الاصدارات

في الذكرى الثالثة والسبعين لحرب فلسطين 1948

الأسباب.. الاستحضارات.. الاندلاع

الكاتب برتبة ملازم ثانٍ في تشريفات القصر الجمهوري عام 1964 وقت كتابته لمسودة هذه المقالة

د. صبحي ناظم توفيق عميد ركن متقاعد… دكتوراه في التاريخ
  المستشار بمركز برق للسياسات والاستشارات

تمهيد:

كثيرًا ما رَكّزَت وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئيّة على جيلنا وجيل آبائنا وأولادنا، وأن دُوَيلة إسرائيل – برغم نشوئها مع حرب فلسطين الأولى عام 1948 – قد حققت في وقتنا انتصارًا مشهودًا على خمسة جيوش عربية مخضرمة، حتى ترسَّخَ في أعماق جيلنا وجيل آبائنا استغراب عظيم هَزَّ العرب والمسلمين أجمع حيال ذلك الصراع الذي غَيَّرَ بوصلة الشرق الأوسط منذ أواخر الأربعينيات والنصف الثاني من القرن العشرين ولغاية يومنا الراهن.

لذلك ترَدَّدتُ كثيرًا في تسطير أيّ شيء عن حرب فلسطين 1948 المعروفة باسم “النكبة”؛ كون المكتبات منذ الخمسينيات زاخرة بكثير من الكتب والبحوث والدراسات والمقالات عنها، في حين يتردّد اسمها في معظم المناسبات الوطنية والعسكرية على ألسن السياسيين بداع ومن دونه، فضلًا عن عدم عثوري في حينه ولغاية يومنا الراهن على قاعدة رصينة عن الحرب تعتمد على وثائق رسمية ذات مصداقية وحيادية.

        ولكن إلحاح العديد من الأصدقاء والمتابعين على ضرورة نشر ما أمتلكه من معلومات عن حرب 48، وإن كانت متواضعة، لا سيّما وأني سمعتها منذ أواسط الستينيات من السيد اللواء الركن المتقاعد عمر علي، جعلني أخط هذه المقالة التي أستشعر أنها غير وافية بالموضوع، ولا تشفي طموحي، برغم صقلي لحديث “الباشا” بصفحات من روايات كل من السادة:

  1. الزعيم (العميد) الركن الدكتور شكري محمود نديم – أحد ضباط ركن القيادة العامة العراقية خلال حرب فلسطين.
  2. العميد شاكر محمود السامرائي – أحد ضباط الفوج/2- اللواء الجبلي/5 الخائض لمعركة جنين مع آمره المقدم الركن عمر علي.
  3. مذكرات أمير اللواء الركن حسين مكي خماس – مدير الحركات العسكرية خلال حرب فلسطين، التي حقّقها وأصدرها نجلُه اللواء الركن علاء الدين.
  4. موسوعة تاريخ القوات العراقية المسلّحة؛ الجزء الثالث – الصادرة عن وزارة الدفاع، والتي تغطّي حرب فلسطين في العديد من صفحاتها.

لقاءاتي مع العم عمر علي:

        وقتما كنتُ صبيًا في أواسط الخمسينيات كان والدي وابن عمّه العقيد مصطفى عبد القادر آل يحيى بك يصطحبانني معهما في بعض زياراتهما لأمير اللواء الركن عمر علي باشا عندما عُيِّنَ متصرفًا (محافظًا) للواء (محافظة) السليمانية، واكتمل هذا فيما بعد بزياراتي الشخصية له رحمه الله بمعدلات شبه شهرية في مسكنه ببغداد، حينما غدوتُ ضابطًا بالحرس الجمهوري منذ تموز/يوليو- 1964، وبالأخص حين استشعرت ارتياحه وسرده لأحاديثه على مسامعي من دون تحفّظ.

المقدم الركن عمر علي بيراقدار تحت راية فوجه أيام حرب فلسطين… من أرشيف ابن شقيقته العميد الطيار الركن محمد طارق سيد حميد

كنتُ توّاقًا لسماع أمور كثيرة من هذا الرجل الكبير، فسجّلتُ الكثير مما رواه في أجنداتي السنوية التي نصَحَني هو بها؛ كي لا أنسى الأحداث بمرور الزمن، مُكرِّرًا ذكر ندَمه الشديد لعدم تسجيله وقائع 29 عامًا قضاها في الخدمة العسكرية لغاية يوم 14 من تموز/يوليو- 1958، وما تلاه من مهازل مثوله أمام المحكمة العُليا الخاصة برئاسة العقيد فاضل عباس المهداوي والحكم عليه بالإعدام – المتعجرِف واللامَعقول – الذي صدر بحقه عام 1959 قبل إطلاق سراحه بعد سنتين ونصف قضاها بالسجن رقم/1.

مجمل استفساراتي:

        رجوتُ العم عمر علي أن يخصص لي بضع ساعات من وقته ليتحدث عن معركة جنين تحديدًا؛ تلك التي طالما طرَقَ أسماعنا الحديث عنها منذ التحاقنا تلاميذَ بالدورة/41 في الكلية العسكرية، فلبّى ذلك في أمسية بعد صلاة التراويح مساء يوم رمضاني وافق الثلاثاء 12/1/1965، ومعي أوراق أُسَطِّر فيها أهم ما أسمع منه، قبل أن أعود إلى تشريفات القصر الجمهوري في تلك الليلة لأسهر حتى السحور فأحوّلها إلى شبه مقالة.

شددتُ الرحال إلى دار العم عمر علي، وبين يدَيَّ عناوين وأسئلة واستفسارات أعرضها أمام ناظِرَيه عن حرب فلسطين، وأهمها ما يلي:

  1. حقيقة معركة جنين.
  2. الاحتلال البريطاني لفلسطين.
  3. ترسّخ أقدام الحركة الصهيونية في فلسطين.
  4. تقسيم فلسطين إلى دولتَين.
  5. الموقف العام قُبَيلَ الحرب.
  6. دور العراق المشهود.
  7. تلاحق القوات العراقية إلى الحرب.
  8. واقع حال اليهود.
  9. واقع حال جيوش العرب.
  10. الخطة العامة للهجوم العربي.
  11. خطة المرحلة الأولى، ومدى تطبيقها.
  12. ترك الإنكليز أرض فلسطين.
  13. الموقف العام قُبَيلَ الحرب.
  14. مواقف القادة العرب.
  15. استعدادات العراق لإنقاذ فلسطين.
  16. حجم القوات عراقية قبل الحرب وبعد اندلاعها.
  17. هل تحركت كل تلك القوات العربية العراقية لأجل القضاء على “عصابات صهيونية”؟!
  18. نبذة عن جيوش العرب وكيفية تحشيدها.
  19. الخطة العامة للهجوم العربي على المناطق المستحوَذ عليها.
  20. الخطة العامة للمرحلة الأولى… وهل طُبِّقَت؟

حقيقة معركة جنين:

 في باكورة الجلسة سألني العم عمر عن سبب إصراري على التعرف على معركة جنين تحديدًا، فأجبته أني أطمح في سماع وقائعها من مقامه العالي دون غيره؛ لأن معلّمينا في الكلية العسكرية كانوا يذكرون اسم هذه المعركة مُرادِفًا لاسم عمر علي وحرب فلسطين، ولكن من دون أن يُفَصِّلوا الحديث فيها، فأوضح العم عمر أن لهم الحقّ في ذلك.

وقد ذكر لي أن هذه المعركة، برغم اعتزازه بها والشهرة التي اكتسبها إثر تحقيق النصر فيها، لم تكن معركة كبيرة خُطِّطَ لها، وحُشِدت من أجلها وحدات مشاة ومدفعية وهندسة مدعومة بطائرات، بل كانت أشبه بمعركة هجومية تصادفية خاضها فوج مشاة جبليّ واحد لم تُسنِدُه حتى المدافع، وأحرز انتصارًا سريعًا خلال يومَين فقط من القتال. لذلك وقبل الخوض في الحديث عن معركة جنين، لابدّ من إيضاح كيفية اندلاع حرب فلسطين عام 1948 برمتها؛ كي نكوّن صورة عمّا سبق جنين.

الاحتلال البريطاني لفلسطين:

على إثر وعد وزير الخارجية البريطانية آرثر جيمس بلفور لليهود عام 1917 بتأسيس كيان لهم في فلسطين، الذي أصدره قبل خمسة أيام فقط من استكمال القوات البريطانية الاستحواذ عليها من أيدي العثمانيين الذين تعرضوا لضغوط سياسية كبرى، ومن دون أن تنسحب القوات العثمانية منها إلاّ بعد ثلاث سنوات من القتال العنيف – أسرع اليهود القادمون من كثير من أرجاء العالم لتنظيم هجرات مُخَطَّط لها ومُنسّقة إلى فلسطين لتغيير الواقع السكّاني في ربوعها بعد أن غدت مستعمَرة بريطانية.

الجنرال البريطاني إدموند اللّنْبي مُتبختِرًا وسط مدينة القدس إثر انسحاب القوات العثمانية منها يوم 9/12/1917 وحينها أطلق قولته المشهورة: “يا صلاح الدين الأيوبي… الآن – فقط – انتهت الحروب الصليبية”!

ترسّخ أقدام الصهاينة في فلسطين:

وأضاف العم عمر باشا: وفي هذا الشأن فقد دَعمَت اليهود دولٌ عظمى، ومَوّلَتهم كبريات المؤسسات الصهيونية، وسلّحتهم وأنشأت لهم مَآوي ومساكن لائقة لترغيب أقرانهم للِّحاق بهم في “أرض الميعاد”، حتى انبثقت في ربوعها منظمات مسلّحة بمباركة الإنكليز الذين غضّوا الطَرفَ عن بناء اليهود لمئات المستوطنات المُحصَّنة في ربوع أصحابها الفلسطينيين وبشتى أساليب الترغيب قبل الترهيب، حتى تَقَوَّت شوكتهم بمرور الأعوام، فباتوا مؤثِّرين في ميادين المال والسياسة والقوة المسلّحة.

خريطة تبين البقاع الفلسطينية التي كان اليهود قد استحوذوا عليها وترسّخوا فيها بعد الاحتلال البريطاني سنة 1917 وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945)

تقسيم فلسطبن إلى دولتين:

وفي ظلّ تلكم الأوضاع وسواها، وتحت ذرائع بريطانية مُعلَنة بعدم تمكّنها – برغم عظمتها المعروفة وأساليبها الخبيثة ونفوذها الاستعماري وجيشها – من فرض الأمن على هذا البلد الصغير مساحةً، وعجزها عن التقريب بين وجهات نظر الطَرَفَين المتخاصمَين، قبل تَزَعُّمِها مشروع القرار الدولي بتقسيم فلسطين المُنتَدَبة إلى دولتَين في 20/11/1947، الأولى عربية، والأخرى يهودية، أعلنت بريطانيا عن رحيلها عن فلسطين.

وأكبر الظن أن قادة اليهود قد فرشوا خريطة فلسطين مع أصدقائهم الإنكليز، وانتقوا عددًا من الموانئ المهمة المطلّة على البحر الأبيض ومرتفعات ومدنًا وأماكن جميلة كما شاؤوا، قبل أن يقرر الإنكليز إنهاء انتدابهم على فلسطين وسحب قواتهم ومؤسساتهم الإدارية من هذه البلاد يوم 15/5/1948، برغم يقينهم من أن ريحًا هوجاء ستعصف بها، وليكن ما يكون.

الخريطة اليسرى توضح مواقع المستوطنات اليهودية خلال الفترة من 1920-1947، والثانية بعد أن قسّمَتها الأمم المتحدة إلى دولتين، فيما تبدو على الخريطة اليمنى فلسطين المقسّمة عام 1947 إلى دولة عربية وأخرى يهودية.

الموقف العام قبيل الحرب:

وأضاف العم عمر باشا أن المواقف المتردِّدة للقادة العرب، وقراراتهم المتواضعة، واجتماعاتهم ولجانهم التي لم تتمخض طيلة أشهر سوى عن قرارات بائسة سطّروها على الورق، وردّدوها في وسائل إعلامهم، وبعد إخفاقاتهم منذ أوائل 1948 في تشكيل جيش الإنقاذ الفلسطيني جراء خلافاتهم مع مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحُسيني ودعم منظمته المسمّاة “الجهاد المُقدَّس”، ناهيك عن جَرِّ هذا وَعَرِّ ذاك، فإنهم لم يتفقوا حتى قبل شهرين من موعد الانسحاب البريطاني المُزمَع على توقيع مجرد قرار لتأسيس قيادة عامة عربية عسكرية مشتركة وتحشيد بضعة تشكيلات من جيوشهم النظامية لينقذوا فلسطين.

مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني

دور العراق المشهود:

أما عن دور العراق، فقد ركّز عمر علي باشا على أنه برغم الأقاويل الجائرة والظالمة بعمالة النظام الملكي العراقي لبريطانيا، فقد تفرّد الأمير عبد الإله الوصيّ على العرش باتخاذ قرارات أجرأ بكثير من قرارات كلّ القادة العرب المتاخمين لفلسطين، وهي: لبنان وسوريا والأردن والسعودية ومصر، لمحاولة منع قيام “دولة إسرائيل”؛ فقد لَبّى عبد الإله نداء دعم الفلسطينيين والمملكة

الأمير عبد الإله بن علي الوصي على عرش العراق والسبّاق لإنقاذ فلسطين إبان أزمتها المصيرية عام 1948

الأردنية بالمال والسلاح والخبرة والمَشورة، وأسنَدَ قيادة جيش الإنقاذ الفلسطيني المؤلف من متطوعين فلسطينيين وعرب ومسلمين، إلى معاون رئيس أركان الجيش العراقي أمير اللواء الركن إسماعيل صفوت، كما وافق على انتداب الفريق أول الركن المتقاعد طه الهاشمي بمنصب المفتش العام لذلك الجيش المُفتَرَض، والإشراف على تنظيمه وتجهيزه وتدريبه، قبل تنصيبه خبيرًا عسكريًا للأمين العام للجامعة العربية عبد الرحمن عزام باشا، فضلًا عن إيفاده أمير اللواء الركن المتقاعد نظيف الشاوي إلى القاهرة ليغدو عضوًا رئيسًا للجنة فلسطين العليا لدى الجامعة العربية.

الفريق أول الركن المتقاعد طه الهاشمي- المفتش العام المُنَسَّب للإشراف على  تنظيم جيش الإنقاذ الفلسطيني  وتجهيزه وتدريبه، ثم خبيرًا عسكريًا للأمين العام للجامعة العربية عبد الرحمن عزام باشا.

وزير الدفاع العراقي الأسبق أمير اللواء الركن المتقاعد نظيف عبد اللطيف الشاوي، العضو الرئيس للجنة فلسطين العليا لدى الجامعة العربية عام 1948.

وكان الوصي عبد الإله من أكثر الزعماء العرب جولاتٍ مكوكيةً بين القادة المعنيين، ومن أسرع المتخذين للإجراءات العسكرية المُنتظَرة وتحقيق اجتماع حاسم لرؤساء أركان الجيوش العربية مع اقتراب الموعد المقرر لترك الإنكليز لفلسطين. وهو كذلك الذي أوعز للبعثة العسكرية البريطانية ورئيسها الجنرال رِنتِن بمغادرة العراق قبل أشهر من الحرب، فيما لعب رئيس أركان الجيش العراقي الفريق صالح صائب الجبوري أعظم الأدوار وأبرزها بين الزعماء العرب في تقريب وجهات النظر وتقدير المواقف مقارنةً بأقرانه من القادة العسكريين العرب الآخرين.

الفريق أول الركن صالح صائب الجبوري- رئيس أركان الجيش العراقي في حرب فلسطين 1948

وكذلك أوعز في أواخر نيسان/أبريل- 1948 بتحريك القوة الآلية من الجيش العراقي، وهي بمستوى لواء مؤلّف من فوج مشاة آلي وكتيبة مدرعات تسندهما كتيبة مدفعية، خلال 48 ساعة بقيادة الزعيم (العميد) طاهر الزُبَيدي لتحتشد في ضواحي مدينة المفرق الأردنية على بعد 80 كلم من نهر الأردن، فتغدو أول تشكيل عربي عسكري نظامي يغادر أرض وطنه، ليمهّد لاستقبال تشكيلات عراقية أخرى.

الزعيم (العميد) طاهر محمد الزبيدي- آمر القوة الآلية؛ أول تشكيل عربي بمستوى لواء يغادر أرض وطنه لخوض الحرب ضد الصهاينة في فلسطين.

التشكيلات العراقية تتلاحق إلى الحرب:

وقد أوضح لي العم عمر علي أن جحفل لواء المشاة/1- الفرقة/1 وآمره العقيد الركن عباس علي غالب وتحت إمرته جحفل الفوج/1-اللواء المشاة/15 من الفرقة ذاتها، قد تحرك من معسكر المُسَيَّب، في حين استُحدِث مقر خط مواصلات تحت

العقيد الركن عباس علي غالب آمر جحفل لواء المشاة/1- الفرقة/1… وهو ثاني ألوية الجيش العراقي التي تعاقبت في الوصول إلى الأرض الأردنية قُبَيلَ اندلاع حرب فلسطين.

إدارة الزعيم (العميد) الركن عادل أمين خاكي لتأمين الجوانب الإدارية والتموينية للقوات العراقية المتنقلة، إلى جانب تأسيس قيادة ميدانية بمستوى مقر فرقة، أُنيطت مسؤوليتها بشخص اللواء الركن نور الدين محمود قائد الفرقة/1، فيما تم إقناع اللواء الركن إسماعيل صفوت للعمل بصفة رئيس لأركان تلك القيادة.

أمير اللواء الركن نور الدين محمود قائد الفرقة/1 للجيش العراقي، الذي أُنيط به قيادة القوات العربية المشاركة في حرب فلسطين 1948

وقد أُلحِقَ باللواء الركن نور الدين العديد من وحدات المخابرة والمدفعية والدفاع الجوي والتموين والنقل والتصليح والطبابة، ووُضِعَ سرب من طائرات القوة الجوية في مطار المَفرَق تحت تصرّفه، قبل أن يُتّفَق على إناطة مسؤولية قيادة جميع عمليات القوات العربية النظامية وغير النظامية به، وارتبط شخصيًا بالملك عبد الله بن الحسين بصفته القائد الأعلى للجيوش العربية، حيث كان من الـمُفتَرَض أن تُباشر القوات المتحشدة عملياتها التعرضية بتوقيت واحد مع فجر 15/5/1948 مستهدفةً مدنًا وبقاعًا احتلّها الصهاينة في فلسطين.

واقع حال الصهاينة:

وهنا قاطعت عمر باشا بسؤال لم أستطع إرجاءَه قائلًا: هل تحركت كل هذه القوات العراقية والعربية لأجل القضاء على مجرّد مجموعة عصابات صهيونية؟! فردّ عليّ هائجًا: أية عصابات يا ولدي؟ هذه تسميات يردِّدها الإعلام العربي المخادِع للشعوب باستخفافه المُعتاد باليهود وإسرائيل وكل خصومهم، فواقع الحال كان نقيض ذلك؛ فمنذ العشرينيات باشر الصهاينة تأسيس فصائل مسلّحة عديدة تحت مسمّيات مختلفة؛ أشبه بجيش نظامي في أرض فلسطين المحتلّة، وذلك بالإفادة من مهاجِرين يهود سبق أن قاتلوا بصفة ضباط وجنود محترفين أو مجندين وسط جيوش أوروبية شرقية وغربية وأمريكية خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وطوّروا إمكاناتهم وأداءهم بانضمام الآلاف من الضباط والجنود الذين خبروا قتالات شرسة وبأفتك الأسلحة في معارك الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، بل إن إسرائيل بادرت فور نشوئها عام 1947 إلى تحويل تلك العصابات إلى جيش شبه نظامي تحت قيادة واحدة وصارمة، وكان يضمّ سبعة جحافل ألوية متكاملة تمتاز بسرعة الحركة تحت إمرة رئيس الأركان الجنرال يعقوب دوري الذي أشرف على تجهيزه سراعًا بالهاونات والرشاشات وأسلحة مقاومة الدبابات والطائرات والمعدات الحديثة، قبل أن تتدفّق عليه عشرات الدبابات والمدرعات والمدافع، وحتى الطائرات المقاتلة والقاصفة والنقل بدون مقابل مادي، ومن أفضل ما استثمرته بريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفيتي من سلاح متطور خلال تلك الحرب العظمى،

الجنرال يعقوب دوري رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في حرب 1948

بل وأصروا على تحويل قواتهم من قوات مشاة تسير على أقدامها إلى جيش آليّ ذي قابلية حركة ميدانية عالية، ناهيك عن استيلائهم على – أو تسلمهم – معسكرات جاهزة ومطارات متكاملة تركتها بريطانيا سائبة في أرض فلسطين، فأمسى الجيش الإسرائيلي ذا قدرات وإمكانات عالية.

أما منظماتهم الإرهابية المسلّحة التي انضمّ إلى صفوفها حتى النساء القادرات على حمل السلاح، فقد أُنيطت بها مهمات حماية الأمن الداخلي والمباني والدوائر وسط المدن والبلدات وإنشاء مواقع محصّنة بالكونكريت المسلّح، شكّلت خطوطًا متعاقبة لدرء الأخطار عن مستوطناتهم، فيما تحوّل عدد من تلك المنظمات إلى أشبه ما تكون بقوات خاصة تُغِير على الفلسطينيين مرارًا وبشراسة، فتُرغمهم على هجر منازلهم وقراهم.

وقد عملت رئاسة أركانهم على اتباع أسلوب “المُبادأة” بعمليات تعرّضية ابتغاء نقل المعركة إلى أرض العرب وعدم انتظار هجماتهم المفترضة على اليهود في البقاع المستولى عليها، وقد نجحوا في ذلك كثيرًا فور اندلاع الحرب وخلالها، فلا تصدّق الأقاويل – يا صبحي – عن أنهم كانوا مجرد عصابات!

واقع حال جيوش العرب:

أما جيوش العرب، فقد كانت ضئيلة العَدَد قليلة العُدَد؛ بخل عليها الزعماء السياسيون لرداءة اقتصاد دولهم. وقد قَدَّرَ رؤساء أركان الجيوش العربية – وأبرزهم رئيس أركان الجيش العراقي الفريق الركن صالح صائب – قبل أسابيع من موعد ترك البريطانيين لفلسطين سائِبة، أنه ينبغي حشد ما لا يقل عن خمس فرق نظامية؛ كي تتفوق على العدو بالعَدَد، فتكون قادرة على اقتحام فلسطين بعملية مشتركة ومُنسّقة وسريعة وتحت قيادة مُوحَّدة تنطلق من جميع المحاور المتاحة وبواقع 270 درجة، لتحقيق الغاية المُرتَجاة بأسرع وقت ممكن، وقبل أن يتدخل العالم لصالح اليهود.

 ولكن الزعماء السياسيين العرب بمجموعهم – عدا العراق – لم يوافقوا على حشد ما يزيد على فرقتين قبل 15/5/1948، على أمل مُضاعفة العدد تباعًا حسب تطورات المواقف.

الخطة العامة للهجوم العربي:

لم أطلع – وما زال الحديث للعم عمر علي – على الخطة العامة للهجوم العربي في حينها؛ لأني كنت ما زلتُ بمنصب آمر فوج منفتح في شمالي الوطن، ولكني علمتُ بها فيما بعد، وملخّصها:

  • الملك عبد الله بن الحسين هو القائد العام (الفخري) للقوات العربية.
  • القائد العراقي اللواء الركن نور الدين محمود وكيل عن القائد العام في وضع الخطط وتوجيه جميع القوات العربية مع فجر يوم 15/5/1948، وقد التحق تحت إمرته ضابط ارتباط من كل جيش عربي مشارك للتنسيق مع قياداتهم.

واستهدفت المرحلة الأولى من الحرب تشتيت المستوطنات اليهودية، وحرمانهم من التعاون فيما بينهم؛ تمهيدًا للمرحلة اللاحقة لبلوغ ميناءَي حيفا وتل آبيب، باتباع ما يأتي:

  • القوات اللبنانية المؤلفة من فوج واحد: يتبع محور ساحل البحر الأبيض من بلدة رأس الناقورة نزولًا نحو ميناء عكا.
  • القوات السورية المكونة من لواء مشاة واحد: يندفع على محورين من مرتفعات الجولان باتجاه مدينتَي صَفَد والناصرة.
  • القوات العراقية التي تضم حوالي فرقة: تجتاز نهر الأردن من قاطع مدينة إربِد مستهدِفةً قلعة كِيشَر – كوكب الهوى – مرتفعات العَفولة، التي عُدَّت الجبهة الأهم والأقرب لبلوغ سواحل البحر الأبيض.
  • الجزء الأصغر من الجيش الأردني بمستوى فوج مشاة: يتعاون مع القوات العراقية لدى عبورها نهر الأردن نحو بلدتَي بيسان- العَفولة.
  • الجزء الأكبر من الجيش الأردني بعدد من أفواج المشاة: يتوجه من مدينة جنين مستهدفًا مدينة العفولة ليلتقي فيها القوات العراقية.
  • القوات المصرية بواقع لواء مشاة: يتحرك على محورَي غزة- عسقَلان، وبئر السبع- مدينة الخليل.
خريطة العمليات الميدانية المخطط لها التي كانت القوات العربية تطمح في تنفيذها مع حلول يوم 15/5/1948.

هل طُبِّقَت الخطة؟

ولكن عدم تطابق الرؤى السياسية ومن بعدها العسكرية، جعل نسبة تطبيق هذه الخطة المرسومة على الورق لا تتعدّى 10%، للأسباب الآتية:

  • قبل كل شيء كانت القوات اليهودية قد بادرت بشن هجمات هنا وهناك، واستولت تباعًا على معسكرات وأسلحة تَعمّد البريطانيون تركَها سائبة منذ أواخر 1947 وأوائل 1948، ناهيك عن إزعاج القوات الأردنية المتمركزة حوالي المدن الفلسطينية، فقرر رئيس أركان الجيش الأردني (الجنرال الإنكليزي كلوب باشا) سحب الوحدات الأردنية منها، ما أتاح للصهاينة فرصة ثمينة للاستحواذ على المزيد من المواقع ذات الأهمية، وتجاوز بقاع كثيرة من حدود الجزء العربي من فلسطين المقسّمة، ومن ضمنها أحياء عربية وسط مدينة القدس.
الجنرال (الفريق) البريطاني جون باكوت كلوب باشا رئيس أركان الجيش الأردني خلال حرب فلسطين 1948

  • وفوق كل ذلك كانت المنظمات اليهودية المسلّحة تتمركز في بقاع عديدة حالما يُفرِغُها البريطانيون، ويُنشِئون تحصينات على جانبَي الطرق العامة المتشابكة، ويزرعون متفجرات لفلق الجسور والقناطر ابتغاء تأخير القوات العربية التي تهدد – إعلاميًا – باسترداد كامل فلسطين من أيديهم.
  • وحسب الخطة المفترَضة للعمليات المشتركة، لم تستطع القوة اللبنانية اجتياز بلدة الناقورة نحو الجنوب تحت ذريعة شدة المقاومة اليهودية، فيما تقدمت القوات العربية الأخرى مجتازة الحدود الفلسطينية بدون تنسيق ولا التزام بقرار القيادة العسكرية الموحدة، فيما لم يندفع الجيش الأردني باتجاه مدينة بيسان ولم يتقدم نحو جنين -العفولة كما كان متفقًا عليه، ولم ينفّذ كلوب باشا اتفاق إعادة وحداته إلى مدينة القدس!
  • أما وحدات القوة الآلية من الجيش العراقي بقيادة الزعيم (العميد) طاهر الزبيدي، وهي المنفِّذة الأبرز للخطة العامة، فقد اجتازت نهر الأردن فجر يوم 15/5/1948 إلى غربِيّه، وسارت نحو قلعة كيشر بإسناد مدفعي وجوي، وتبعها في العبور مساءً فوج واحد من اللواء/1 الذي هاجم في اليوم التالي (16/5) تلك القلعة برغم إخفاقه في اقتحامها، في حين عبر جحفل الفوج/1 من اللواء/15 صبيحة يوم 17/5 نحو مرتفعات تطلّ على كوكب الهوى استعدادًا لتعرّض وشيك مُدَبَّر لاستردادها.
لحظة دخول مدرعات من كتيبة خالد- القوة الآلية العراقية أرض فلسطين صبيحة يوم 15/5/1948…. (من أرشيف اللواء الركن علاء الدين حسين مكي خماس).

إحدى مدرعات كتيبة خالد بن الوليد التي هاجمت قلعة كيشر – بقيادة العميد طارق فهمي سعيد – خلال المشاركة بحرب فلسطين 1948. (من أرشيف اللواء الركن علاء الدين حسين مكي خماس)

  • وفي هذا الشأن العراقي الذي يشتمل العديد من المواقف الميدانية المتلاحقة، ولا تسعفني ذاكرتي باستردادها، فقد تلمستُ بعد مرابطتي في ساحة الحرب ضآلة التَرَوّي في تحريك الوحدات وتبديل محاورها، وتكليفها بواجبات متغايرة ومتعاكسة، وإعادتها إلى الخلف ثم دفعها سراعًا إلى الأمام، وتغيير الخطط بشكل آني، والعديد من أمثال هذه التصرفات التي أثَّرَت سلبًا على ثقة آمري الوحدات بالقيادات العليا.
  • وفي حين كانت الدول العظمى الواضحة تحاول فرض هُدنة وشيكة على الطرفَين المتحاربين لإفادة الجانب اليهودي المتضرِّر بعض الشيء، وفي حين كانت القوات العراقية تحضر لهجوم واسع على كوكب الهوى، فقد طلب اللواء الركن نور الدين محمود من مدير الحركات العسكرية بوزارة الدفاع الزعيم (العميد) الركن حسين مكي خماس الإسراع بتحريك جحفل لواء آخر ليَنضَمَّ إلى سابقيه، فقد تقرّر
الزعيم (العميد) الركن حسين مكي خماس – مدير الحركات العسكرية بوزارة الدفاع، الذي تحمّل الكثير في حرب فلسطين 1948 (من أرشيف نجله اللواء الركن علاء الدين)

 تغيير محور الاندفاع الرئيس للقوات العراقية من مواقع انتشارها الراهنة في تلك البقاع، لتكون وجهتها نحو مدينة نابلس بدلًا من كوكب الهوى!

        وباختصار شديد، أقول: إن الحابِل اختلط بالنابل في الجبهة الأردنية، في حين لم يتقدّم اللواء السوري من جبهة الجولان مترًا واحدًا، فيما دفع المصريون لواءَهُم الوحيد نحو بلدة الفالوجة بين مدينتَي الخليل وغزّة، حيث ستطوقهم القوات الصهيونية بحِصار طال كثيرًا، ويطول الحديث عنه أكثر.

        وكانت الأحداث بعد الهدنة الأولى أنكى ممّا سبقها، وتتطلّب تغطيتها كتُبًا وليس مجرد كلام ساعات!

آخر الكلام:

أنـا: كل هذه المعلومات – يا عمّ عمر – لم أسمع بها من قبلُ، والآن غدوتُ تواقًا لبيان حركة فوجك الجبلي من شماليّ العراق إلى فلسطين، والذي يبدو أن دوره قد أتى.

عمر باشا: نعم، ولكني أمسيت أشعر بتعب شديد، ولم أعُد قادرًا على مواصلة الحديث، فقد اقترب منتصف الليل، وأنت – ما شاء الله عليك – ليس لديك مانع أن تسهر حتى الصباح! لذا فلنُرجِئ الحديث عن حركة الفوج ومعركة جنين إلى لقاء قادم بعد أيام، وليكن موعدنا – كما اليوم – بعد صلاة التراويح.

“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2021

(*) الجنرال يعقوب دوري: ضابط روسيّ الأصل، ولد في عام 1899 في مدينة أوديسّا، وعمل خلال الحرب العالمية الأولى في كتيبة يهود روسيا، وهاجر إلى فلسطين في أوائل العشرينيات، وكان من أوائل مؤسسي منظمة “ال-هاغانا”. وتولى قيادتها في الفترة (1939- 1947) ولغاية تنصيبه أول رئيس لأركان الجيش الإسرائيلي عند تقسيم فلسطين عام  1947 وحتى أواخر سنة 1948. يُنظَر الرابط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى