الاصداراتتقارير جديدمتفرقات 1

الاستيطان في فلسطين: تغيير المعالم والقضاء على مبدأ حل الدولتين

الاستيطان في فلسطين (1)
 
مقدمة
فيما يترقب الفلسطينيون الكشف عن طبيعة توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة إزاء قضية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وما إذا كانت تتوفر لديها النيّة لدفع –ما يسمى – بعجلة السلام، وإحراز تقدم في مسيرة التسوية السياسية المتوقفة على أثر إصرار دولة الاحتلال بتشييد المستوطنات في الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلة؛ تستمر إسرائيل في تحديها لشروط ومتطلبات العملية السياسية من خلال إجراءاتها على الأرض، والتي تؤشر على مضيها في تسريع وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية (الذي هو ليس استيطاناً بالمعنى السكاني، وإنما استيطان قائم على أساس إحلالي)، وتهويد مدينة القدس وطرد سكانها والقضاء التام على مبدأ حل الدولتين[1].
لقد جاءت هذه الإجراءات في وقتٍ تراجعت فيه مكانة القضية الفلسطينية في الأجندات الدولية والإقليمية، وانشغلت الدول العربية بقضاياها الداخلية، حتى أن الآمال التي علقها الفلسطينيون على مؤتمر باريس للسلام المنعقد في 15 يناير/ كانون الثاني 2017، تبدّدت وفشل المؤتمر في تحريك عملية السلام المتعثرة، وعجز عن تحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال، فبدلاً من أن يردع إسرائيل ساوى بين الاحتلال والفلسطينيين عندما طالبهما “بنبذ العنف” و”الامتناع عن أي خطوات أحادية الجانب تستبق نتيجة المفاوضات، خاصة بشأن الحدود والقدس واللاجئين”[2].
وقد أضيف تحدي إسرائيل لقرارات الأمم المتحدة بشأن الاستيطان، ومنها، أخيراً؛ قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2334) في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إلى قائمة طويلة تنكرت بموجبها إسرائيل للقرارات الدولية، ومضت في سياسة التهويد والمصادرة والإحلال وخلق الوقائع على الأرض. وهكذا، ظلت القرارات الأممية حبيسة أدراج المنظمة الدولية، دون أن تُتخذ أية إجراءات تلزم إسرائيل بإنهاء احتلالها ووقف الاستيطان أو تجميده.
وعندما أدركت إسرائيل أن موقف[3] الرئيس الأمريكي “دونالد ترمب”، وإدارته منحاز لمصلحتها في تعزيز الاستيطان؛ باشرت في تشييد بؤر استيطانية جديدة في الضفة الغربية، حيث صادق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه على مخططات لبناء (2500) وحدة استيطانية في عدد من مستوطنات الضفة الغربية ومحيط القدس، وذلك بعد يومين من تولي الإدارة الأمريكية في 20 يناير/ كانون الثاني 2017، وصادقت سلطات الاحتلال على مخطط لبناء (566) وحدة سكنية جديدة في مستوطنات الضفة الغربية ومدينة القدس، كما صادقت على بناء (153) وحدة استيطانية في مستوطنة “جيلو”، وصادق رئيس الوزراء الإسرائيلي على بناء (68) وحدة استيطانية بمستوطنة “عوفرا” شمالي مدينة رام الله، وأقرت حكومة الاحتلال بناء أكثر من (3000) وحدة استيطانية في الضفة الغربية، وذلك لتعويض مستوطني “عامونا”[4]. الأكثر من ذلك، أن الكنيست الإسرائيلي صادق بالقراءتين الثانية والثالثة على ما يسمى قانون التسوية “شرعنة البؤر الاستيطانية” المقامة على أراض فلسطينية ذات ملكية خاصة في الضفة الغربية، بتأييد 60 نائباً، وهو القانون الذي يُعطي الحق للمستوطنين بالاستيلاء على أملاك فلسطينية خاصة[5].
تاريخياً، أعطت إسرائيل للاستيطان طابعه الجغرافي والسياسي؛ فلجأت إلى إقامة مستوطناتها في قطاع غزة والضفة الغربية (بما فيها القدس) ضمن مخططات هيكلية مدروسة تبدأ بتشييد البؤر الاستيطانية وتوسيعها، خدمةً لسياساتها، وتحقيقاً لأهدافها في قضم الأرض الفلسطينية، والقضاء على إمكانية التواصل الجغرافي بين المدن الفلسطينية، ثم أنها استخدمت ملف الاستيطان كورقة ضغط سياسية، فمن ناحية أجلت بحث قضية الاستيطان في الاتفاق السياسي الموقع مع منظمة التحرير الفلسطينية العام 1993، وأحالتها إلى قضايا الوضع النهائي، التي كان ينبغي لها أن تبدأ عام 1999، وتؤسس للدولة الفلسطينية، ومن ناحيةٍ ثانية، تظهر إسرائيل وكأنها تستجيب للمواقف الدولية الداعية إلى وقف الاستيطان، لكنها في حقيقة الأمر تتحين الفرص لديمومة البناء الاستيطاني. فإذا ما ووجهت بانتقادات دولية تلجأ إلى تشييد بؤرٍ استيطانية صغيرة وهامشية لا تثير الجدل، وسرعان ما تتحول هذه البؤر إلى مستوطنات ذات كثافة سكانية كبيرة، وتصبح أمراً واقعاً.
يناقش هذا التقرير موضوع الاستيطان بوصفه أحد أبرز قضايا الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ويلقي أضواء على موقف القانون الدولي من الاستيطان، ويعرض للسياسات الاستيطانية الإسرائيلية- قديمها وجديدها- في الأرض المحتلة، وأثرها على الحقوق السياسية للفلسطينيين.
 
الاستيطان الإسرائيلي والقانون الدولي
فور اتمام إسرائيل إحكام سيطرتها بالكامل على الأرض الفلسطينية المحتلة عقب حرب حزيران/ يونيه 1967، تذرعت بأنها تدير الأرض التي آلت إليها دون أن تصف نفسها بـ “دولة احتلال” بالمعنى التقليدي، وفي ذلك تهرب من المسؤوليات القانونية والأخلاقية تجاه المدنيين الفلسطينيين في الأرض المحتلة، التي يكفلها القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك عدم التزامها بالاتفاقات الدولية الموقِعة عليها كاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تنطبق تمام الانطباق على الأرض الفلسطينية المحتلة، وتشير مادتها الثانية صراحةً على انطباقها في كل حالات الاحتلال: الاحتلال الجزئي أو الاحتلال الكلي[6].
ورغم أن اتفاقية جنيف الرابعة منعت الدولة المحتلة أن تمس مكانة الدولة الواقعة تحت الاحتلال، أو أن تُغير ملامحها التاريخية والدينية والثقافية، إلا أن إسرائيل، طيلة سنوات احتلالها، عمدت إلى خرق الاتفاقية الدولية، فأمعنت في طمس المعالم التاريخية والدينية في فلسطين، وضمت الأراضي تحت سيطرتها وأقامت فوقها عشرات المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة، بهدف تغيير المعالم والمكانة الجغرافية للمدن الفلسطينية، ولخلق وقائع جديدة على الأرض يستحيل معها الحديث عن فرص إقامة دولة فلسطينية، قابلة للحياة، وذات سيادة.
وتتعارض إقامة المستوطنات ونقل سكان دولة الاحتلال إلى الإقليم المحتل مع المبادئ والاتفاقيات الدولية ومنها لائحة لاهاي لسنة 1907، واتفاقيات جنيف، وميثاق الأمم المتحدة والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والمدنية والسياسية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، فضلاً عن تعارضها مع القرارات الأممية: قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي بشأن عدم شرعية الاستيطان في الأرض المحتلة.
ففضلاً عن عدم التزام إسرائيل بقواعد وأحكام القانون الدولي، فإنها لم تنصاع إلى قرارات الأمم المتحدة التي أنكرت أي صفة قانونية للاستيطان ولإجراءات ضم الأراضي، وطالبت إسرائيل بوقف عمليات إقامة وبناء وتخطيط المستوطنات في الأراضي العربية المحتلة منذ 1967، بما في ذلك مدينة القدس، ومنها قرارات مجلس الأمن[7]: القرار رقم (446) لسنة 1979، الذي أكد علي أن “الاستيطان ونقل السكان الإسرائيليين للأراضي الفلسطينية المحتلة غير شرعي”؛ والقرار رقم (452)  للعام نفسه “بوقف الاستيطان في القدس وعدم الاعتراف بضمها”؛ والقرار رقم (465) لسنة 1980، الذي طالب بـ”تفكيك المستوطنات”؛ وقرار مجلس الأمن رقم (2334) لسنة 2016، والذي اعتبر أن “انشاء إسرائيل للمستوطنات في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، ليس له أي شرعية قانونية ويشكل انتهاكاً صارخاً بموجب القانون الدولي وعقبة كبرى أمام تحقيق حل الدولتين وإحلال السلام العادل والدائم والشامل. وطالب إسرائيل بأن توقف فوراً وعلى نحو كامل جميع الأنشطة الاستيطانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وأن تحترم جميع التزاماتها القانونية في هذا الصدد احتراماً كاملاً[8]“، والقرارات العديدة الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي أدانت الاستيطان الإسرائيلي، منها، القرار رقم (2851) لسنة 1977، والقرار رقم (42/160) لسنة 1987، والقرار رقم (44/48) لسنة 1989، والقرار رقم (45/74) لسنة 1990، والقرار رقم (46/47) لسنة 1991[9].
السياسات الاستيطانية الإسرائيلية في فلسطين: محطات تاريخية
بدأ التسلل الاستيطاني الصهيوني إلى فلسطين عام 1882، إذ اقتصرت عمليات الاستيطان اليهودية حتى القرن التاسع عشر وتحديداً عام 1889، على إنشاء (22) مستوطنة، وبعد تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية في مؤتمر بال بسويسرا عام 1897، توسعت عمليات الاستيطان لتشمل مناطق جديدة من فلسطين، حتى وصل عدد المستوطنات في عام 1914، إلى (47) مستوطنة، وفي عام 1918، أصبحت مساحة الأراضي التي كان يملكها اليهود حوالي (2.5%) من أراضي فلسطين. وشهدت فترة الانتداب البريطاني طفرة في عدد المستوطنات حيث ارتفع عددها ليصل إلى (304) مستوطنة، ويعود ذلك الارتفاع في عدد المستوطنات إلى تعاون حكومة الانتداب البريطاني مع الحركة الصهيونية لطرد الفلسطينيين وسلب أراضيهم وزرع المستوطنين فيها[10]. وتطورت مشاريع الاستيطان الإسرائيلية، فيما بعد، وفقاً لمراحل احتلال الأرض الفلسطينية والسيطرة عليها وتهجير سكانها الأصليين ليحل محلهم المستوطنون.
استندت الحركة الصهيونية على الاستيطان باعتباره أحد المفاتيح الأساسية لأيديولوجيتها بالإضافة إلى الدين والأرض. وتشكلت ملامح السياسات الاستيطانية التي تشكل المشروع الصهيوني على أساسها لتشمل: سياسة اقتحام الأرض وتخليصها من سكانها الأصليين، وسياسة العمل العبري خاصة في مجال الزراعة، وساهمت الهجرة في توفير العناصر البشرية اللازمة لعملية الاستيطان وتشكيل أسس ومعالم المجتمع الإسرائيلي فيما بعد. كما ساهمت عملية استيطان هذه العناصر داخل فلسطين في تحديد الحدود الديمغرافية للكيان الاستيطاني، واعتبرت شرطاً أساسياً للاحتفاظ بالأرض والمحافظة على طابعها اليهودي[11]. وهكذا، ظلت الأهداف السياسية والاجتماعية قائمة وتحتكم إليها إسرائيل في تنفيذ مخططات مشاريعها الاستيطانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، لضمان عدم التنازل عنها أو التفاوض حولها في المستقبل.
وبوجه عام يمكن التمييز بين اتجاهين رئيسيين لدى الطبقة السياسية في إسرائيل في الأسس التي تعتمدها لتبرير إقامة المستوطنات: اتجاه تغلب عليه الاعتبارات الأمنية، واتجاه ثان يستند إلى الاعتبارات التاريخية والدينية. يرى أنصار الاتجاه الأول أن العمل العسكري التوسعي لا يمكن أن يُحقق نجاحاً إلا بتثبيته بالاستيطان على الأرض، وخاصة في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، وتبلور هذا الاتجاه على يد قيادات حزب العمل. ويدعو أنصار الاتجاه الثاني للاستيطان بناء على الأسس العقائدية الدينية ويرتبط هذا التيار بالفكر الصهيوني وما يقدمه من معتقدات بخصوص حق اليهود في “أرض إسرائيل” وإحياء روح الالتزام الأيديولوجي والنموذج الطلائعي الصهيوني[12].
ولفهم الظاهرة الاستيطانية الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة يجب النظر إليها كوحدة متكاملة، وفقاً للسياسات والمشاريع التي تبنتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بدءًا من العام 1967.

  • مرحلة (1967-1976):

تم في هذه المرحلة تأسيس المستوطنات بصورة انتقائية ضمن سياسة استيطان تعتمد على الكيف وليس الكم، وتركزت المستوطنات في القدس والغور، وذلك بوحي من خطة (ألون)[13]، التي تقوم على استراتيجية تضييق مجال الخيارات المتاحة للحل (التسوية)، بشأن السيادة على الأرض المحتلة، عبر تطبيق الأمر الواقع بالاستيلاء على الأرض وتنفيذ عملية استيطانية واسعة، على طول غور الأردن، من جنوب غور بيسان، وحتى جنوب صحراء الخليل، بطول 115 كلم وعرض 20 كلم.  وفي ضوء هذا المخطط، تم في عهد حزب العمل منذ عام 1968، وحتى عام 1977، بناء 34 مستوطنة، (منها 12 مستوطنة في مدينة القدس)[14].

  • مرحلة (1977-1984):

شهدت هذه المرحلة صعود حزب الليكود وتزايد نفوذ حركة “غوش إيمونيم” الاستيطانية، إضافة إلى عقد اتفاقية “كامب ديفيد” مع مصر، وما تبعها من إخلاء مستوطنات شبه جزيرة سيناء. لقد شهدت هذ المرحلة طفرة في بناء المستوطنات الإسرائيلية والتوسع في انتشارها الأفقي، وكان الإطار النظري لهذا التوسع مجموعة من الخطط والمشاريع الاستيطانية من أهمها[15]:

  • خطة “شارون”: تتضمن هذه الخطة إقامة تكتل استعماري في الضفة الغربية يقطعها طولياً (من الشمال إلى الجنوب) تمتد منه قطاعات عرضية واسعة.
  • خطة “منتياهو دروبلس”: تهدف هذه الخطة إلى توطين (12000) يهودي من خلال بناء 50 مستوطنة، تقام في الأماكن الاستراتيجية في الأرض الفلسطينية.
  • خطة “غوش إيمونيم”: تتركز المستوطنات، بحسب خطة هذه الحركة الاستيطانية في المناطق التي تحاول المشاريع الأخرى تجنبها: قرب التجمعات السكنية الفلسطينية في المرتفعات.

 

  • مرحلة (1985-1990):

عادت في هذه المرحلة وتيرة الاستيطان-من حيث الكم- إلى ما يشبه المرحلة الأولى، وقد يكون ذلك عائداً إلى عدم وجود أماكن كثيرة تصلح للاستيطان بالإضافة إلى التضارب في الرؤية الاستيطانية بين جناحي الائتلاف الحاكم في إسرائيل (حزب العمل وحزب الليكود) [16].

  • مرحلة (1991-2017):

شهدت هذه المرحلة انطلاق مسيرة التسوية السياسية بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل، وتوقيع اتفاق أوسلو بتاريخ 13 أيلول/ سبتمبر 1993، بين الطرفين، وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، غير أن المسار السياسي توقف على أثر إصرار السلطات الإسرائيلية المحتلة على تشييد المستوطنات في الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلة، وعدم جديتها في التوصل إلى اتفاق سلام يُنهي الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي الممتد، فضلًا عن محدودية دور الوسيط الأمريكي، وعدم جديته في الضغط على إسرائيل لدفع عجلة السلام، وتلبية شروط ومتطلبات العملية السياسية.
طوال ربع قرن من انطلاق المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية، تنكرت إسرائيل للاتفاقات الموقعة معها برعاية دولية، ولم تشأ الدخول في مفاوضات الوضع النهائي، التي كان ينبغي لها أن تبدأ عام 1999، وتؤسس للدولة الفلسطينية. الأكثر من ذلك، أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تبرأت من اتفاق أوسلو وملحقاته، ثم واصلت قمع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعزّزت الاستيطان، وشدّدت الحصار، ودخلت في ثلاثة حروب مع غزة 2008-2012-2014، وهوّدت مدينة القدس بتاريخها وحضارتها ومعالمها الإسلامية والمسيحية[17].
وشهدت هذه المرحلة توقف جزئي في بناء المستوطنات الإسرائيلية، وعوضاً عن ذلك لجأت سلطات الاحتلال إلى تسمين المستوطنات القائمة سواء من حيث السكان أو من خلال إقامة وإنشاء أحياء جديدة في المستوطنات القائمة. يضاف إلى ذلك البدء في إنشاء جدار الضم والتوسع (الجدار العازل) في عام 2002، وهو يشكل جزءاً من البنية التحتية المخصصة للمستوطنات، ويحيط بالضفة الغربية ويتغلغل في أراضيها، ويسهم في الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأرض الفلسطينية. وفي مرحلة لاحقة عاودت السلطات الإسرائيلية المحتلة تكثيف بناء المستوطنات، فمثلاً، في العام 2007، تم بناء 3614 وحدة سكنية استيطانية، وارتفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية، بما فيها مدينة القدس الشرقية، إلى 482 ألف مستوطن[18]. وفي نهاية العام 2009، بلغ عدد المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية 141 مستوطنة، منها 26 مستوطنة في مدينة القدس المحتلة[19].
واستمراراً للسياسات الاستيطانية الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة، صادق الكنيست الإسرائيلي، بتاريخ 7 شباط / فبراير 2017، بالقراءتين الثانية والثالثة على ما يسمى قانون “شرعنة البؤر الاستيطانية” المقامة على أراضٍ فلسطينية ذات ملكية خاصة في الضفة الغربية، بتأييد 60 نائباً للمشروع من أصل 120 عضواً في “البرلمان الإسرائيلي”، وهذه هي المرة الأولى التي يُصدر فيها الكنيست قانوناً يشمل الأملاك الخاصة للفلسطينيين في الأرض المحتلة، إلا أن ذلك لا ينفي استمرار إسرائيل، طيلة سنوات احتلالها، في السيطرة على الأملاك الخاصة. وتُبين دراسة تحليلية أجراها معهد الأبحاث التطبيقية في القدس حول الاستيطان أن ما نسبته 49% من مساحة المستوطنات تم بناءها على أراضي فلسطينية ذات ملكية خاصة، في حين أن 51% تم بناءها على أراضٍ صنفتها إسرائيل بأراضي دولة. فعلى سبيل المثال تبلغ مساحة المستوطنات الإسرائيلية في محافظة القدس 40.868 دونم (73%) منها مقام على أراضي ذات ملكية خاصة بما فيها الأراضي التي ضمتها إسرائيل بشكل غير شرعي وأحادي الجانب لما يسمى بحدود بلدية القدس. أما بالنسبة لمحافظة رام الله فبلغت المساحة الإجمالية للمستوطنات الإسرائيلية 32.171  دونم (62%) منها مقام على أراضي ذات ملكية خاصة[20].
تأثير الاستيطان على الحقوق السياسية في فلسطين:
جادلت إسرائيل بأن بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة يهدف إلى تعزيز الأمن الإسرائيلي، غير أن اجراءاتها على الأرض وتهويدها لمدن الضفة الغربية، تؤشر على نيتها لتعزيز قدراتها وتوسيع حدودها والحصول على الاعتراف بحقها في السيادة على مستعمراتها، وبالتالي ضمان أن تكون أية دولة فلسطينية مستقبلية غير قادرة على النمو والتطور بجعل أراضيها مقسّمة بالمستوطنات.
المعنى أنه لا يمكن تحقيق مبدأ حل الدولتين طالما استمرت إسرائيل في سياستها التوسعة، وواصلت التهام الأرض الفلسطينية. فسياستها هذه تقضي عملياً ونهائياً على آفاق إنشاء دولة فلسطينية، خصوصاً وقد تزامنت هذه السياسة مع ضعف الأداء الفلسطيني نتيجة الانقسام السياسي والجغرافي بين حركتي “فتح وحماس” في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتغليب الحركتين لمصالحهما الحزبية على المصلحة الوطنية، والارتهان للتقلبات السياسية التي يشهدها الإقليم، وعدم إدراك طرفي الانقسام أن تشطي الحال الفلسطيني سوف تنتج عنه تداعيات سلبية ليس فقط على مستوي العلاقات الوطنية، ولا على مستوى تراجع دور ومكانة المؤسسة الرسمية الفلسطينية، وإنما على مستوى المشروع الوطني الذي يرسم ملامح المستقبل ويحقق تطلعات الفلسطينيين في الحرية والعودة والاستقلال الوطني[21]، فضلاً عن غياب الظهير العربي المساند للقضية الفلسطينية، لانشغال الدول العربية بقضاياها الداخلية.
ورغم توفر بعض مظاهر السلطة التي تمثلها المؤسسات الرسمية السياسية والاقتصادية والتنموية في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أنها تصطدم فعلياً مع واقع الاحتلال واجراءاته التي تحد من امكانية مراكمة البناء في ظل هذه المؤسسات ترقباً لقيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، ويصطدم التخطيط لدولة فلسطينية مستقبلية في ظل الاستيطان الإسرائيلي بقضيتين شائكتين بالمعنى الجغرافي والسياسي: (الحدود- واللاجئين)، فمن ناحية لا توجد حدود معينة ومرسومة لإسرائيل، تكتفي بها وتتيح للفلسطينيين الإقامة فوق ما تبقى من الأرض، وترسيم حدود دولتهم المستقبلية، ومن ناحيةٍ أخرى، فإنه لم تتحدد للفلسطينيين حدود ثابتة ومعروفة يسمح لهم فيها باستيعاب المهجرين منذ حرب حزيران/ يونيو 1967. ففي الحالتين تعارض إسرائيل، بوصفها دولة احتلال، تمكين الفلسطينيين من الحق في قيام الدولة ومن الحق في العودة. ويظل تجسيد الدولة الفلسطينية مرتبطاً بـ: التصورات الإقليمية والدولية؛ أو السياسات والخرائط والمصالح؛ أو تراجع إسرائيل عن سياساتها الاستيطانية، عبر الضغط الدولي والبناء، فلسطينياً، على القرارات الأممية، آخرها قرار مجلس الأمن رقم (2334)، وتوسيع جبهات التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني وقضيته، وبناء استراتيجية وطنية فلسطينية تحدد طبيعة العلاقة مع الاحتلال وسبل مواجهته لتحصيل الاستقلال الوطني، وتحميل إسرائيل كلفة الاحتلال. كل ذلك يتطلب، ابتداءً، استنهاض الحالة الفلسطينية على أساس المصالحة الداخلية واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية.
للتحميل من هنا
 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2017

“الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات 

 
[1] يقوم مبدأ حل الدولتين على تسوية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على أساس التقسيم الإقليمي لمساحة فلسطين التاريخية بين دولتين، إسرائيل وفلسطين. تقام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967 (أي مناطق الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس الشرقية وقطاع غزة وما يربطهما)، وعلى أساس ذلك يجري الاعتراف بإسرائيل التي أقيمت منذ العام 1948، على نحو 78 % من مساحة فلسطين التاريخية.
 
[2] عزام شعث، “بيروت- باريس- موسكو”.. خيبات أمل فلسطينية، جريدة رأي اليوم، 31/1/2017، على الرابط التالي: http://www.raialyoum.com/?p=613251
[3] يستدل على الموقف الأمريكي وانحيازه إلى مصلحة إسرائيل في مسألة الاستيطان، خصوصاً، من بياناتٍ رسمية صادرة عن البيت الأبيض ترى “أن وجود المستوطنات الإسرائيلية لا يمثل عائقاً أمام تحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين”، للمزيد راجع، نص بيان البيت الأبيض حول الاستيطان، موقع الجزيرة الإلكتروني، 3/2/2017، www.aljazeera.net.
[4] تقرير حول الانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني (شهر كانون الثاني/ يناير 2017)، غزة: مركز عبد الله الحوراني للدراسات والتوثيق، 5/2/2017، ص6.
 [5]مصادقة الكنيست الإسرائيلي على قانون شرعنة البؤر الاستيطانية،  http://zamnpress.com/news/109920.
[6] راجع، المادة الثانية من الاتفاقية، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، اتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 آب/ أغسطس 1949.
[7] قرارات الأمم المتحدة حول فلسطين والصراع العربي- الإسرائيلي (1975- 1980)، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1994.
[8] للاطلاع على نص قرار مجلس الأمن رقم (2334) لسنة 2016، بشأن الاستيطان الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية المحتلة http://www.wafainfo.ps/pdf/d_2334_2016.pdf.
[9] نبيل السهلي، المستوطنات والتسوية المستحيلة، موقع الجزيرة، على الرابط: http://www.aljazeera.net/knowledgegate%2Fopinions%2F2014%2F7%2F10%2F%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B3%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D9%8A%D9%84%D8%A9
[10]رياض علي العيلة وأيمن عبد العزيز شاهين، الأبعاد السياسية والأمنية للاستيطان الإسرائيلي في القدس ووضعيتها القانونية، جامعة الأزهر بغزة: مجلة جامعة الأزهر، المجلد 12، العدد الأول، 2010، ص912.
[11] نظام محمود بركات، الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين بين النظرية والتطبيق، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1986، ص46- 47.
[12] خيرية قاسمية، قضية المستوطنات اليهودية في الدولة الفلسطينية في: الدولة الفلسطينية حدودها ومعطياتها وسكانها، القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1991، ص518- 520.
[13] المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، التقرير الإحصائي السنوي 2011، رام الله: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، آب/ أغسطس 2012، ص18.
[14] تقرير المستوطنات الإسرائيلية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية على الأراضي الفلسطينية وقطاع العمل، رام الله: وزارة العمل، كانون الثاني 2014، ص9.
[15] المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، التقرير الإحصائي السنوي 2011، مرجع سبق ذكره، ص18.
[16] تقرير المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، مرجع سبق ذكره، ص19.
[17] عزام شعث، “بيروت- باريس- موسكو”.. خيبات أمل فلسطينية، مرجع سابق.
[18] التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2008، بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2009، ص18.
[19] تقرير المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، التقرير الإحصائي السنوي 2010، الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، آب/ أغسطس 2011.
[20] تقرير المستعمرات الإسرائيلية المقامة على الأراضي الفلسطينية ذات الملكية الخاصة، معهد الأبحاث التطبيقية (أريج)- القدس، 2016، ص4.
[21] عزام شعث، “بيروت- باريس- موسكو”.. خيبات أمل فلسطينية، مرجع سابق.
 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى