الاصداراتمشاهد

أعراض ما بعد الصدمة.. أزمة أرمينيا الداخليّة

مقدمة:

اشتعلت في أرمينيا أزمة سياسية حادة بعد الهزيمة القاسية التي تعرض لها جيشها في إقليم قره باغ أمام الجيش الأذري، لتصل الأزمة إلى ذروتها بمحاولة انقلاب عسكري ضد حكومة رئيس الوزراء نيكول باشينيان الذي يواجه تظاهرات شعبية منذ شهر تشرين الثاني/نوفمبر- 2020، تطالبه وحكومته بالتنحي عن السلطة، حيث اعتبرته المعارضة مسؤولًا عن توقيع صك الاستسلام بعد حرب استمرت ستة أسابيع من معاركَ خسرت فيها بلاده آلاف القتلى، وانسحبت من مناطق واسعة في الإقليم، ما يثير التساؤلات حول مصير حكومة باشينيان الذي وصل إلى منصبه عبر احتجاجات شعبية؛ أعادت نفسها اليوم، لكن في ظل انقسام واضح لدى الشعب الأرمني إزاء بقائه في الحكم.

جذور الأزمة السياسية في أرمينيا:

لم يلق اتفاق إقليم قره باغ مع أذربيجان الذي تم بوساطة روسية صدىً إيجابيًا لدى المعارضة التي اتهمت باشينيان بـ”الخيانة والاستسلام”[1]، وحشدت تظاهراتٍ شبه يومية طالبته بالاستقالة، وتمكن المحتجون في إحداها من السيطرة على مقري الحكومة والبرلمان قبل أن يستعيدهما الجيش، ما خلق أزمة وحالة توتر في البلاد كادت تطيح برئيس الوزراء الذي دافع عن قراره توقيع الاتفاق بقوله: “احتفظنا بما لم نكن سنتمكن من الحفاظ عليه لو تواصلت المعارك”[2].

لكن هذه الأزمة عادت إلى الواجهة من جديد وبوتيرة أكبر؛ وذلك جراء انضمام الجيش – الذي كان يقف بجانب باشينيان حتى في توقيع اتفاق قره باغ – إلى المنادين بتنحّيه، عقب إقالة الأخير لنائب رئيس هيئة الأركان العامة تيغران خاتشاتريان؛ بسبب سخريته من انتقاد رئيس الوزراء لصواريخ إسكندر الروسية التي تمتلكها القوات المسلحة الأرمنية، وقال: إنها “لم تنفجر أو انفجرت بنسبة 10% فقط” خلال المعارك التي جرت مؤخرًا مع الجيش الأذري[3]، فيما رد خاتشاتريان بأن “هذه الصواريخ لم تُستخدم أصلًا في الحرب الأخيرة”[4].

بدورها رفضت هيئة الأركان قرار باشينيان الأخير، وأصدرت بيانًا قالت فيه: إن “رئيس الوزراء والحكومة لم يعودا قادرين على اتخاذ قرارات صائبة، وإن إدارة الحكومة غير الفعالة والأخطاء الجسيمة في السياسة الخارجية دفعت البلاد إلى حافة الدمار”[5]، واتهمت حكومة باشينيان بـ “سعيها لتشويه سمعة القوات المسلحة الأرمنية”، في حين أعربت وزارة الدفاع عن رفضها محاولات توريط الجيش في السياسة.

من جانبه اعتبر رئيس الوزراء نيكول باشينيان بيان هيئة الأركان محاولةً لانقلاب عسكري[6]، ورد عليه بإقالة رئيس الهيئة أونيك غاسباريان، كما حشد لتظاهرة مؤيدة له وسط العاصمة يريفان، وأكد خلال خطاب ألقاه أمام أنصاره أن محاولة الإطاحة به “لن تنجح، وأن كل شيء تحت السيطرة، وسينتهي سلميًا”[7]، كما طالب الجيش “أن يمتثل لإرادة الشعب والسلطات المنتخبة”.

بالمقابل حشدت أحزاب المعارضة أنصارها في ساحات العاصمة، ونصبت خيامًا أمام البرلمان مطالبة برحيل رئيس الوزراء وحكومته، في حين دعا حزب “أرمينيا المزدهرة” – أكبرُ تشكيلات المعارضة – باشينيان إلى “عدم قيادة البلاد إلى حرب أهلية وإراقة الدماء”[8]، وأضاف أن “لديه فرصة واحدة أخيرة للمغادرة دون حدوث أي اضطرابات”[9]، كما حث رئيس الوزراء السابق فاسجين مانوكيان – الذي تطالب المعارضة بتعيينه مكان باشينيان – المواطنين للانضمام إلى التظاهرات، وأضاف: “إما أن نتخلص منهم، أو نخسر أرمينيا”[10]، في إشارة إلى رئيس الوزراء الحالي وداعميه.

ومما زاد تفاقم الأزمة، رفض الرئيس الأرمني أرمين سركيسيان – ومنصبه شرفي – المصادقة على قراري رئيس الوزراء لإقالة قائدي أركان الجيش؛ باعتبار أن الأزمة “لا يمكن حلها من خلال التغييرات المتكررة للمسؤولين”[11]، وشدد على أن “التسوية العاجلة للمسألة في إطار الدستور، لها أهمية قصوى لأمن واستقرار أرمينيا، للوصول إلى حل نهائي من أجل الحفاظ على الدولة ومنع المزيد من الانقسام في المجتمع”.[12]

في حين أعلن باشينيان استعداده بدء محادثات مع المعارضة لإعادة الاستقرار إلى البلاد، وإجراء انتخابات مبكرة إذا وافقت القوى البرلمانية[13]، داعيًا إلى اعتماد دستور جديد أو تعديلات دستورية في تشرين الأول/أكتوبر المقبل عن طريق استفتاء وطني للانتقال إلى نظام شبه رئاسي[14]، لكن هذه الدعوات جميعها قوبلت برفض أحزاب المعارضة التي أصرت على استقالته أولًا قبل البدء بأي محادثات أو إجراء انتخابات برلمانية مبكرة.

المواقف الدولية إزاء محاولة انقلاب أرمينيا:

منذ اليوم الأول للأزمة السياسية التي اجتاحت أرمينيا، عبرت الرئاسة الروسية عن قلقها من الأحداث التي بدأت تتفاقم في الجمهورية السوفيتية السابقة، التي تمتلك فيها قاعدة عسكرية، ووصفت ما يجري فيها بأنه “شأن داخلي”، داعيةً جميع الأطراف إلى “التهدئة ضمن إطار الدستور”[15]، كما أبدى الرئيس فلاديمير بوتين تأييده “الحفاظ على النظام والهدوء وتسوية الوضع ضمن إطار القانون”[16]، لكن برغم التصريحات الرسمية الروسية التي يبدو أنها تقف على الحياد، فإن هناك آراءً تميل إلى القول بأن موسكو لديها رغبة في التخلص من رئيس الوزراء الأرمني[17]

من جانبه، عبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن رفضه “جميع أشكال الانقلابات”، ومن بينها محاولة الإطاحة برئيس الوزراء باشينيان، وأضاف: “إن كانت هناك حاجة لتغيير الإدارة في أرمينيا، فيجب ترك الأمر لإرادة الشعب دون تدخل العسكر في الحياة السياسية”.[18]

في حين اعتبر الرئيس الأذري إلهام علييف الأوضاع السياسية التي تشهدها يريفان “مسائل داخلية خطيرة تهدد أساسات الدولة”، وأبدى تخوفه من تأثير ما يحصل في يريفان على اتفاق وقف إطلاق النار في إقليم قره باغ، محذرًا في حال خرقه بأن “أرمينيا ستكون في وضع أسوأ”[19].

وبدورها دعت وزارة الخارجية الأمريكية جميع أطراف الأزمة إلى “ضبط النفس، وتجنب الخطوات التي تصعد العنف والتوتر، من أجل حل خلافاتهم سلميًا بما يحترم سيادة القانون والديمقراطية”، مشددة على “وجوب عدم تدخل الجيش الأرمني في الشؤون السياسية الداخلية”[20].

كذلك طالب الاتحاد الأوروبي بحل الخلافات القائمة في يريفان سلميًا، من خلال الحوار والالتزام بمبادئ الديمقراطية السلمية والبرلمانية[21]، فيما شدد حلف شمال الأطلسي “الناتو” على “تجنب الكلمات أو الأفعال التي قد تؤدي إلى مزيد من التصعيد”[22]، في حين أبدى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قلقه من التطورات الجارية في أرمينيا، ودعا إلى “اعتماد الحوار لتسوية الخلافات السياسية طبقًا للدستور والعملية الديمقراطية”[23].

حكومة باشينيان أمام الاختبار الأصعب:

باشينيان صحفي سابق ومعارض تعرض للسجن 7 سنوات، ووصل إلى السلطة في ربيع عام 2018 إثر حراكٍ شعبيّ واسعٍ أطاح بالحكومة السابقة بقيادة سيرغ سيركسيان بدون خسائر في الأرواح، وذلك من خلال اعتماده على الحشد الجماهيري الذي قاده إلى السلطة[24]، وأعلن فور تسلّمه السلطة في البلاد عن سعيه لمحاربة الفساد والقيام بإصلاحات اقتصادية شاملة أسهمت في تسريع النمو الاقتصادي قبل أن تتباطأ العجلة بعد انتشار وباء كورونا، ثم جاءت أزمة قره باغ التي كان لها دور بارز في تراجع شعبيته بشكل كبير، حيث اعتُبر أن “إهانة وطنية” تعرضت لها أرمينيا بسبب اتفاق الانسحاب من الإقليم[25].

وبالرغم من التسويغات التي أطلقها باشينيان حول اتفاق قره باغ، واعتباره أفضل من خسارة كل الإقليم؛ فإن المعارضة استغلت هذه الفرصة، وما تزال تحشد في شوارع العاصمة ومدن أخرى كبرى للمطالبة برحيله، وهو ما يُقابَل بإجراءات مضادة من قبل مؤيدي الحكومة الحالية، في حين لا يستطيع كل طرف من أطراف الأزمة فرض قراره، ما يجعل مشهد التوترات قائمًا وسط مخاوف من انزلاق البلاد نحو حرب أهلية ستكون لها تداعياتها في الداخل وفي دول الجوار التي تدل مواقفها على قلق من هذا السيناريو[26].

خاتمة:

أمام ذلك المشهد المعقد في أرمينيا، فإن الكفة لا يبدو أنها تميل حاليًا بشكل واضح لصالح طرف من أطراف الأزمة دون الآخر؛ بسبب الانقسام الواضح بين فئات الشعب الأرمني وفي أروقة المؤسسة العسكرية إزاء تحديد المسؤول عن الهزيمة في قره باغ، لاسيما أن الحكومات السابقة التي تعاقبت على حكم يريفان لم تحل المشكلة مع الجارة أذربيجان، وإنما أبقتها على عاتق حكومة باشينيان.

يُضاف إلى ذلك موافقة الجيش على الانسحاب من الإقليم جراء الخسائر الكبيرة التي مُنِي بها في أسابيع الحرب الستة، الأمر الذي يُعتبر ورقة تعزز من موقف باشينيان في الأزمة الحالية، لكن المعارضة تُصر على الاستمرار في الحشد والمطالبة برحيل الحكومة، ما يجعل كافة الاحتمالات قائمة.

ويبدو أن أقرب سيناريو لحل الأزمة الحالية يتمثل في تقديم جميع الأطراف تنازلات والقبول بإجراء انتخابات مبكرة تجنب البلاد سيناريو حرب أهلية، كما تقطع الطريق على عودة الذين خرجت احتجاجات ضدهم قبل 3 سنوات مضت.


[1] https://bit.ly/3ebaZo9

فرانس 24، ناغورني قره باغ: المعارضة الأرمنية ترفض اتفاق وقف إطلاق النار وتتهم رئيس الحكومة بـ “الخيانة”

[2] https://bit.ly/3qlPKm2

إذاعة سويسرا العالمية، المعارضة الأرمنية تسعى للتعبئة ضد اتفاق وقف إطلاق النار في ناغورني قره باغ

[3] https://bit.ly/3kQBIHF

سبوتنيك، هل استخدمت أرمينيا صواريخ “إسكندر” أثناء الصراع في ناغورني قره باغ؟ الدفاع الروسية توضح

[4] https://bit.ly/3qnNhaq

الجزيرة، القصة الكاملة لأزمة أرمينيا.. صواريخ إسكندر الروسية تفجر المعارضة في وجه باشينيان

[5] https://bit.ly/3bhNrMl

دويتشه فيله، رئيس وزراء أرمينيا يحذر من انقلاب ويطالب أنصاره بالتدخل

[6] https://bit.ly/3bjpYu7

منشور لرئيس الوزراء نيكول باشينيان على صفحته في فيسبوك

[7] https://bit.ly/30foyL7

دويتشه فيله، أرمينيا – باشينيان يؤكد أن الوضع تحت السيطرة وأنه لن يغادر البلاد

[8] https://bit.ly/2MS8xrn

العربي، “محاولة انقلاب أرمينيا”.. المعارضة تدعو رئيس الوزراء لاغتنام “الفرصة الأخيرة”

[9] نفس المصدر السابق

[10] https://arbne.ws/3kPdZI1

الحرة، آلاف الأرمن يتظاهرون للمطالبة باستقالة رئيس الوزراء

[11] https://bit.ly/2NXs8Hf

ايرونيوز، الرئيس الأرمني أرمين سركيسيان يرفض قرار رئيس الوزراء إقالة قائد الجيش

[12] https://bit.ly/3bmZnfQ
أرمينيا برس، الرئيس سركيسيان يرفض مجدداً التوقيع على قرار إقالة رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأرمنية

[13] https://bit.ly/3efIaGT

أرمينيا برس، رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان يقول إنهم مستعدون لإجراء انتخابات مبكرة إذا وافقت القوى البرلمانية

[14] https://bit.ly/3ebdzKR

أرمينيا برس، رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان يتحدّث عن دستور جديد بنظام شبه رئاسي كخيار ممكن

[15] https://bit.ly/3ccIpAe

روسيا اليوم، موسكو: نتابع بقلق التطورات في أرمينيا وما يحدث شأن داخلي

[16] https://bit.ly/3c5BjgP

روسيا اليوم، بيسكوف يوضح ما تضمنته المحادثة الأخيرة بين بوتين وباشينيان

[17] https://bit.ly/3uYK9Fv

The daily beast، ربما قام بوتين بمحاولة انقلاب في أرمينيا بعد أن أهان رئيس الوزراء صواريخه

[18] https://bit.ly/3kO7Xrf

الأناضول، أردوغان: نقف ضد جميع أشكال الانقلابات

[19] https://bit.ly/2PzgFOh

الأناضول، علييف يحذر أرمينيا من عواقب التراجع عن “اتفاق 10 نوفمبر

[20] https://bit.ly/3uZxa6F

أيرنيوز، رئيس وزراء ارمينيا يندد بمحاولة انقلاب والمعارضة تطالبه بالرحيل

[21] https://bit.ly/3eg3qwu

بيان الدائرة الأوروبية للشؤون الخارجية، أرمينيا: الممثل الأعلى / نائب الرئيس جوزيف بوريل يتحدث مع وزير الخارجية الأرمني آرا أيفازيان

[22] https://bit.ly/3blPW0k

تغريدة في تويتر للمتحدثة باسم ​حلف شمال الأطلسي​ أونا لونغيسكو

[23] https://bit.ly/3c5UQO6

الأناضول، غوتيريش يدعو الأطراف الأرمنية إلى ضبط النفس والحوار

[24] https://bit.ly/38d0PPO

العرب، مقالة، ملكون ملكون، نيكول باشينيان صحافي يقود ثورة تغيّر وجه أرمينيا بلا قطرة دم واحدة

[25] https://bit.ly/3uZy3Mx

الجزيرة، نيكول باشينيان.. من بطل ثورة في أرمينيا إلى “خائن” مسؤول عن هزيمة قره باغ

[26] https://bit.ly/3rzGDzD

القدس العربي، رئيس وزراء أرمينيا يندد بمحاولة انقلاب والمعارضة تطالبه بالرحيل- (فيديو وصور)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى