الاصداراتمشاهد

آليات توسيع النفوذ الاستراتيجي لموسكو شرق سورية

تسعى روسيا إلى تثبيت موطئ قدم لها في شرق سورية من خلال الاتفاق الذي أبرمته مع تركيا، والتي قامت بعملية نبع السلام لاستهداف قوات سوريا الديمقراطية. وعززت موسكو عن طريق هذا الاتفاق مصالحها وأمنها شرق سورية، واكتسب دورها زخمًا أكبر كدولة فاعلة في الملف السوري، ما جعل اعتقادًا يسود أن دخول موسكو إلى شرق الفرات سيعزز من استراتيجيتها للبقاء طويل الأمد في سوريا.

في حين استطاعت موسكو عبر اللعب على المتناقضات من فرض سياسة جديدة على حلفائها الدوليين وأهمهم إيران التي ترى أن عملية نبع السلام إلى جانب الاتفاق الروسي التركي قد يحدّ من نفوذها مستقبلًا في منطقة شرق سورية التي تعد نقطة اتصال وطريق وصل للميليشيات الطائفية التي تدعمها انطلاقًا من العراق مرورًا بسورية وصولًا إلى لبنان.

فيما كانت المتغيرات الجديدة التي طرأت على مسار الأحداث في شرق الفرات مثيرة للتساؤل فيما يخص آليات حماية مصالح روسيا، خصوصًا بعد عودة الولايات المتحدة بعدد محدود من القوات لحماية منابع النفط، وتأثير ذلك على تطلعات موسكو الاقتصادية في الاستفادة من منابع النفط السورية انطلاقًا من جنوب وجنوب شرق نهر الفرات في البادية السورية وصولًا لأقصى الشمال الشرقي في منطقة المالكية الذي يحوي أهم آبار النفط والغاز.

ولم تقتصر المتغيرات السابقة على سباق المصالح الاقتصادية، بل كان إعلان إسرائيل وقوفها إلى جانب الأكراد ودعمهم في وجه عملية نبع السلام، من أبرز التطورات التي قد تستثمرها موسكو لتوسيع مسارات استراتيجيتها في سورية عبر بناء شبكة مصالح إسرائيلية-روسية تتيح للأخيرة مسارات أخرى جديدة لدعم حاجزها الجيو-أمني في سورية ومدّه إلى خارج حدود الدولة نحو المحيط الإقليمي بما يحمي أمن إسرائيل أيضًا.

 التحرك نحو تعزيز المصالح الاستراتيجية الروسية

لم يكن القرار السيادي الروسي بالتدخل في القضية السورية عسكريًا عام 2015 رد فعل على سياسات معينة، بل كان قرارًا استراتيجيًا يؤمِّن لروسيا موطئ قدم في سورية التي ستكون بوابة الانطلاق نحو تعزيز مصالح روسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا([1]). ولم تخفِ موسكو رغبتها بالدخول بفاعلية تجاه شرق الفرات عندما كانت القوات الأمريكية تنتشر وحاضرة في تلك المنطقة لمواجهة تنظيم الدولة داعش ودعم قوات سوريا الديمقراطية كشريك قتالي على الأرض للعمليات الجوية التي يشنها التحالف الدولي بقيادة أمريكا، مما حد من تأثير روسيا في تلك المنطقة وأصبحت قوات نظام الحكم في سوريا ومن يساندها مسيطرة فقط على جيبين إداريين معزولين في مدينتي الحسكة والقامشلي بالإضافة إلى ممر ضيق من القامشلي باتجاه معبر نصيبين الحدودي مع تركيا([2]).

لكن مع تقليص عدد القوات الأمريكية وانسحابها من مناطق في شرق سورية، توجهت موسكو نحو ملء الفراغ العسكري الحاصل في تلك المنطقة واستثمرت العلاقات الدبلوماسية مع تركيا والمواقف الدولية المتعددة الرافضة لعملية نبع السلام وأهمها الاتحاد الأوروبي، للوصول إلى اتفاق يقلل من حجم المخاوف التركية حول حماية أمنها القومي من جهة ويقوي موقف روسيا وحلفائها في الشرق من جهة أخرى([3]).

فكان هذا التوجه بالنسبة للأخيرة انتقالًا نحو دخول دائرة التأثير المباشر على مسار الأحداث في شرق الفرات بعد الانسحاب الأمريكي وإنهاك نفوذ تنظيم الدولة داعش وتحصيل مصالح بعيدة الأمد. ومن أجل تنفيذها ألقت موسكو ثقلًا سياسيًا وعسكريًا في منطقة شرق الفرات وتمكنت من تحقيق عدة أهداف استراتيجية أبرزها ما يأتي:

  1. دعم العلاقة الروسية مع قوات سوريا الديمقراطية وتقديم مبادرة ثقة تقوم على حماية قوات سوريا الديمقراطية من أهداف عملية نبع السلام والدخول في مواجهة مفتوحة مع تركيا وشركائها على الأرض من فصائل معارضة سورية، بالتالي فإن موسكو يظهر أنها تريد كسب قسد كحليف إلى جانب قوات نظام الحكم في سورية بعد فقدان ثقة الأولى بالولايات المتحدة الأمريكية واعتبارها أنها تخلت عنها أمام الضغوط التركية، وعليه فإن مصير قوات سوريا الديمقراطية بات مرتبطًا بالتوجهات الروسية التي قد تُفضي إلى فرض تسوية بين نظام الحكم في سورية وقسد تؤدي إلى احتواء الأخيرة في صفوف قوات النظام([4]).
  2. امتلاك أوراق ضغط على إيران، عبر الاقتراب من منطقة العمليات الإيرانية في سورية والعراق، أي الحاجز الأمني الإيراني الممتد من العراق وحتى لبنان، وهو ما سيتيح لموسكو تقويض المصالح الإيرانية في سورية إذا ما استدعت الحاجة لذلك، بالإضافة إلى رفع إمكانية السيطرة على سلوك الميليشيات الطائفية شرق سورية إذا ما توجهت لإحداث فوضى تتعارض مع مصالح روسيا أو حتى إيران.
  3. إكمال رسم المثلث العملياتي الاستراتيجي الروسي الذي أصبح يبدأ من شرق الفرات وجنوب الأناضول ويتجه نحو وسط سورية في البادية وصولًا إلى الساحل السوري. وهو ما يفسر توجه روسيا نحو ضمان بقاء طويل الأمد لها في شرق سوريا، حيث قامت بنقل أجزاء من منظومة صواريخ دفاع جوي إلى القامشلي، وتسعى إلى استئجار مطار القامشلي لجعله قاعدة عسكرية لمدة 49 عامًا([5]).
  4. إنشاء قاعدة سياسية صلبة تفتح لموسكو مزيدًا من المسارات السياسية لتحقيق مصالحها في سوريا، وقد تتجه إلى تعزيز المباحثات مع إسرائيل بعد إعلان الأخيرة عن موقفها الداعم للأكراد([6]) من أجل ضمان المصالح الإسرائيلية في سورية وتعزيز حماية أمنها القومي خصوصًا في الجولان مقابل دعم تل أبيب رغبة روسيا توسيع نفوذ قاعدتها البحرية في حميميم ليصل إلى السواحل اللبنانية، أي أن روسيا ستكون بذلك قد زادت من امتيازاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية في حوض المتوسط ما يكسبها بالتالي أوراق ضغط على الاتحاد الأوروبي.
  5. امتلاك زمام المبادرة في تحقيق الرؤية الروسية بما يتعلق بالحل السياسي، حيث إن انتشار قوات النظام قرب الحدود التركية والسيطرة على أراض جديدة يكسبها قوة على طاولة المفاوضات حول تشكيل اللجنة الدستورية وهو ما يضعف موقف المعارضة أكثر ويتيح لنظام الحكم فرض رؤيته لشكل الدولة القادم بما يتوافق مع توجهات روسيا.
  6. ترتيب الخارطة العسكرية للسيطرة في سورية وتحديد مناطق النفوذ بما يحقق عزل جيوب فصائل المعارضة عن بعضها البعض، فبعد التأثير الروسي في عملية نبع السلام أصبحت مناطق سيطرة المعارضة في منطقتي “غصن الزيتون” و”درع الفرات” في شمال السورية الممتدة من عفرين وحتى جرابلس لا تتصل جغرافيًا بمناطق سيطرتها في منطقة “نبع السلام” الممتدة ما بين رأس العين وتل أبيض، عدا عن انفصال نفوذ المعارضة في إدلب ومحيطها عن بقية المناطق، ما يعني أن عملية عزل الجيوب العسكرية للمعارضة تسهل أمام موسكو شن أي هجمات عسكرية للسيطرة عليها.

خريطة النفوذ العسكري شمال سوريا

المصدر: نورس للدراسات

 

  1. السيطرة على مفاصل اقتصادية وهي منابع النفط والغاز، حيث باتت تسيطر قوات نظام الحكم في سورية بموجب الاتفاق الذي رعته روسيا على منابع وحقول للطاقة في الرقة والحسكة، وقد أوضح أحد مسؤولي حقول النفط التابعة للنظام أن العمل على إعادة إعمار حقول “الثورة” في محافظة الرقة شمال شرقي سوريا، التي كانت تنتج 6 آلاف برميل نفط يوميًا، بالإضافة إلى حقل وادي عبيد قرب الذي كان ينتج 6 آلاف برميل، كما أنه يتم تأهيل حقول أخرى واقعة في المثلث بين محافظات الرقة شمال شرقي سوريا ومحافظتي حماة وحمص وسط سوريا”([7]). لكن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول منع روسيا من الاستيلاء على منابع النفط الهامة في منطقة المالكية لذلك قامت بتسيير دوريات لحمايتها واعتبار عائداتها تمويلًا ذاتيًا لقوات سوريا الديمقراطية([8]).

بالتالي فإن الفاعلية الروسية في شرق الفرات قد تمكنت من فرض واقع سياسي جديد على بقية الدول المؤثرة في القضية السورية، وتتجه الأنظار حاليًا لمصير منطقة إدلب بعد ترتيب الخارطة العسكرية للنفوذ والسيطرة ويسود اعتقاد أن روسيا تقوم بالتمهيد لعملية عسكرية محدودة للضغط على المعارضة في منطقة إدلب وما حولها تمهيدًا لفرض تسوية سياسية تتزامن مع مباحثات اللجنة الدستورية، أي أن روسيا من المحتمل أن تقوم بالعمل على مسارين مزدوجين عسكري وسياسي بآن معًا لإحداث ضغط أكبر على المعارضة السياسية والعسكرية وفرض رؤيتها بما يتوافق مع مصالحها في سورية.

([1]) “التدخل الروسي في سوريا.. يخدم من؟”. الجزيرة نت، 30-9-2015. https://bit.ly/2XlAb0E

([2]) “المُحدِّدات الرُّوسية في ترتيبات شرق الفرات”. برق للسياسيات، 30-10-2019. https://bit.ly/2NWcV6v

([3]) “Full text of Turkey, Russia agreement on northeast Syria”. Aljazeera. 22-10-2019. https://bit.ly/359VTr1

([4]) “موسكو تتوسط بين دمشق وأنقرة حول المنطقة الحدودية”. الشرق الأوسط، 3-10-2019. https://bit.ly/2KuuS9Y

     “روسيا تسعى إلى جمع النظام و”قسد” على طاولة الحوار”. عنب بلدي، 9-10-2019. https://bit.ly/37bU92o

([5]) “روسيا تنقل منظومة دفاع جوي من حميميم إلى القامشلي”. عربي 21. 14-11-2019. https://bit.ly/35kNnWz

     “توجه روسي لإقامة «قاعدة عسكرية جديدة» في القامشلي”. الشرق الأوسط، 12-11-2019. https://bit.ly/2XopgmW

([6]) “نتنياهو يعرض مساعدة أكراد سوريا ووسائل إعلام إسرائيلية تتساءل عن “خيانة” ترامب لهم”. الجزيرة نت، 11-10-2019. https://bit.ly/37i2ZMi

([7]) “حكومة النظام تقول إنها بدأت بإعادة إعمار حقل نفط “الثورة “في الرقة”. عنب بلدي، 20-10-2019. https://bit.ly/2XopdHy

([8]) “الجيش الأمريكي يسّير دورية جديدة في منطقة المالكية شمال الحسكة”. سمارت، 10-11-2019. https://bit.ly/2Okrsrt

     “حقول النفط التي أعلنت أمريكا البقاء بسوريا لـ”حراستها” (خريطة)”. عربي 21. 28-10-2019. https://bit.ly/2KpJIi3

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى