ترجمات

عندما كانت واشنطن تتلاعب بالرئاسة الروسية

يُعتقد الآن أن روسيا تمارس تدخلًا في الحياة السياسيّة في معظم الدول الغربية. بالنسبة للرئيس ماكرون فإنّ حركة “السترات الصفراء” يمكن تفسير جزءٍ منها على أنّه محاولةٌ منظّمةٌ لزعزعة الاستقرار بقيادة “قوةٍ أجنبيّة”: فَهِمَ الجميعُ أنّ هذه القوة التي يقصدها ماكرون هي روسيا.

ومَن يقف خلْف تصويت البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوربي؟ ستكون الإجابة بالتأكيد روسيا. وهي الإجابة كذلك على سؤالٍ يتعلق بهزيمة هيلاري كلينتون في الانتخابات الأمريكية عام ٢٠١٦

في الولايات المتحدة تثير فكرة أن يحاول بلدٌ أجنبي التأثير على مجريات الأحداث السياسية الداخلية الأمريكية اضطرابًا في غرف الأخبار ودوائر السلطة، إلى درجة أن أدّى ذلك إلى فتح تحقيقٍ في احتمال التواطؤ بين الرئيس ترمب وموسكو.

لا يمكن المساواة بين الشرطة والبلطجية:

ومع ذلك لم يكن هذا الفزع الأمريكي سببًا في أن تحترم واشنطن سيادة الدول الأخرى، بالطبع هذا التدخل ليس وليد اللحظة، إذ يسجّل التاريخ كثيرًا من حالات التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى.

يعترفُ بذلك المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية توماس ميليا “تلاعبتْ وكالة الاستخبارات الأمريكية ((CIA في الانتخابات الإيطاليّة في الأربعينات من القرن الماضي، والألمانية في الخمسينات، وفي نفس الفترة قامت بإسقاط زعماءٍ عن طريق خدعة الانتخابات في إيران وغواتيمالا” ثمّ يُسارع المسؤول الأمريكي إلى القول: “لكن ذلك كان وقت الحرب الباردة”.

في نفس الإطار يُضيف ستيفان هيل وهو مسؤول سابقٌ مختصٌ بالشؤون الروسية في وكالة الاستخبارات الأمريكية أنّه ومنذ سقوط جدار برلين لم يكن التدخل الروسي والأمريكي في نفس “السويّة الأخلاقيّة”.

ويوضح هيل أنّ واشنطن من جهتها لديها برامج تهدف إلى تعزيز “العمليات الديمقراطية” في الخارج، ولكن بدون أن يكون لها نتيجة انتخابية محدّدة.

ويتهم روسيا أنّها تتلاعب بانتخابات بلدٍ آخر بغية زرع الفوضى وتقويض ثقة العامة بالنظام السياسي، وبذلك تكون روسيا تعمل على “التأثير على الاستقرار الاجتماعي في البلد الذي تتدخل فيه”. ويختم هيل أنّه “لا يمكن مساواة الشرطة بالبلطجية بحجّة أنّ كليهما يحمل مسدسات”.

يستدل ستيفان هيل بعملية الإطاحة بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لتوضيح هذا المنطق الذي يتحدّث عنه: الترويج “للديمقراطية” على الجانب الأمريكي، ودعم دكتاتور “غير ليبرالي” على الجانب الروسي.

هذه الفرضية التي سبق ذكرها من قبل المسؤول الأمريكي تدعو إلى الرجوع إلى إعادة انتخاب الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين عام 1996.

في شباط/فبراير عام 1996 عندما أعلن يلتسين ترشيحه لخلافة نفسه كانت فرص نجاحه ضئيلةً جدًا، إذ لم تحصد حركته السياسيّة (روسيا بيتنا) سوى ١٠٪ من الأصوات في الانتخابات التشريعية في كانون الأول/ديسمبر.

أما الحزب الشيوعي الذي كان يقوده جينادي زيوجانوف فاحتل الصدارة كأول حزب سياسي في البلاد، وذلك بعدما حصل على ما يقارب من ربع أصوات الناخبين حينها، أي ١٥٧ مقعدًا في مجلس الدوما (مقابل ٤٢ مقعدًا فقط في المجلس التشريعي السابق).

وقتها لم يكن يلتسين الذي ظهر في تشرين الأول/أكتوبر بملابس رياضية زرقاء في شوارع موسكو، لم يكن يحظى بالكاد بنسبة ٣٪ في استطلاعات الرأي، ولكن كانت المفاجأة عندما هزم خصمه الشيوعي في الجولة الثانية من الانتخابات بحوالي ٥٤٪ من الأصوات، فما الذي حصل حينها؟

 في عام ٢٠٠٣ تم إصدار كوميديا (سبينينغ بوريس) للمخرج روجر سبوتيسوود، تم فيها تخليد دور مستشاري الظل الأمريكيين في الإنقاذ السياسي للرئيس يلتسين، وفي نفس الوقت لفت الانتباه إلى جوانب فظاظة هذه العملية.

يُصوّر هذا الإنتاج الهوليودي مغامرات ثلاثة أطباءٍ حقيقيين هم م.جورج جورتون وجوزيف شوكات وريتشارد دريسنر، أتى هؤلاء الثلاثة إلى موسكو بدعوة من عضوٍ في فريق يلتسين.

مهمتهم كانت تعليم الروس التقنيات التي اتبعها الخبراء الأمريكيون في انتخاب السيناتور الجمهوري بيتر ويلسون عام ١٩٩١ كحاكمٍ لولاية كاليفورنيا، كان الأمر يشبه إلى حدّ كبير التدريب على طريقة عرض سيارةٍ ما وبيعها.

في وقائع الفلم -كما في الواقع- استخدم الرجال الثلاثة حقائب المال والأذرع الملتوية لإزالة الغبار العالق على اتصال المرشح الرئاسي مع استطلاعات الرأي.

كذلك تعامل الأطباء المستشارون مع الدراسات البحثية التي تعنى بخطابات المرشح للرئاسة ودراسة الوقت المناسب للخطاب، بالإضافة إلى الإعلانات التلفزيونية التي تهدف إلى تشويه سمعة الخصم، حيث أخرجوا من الصناديق المؤرشفة فيديوهاتٍ للبلاشفة وهم يحرقون الكنائس.

يوضح عضوٌ في فريق حملة يلتسين ل (بي بي سي باللغة الروسية) في ٥ تموز/يوليو ٢٠١٦ “نجحنا وقتها في خلق شعورٍ بالذعر إزاء فكرة عودة الشيوعية، فمثلًا نختلق طوابير تتزاحم بسبب نقص الكحول والسجائر والصابون”.

ويتابع أنّ الفريق قام بنشر عباراتٍ من قبيل “صوّتْ وإلا ستخسر كثيرًا لا سمح الله”، “اشتروا الطعام للمرّة الأخيرة”.

نأمل أن يصوّت الشعب الروسي للمستقبل:

حتى وقبل إصدار الفلم، كان فقط قد تمّ وقتها الإعلان عن نتائج الانتخابات، كشفت مجلة تايم الأمريكية “القصة السرية للطريقة التي قام من خلالها المستشارون الأمريكيون بمساعدة يلتسين على الفوز” أضافت الصحيفة لهذا العنوان رسمًا كاريكاتيريًا أصبح شهيرًا فيما بعد للرئيس يلتسين وتحت ذراعه العلم الأمريكي.

ما يمكن التأكيد عليه هو أنّ فيلم (سبينينغ بوريس) لم يُظهر الكثير مما حصل، بل ما أظهر القصة كاملةً هي مذكرات تعود للبيت الأبيض عن طريق ريتشارد موريس الذي كان المستشار السياسي لويليام كلنتون -بيل كلنتون-  قبل أن يخونه، يُذكر أن موريس كان صديقًا شخصيًّا للدكتور دريسنر.

من جهته أُعجب الرئيس الأمريكي كثيرًا بهذه المعلومات، وسارع إلى تقديم النصائح للرئيس الروسي “خلال هذه الانتخابات يجب أن نتصل ببعضنا البعض ونتحدّث” هذا ما عرضه عليه باتصالٍ هاتفي وهو ذاته -الرئيس الأمريكي- كان يُنهي ولايته في نفس العام “إذا كنتَ تشعر بحاجةٍ إلى الاتصال بي آملُ أن تفعل ذلك في أي وقت تشاء”.

وصل التدخل المباشر في الانتخابات الأمريكية إلى مستوىً كافٍ لدرجة أنْ أثار توتر مسؤولي وزارة الخارجية “قالوا لنا أنه علينا التعامل مع أي فائزٍ في الانتخابات” وقالوا لنا كذلك “لا تتورطوا كثيرًا”.

مع ذلك كان جواب الرئيس كلينتون قاطعًا “إذهبوا إلى الجحيم، سأضع كل ما لدي من بيض في سلّة يلتسين”، كانت فكرة كلينتون الابتعاد عن الحذر والتعامل بعدوانية وبأعنف أنواع التورط والرهان على حصانٍ واحد.

للسيطرة على كل خيوط هذه الانتخابات لم يكن هناك حاجةٌ لتعقب مستشاري الظل، ما كان ضروريًّا هو عرض الدعم على العواصم الغربية وتحديدًا بالدولار.

من واشنطن إلى برلين استثمر الغربيون هذا الحدث، حيث توقعوا حصد منافع كثيرةً منه، وفي نفس الوقت لا يريدون المجازفة كثيرًا.

قام رئيس الوزراء الفرنسي وقتها آلان جوبيه بزيارةٍ إلى موسكو في ١٤ شباط/فبراير يوم إعلان ترشيح يلتسين، حيث أعرب جوبيه عن رغبته في أن تكون الحملة الانتخابية “مناسبةً جيدةً للتقدم في إنجازات سياسة الرئيس يلتسين الإصلاحية”.

من جهته المستشار الألماني هيلموت كول سلك خطّ جوبيه وقام بزيارتين خلال خمسة أشهرٍ إلى روسيا، هذا النشاط المؤيد لروسيا أكسب كول افتتاحيةً كبرى في الصحافة الألمانية.

قبل آخر زيارةٍ بعدة أسابيع صرّح في مقابلةٍ تلفزيونيةٍ مع شبكة (ARD) “من الواضح أنّنا نواجه صعوباتٍ مع زيوجانوف -مرشح الحزب الشيوعي- أكثر من يلتسين الذي نراه صديقًا حقيقيًّا لألمانيا”.

كما أعرب كول خلال زيارةٍ لموسكو عن ثقته بيلتسين “إنه شريكٌ موثوقٌ به كثيرًا إذ يحترم التزاماته دائمًا” في إشارةٍ إلى انسحاب القوات الروسية من ألمانيا الشرقية بعد إعادة التوحيد.

كلينتون صاحب الاهتمام الأكبر بالمرشح الرئيس قال أثناء وجوده في روسيا ٢٠ نيسان/أبريل ١٩٩٦ “نأمل أن يصوّت الشعب الروسي للمستقبل” طبعًا يُخفي بذلك تفضيله للمرشح يلتسين، وخاصّةً عندما وعد باحترام القرار “الذي سيتخذه الناخبون”.

القرض الفظ من صندوق النقد الدولي:

كان يبدو إنقاذ بوريس يلتسين هو الخيار الأفضل لإبقاء روسيا على الطريق الصحيح، من أجل “الإصلاحات” وضمان السير في خط الخصخصة وسياسات الاستقرار المالي المرتكزة على الانفتاح والاستثمار الأجنبي.

هذا تحديدًا ما كان يبرر تقديم كل هذه المساعدات الضخمة للمرشح الرئيس، خاصّةً من أولئك الذين يريدون تقديم رئاسة يلتسين الجديدة على أنها استمرارٌ للمسار الديمقراطي ضدّ تهديد قفزةٍ كبيرةٍ إلى الوراء نحو الشيوعية الاستبداديّة.

كلّ هذا لم يكن ليمحو السوء في دعم رجلٍ امتطى ظهر دبّابةٍ يومًا عام ١٩٩١، الرجل الذي تصدّى لانقلاب جزءٍ من الجيش الأحمر وأجهضه، ثمّ حرّك دباباتٍ وعرباتٍ مدرّعةٍ ضدّ البرلمان، والأهم من ذلك كلّه دعم رجلٍ شنّ حربًا وحشيّةً ضدّ الشيشان.

لم يكن الوضع الاقتصادي في عهد يلتسين على حالٍ جيّد، إذ كانت المافيات تتصارع في الشوارع للحصول على قطعٍ من الصناعة الروسية، وكانت الرواتب التقاعديّة التي تقدمها الدولة بالكاد تمنح المسنين فرصةً للبقاء على قيد الحياة.

وعليه كان يحتاج الرئيس إلى المال وبسرعةٍ لضمان فوزه، حيث أعلن في شباط/فبراير عن نيته الترشح مرّةً أخرى، ووعد بإنفاق ٢.٨ مليار دولار لتسوية جزءٍ من متأخرات مستحقات الموظفين.

من أجل ذلك وفي اتصال هاتفي طلب يلتسين من نظيره الأمريكي أن “يستخدم نفوذه” وكان يقصد بذلك عند صندوق النقد الدولي، أراد يلتسين الحصول على قرضٍ يتراوح بين ٩ و ١٣ مليار دولار لمواكبة المشكلات الاجتماعية وتقديم بعض العون للناس في هذه الفترة الهامة التي تسبق الانتخابات.

كان ردّ كلينتون على طلب يلتسين “سأرى ما هو ممكن”، وبالفعل لم يستغرق الأمر سوى يومين حتى أعلن مدير صندوق النقد الدولي ميشيل كامديسوس عن قرضٍ يمنح خلال ثلاث سنوات بقيمة ١٠.٢ مليار دولار لروسيا، على أن يتم تسليم أربعة مليارات دولار خلال السنة الأولى.

من جانبه مدير صندوق النقد الدولي شرح الأمر لصحيفة نيويورك تايمز خلال لقاءٍ في مكتبه أن هذا القرض “يمكن رؤيته على أنّه رهانٌ على يلتسين أو هدرٌ للمال”، لكن لا يمكن فعل أي شيءٍ آخر أفضل من هذا “لضمان ازدهار العالم أجمع”.

من خلال مسؤول الاتصالات يبرر صندوق النقد الدولي بشكلٍ مثيرٍ للجدل أنّ “رفض الإقراض سيكون له في الواقع تداعياتٌ سياسيةٌ كبيرةٌ، وقد يمتدّ الأمر إلى حلولٍ أخرى غير متوقعة وغير محدّدة العواقب”.

بل وبعبارةٍ أكثر وضوحًا فإنّ التدخل الأجنبي الحقيقي سيكون بتحقيق انتصارٍ على الحزب الشيوعي الذي ينافس يلتسين في هذه الانتخابات.

في ٢٩ نيسان/أبريل حصلت روسيا من نادي باريس على مهلةٍ مدّتها ٢٥ عامًا لسداد ٤٠ مليار دولار من الديون الخارجية، بعدها بأربعة أيام منح البنك الدولي قرضًا لروسيا بقيمة ٢٠٠ مليون دولار لدعم الخدمات الاجتماعية.

حتى المراقبون الأكثر حماسة (للبيريسترويكا) -وتعني بالروسية «إعادة الهيكلة» وهي برنامج للإصلاحات الاقتصادية أطلقه رئيس الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، وتشير إلى إعادة بناء اقتصاد الاتحاد السوفييتي- كانوا يتحركون بمثل هذه العمليات الفظة.

 في هذا الموضوع يسخر مراسل  ليبراسيون في موسكو ٢٢ شباط/فبراير “إذا طلب بوريس يلتسين الحصول على القمر فمن المحتمل أن يحصل عليه”.

تبقى مشكلة واحدة، إذ كيف يمكن إنقاذ مرشحٍ دون أن يظهر أمام الناس على أنّه ملتزم؟ مثل هذا السؤال سيكون حادّا جدّا لأنّ توسيع منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) يُعتبر إهانةً لا يستطيع يلتسين تجنّبها.

على هذا الأساس طمأن الرئيس كلينتون من يتخوف حول هذه المسألة أنّه على استعدادٍ أن يتكتم عليها دون أن يتخلى عن أهدافه “سيتمّ التخطيط مع أعضاء الشراكة من أجل السلام حول هذه القضية، وسيتم متابعة الأمر بشكلٍ شديد الخصوصية”.

في ٣ تموز/يوليو وبمجرد أن تمت إعادة انتخاب الرئيس الذي كان يواجه زيوجانوف في الجولة الثانية، تلقّى التهنئة الحارّة من العواصم الغربية “لقد اتخذت روسيا خطوةً تاريخيةً من خلال إدارة ظهرها لماضيها الاستبدادي” كان هذا تعليق صحيفة تايم في ١٥ تموز/يوليو.

مما لا شكّ فيه أنّ الديمقراطية انتصرت، ولكن انتصرت معها أدوات الحملات الانتخابية بما فيها الماكرة منها، وهذه الأساليب في الحقيقة ليست دائمًا جديرةً بالثناء، ولكن تبقى نتائجها دائمًا مضمونة.

على حدّ تعبير المسؤول السابق في الخارجية الأمريكية توماس ميليا يتم الخلط هنا بين الديمقراطية واتباع الحيلة لإنقاذ رجل، فإذا كانت واشنطن قد ساهمت في “الاستقرار الاجتماعي” للبلاد من خلال إعادة انتخاب يلتسين، فذلك لم يكن إلا من خلال ترسيخ مجتمعٍ غير متكافئٍ أبدًا.

من المفارقة أنّ هذه الانتخابات تأثرت كثيرًا من الغرب مما قوّض ثقة المجتمع بالنظام، ذلك لأنّ النظام السياسي شوّه فكرة الديمقراطية في روسيا لفترةٍ طويلة، إذ لا يزال فلاديمير بوتين الذي عيّنه يلتسين رئيسًا للوزراء يحتل الكرملين منذ عام ١٩٩٩.

كتبتها هيلين ريتشارد ل(لو موند ديبلوماتيك) آذار/مارس ٢٠١٩

ترجمة إبراهيم قنبر

رابط المقال

https://www.monde-diplomatique.fr/2019/03/RICHARD/59641

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى