الاصداراتمقال رأي

فقه السياسة – تأملات في قصة فرعون

فقه السياسة (1)
 
قال -سبحانه وتعالى-: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ؛ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿4﴾ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴿5﴾ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴿6﴾”  سورة القصص.
 
هذه الآيات الكريمة وإن كانت تُذكِّرنا بقصة سيدنا موسى -عليه السلام- وبني إسرائيل وما لاقَوْهُ من البلاء على يد فرعون وهامان؛ إلا أنها تُشير إلى فائدة في السياسة الشرعية الواجبِ على الحاكم اتخاذُها في معاملته مع الشعب الذي يحكمُهُ، وذلك أنه لا يصحُّ للحاكم أن يُحْدِثَ “الطبقيَّةَ” في الناس، كأن يكون بعضهم أحظى من بعض في الحقوق، أو أن يكون بعضهم عُرضة للاضطهاد والتعذيب والسَّجْن والاستعباد دون غيرهم، سواءٌ كان ذلك لعرقهم أو لدينهم أو أي انتماءٍ فكري أو سياسي أو قَبَليٍّ أو غير ذلك من الانتماءات، وذلك لعموم إنكار الله -تعالى- للتفريق بين الناس في عبارة: “وجعل أهلها شِيَعًا” أي: فِرَقًا، إلا أن يكون إلحاقُ الأذى حادثًا بسبب انتهاك الشخص أو الجماعة لجريمة معينة يترتَّبُ عليها الجزاء والمحاسبة بالعدل دون حَيْفٍ ولا عَنَتٍ، وإلا فإن أيَّ اعتداءٍ على جزءٍ من الشعب دون الاستناد إلى العدالة الشرعية هو ظلمٌ وطغيان وتكبُّرٌ في الأرض واستعلاء على الناس دون مسوِّغٍ، ويترتب عليه محاسبة هذا الحاكم الظالم وعدمُ تركِهِ يسدَرُ في غَيِّــهِ، والمحاسبةُ تكون بالتدرُّج من الوعظ والنصح والقول اللين، لتصل إلى المعاقبة الفعلية الرادعة والقاطعة لأسباب الظلم، وكلٌّ ذلك يمكن استقاؤه بَدْءًا، من قصة فرعون وكيف بعث الله إليه الأنبياء وأمرهم أن يقولوا له “قولًا ليِّنًا”، وانتهاءً بأن دمَّر الله عليه ملك مصر وأغرقه في البحر وجعله لمن خلفه عِبرة.
والتكبر الفرعوني الذي به استعبد مواطنيه (الأمة المصرية القديمة بما فيها من أعراق مختلفة وبينهم بنو إسرائيل) انطلق من بواعث وهمية كان يظنها أمرا واقعا، وذلك ما نجده في رواية الإمام ابن جرير الطبري عن السدي قال: “كان من شأن فرعون أنه رأى رؤيا في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر  فأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل وأحرقت بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة والقافة والحازة فسألهم عن رؤياه فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه -يعنون بيت المقدس- رجل يكون على وجهه هلاكُ مصر، فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا تولد لهم جارية إلا تُركت، وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة، فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم، وأدخلوا غلمانهم، فذلك حين يقول :(إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا) يعني بني إسرائيل حين جعلهم في الأعمال القذرة”. (الطبري، تفسير الطبري، دار هجر، مصر، 18/ 151)
هذا النص يشتمل على عدة نقاط ينبغي تسجيلها فيما يتعلق بموضوعنا:

  • أن الحاكم الديكتاتوري (وهو فرعون هنا) رغم عظمة الملك الذي بين يديه وشدة سطوته على الشعب (الرعية) فإنه يبقى خائفا من ردة الفعل المحتملة من قِبَلهم، لأنه على يقين من أن الظلم الذي يمارسه عليهم سيكون له ردة فعل بصورة أو بأخرى، وهذا راجع إلى الطبيعة الإنسانية التي ترفض القوة التي يمارسها الحاكم، وأن الصبر الظاهر من الرعية ما هو إلا حالة مؤقتة تزول في وقت قريب لتتحول إلى ثورة ضد الهيمنة والظلم.
  • أن الحكم الديكتاتوري يتخوف أصحابُهُ حتى مما لم يحدث بعدُ، ففرعون لم يشهَدْ ثورةً ضد حكمه وإنما رأى رؤيا في نومه وفسَّرها له الكهنةُ بأنهم يتوقعون حدوث ثورة ضد نظام الحكم الفرعوني، وفعلا سارع الديكتاتور بتصديقهم وآمن إيمانا مطلقا بالتحذير الذي أخبروه به في تفسيرهم للرؤيا.
  • يبدأ الحاكم المتسلِّط في تنفيذ إجراءات استباقية تتميز بالقمع ضد المعارَضَة المحتملة (قتل وذبح أولاد بني إسرائيل) واستمالة القوة الشعبية المؤيدة في الظاهر (إعطاء وظائف محترمة لأبناء القبط)، وهذا التفريق بين طبقات الشعب (الرعية) هو الموصوف في الآية بـ “وجعل أهلها شيعا”، وهو الجزء الذي ركز عليه السدي في تفسيره في كيفية معاملة فرعون لأهل مصر.
  • غالبا ما يكون للحاكم الديكتاتوري نخبة مقرَّبة من مختلف المجالات (شيوخ دين، مثقفون، علماء في ميادين مختلفة ..) وذلك واضح جدا في نص السدي، وهؤلاء قد ضمنوا مصالحهم المادية من الحاكم فلا يهتمُّون بمكانتهم بين الطبقات الشعبية الأخرى، ولا يُبالون بالآراء والاقتراحات التي يُقدِّمونها للحاكم مهما كان أثرها السلبي على الشعب، لأن الذي يهمهم هو ضمان مصالحهم وامتيازاتهم.

يبدأ الديكتاتور في إسقاط حكمه بنفسه بناءً على تخيُّلات وأوهام لم تحدث بعد، أو على حوادث بسيطة متفرقة لكنها تمثل في نظره خطرا استراتيجيا على نظام حكمه القمعي، وهذا يُعَدُّ ترجمة عملية لمبدأ شرعي إنساني تاريخي وهو: “أن الظلم مؤذن بخراب العمران” وهي عبارة الإمام ابن خلدون والتي جعلها عنوانا لأحد فصوله حيث يقول في بيانها وشرحها: “اعلمْ أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهبٌ بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لِمَا يرونه حينئذ من أن غايتها ومَصيرها انتهابُها من أيديهم، وإذا ذهبتْ آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضتْ أيديهم عن السعي في ذلك ..” (ابن خلدون، 2004، المقدمة، دار يعرب، 1/ 477) ثم ينقل قصة عن المؤرخ المسعودي في الفوضى التي عمَّت بلاد الفرس أيام “بهرام بن بهرام”، وعقَّب ابن خلدون على ذلك بقوله: “فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مُخَرِّب للعمران، وأن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاص” (المرجع نفسه، 1/ 478)
ولرصد معنى هذه العبارة الخلدونية من خلال الآيات الأولى في قصة فرعون يمكن تسجيل هذا التسلسل الزمني للأحداث الكبيرة والتي تنطلق من الظلم وتنتهي إلى الخراب، كما يلي:

  • العلو في الأرض، ويتمثل في مظاهر التكبر على الناس والتسلُّط في الحكم والاستهزاء بالآخرين والكبر، وفي الحديث النبوي الذي يفسر معنى “الكِبْر” نجد أن السائل سأل النبي –صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله إني رجل حُبِّب إليَّ الجمال وأُعطِيتُ منه ما ترى، حتى ما أحب أن يفوقني أحد بشسع نعلي، أفمِن الكِبْر ذلك؟ فأجابه النبي –عليه السلام- قائلا: “لا، ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس” (رواه أبو داود برقم: 4092)، فأوضح بجوامع الكلم أن الكِبْر له مظهران:
  • بطْر الحق، ويعني رفض الحق وإلغاؤه، والحق سواءٌ كان حق الله أو حق الناس، فمن رفض الحق الإلهي أو الحق الإنساني فقد بطر الحق وألغاه ورفضه وبذلك يُسمَّى متكبرا.
  • غمط الناس، والغمْط في اللغة أصله من الجحد مع سبق المعرفة بالمجحود، وله معنى آخر أيضا وهو الازدراء والاحتقار وكلاهما وارد في شرح الحديث ومناسب للسياق.
  • جعل الناس شِيَعًا، وهو المبدأ الاستعماري “فَرِّقْ تَسُدْ”، فهناك مرحلة التكبر على الحق وعلى الناس تأتي بعدها مرحلة التفريق بينهم وجعلهم أحزابا وطوائف على أسس مختلفة (عرقية، مذهبية، مناطقية ..) وإحماء جمرة التعصب الطائفي العرقي وفي هذا يشتغل الناس بمنابذة بعضهم بعضا والاحتراب فيما بينهم، وفي هذا مصلحتان للحاكم الديكتاتوري:
  • أن اهتمام الشعب سينتقل من التركيز على فساد السلطة إلى التركيز على الاحتراب بين الطبقات الشعبية المغلوبة، فكل من يحقق انتصارًا سيكتفي بذلك الانتصار المزعوم دون الالتفات إلى سبب المشكلة الاجتماعية أصلا.
  • أنه يكون بمثابة القاضي العادل بين الطبقات المتصارعة، فأذرعه القضائية والأمنية هي ملجأ المستضعفين الذين يتقاتلون فيما بينهم، فكل من فاز بحظوة لدى تلك الأجهزة فهو المنتصر في الاحتراب الاجتماعي.
  • التوجس الذي يعيشه الحاكم الديكتاتوري من جراء الفوضى الاجتماعية يجعله يتوقع حدوث ثورة عليه في أي وقت، لذا يلجأ إلى استحداث أساليب قمعية استباقية لتخويف الناس حتى يجعلهم لا يفكرون مطلقا في تغيير النظام (إرهاب الدولة)، وهذا ما فعله فرعون ببني إسرائيل حيث ذبَّح أبناءهم ورمى برجالهم إلى الوظائف الوضيعة حتى يعيشوا أزمة اقتصادية واجتماعية مزرية تجعلهم بعيدين كل البعد عن علاج الفساد الموجود في الطبقة الحاكمة، وهذا ما يُسمى بسياسة التجويع والتخويف.
  • الاحتقان الشعبي الناتج عن شدة القهر الذي يمارسه الديكتاتور سيصل إلى ذروته، وبالتالي تحدث ردة فعل كبيرة جدا ضد النظام التسلُّطي الذي سيكون له خياران فقط:
  • إما مواجهة الثورة الشعبية بالقوة، وهذا يعني أنه لا أحد يهنأ بالحياة الكريمة لا الحاكم ولا المحكوم إلى حين الانتصار الفعلي لأحد الأطراف.
  • وإما الاستسلام المبكر وتسليم الحكم للقيادات الثورية التي ستبتُّ في أمر الظالمين وأعوانهم حسب القوانين المعمول بها في ذلك البلد.

هكذا تكون دورة النظام القمعي الذي أشاع الظلم ورفض إقامة العدل، وهذه الحقائق التي يمكن لدارس التاريخ رصدُها؛ قد أوضحتْها الآيات القرآنية الكريمة في سورة “القصص” بصورة واضحة لمن يتأملها ويتدبرها على وفق ما تقتضيه اللغة وأصول التفسير ومبادئ العقل.
لتحميل المقال من هنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى