الاصداراتالدراسات الاستراتيجيةترجمات

في عام 1968 تمّ إنقاذ رمسيس الثاني من الغرق

عندما قرّر الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر بناء سدٍ كبيرٍ في أسوان، يبتلع معبدين قديمين تحت بحيرته الصناعية، تمكنّت التحركات الدولية وقتها من الحفاظ على تلك المعالم الأثريّة، حيث تم نقلها من مكانها في عمليةٍ لم يحصل لها مثيل.

في 22 أيلول/سبتمبر وتحت شمس أسوان الحارقة؛ أعلن المدير العام لليونسكو الدبلوماسي الفرنسي رينيه ماهيو نهاية بناء معبدي أبو سمبل في موقعهما الجديد، كان عملًا هائلًا لا يختلف عمّا قام به الفراعنة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، تكمن عظمته ليس فقط في عمليات النقل الدقيقة للآثار، بل أيضًا أنّه أسّس لمفهوم حماية التراث الثقافي العالمي من العبث حتى أيامنا هذه.

يعود القرار بإنشاء شركةٍ تتولى بناء السد العالي في أسوان إلى عام 1955، كان هذا المشروع يُشكّل تحديًا للرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي قام، بعد رفض واشنطن، بالتوجه إلى الاتحاد السوفييتي لتمويل بناء السد. كان مشروع سدّ أسوان بداية تحالفٍ مصري مع أقوى منافسي الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

بالطبع للسدٌ أهميةٌ حيويةٌ تأتي من انتاجه للطاقة الكهرومائية وتطوير الزراعة في بلدٍ تُشكّل الصحارى حوالي 90% من مساحته الإجمالية، وله أهميةٌ كذلك في تنظيم جريان نهر النيل، وأيضًا لكونه من أكبر السدود في العالم.

بناء السدّ يحتاج إلى إنشاء بحيرةٍ اصطناعيةٍ مساحتها 5000 مترٍ مربع (بحيرة ناصر). لكن أين سيتم إنشاؤها؟ على مساحةٍ من الكنوز التاريخية التي لا يمكن حصرها، بما في ذلك معابد (أبو سمبل وفيلة) التي ستقضي غرقًا.

بمبادرةٍ من علماء مصريين بارزين ومن اليونسكو المنظمة الدولية الشابة، انطلقت حملة الإنقاذ الدولية لمنع إغراق الآثار بمياه البحيرة.

تذكر الوثائق أنّه “في ذلك الوقت اعتقد العديد من الناس أنه علينا الاختيار بين الثقافة والتنمية، وبين مواسم الحصاد المزدهرة والحفاظ على آثار الماضي، إلا أنّ منظمة اليونسكو قالت أنّه يمكننا الحصول على كليهما”.

تمّ حشد الدعم الدولي السياسي والعلمي والتقني للتحرك لنقل آثار النوبة، بما في ذلك أبو سمبل الضخم، أربعة تماثيل تُعدّ الأضخم في الموقع، محفورةٌ على الصخر وترتفع إلى أكثر من عشرين مترًا وهي (بتاح وآمون ورع ورمسيس الثاني) وأصغرها الآلهة حتحور التي تُجسدها نفرتيتي أقرب زوجات رمسيس إلى قلبه.

التحدي الأكبر في التاريخ هو نقل آثارٍ عملاقةٍ على بُعد مئات الأمتار وعلى ارتفاعٍ يفوق ارتفاع موقعها الأصلي ب 65 مترًا إلى الضفة اليسرى لبحيرة ناصر.

سيتم تقسيم المعابد المنحوتة في الصخر بأسلاكٍ حلزونيةٍ إلى أكثر من ألف كتلةٍ حجرية، وبعدها تُنقل كل قطعة على حِدة، كل واحدةٍ منها تزنُ من 20 إلى 30 طنًا باستخدام رافعاتٍ وشاحناتٍ عملاقة. ثم بعد ذلك يُعاد تجميعها كأحجيةٍ عملاقةٍ في موقعها الجديد.

بالنتيجة فإنّ إعادة إنشاء المعبد من جديد يُحرّك في الأذهان التساؤل عن المعجزة التي بنى عن طريقها الفراعنة هذه الصروح.

في 20 تشرين الأول/أكتوبر و20 شباط/فبراير من كل سنة ترتفع الشمس في الأفق وتخترق داخل المعبد لتنير وجوه ثلاثةٍ من التماثيل الأربعة العملاقة، وحده تمثال بتاح حارس الظلام يبقى في الظل، هذا الحدث ينمّ عن عبقرية فرعونية إعجازية. عند نقل المعابد تمّ إجراء العمليات الحسابية لتستمرّ هذه الظاهرة.

بدأ العمل الدولي عام 1964 مع مئاتٍ من الخبراء وعلماء الآثار والمهندسين والعمال والإداريين من جميع الجنسيات. تمّ إنجاز القسم الأكبر والأهم من العمل خلال ثلاث سنوات، وتمّ نقل المعبد تمامًا عام 1968، خلال هذه الفترة استمرت أعمال السد العالي في أسوان الذي افتتح عام 1971.

كلّف العمل وقتها 40 مليون دولار(ما يُعادل 300 مليون دولار حاليًا). يحتفل المصريون بهذا الإنجاز اليوم، خاصةً وأنه أصبح الموقع الأكثر زيارةً في البلاد رغم قلّة عدد السياح الذين يزورون مصر في السنوات الأخيرة.

قبل كلّ ذلك يمكن القول أنّ إنقاذ الآثار يشكّل نقطة انطلاقٍ تاريخيةٍ لصون التراث الثقافي، ثمّ أنّ هذه العملية كانت الأساس في الدفع لاتفاقية اليونسكو في حماية المواقع الأثرية، أيضًا تمّ تسجيل الموقع في مقدمة قائمة اليونسكو للمواقع الأثرية، والتي توسعت لاحقًا لتصل إلى ألف موقعٍ حول العالم تمّ إدراجها في قائمة التراث العالمي الطبيعي.

بعد الانتقال الهائل للكنز الفرعوني برزت المشكلة، اهتمت اليونسكو بالناحية التراثية للعملية حصرًا، لكن الأضرار التي وقعت على البشر وقتها لم ينظر إليها أحد لا اليونسكو ولا السلطة الحاكمة في مصر آنذاك.

اضطر أكثر من 50 ألف نسمةٍ من سكان  النوبة إلى النزوح بسبب بحيرة ناصر بامتدادها الشاسع، تخلّى السكان عن منازلهم وأراضيهم وتخلّى الكل عنهم ولم يؤخذ مستقبلهم بعين الاعتبار.

مع كل الأعمال التي أُجريت لم تسلم كل الآثار، فقد غرقت العديد من الأوابد تحت البحيرة لأنها لم تلفت النظر مثل أبو سمبل.

الجدل الذي أُثير لاحقًا حول عمليات نقل المعابد عن مكان تشييد السد لا يُقاس مقارنةً مع بناء سدّ أسوان نفسه، وخاصةً من حيث النتائج البيئية التي بدأت تظهر اليوم.

في حالة أسوان فالسدّ يمنع الفيضان بالتأكيد ولكن يمنع أيضًا مرور الوحل الذي يترسب في أعماق البحيرة ولا يلعب دوره في التصفية، الأمر الذي يسمح للمياه المالحة بالدخول إلى الأتربة. تعويضًا عن هذا الضرر يتم استخدام الأسمدة الكيميائية للحفاظ على إنتاجية التربة، مما يجعل الإنتاج الزراعي المصري أكثر استنزافًا، ناهيك عن التلوث الذي تسببه الصناعات التي استقرت حول السد.

لم يتم الاستفادة من الدروس البيئية والتراثية الناجمة عن بناء سدّ أسوان حتى في أيامنا هذه، فقد تمّ مؤخرًا بناء سدّين ضخمين آخرين على النيل جنوبي مصر ممّا أثار جدلًا واسعًا أيضًا.

وكذلك أدى بناء سدّ مروي في السودان بين عامي 2004 و 2009 وهو ثاني أكبر سد كهرومائي بعد سدّ أسوان إلى نزوح حوالي 70 ألفِ شخص.

بالنسبة إلى سدّ النهضة الجديد في إثيوبيا الذي يوشك أن ينتهي العمل به فقد نتج عنه مشكلاتٍ جيوسياسيةٍ وإقليميةٍ بالغة الخطورة. وكذلك فإنّ هذا السد ينهي صدارة سدّ أسوان كأكبر سدّ في أفريقيا إذ يفوقه حجمًا وإنتاجًا بثلاث مرات.

أثار بناء سدّ النهضة توتراتٍ سياسيةٍ كبيرةٍ جدًا مع مصر التي تخشى انخفاض منسوب نهر النيل في الأراضي المصرية.

قبل توقيع الاتفاق بين مصر والسودان وإثيوبيا عام 2015 حول مشروع سدّ النهضة، كانت مصر تتحدث عن عواقب اقتصادية لمشروع سدّ النهضة، وكذلك أعربت القاهرة عن قلقها من التهديدات التي يشكلها السدّ على التراث الثقافي والطبيعي.

أشارت دارسةٌ قام بها عالم آثارٍ مصري إلى مخاطرَ قد تتعرض لها المواقع المدرجة على قائمةِ اليونسكو للتراث العالمي في حوض النيل وبدون نتيجة.

أخيرًا، عملية نقلٍ إنقاذيةٍ لتراثٍ ثقافيٍ بشري كتلك التي حصلت لمعابد منطقة أسوان لا يمكن أن تحصل مرةً أخرى.

هالة قضماني؛ ليبيراسيون 21 أيلول/سبتمبر 2018

رابط المادة الأصلي:
https://www.liberation.fr/planete/2018/09/21/en-egypte-ramses-ii-sauve-des-eaux_1680384

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية © 2018

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى