاصداراتمشاهد

صناعة الانفلات الأمني.. الدوافع والآثار والأطراف المستفيدة

مقدمة:

منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، دخلت البلاد في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، وأصبحت تفتقد لتطبيق الشرائع القانونية في ظل غياب مؤسسات الدولة، وانتشار الفساد الإداري وفوضى السلاح، ما جعلها بيئة خصبة لانتشار الجريمة المنظمة، ويعود ذلك لفشل الحكومات التي توالت على الحكم منذ سقوط العاصمة بغداد، إضافة لانتشار الفساد والمحسوبيات والتأجيج الطائفي والتبعية للخارج. جميع تلك العوامل أسهمت في إضعاف هيبة الدولة والجيش والأجهزة الأمنية، وساعدت في ظهور الجريمة والنزاع العشائري في ظل الانفلات الأمني.

 أبرز مظاهر الانفلات الأمني في العراق:

برزت ظاهرة الانفلات الأمني في جميع المحافظات العراقية وخاصة في العاصمة بغداد والمناطق الجنوبية ذات الغالبية الشيعية والمناطق الوسطى ذات الغالبية السنية، واتخذت عدة أشكال أبرزها:

1-انتشار المليشيات المسلحة: وهي جماعات مسلحة تعمل خارج نطاق الدولة مدعومة معظمها من إيران، ولا تعترف بالأجهزة الأمنية أو الجيش، بل تنافسها وتستغل سلاحها في الفساد والجريمة المنظمة حتى أصبحت تهدد الدولة بذريعة “العمل السياسي”، وبلغ عدد الميليشيات في العراق أكثر من 50 جماعة مسلحة أبرزها (الحشد الشعبي، عصائب أهل الحق، كتائب حزب الله العراقية، النجباء، فيلق بدر).

تنتشر المليشيات في أغلب مدن ومحافظات العراق وخاصة  في المناطق الجنوبية في مدينتي بغداد والبصرة التي تعيش حالةً من الفوضى الأمنية بامتياز، نتيجة الصراعات الحزبية وسيطرة المليشيات على تلك المناطق من خلال الترهيب، وتحويلها إلى ما يشبه “دولة داخل دولة” لأن تعدادها ومقدَّراتها المالية والعسكرية تكاد توازي مقدرات قوات الدولة المسلحة. بل أكثر من ذلك في بعض الأحيان[1].

كما تسيطر المليشيات على جزءٍ كبيرٍ من مقدرات العراق وتحكم سيطرتها على معابر حدودية وتفرض الرسوم والضرائب على المسافرين والبضائع لحسابها الخاص في جنوب البلاد، وتستولي على أرصفة في ميناء البصرة وتسرق عشرات الآلاف من براميل النفط يوميًّا، وهناك تقديرات بأن الخسارة المالية للدولة العراقية جرَّاء نشاطات الميليشيات الاقتصادية تصل إلى مليارات الدولارات سنويًّا[2].

 2- السلاح المنفلت: يعد انتشار السلاح العشوائي بين المدنيين من أبرز أشكال الانفلات الأمني الذي يُهدد استقرار البلاد، ويعكس حالةً من القلق وعدم الثقة بالأجهزة الأمنية، حتى أصبحت الأسلحة تُعرض للبيع على وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك أسواق خاصة لبيع الأسلحة غير المرخصة بكافة أنواعها في معظم المحافظات العراقية، أشهرها سوق “مريدي” بمدينة الصدر شرقي بغداد.

ظاهرة انتشار السلاح المنفلت تتسبب بمقتل وإصابة الآلاف، جراء جرائم جنائية أو نزاعات عشائرية وعداوات شخصية، بحسب مصادر بوزارة الداخلية، التي أكدت أن السلاح المنتشر جنوب ووسط العراق يُعتبر تهديدًا أمنيًا يستهدف العراقيين.

مراقبون أمنيون يرون أن تجارة السلاح في البلاد تقف وراءها شخصيات متنفذة، ولا يمكن السيطرة عليها بشكل نهائي، فضلاً أن هاجس الخوف لدى العراقيين هو ما يدفعهم إلى شراء الأسلحة للدفاع عن أنفسهم، بسبب غياب الثقة بالأجهزة الأمنية، وسط عجز الحكومات التي توالت على حكم العراق عن محاصرة شبكات الاتجار بالسلاح، أو سحب ما هو موجود بالشارع، والذي يقدر بملايين القطع الخفيفة والمتوسطة وحتى الثقيلة منها، كمدافع الهاون وصواريخ الكاتيوشا[3].

مصدر في وزارة الداخلية كشف أن عدد الأسلحة التي تسربت من الأجهزة الأمنية إلى السوق السوداء يقارب 190 ألف قطعة سلاح بين عامي 2003 و2006 فقط، وأضاف أنه في بعض الحالات باع منتسبون في الأجهزة الأمنية مخازن وحداتهم بأكملها للميليشيات والعشائر بأقل من 50% من قيمة شرائها من المصنعين ثم فروا من الخدمة[4].

وتشير كثيرٌ من المعلومات إلى أن غالبية الأسلحة المهربة إلى العراق يتم إدخالها عن طريق الموانئ في البصرة وخاصة ميناء أم قصر، إضافة إلى الحدود الإيرانية العراقية المطلة على البصرة بعلمٍ من السلطات الأمنية، عن طريق الجماعات الموالية لطهران، من خلال سيطرة ميليشيات “عصائب أهل الحق” و”النجباء” و”الخرساني” وغيرها على عدة أرصفة في الميناء.

حتى الآن لا توجد إحصائيات دقيقة لعدد قطع السلاح المنتشر بين عامة الناس، إلا أن دراسة أعدتها مراكز بحثية أممية عن مقاييس الدول العربية في ظاهرة انتشار السلاح بين العامة، كشفت أن العراق تخطى تلك المقاييس حول أعداد وأشكال السلاح المتاح وبأسعارٍ قياسيةٍ.

3-الجريمة المنظمة: ساهمت الفوضى وغياب الإجراءات القانونية الرادعة بحق المجرمين في انتشار الجريمة المنظمة واتساع رقعتها، حتى شملت كافة المحافظات بعد أن كانت مقتصرةً على بغداد ومحافظات الجنوب، وتتراوح الجريمة المنظمة في العراق بين القتل والسطو المسلح وتهريب الآثار وزراعة المخدرات وخطف الأطفال، والإتجار بالبشر والسلاح وتزوير الصكوك المصرفية، وتزوير العملة والشهادات العلمية فضلاً عن التفجيرات ونحوها.

وترتبط الجريمة بعوامل اقتصادية من أبرزها الفقر والبطالة[5] التي دفعت العديد من الشباب إلى الانخراط في عصابات الجريمة المنظمة للحصول على المال، فحسب إحصائيات رسمية يعيش أكثر من ثلث العراقيين تحت خط الفقر، الذي ارتفعت معدلاته مؤخرًا بسبب تفشي فيروس كورونا، وانخفاض أسعار النفط في السوق العالمية من 22% إلى 34%.

ووصلت معدلات البطالة في البلاد إلى حدود قياسية بتسجيلها 40% بحسب ما كشف صندوق النقد الدولي في تقريره الخاص بالعراق عام 2018، بينهم أكثر من 10 آلاف عاطل عن العمل يحملون شهاداتٍ عليا.

4-النزاعات العشائرية: تشكل أبرز جوانب الانفلات الأمني في العراق، وخاصة بمناطق الجنوب، وسط غياب تام لسلطة الدولة، وانتشار كبير للسلاح بيد العشائر بما فيه السلاح الثقيل من صواريخ وقذائف هاون.

وتنامى دور العشائر بشكل ملحوظ بسبب تراجع دور القضاء وضعف الأجهزة الأمنية التي تجد نفسها عاجزة أحيانًا عن سحب السلاح، ومستفيدة أحيانًا أخرى من النزاعات العشائرية، وذلك بسبب الأموال التي تحصل عليها من العشائر، أو لكونها قد تكون طرفًا في هذه النزاعات، إلى جانب محاولتها كسب مصالح سياسية منها وخصوصًا في الانتخابات، الأمر الذي منح العشائر هامشًا لممارسة دور السلطة في المناطق التي تنتشر فيها، مع عدم وجود أي خطة لدى السلطات الحاكمة في التفكير بسحب السلاح.

معظم النزاعات العشائرية التي تحصل في مناطق العراق تكون بسبب الخلاف على الأراضي أو المياه، أو حالات ثأر قديم، وأودت تلك النزاعات بحياة المئات خلال السنوات الماضية، كما أعطت صورة عامة عن الوضع في العراق بأنه لا وجود لأيٍ من مؤسسات الدولة، رغم تعاقب حكومات عدة ووعودها المتكررة باستقرار البلاد.

أسباب الانفلات الأمني في العراق والأطراف المستفيدة من استمراره:

من أبرز الأسباب التي أدت إلى ظهور حالة الانفلات الأمني، النظام الهش الذي أنتج صراعًا حول تقاسم الموارد، ونزاعًا على السلطة والنفوذ، وترهل الأجهزة الأمنية، وتغول المليشيات المسلحة في مؤسسات الدولة، إضافة لعدم قدرة القوى الأمنية على الحدّ من نفوذ الجماعات الموالية لإيران ومنع كافة الظواهر المسلحة في الشارع، وللصراعات والتحالفات بين القوى الإقليمية الكبرى والتدخلات العسكرية سواء الإقليمية أو الدولية دورٌ كبيرٌ في الفوضى.

هناك أطراف عديدة تحاول إشعال الفوضى في العراق عبر أذرعها المنتشرة في البلاد وتسعى لإبقاء العراق في حالة من الفلتان الأمني، أبرزها إيران التي من أولوياتها الحيلولة دون ظهور العراق من جديد كتهديدٍ لها، سواء كان ذلك في شكلٍ عسكريٍ أو سياسيٍ أو إيديولوجيٍ، وذلك بهدف فرض قرارها على الساسة عبر أحزاب تصدرت المشهد السياسي بدعم مالي ولوجستي من طهران.

 مشروع “الهلال الشيعي” الإيراني يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوضع الأمني في العراق، فبدون تلك الفوضى لا يستطيع أصحاب القرار في إيران ربط طهران بالبحر المتوسط عبر بغداد – دمشق – -بيروت، لذا فإن إيران تسعى دومًا لدعم وإنشاء مليشيات مسلحة جديدة.

ومنذ يناير/ كانون الثاني 2019، أُعلن عن ولادة تسع مليشيات مسلحة في العراق، هي “أصحاب الكهف”، “عصبة الثائرين”، “سرايا ثورة العشرين الثانية”، “قوات ذو الفقار”، “سرايا المنتقم”، “أولياء الدم”، “ثأر المهندس”، “قاصم الجبارين”، “الغاشية”، جميعها هدفها المعلن محاربة الوجود الأمريكي في البلاد، فيما هدفها الرئيسي إبقاء العراق في حالة فوضى طويلة الأمد[6].

ذراع إيران بالمنطقة أي مليشيات الحشد الشعبي لها الدور الأبرز في إبقاء البلاد بحالة انفلات أمني، فالفوضى مصدرها الرئيسي لتمويل أنشطة فصائلها المسلحة عبر مختلف أنواع الإجرام من حالات خطف مدنيين لطلب فدية مالية[7]، إضافة إلى السطو المسلح على الدور السكنية وشركات الصرافة، إلى جانب تجارة المخدرات والسرقة، مستغلةً الغطاء الحكومي والقانوني لممارسة عملياتها.

الانفلات الأمني يهيئ الأجواء لتنظيم داعش للظهور من جديد، فالتنظيم يحاول استغلال ضعف الأجهزة الأمنية، لإعادة هيكلة صفوفه، وشن هجمات على مدن وقرى عراقية بهدف السيطرة عليها أو تكبيد القوات الحكومية خسائر بشرية، ويبدو أن إيران تريد إحياء تنظيم داعش بشكل محدود من أجل إبقاء ذرائع نشاط ميليشياتها في المدن والقرى العراقية.

ولعب الانفلات الأمني دوراً في عمليات التغيير الديمغرافي وخصوصًا ضد المكون السني، وتُتهم الميليشيات الموالية لإيران بممارسة عمليات تهجير وتعذيب وإعدام  ضد السكان، وتنفيذ أجندات خارجية.

محافظة ديالى شرق العراق انعكست فيها ظاهرة الانفلات الأمني بشكل ملحوظ، بسبب جرائم القتل والخطف والتهجير القسري وعمليات التغيير الديمغرافي، وتحدثت منظمات المجتمع المدني عن وقوع آلاف المخطوفين والقتلى الذين كانوا ضحية خطة التغيير الديمغرافي في محافظتهم.[8]

جرائم الانفلات الأمني تجعل السكان في حالة تخوف دائمة، بسبب نفوذ المليشيات المسلحة وسيطرتها الفعلية على القرى والبلدات، وفرض إتاوات على السكان، ومصادرة ممتلكات بالقوة، وانعكست حالة الانفلات الأمني حتى على الوضع المعيشي والاقتصادي للأهالي، بعدما قامت المليشيات بحرق حقول الحنطة والمزارع وخصوصًا في محافظة ديالى.

جميع ما سبق ذكره دفع معهد الفكر الدولي للاقتصاد والسلام (IEP) إلى تصنيف العراق ضمن الدول الأقل أمنًا في العالم خلال العام 2020، محتلاً المركز الثالث، واعتمد المعهد في تقييمه للدول على أساس 23 مؤشرًا تم تجميعها في ثلاثة معايير، وهي (الأمان والأمن المجتمعيان، ومدى الصراع المحلي والدولي المستمر، ودرجة العسكرة).

كما صنفت منظمة الشفافية الدولية العراق عام 2018 ضمن الدول الست الأولى الأكثر فسادًا في العالم، وعزا نواب عراقيون أسباب هذا التصنيف إلى عدم الجدية في محاسبة بعض المسؤولين الكبار الذين بات يعتبرهم الشارع العراقي فوق القانون.

خاتمة: 

لا تبدو مهمة تفكيك الجماعات المسلحة سهلة أمام حكومة مصطفى كاظمي، إذ سرعان ما ردت ميليشيا “كتائب حزب الله” على اعتقال عدد من عناصرها في 25 يونيو / حزيران 2020 من قبل قوة أمنية عراقية بانتشار عناصر الحزب في بغداد ومهاجمة القوى الأمنية، الأمر الذي أجبر كاظمي على تسليم المعتقلين للحشد الشعبي ليقوم لاحقًا بإطلاق سراحهم، ويُعدَّ هذا أول اختبارٍ فعليٍ لحكومة كاظمي في التعامل مع المليشيات المسلحة التي تمارس دور السلطة.

إذن فإن أمام حكومة كاظمي مهمةٌ صعبةٌ وعوائق وتحدياتٌ كبيرة لانتشال العراق من حالة الانفلات الأمني والجريمة المنظمة، وذلك بسبب الفوضى التي ورثها من الحكومات السابقة بقيادة نوري مالكي وحيدر عبادي، إذ استشرى الفساد والمحسوبيات بشكل كبير في ولاية الأول، بينما انشغل الثاني بتداعيات القتال ضد تنظيم الدولة، بالإضافة للفساد المتجذر بالبلاد، في حين لم تُغير حكومة عادل عبد المهدي قصيرة الأجل شيئًا من الواقع، إلا أن ما يُلمَسُ ويظهر بشكل واضح للعيان أنه في تلك الفترة تعاظمت ونمت قوة الميليشيات المسلحة الخارجة عن القانون مستفيدةً من ذريعة محاربة تنظيم داعش، الأمر الذي جعلها تحكم المناطق التي تقع تحت سيطرتها، دون أدنى دورٍ للسلطة والأجهزة الأمنية، إضافة لإشرافها على معتقلات سرية وتنفيذ عمليات خطف وسرقة ومصادرة أملاك.

لا يمكن تخليص العراق من حالة الانفلات الأمني التي يعيش فيها مالم تكف إيران عن العبث في البلاد، فالمشكلة الأساسية تكمن في دعم طهران اللامحدود لتلك الميليشيات، بهدف استمرار سطوتها وهيمنتها على العراق، ولا تبدو الولايات المتحدة الأمريكية مهتمةً كثيرًا بانتشال العراق من حالة الفوضى، لأنها ركزت جهودها طوال السنوات الماضية على دعم الحرب ضد تنظيم داعش، أي إن العراق غَرِقَ في أزمات الفوضى بسبب تهميش الفاعلين الدوليين والإقليميين للحالة الأمنية، وتقديم مصالحهم على مصالح العراقيين.

على ضوء ذلك فإن حكومة كاظمي لن تغير من الواقع شيئًا ما لم تتلقَ دعمًا محليًا وخارجيًا يعطي بوادر ومقدمات لتفكيك الجماعات المسلحة، كدمجها داخل مؤسسات الدولة وسحب السلاح منها، وتبدو هذه الميليشيات متماسكة كثيرًا بالوقت الحالي في مشهدٍ يذكر بتماسك تنظيم داعش حينما اجتاح مساحاتٍ شاسعةً من العراق وسوريا، لكن سرعان ما تساقطت مناطق سيطرته كمسبحةٍ انفرط عقدها حينما كانت هناك إرادة جادة لإنهائه محليًا ودوليًا، وهذا ما يفتقر إليه العراق الآن، وبالتالي فإن مسلسل الفوضى يبدو بعيد النهايات. 


[1]  https://bit.ly/2FxNDu0

دويلات داخل الدولة: تحدي الكاظمي في السيطرة على الفصائل الشيعية المسلحة

[2]  https://bit.ly/3iUdcTv

دولة أم سدللي وأسدلك أم مليشيات أم خوارزميات مقطعة داخل دولة؟

[3]  https://bit.ly/2H4G8uH

انتشار السلاح في العراق.. ظاهرة تتخطى المقاييس

[4]  https://bit.ly/3jYyfWy

السلاح في العراق.. كيف تدير الميليشيات تجارته؟

[5]  https://bit.ly/3dm5xMC

في العراق.. ما علاقة الجرائم المنظمة بالبطالة؟

[6] https://bit.ly/35dPixn

هل الميليشيات الجديدة في العراق مناورة من الأطراف القديمة أم انقسامات؟

[7]  https://bit.ly/3nLaYtk

حقوق الإنسان في العراق: عندما لا يكون الدستور كافياً

[8]  https://bit.ly/3jWcsyE

نزوح قسري للعوائل من “حوض الوقف” في ديالى بسبب الانفلات الأمني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى