الاصداراتالدراسات الاستراتيجيةتقدير موقف

التصعيد الأمريكي الإيراني

مقدمة

تشهد منطقة الشرق الأوسط توترًا جديدًا بين الولايات المتحدة وإيران، على وقع إعلان الإدارة الأمريكية مطلع أيار 2019، عن توجّه حاملة الطائرات “أبراهام لنكولن” إلى منطقة الخليج العربي، تزامنًا مع إرسال عدد من قاذفات B52، كما أمرتْ وزارة الدفاع الأمريكية بإرسال السفينة الحربية ( يو إس إس أرلينغتون) وبطاريات صواريخ باتريوت إلى البحر المتوسط، استعدادًا لردع إيران، وبررت الولايات المتحدة تحركاتها بادعائها أنها تلقت معلومات استخباراتية زودتها بها إسرائيل، تنمُّ عن نية طهران استعدادها لاستهداف مصالح الولايات المتحدة، وشركاؤها في العراق وسوريا والخليج العربي.

وجاء التحشيد العسكري الأمريكي بعد إلغاء إدارة ترامب في 2 أيار/ مايو 2019 حزمة الإعفاءات التي كانت منحتها للدول الثمانية المستوردة للنفط الإيراني، وفي 9 من نيسان/إبريل 2019، وضعت الحرس الثوري الإيراني على قائمة الإرهاب، وهي المرة الأولى التي يتم فيها تصنيف جيش نظامي كمنظمة إرهابية، فيما ردت إيران بالمثل فصنفت القوات الأمريكية التابعة للقيادة الوسطى في منطقة الشرق الأوسط على أنها قوات إرهابية[1].

وفي 8 أيار/مايو 2019 أعلن  حسن روحاني الرئيس الإيراني، أن بلاده ستتراجع عن تنفيذ التزاماتها في الاتفاق النووي. إشارة إلى البنود المتعلقة بتخصيب اليورانيوم والماء الثقيل، وأعلنت في 20 أيار/ مايو 2019 عن رفع نسبة تخصيب اليورانيوم لأربعة أضعاف، وأمهلت الاتحاد الأوربي ستين يومًا لتنفيذ التزاماتهم المتعلقة بحماية قطاعات إيران التجارية النفطية المتبادلة. كما صعّدت من خطابها السياسي ضد الولايات المتحدة رافضةً العودة للمفاوضات في ظل الأجواء الحالية، فردّت واشنطن بفرض حزمة ثالثة من العقوبات على قطاع الصلب والمعادن [2]، وأرسلت وزير خارجيتها “مايك بومبيو” بزيارة طارئة إلى العراق بعدما كانت مقررة لبرلين، حيث أبلغَ رئيس الوزراء ” عادل عبد المهدي” رسالة  تضمنت تحميل العراق مسؤوليته عن أي استهداف لمصالح أمريكا في العراق خاصة في منطقة انتشار قواعدها غرب الأنبار وأربيل.

وتتجه الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة الرئيس “دونالد ترامب” لتطبيق استراتيجية الخنق الكلي ضد إيران، على كافة المستويات ( سياسيًا- اقتصاديًا- عسكريًا)، بدافع الوصول لجملة من الأهداف ترى فيها أمريكا شروطًا ضرورية لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. حيث تعتقد أن على إيران توقيع اتفاق نووي جديد يقود إلى  كبح طموحاتها النووية، وسياستها التوسعية في منطقة الشرق الأوسط. وقد كان قرار ” ترامب” الانسحاب من الاتفاق النووي 8 أيار/ مايو 2018، أولى خطوات التصعيد تجاه إيران، وهو القرار الذي شكل نقطة تحول وتقاطع مع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، والتي ركزت على كلية الاتفاق النووي، مقابل التغاضي عن انتشار إيران في المنطقة.

ورغم إظهار طرفي الصراع استعدادهما للمواجهة، إلا أنهما أعربا عن نيتهما عدم الانزلاق نحو حرب مباشرة، حيث صدرت العديد من التصريحات المتبادلة من كبار مسؤولي الدولتين تُدلل عن وجود تفاهم ضمني بعدم التوجه للتصعيد التام، أي المواجهة الكلية الشاملة على كافة المستويات، وهو الأمر الذي طرح عدة تساؤلات عما وراء هذا التصعيد.

تناقش الورقة المقاربات المزدوجة لأسباب التصعيد، والتداعيات المحتملة، وخيارات الردع الأمني لطرفي الصراع.

مستويات الضغوط القصوى

منذ حملة “ترامب” الانتخابية ومؤشرات التصعيد ضد إيران تلوح داخل دوائر صناع القرار الأمريكية، وقد عزم  ترامب حينها على تنفيذ كامل وعوده، لحظة فوزه برئاسة البيت الأبيض 2017، من ذلك الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وتقليل عدد القوات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وأفغانستان. حينها لم تكن إيران آخذةً وعود ترامب على محمل الجد، لأنها كانت تنظر للاتفاق النووي على أنه يحمل بعدًا دوليًا بقرار مجلس الأمن 2231، إضافةً إلى أنها كانت تُعوّل على فوز المرشحة الديمقراطية “هيلر ي كلينتون”، إلا أنّ فوز ترامب وإعلانه الانسحاب من الاتفاق النووي 8- أيار/ مايو 2018، جعلها ترى توجهات عدائية تجاهها بشكل واضح، واكتفت آنذاك بالرد سياسيًا عبر رفع دعوى إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد الولايات المتحدة، لإخلالها بمعاهدة الصداقة المُوَقّعة معها 1955، ورغم أن المحكمة أصدرت قرارًا لصالح إيران، إلا أن مفعوله تم إبطاله مع قرار ترامب إلغاء المعاهدة[3].

وفي 16 آب/ أغسطس 2018، أعلنت الولايات المتحدة إنشاء مجموعة عمل، أطلقت عليها مجموعة العمل الإيرانية برئاسة ” براين هوك” مدير التخطيط في وزارة الخارجية، لتطبيق استراتيجية الضغط القصوى على إيران، ومع استلام” مايك بومبيو” لمنصب رئاسة الخارجية في 26- نيسان/ إبريل 2018، وضع خارطة طريق بوثيقة مؤلفة من 12 بند، طالب إيران بتنفيذها، كشرط قبل أي حديث عن مفاوضات جديدة[4]، وكان من بينها انسحاب مليشياتها من سوريا، والتوقف عن إنتاج الصواريخ القادرة على حمل الرؤوس النووية.

جاء الرد الإيراني برفض مطالب ” بومبيو” بالمطلق، واعتبر الرئيس “حسن روحاني” أن المطالب الأمريكية تسعى لتغيير إيران من الداخل، واعتبر وزير الخارجية ” جواد ظريف” أن أمريكا تكرر نفس خياراتها الخطأ بشأن إيران[5].

وبناء عليه تصاعد التوتر الإيراني الأمريكي، رغم أن الأخيرة كررت أكثر من مرة، أن هدف الولايات المتحدة من سياسة التصعيد، هو تغيير سلوك إيران وليس إسقاط النظام، وقد أطلقت الإدارة ذات العبارة بعد فرضها حزمتين من العقوبات الاقتصادية على إيران في أغسطس ونوفمبر 2018،[6].لكن الرواية الإيرانية ترى أن لا فرق بين تغيير سلوك النظام وإسقاطه، فهذه الشروط لو تم تطبيقها ستقود حتمًا إلى تفكيك النظام من الداخل، ولن تقف عند تغير سلوكه حسب كلام العديد من المسؤولين الإيرانيين.

وهذا ما يفسر إظهارها موقفًا متصلبًا تجاه إدارة ” ترامب” ورفضها التنازل تحت أي ظرف، وعزمها على مواجهة كل التحديات تجاهها، ما يعني استحالة تخلّيها عن سلسلة الإنجازات التي حققتها منذ نجاح الثورة الإيرانية في طهران 1979.

والجدير ذكره أن كل  الإنجازات الإيرانية، حدثت تحت أعين الولايات المتحدة، والتي باتت مؤخرًا تصب اهتمامها على التصعيد ضد إيران، بعد إنهاء استراتيجيتها في الحرب على تنظيم الدولة داعش والتي استمرت ما بين 2014- 2019، الأمر الذي بات يطرح تساؤلا عن مدى جدية الولايات المتحدة في الانقلاب على طهران، بعد الاستفادة المتبادلة لكليها في منطقة الشرق الأوسط منذ غزو العراق 2003، وصولًا لحقبة ثورات الربيع العربي 2011، حيث مكنت السياسات الأمريكية من تعزيز القوة الإيرانية في المنطقة، واستطاعت الأخيرة توسعة نفوذها وتشكيل خطوط دفاعية أمنية عن العاصمة طهران في العراق وسوريا ولبنان.

وإن كان ثمّة تغيير في السياسات الأمريكية مع مجيئ ترامب، فهي تكمن برغبة الرئيس التوجه نحو تطبيق شعار أمريكا أولًا، إلى جانب تقليل الانتشار الأمريكي  في ساحات الحروب والتي يعتقد أن لا فائدة منها، وكلفت أمريكا مبالغ مالية طائلة.

ونحو تحقيق هذه الأهداف اتجه ترامب  لتطبيق مقاربات جديدة،كتخفيف التواجد العسكري في أفغانستان وسوريا، والدخول في مفاوضات مع طالبان، بشكل  يستطيع من خلالها تفادي المواجهات العسكرية معها، وهو يرغب من طهران أن تنحى سلوك كوريا الشمالية في العودة للمفاوضات، فرفع مؤخرًا من وتيرة الضغوط على إيران وفرض مطلع أيار 2019 سلسلة إجراءات شملت إيقاف تجديد الاستثناءات للدول الثمانية في مجال التعاملات التجارية مع إيران ( الصين- الهند- إيطاليا- اليونان- اليابان- كوريا الجنوبية- تركيا) وفي بيان للرئاسة الأمريكية أعلنت أن أي بلد يستمر في التعامل التجاري النفطي مع إيران سيُواجه عقوبات، مضيفًا أن المملكة العربية السعودية والإمارات ستعملان على سد النقص في سوق النفط العالمية[7]، وبهذا الإجراء تكون الولايات المتحدة قد طبقت لأول مرة سياسة الضغوط القصوى، والتي تهدف إلى تصفير صادرات إيران النفطية.

ولإحداث مزيد من التأثير تجاوزت واشنطن عتبة الحرب الاقتصادية لتُرفقها بتصعيد عسكري، فأرسلت العديد من القطع العسكرية كحاملة الطائرات ( أبراهام لينكولن)، وسفن حربية،  وقاذفات B52 وبطاريات باتريوت، إلى مياه الخليج العربي، وأوضحت في بيان صارد عن مستشار الأمن القومي ” جون بولتون” أن الهدف من الحشود العسكرية إرسال رسالة واضحة لطهران بأن أي هجوم على المصالح الأمريكية سيتم التعامل معه بقوة لا هوادة فيها”[8]، مؤكدًا بذات الوقت على عدم رغبة الولايات المتحدة الدخول في حرب مع إيران. وعلى الرغم من تبرير بولتون الظاهري للتحركات العسكرية، إلا أن حقيقة المبررات غير واضحة بعد ولا أحد يعلم بها إلا صناع القرار داخل الغُرف المغلقة، وقد يبدو من غير المنطقي أن يتم تحريك كل هذه القطع العسكرية بالاستناد على تقارير استخبارية فقط، لأنه بإمكان أمريكا عبر حلفائها الإقليميين وقواعدها المنتشرة في الخليج أن تأمن كل أساليب الردع والحماية، كما أن إمكانات القطع الحربية تنحصر في المهمات الهجومية أكثر منها في المهمات الدفاعية، ما يُرجح عن احتمال وجود نية أمريكية في توجيه ضربات محدودة لوكلاء إيران إذا اقتضى الأمر.

اختبار النوايا

تعتبر إيران أن تخفيض صادراتها النفطية يُشكل تهديدًا جِدّيًا لأركان النظام، وينذر بتفكيكه من الداخل، سيما بعد تردي الأوضاع المعيشية، وفقدان قيمة السيولة المالية أكثر من 150 بالمئة، وارتفاع نسبة التضخم لـ 40 %، وتراجع صادرات النفط إلى مليون ونصف برميل، بعدما وصل إلى أكثر من ثلاثة مليون ونصف قبل فسخ الاتفاق النووي، ومن المتوقع وصولها إلى 600 ألف برميل فقط إذا ما استمرت سياسية الحصار عليها وفقًا للعديد من التقارير[9].

ورغم أن طهران تتأقلم منذ 35 عامًا مع سياسة العقوبات الاقتصادية، ونجحت عقب كل مرة في الالتفاف عليها، إلا أن استراتيجية الخنق الكلي المفروضة من قبل ترامب، قد تحبط كامل خططها، لا سيما أنها المرة الأولى التي تقف وجهًا لوجه أمام سياسات شمولية تستهدف تجفيف كامل لمصادرها النفطية، كما أن استراتيجيات الالتفاف على العقوبات قد لا تكفي لسد العجز الداخلي وتخفيف حدة الأزمات التي تعصف بها، خصوصًا أنها لم تعد تعول كثيرًا على دول الاتحاد الأوربي بعد فشلهم في تطبيق آلية ترويكا ” إنستكس” التي تم تأسيسها في يناير 2018، والتي تهدف إلى تأمين حماية القطاعات التجارية النفطية الإيرانية من العقوبات الأمريكية. كما أن غالبية الدول الأوربية رغم تأكيدهم مواصلة التعامل التجاري مع إيران خففوا من وتيرة التبادل التجاري معها كألمانيا، بالإضافة إلى إعلان الهند  وتركيا توقفهما عن استيراد النفط الإيراني بشكل تام، تبقى الصين وروسيا، ورغم موقفهما المساند لإيران لأهداف جيوسياسية واقتصادية، لكن ذلك غير كافٍ لإسناد إيران في مواجهة العقوبات الشاملة.

لذا كان من الطبيعي أن تتخذ طهران خطوة تصعيدية نحو الأمام من أجل الرد على الاجراءات الأمريكية من جهة واختبار نواياها الحقيقة من جهة أخرى، مع تأكيدها مرارًا على عدم الدخول في حرب مباشرة معها. وتَعتبر طهران أن الاجراءات التي اتخذتها تكتيكية بهدف الضغط على حلفاء أمريكا في المنطقة، ودول الاتحاد الأوربي، وظهر ذلك من خلال إعلانها تعليق بعض التزاماتها النووية وإعطائها دول الاتحاد الأوربي مهلة 60يومًا لتنفيذ وعودهم[10]، كما أعلنت على لسان رئيس البرلمان علي لاريجاني استمرار تخصيب اليورانيوم لأربعة أضعاف[11].

وكان لافتًا أن تتزامن إجراءات طهران مع إعلان الإمارات العربية 13- مايو 2019 عن استهداف سفن نفطية تابعة لها في ميناء الفجيرات، إذ وجهت أصابع الاتهام للحرس الثوري الإيراني بوقوفه وراء تسهيل العملية[12] وبعد يوم واحد في 14 مايو 2019، أعلنت المملكة العربية السعودية عن استهداف الحوثي لمنشآتها النفطية، ما دفع دول الخليج إلى إعلان حالة الاستنفار السياسي وطالبوا المجتمع الدولي تأمين حماية أمن الملاحة البحرية، خاصة بعدما هددت إيران أكثر من مرة بإغلاق مضيق هرمز[13].

وتعتقد دول الخليج أن إيران قامت بإرسال رسائل تحذيرية لها تنفيذًا لتهديداتها التي أطلقها عدة مسؤولين من قادة الصف الأولى للحرس الثوري الإيراني ضد أمريكا وحلفائها[14]، ، ورغم أنها لم تتهم إيران بشكل مباشر باستهداف المنشآت النفطية، إلا أنها وجهت أصابع الاتهام لجماعة أنصار الله الحوثي في اليمن والذين تبنّوا بشكل رسمي استهدافهم للمنشآت النفطية بطائرات مسيرة [15]، ولم تكتفي جماعة أنصار الله الحوثي بهذا التصعيد حيث أطلقت في 20 مايو 2019، صاروخين باتجاه مكة المكرمة والطائف، تم التصدي لهما حسب بيانات صادرة عن المملكة من قبل سلاح الدفاع السعودي[16]. وفي 23 من مايو 2019 أعلن الحوثيون استهدافهم مرابض الطائرات الحربية في مطار نجران جنوب السعودية بطائرات مسيرة[17].

دفعت تلك الأخطار المملكة العربية السعودية للإعلان عن عقد ثلاثة قمم عربية وخليجية نهاية مايو / أيار 2019، بهدف التباحث حول المخاطر الدائرة على أمن الخليج. ويفسر إسراع دول مجلس التعاون الخليجي في عقد سلسلة من الجولات لتداركهم  الأخطار الطارئة على أمن وحركة الملاحة البحرية، خخوصًا أن الولايات المتحدة لم تلتزم بعد في تنفيذ تهديداتها التي أطلقها ” ( بومبيو- بولتون) تجاه إيران بالرد القاسي عليها إذا ما حاولت استهداف حلفاء أمريكا في المنطقة، مع ذلك ورغم سقوط صاروخ كاتيوشا في محيط السفارة الأمريكية في بغداد، 20 مايو/ أيار 2019، إلا أن الإدارة الأمريكية لم تحرك ساكنًا بعد، واكتفت بتوجيه التحذيرات لكل من الحكومة العراقية وصناع القرار في إيران، ولعل هذا الغموض والتناقض بين المواقف والأفعال لإدارة ترامب  أفرز نوعًا من الحساسية لدى دول الخليج، تمثلت بإدراكهم عدم جدية ترامب في ردع إيران.

حدود المواجهة

ما يشير إليه التصعيد الأمريكي يتعدى حدود التوصل لتفاهم  نووي جديد، كونه لم يتطرق لحرمان إيران من تطوير ترسانتها الصاروخية خارج حدودها، ولا يقيد من نشاطها النووي بعد 2025، ولا يحرمها من تخصيب اليورانيوم مع بقاء نسبة 5 بالمئة متوفرة، لذلك يؤمن ترامب بضرورة التوصل لتفاهمات شاملة بمسائل التوسع خارج الحدود، والترسانة الصاروخية، والاتفاق النووي لدى إيران، وحتى وصول القيادة الإيرانية لقناعة تامة بقبول ذلك، ستبقى  إدارة ترامب تزيد من انتشارها العسكري في الجوار الإيراني، للحفاظ على ديمومة هذه العقوبات، ومنع إيران من الالتفاف عليها أو السعي لتخفيفها أو اختراقها، وهذا ما يفسر رسائل العديد من المسؤولين الأمريكيين بأن هدف كل التعزيزات العسكرية لأداء مهام دفاعية، وهو ما ينفي بطبيعة الحال لجوء ترامب لخيار الحرب الشاملة، بالإضافة إلى وجود عدة اعتبارات تستبعد لجوء طرفي الصراع إلى خيار الحرب الشاملة.

الاعتبار الأول:

_ الانقسام في الداخل الأمريكي بوجود تيارين متناقضين، الأول متشدد داخل أمريكا يقوده “جون بولتون”  والمعروف بعدائيته تجاه إيران، ويحاول جاهدًا التأثير على موقف الرئيس لتوجيه ضربات هجومية على إيران أو إشعال فتيل الحرب المباشرة، لكن حتى الآن يبدو أن الرئيس ترامب لا يلقي بالًا لأفكار ” بولتون” كما أن الكونغرس وغالبية الأعضاء بمجلس الشيوخ رفضوا أي قرار حرب على إيران.

التيار الثاني متمثل بشخص الرئيس ترامب وبعض أعضاء إدارته، هؤلاء لا يحبذون خيار الحرب المفتوحة، وقد صرح ترامب أنه لا يرغب في شن حرب على إيران، لكنه لم يستبعد وقوعها، مؤكدًا بذات الوقت على نجاع استراتيجيته الاقتصادية، والتي باعتقاده أنها ستُجبر طهران في نهاية المطاف على الرجوع لطاولة المفاوضات. ما يؤكد هذه النظرية، تسريبات الزيارة التي قام بها وزير الخارجية “مايك بومبيو” إلى العراق، وحسب مصدر مطلع، فإن “بومبيو” أكد لرئيس الوزراء عادل عبد المهدي، أن الرئيس ترامب لا يرغب في الدخول بحرب عسكرية مع إيران، ويطمح في توقيع اتفاق جديد معها، وطلب بومبيو من حكومة عادل عبد المهدي أن تلعب حكومته دور الوسيط بينها وبين طهران، وعقب مغادرة ” بومبيو” أرسل عادل عبد المهدي، مبعوثًا لإيران أبلغها بتفاصيل المحادثة مع بومبيو” ويُرجح أن إيران وافقت مبدئيًا على تفاهم  في ملحق للاتفاق النووي، شريطة أن يتم تجميد العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، وحتى الآن لم يتم الإفصاح من قبل الطرفين عن موضوع وجود إرادة للتوصل لاتفاق جديد، لكن الحكومة العراقية مازالت تمارس دور الوساطة، وفي 24 مايو/ أيار 2019، أعلن رئيس الوزراء العراقي أنه يجري اتصالات عالية المستوى وأن رؤيته قريبة من الموقف الأوربي بشأن حل الأزمة بين طهران وواشنطن[18]. ومن مصلحة العراق تخفيف حدة التصعيد بين الجانبين لأنها تعلم أن الخسارة الكبرى ستقع عليها، حيال أي حرب بين الطرفين سواء مباشرة أو بالوكالة، لا سيما أن الانقسام الحاصل داخل العراق يلقي عليها أعباء زائدة تماشيًا مع تداعيات الأزمات التي يمر بها العراق، إضافة إلى تعدد الأحزاب والتيارات المنقسمة بين مؤيد لموقف طهران وآخر مناهض لها.

الاعتبار الثاني:

متعلق بتحقيق توازن بالمهددات، فالمسؤولون الأمريكيون الرافضون الدخول في حرب مع إيران، يعلمون جيدًا أن إيران تمتلك تماسكًا عسكريًا وبنيويًا ضخمًا، تستطيع من خلاله رفع تأثير المخاطر على مصالح أمريكا، في كامل المنطقة، أي أن إيران إذا ما قررت الاستمرار في امتصاص الاستفزازات الأمريكية لها، فهي ستعمل على تخفيف حدة تأثير العقوبات الاقتصادية عليها، وفي حال فشلها في الالتفاف على العقوبات سواء مع من خلال الدول الأوربية، أو عبر الأسواق البديلة في سوريا والعراق وتركيا، فإنها ستلجأ إلى خيار السياسة التخريبية ورفع منسوب المخاطر على حلفاء أمريكا. ولعل اتهام إيران أو وكلائها بضلوعهم وراء استهداف مصادر النفط السعودي والإماراتي وتهديد السفارة الأمريكية في بغداد يدخل ضمن استراتيجية إيران في تحريك أولي لوكلائها، وهي عدا عن ذلك قادرة على تحريك وكلائها في غزة وأفغانستان، ولبنان عن طريق حزب الله، وفي اليمن عن طريق تزويد الحوثي بصواريخ متطورة لفرض مخاطر أمنية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، كما أن أمريكا تعي تمامًا أن إيران قد تمارس نفس الدور الذي قامت به بالحرب العراقية الإيرانية 1983 عبر عرقلة الملاحة البحرية في مضيق هرمز، وإن أي تهديد لهذا المضيق يعني استهداف النطاق الحيوي لإسرائيل والتي تعتمد عليه في معاملاتها التجارية بنسبة 90 بالمئة، ناهيك أن المضيق ذاته يمر من خلاله يوميًا 40 بالمئة من ناقلات التجارة الدولية العالمية. ويُضاف لتلك المهُددات، مساهمة إيران في إعادة إنتاج تنظيمات جهادية قد تساهم في نشر الفوضى في المنطقة، وهذا يعني تهديد كامل للقواعد الأمريكية ومناطق نفوذها، وإدارة ترامب لا ترغب بعودة تنظيمات مثل تنظيم الدولة “داعش” بعدما أعلنت مؤخرًا القضاء عليه في العراق وسوريا حسب ادعائها، كذلك ترامب يطمح بفترة رئاسية ثانية، فلا مصلحة له بحرب قد تطول لسنوات وتكلفه مبالغ مالية باهظة الثمن، وخسارة بالعتاد والأرواح والسلاح على غرار ما حدث في حرب العراق وأفغانستان.

وبناء على كلا الاعتبارين الأول والثاني، فإن أمريكا اختارت تطبيق سياسة واحتواء إيران جغرافيًا وسياسيًا، عبر ممارسة الضغط عليها اقتصاديًا وعسكريًا بهدف إيصالها إلى معادلة صفرية سياسيًا واقتصاديًا وصولًا لعقد تفاهمات جديدة معها، وفي حال رفضت إيران قد يقود ذلك إلى تغير بنية النظام في إيران دون الوصول لإسقاط الدولة، وذلك عبر رفع التأثير على الداخل الإيراني والذي قد يولد عودة الاحتجاجات المنددة بسياسات إيران اقتصاديًا وسياسيًا، وهذا ما يراهن عليه ترامب في المدى المنظور على أقل تقدير.

خلاصة

رغم كل التصعيد المتبادل من قبل إيران وأمريكا، فالثابت أن كلا البلدين متفقان على عدم الانزلاق لحرب مفتوحة، لكن هذا لا يعني عدم حدوث خطأ في الحسابات والذي قد يجبرهما على دخول الحرب. ويبدو أن إدراكهما حدوث أخطاء هو الذي يجعلهما يتبادلان رسائل تهدئة بين الحين والآخر، لتجنيب خيار المواجهة، والاكتفاء بالوسائل الاحترازية والتعزيزات الدفاعية، وهذا ينطبق على إدارة ترامب التي تكثف من وسائل دفاعاتها البحرية في مياه الخليج والمتوسط لفرض طوق أمني على إيران. والأخرى تعمل على  تخفيف العقوبات عليها والدفاع عن إنجازاتها، عبر الاكتفاء أيضًا بوسائل الدفاع.

وقد يبقى الأمر على حاله في استمرار سياسة الاستعداء المتبادل ريثما تنجح بعض الدول الوسيطة في تقريب وجهات النظر، وتُزيل مفاعيل التوتر والعقبات أمام جولة جديدة من المفاوضات. ويبقى هذا الخيار مستبعدًا في المدى القريب مع تصلب طرفي الصراع، ومضيهما قدمًا نحو التصعيد.

ويبقى هناك خيار محتمل في حيال رفضَ طرفي الصراع تقديم تنازلات، متمثلًا في دفع إدارة ترامب حلفاءها في دول الخليج، (السعودية والإمارات بالإضافة لإسرائيل)، لشن حرب على وكلاء إيران في المنطقة، ومن شأن هذا الخيار أن يعود بالنفع على إسرائيل، كونها ستخوض حربًا  ضد وكلاء إيران لأول مرة جنبًا إلى جنب مع العرب، وهو ما يعني أمرين، الأول: استمرار مسار التطبيع، مع العرب تطبيقًا لنظرية العداء مع إيران، والثاني تهيئة مداخل أخرى لتمرير ما بات يُعرف “بصفقة القرن” وبالتعاون والتنسيق مع من وصفتهم سابقًا بالحلفاء التاريخيين في دورة  وارسو السنوي لـ 2019.[19]

ورغم كل وسائل التصعيد الدبلوماسي والسياسي والعسكري بين الطرفين، إلا أن جميع الدلائل والمؤشرات تشير إلى اقتراب الطرفين من تفاهمات جديدة، قد تضع حدًا لكامل التهديدات، فلا أمريكا راغبة في خوض حرب مباشرة، تُعيد لها إحياء خسائرها في العراق وأفغانستان، ولا إيران راغبة في نسف كامل إنجازاتها منذ ثمانينات القرن الماضي، ولعل الأطراف الوسيطة كالعراق والاتحادي الأوربي، وعُمان، قد ينجحون في نهاية المطاف بتقريب وجهات النظر والعودة للطُرق الدبلوماسية استنادًا للمعطيات المذكورة التي أثبتت عدم رغبة الطرفين في الحرب الشاملة والمباشرة.

 

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات © 2019

[1] http://bit.ly/2EvKRBD

الأناضول، إيران تدرج القوات الأمريكية في غرب آسيا على قوائم الإرهاب، ن- بتاريخ 9- 4- 2019، شوهد بـ 23، مايو/ أيار 2019

[2] http://bit.ly/2YLfWZD

العربي الجديد، واشنطن تفرض حزمة عقوبات جديدة على إيران تستهدف قطاع الصلب والمعادن، ن بتاريخ 80 مايو 2019، شوهد بـ 23- مايو/ أيار 2019

[3] http://bit.ly/2JyJvKE

أورينت نت، الولايات المتحدة تلغي معاهدة الصداقة مع إيران، ن- بتاريخ 3- 10- 2018، شوهد بـ 23- مايو/ أيار 2019

[4] http://bit.ly/2JZ1tWa

الجزيرة، بومبيو يطالب إيران بتنفيذ 12 بندا، ن- بتاريخ 21- 5- 2018، شوهد بـ 23- مايو/ أيار 2019

[5] http://bit.ly/2EoRE04

الجزيرة، هكذا ردت إيران على المطالب الأمريكية، ن- بتاريخ 21- 5- 2018، شوهد بـ 23- مايو/ أيار 2019

[6] http://bit.ly/2weuc0L

الأتاضول ، بدء تطبيق الحزمة الثانية من العقوبات على إيران، ن- بتاريخ 5-11- 2018، شوهد بـ 23- مايو/ أيار 2019

[7] http://bit.ly/2Hz2Vgk

تلفزيون سوريا، ترامب يوقف إعفاءات الدول الثمانية من شراء النفط مع إيران، ن- بتاريخ 22- نيسان 2019، شوهد بـ 23- أيار/ مايو 2019

[8] http://bit.ly/2YIka4g

عربي سبوتنيك، بولتون واشنطن سترد على أي تهديد إيراني، ن- بتاريخ 6-5 2019، شوهد بـ 23- أيار/ مايو 2019

[9] http://bit.ly/2HMbpzy

Iran Sees Oil Exports Falter, Trade Slump with Germany, US، شوهد بـ 23- أيار/ مايو 2019

[10] http://bit.ly/2X7Opl3

المدن ، إيران تعلق التزاماتها النووية وتمهل الغرب 60 يومًا، ن- بتاريخ 8-5- 2-19، شوهد بـ 23- أيار/ مايو 2019

[11] http://bit.ly/2HKN3pB

العربي الجديد، طهران ترد على تهديدات واشنطن سنواصل تخصيب اليورانيوم، ن- بتاريخ 4- مايو 2019، شوهد بـ 23- أيار/ مايو 2019

[12] http://bit.ly/2YJ7fPv

مركز العراق الجديد، سيناريوهات وكلاء إيران في العراق، شوهد بـ 23- مايو/ أيار 2019

[13] http://bit.ly/2Hxl25W

وكالة الأناضول، إيران تهدد بإغلاق مضيق هرمز أمام الناقلات النفطية، ن- 28- 4- 2019، شوهد بـ 23- مايو/ أيار 2019

[14] http://bit.ly/2JAojnu

عربي بوست، الحرس الثوري يهدد باستهداف قوات أمريكا في الخليج، ن- بتاريخ 12-5- 2019، شوهد بـ 23- مايو/ أيار 2019

[15] http://bit.ly/2EFcWqr

فرنس 24، الحوثيون يتبنون هجومًا بطائرات بدون طيار استهداف محطتين لضخ النفط شرق الرياض، ن- بتاريخ 14-5- 2-19، شوهد بـ 23- مايو/ أيار 2019

[16] https://arbne.ws/2JypwLZ

الحرة، سلاح الدفاع السعودي يتصدى لصاروخ فوق الطائف، ن- بتاريخ 20 مايو 2019، شوهد بـ 23- مايو 2019

[17] http://bit.ly/2M2GIv8

الأناضول ، الحوثيون يعلنون استهداف مطار نجران السعودي، ن- بتاريخ 23 مايو، 2019، شوهد بـ 23- مايو/ أيار 2019

[18] http://bit.ly/2M9DmGO

العربي الجديد، العراق يجري اتصالات بين واشنطن وطهران لإنهاء التوتر، ن- بتاريخ 21- مايو 2019، شوهد بـ 24- مايو/ أيار 2019

[19] http://bit.ly/2YITSir

مركز برق، تفاعلات الدول الإقليمية في مؤتمرات وارسو وميونخ، ب- بتاريخ- 12- مارس 2019، شوهد بـ 24- مايو/ أيار 2019.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى