الاصداراتمتفرقات 1

الانسحاب الروسي

85142

في خطوة مفاجئة أصدر الرئيس الروسي قراراً يقضي بانسحاب القسم الأكبر من قواته التي تدخلت في سوريا أواخر شهر سبتمبر أيلول الماضي -وقد كان الحديث وقتها أن هذه القوات ستظل في سوريا من (12-18) شهراً لتنفيذ مهامِّها -وقد جاء في هذا القرار أن القوات الروسية قد أنهت تنفيذ مهامها. ووجَّه بوتين وزير خارجيته إلى وجوب تكثيف الدور الروسي في العملية السياسية لإنهاء الصراع في سوريا. وقال المتحدث باسم الكرملن: إن الرئيس بوتين أبلغ الأسد بهذا الانسحاب هاتفياً، وتم الإعلان أن القواعد الروسية في اللاذقية وطرطوس ستعود إلى العمل مثلما كانت قبل التدخل الروسي. وتمنى بوتين أن تساهم هذه الخطوة في دفع المسيرة التفاوضية في جنيف.

أسباب وتوقيت هذا القرار

تعددت الطروحات والرؤى حول أسباب هذا القرار وتوقيته، ومن الواضح أنه لم يكن توقيتاً اعتباطياً، حيث صادف انتهاء السنة الخامسة للثورة السورية وبدء محادثات في جنيف بين النظام والمعارضة. لقد أدركت موسكو –كما يبدو- أن الأسد ونظامه لن يتمكنوا من القضاء على ثورة الشعب السوري عسكرياً وأن هذا النظام غير جاد في السير بعملية تفاوضية، وأن الأسد يحاول جر موسكو إلى حرب طويلة في سوريا إلى حين سيطرة هذا النظام على ما يريد. حسب تصريحات الأسد مع غيرها من التصريحات التي صدرت من بشار الجعفري أو وليد المعلم والتي أظهرت عدم الجدية في التفاوض من أجل الوصول مبدئياً إلى مرحلة حكومة انتقالية. كما أظهرت تلك التصريحات أن كل ما يريده النظام هو المراوغة مع بعض الإصلاحات الشكلية فقط.

من الأسباب المهمة لهذا القرار –كما يبدو- إدراك موسكو أن تركيا والسعودية جادتان بشأن التحرك العملي بشكل ما ضد نظام بشار الأسد، حيث لا يمكنها أن تقبل باستمرار التطورات الحالية في سوريا على حالها بما يهدد أمنها الداخلي.

بالإضافة إلى ذلك فإن روسيا معنية بالتعاون مع السعودية بما يضمن لها تحديد أسعار أفضل للنفط من أجل رفد الخزينة الروسية بمزيد من الأموال التي هي بأشد الحاجة إليها.

عدا عن ذلك فإن تخفيف حدة التوتر في سوريا يساعد على التقارب مع الولايات المتحدة وحلفائها حول رفع أو تخفيف العقوبات الاقتصادية عليها. في ظل إدراك موسكو أن التفرغ للملف الأوكراني الأقرب هو الأجدى بعد أن أثبتت نفسها كقوة عالمية في الشرق الأوسط لا يمكن تجاوز مصالحها. وتجنبت -كما يظهر-الدخول بمستنقع يشابه المستنقع الأفغاني سابقاً.

إسقاط طائرة حربية للنظام السوري بصاروخ (أرض-جو) قرأه البعض على اعتباره بداية جديدة وتغيير قادم في موازين القوى، فموسكو لا تريد أن ترى طائراتها الحربية مستهدفة بما يهز مكانتها العالمية ويحد من سيطرتها الكاملة على الجو. من ناحيته يرى بوتين خروجه بهذه الطريقة المفاجئة للجميع انتصاراً. حيث أن القوات الروسية تغادر سوريا والنظام السوري بحال أفضل بكثير مما كان عليه قبل أن تتدخل هذه القوات.

رغم أن الإعلان الأساسي للتدخل الروسي جاء تحت لافتة محاربة داعش، إلا أن معظم القصف الروسي توجه صوب المعارضة السورية. وقد أرادت روسيا من حملتها تلك القضاء على هذه المعارضة ليبقى النظام السوري وداعش، لتضع السوريين والمنطقة والعالم أمام اختيارين إما النظام السوري وإما داعش من أجل الحفاظ على مصالحها الخاصة في المنطقة بأقل ثمن.

المستفيدون من قرار الانسحاب الروسي

تعتبر روسيا نفسها مستفيدة من هذا القرار بشكل كبير حيث تجنبت الانجرار إلى وحل صراع معقد ومتشعب يصعب الخروج منه.  ويمكننا القول: أن فصائل الورة السورية هي أكبر المستفيدين من هذا القرار كون التدخل الروسي في حقيقته جاء لاستهدافها بشكل مباشر. وتوقف هذا الاستهداف المباشر الكثيف لها سيخفف شيئاً من المعاناة التي ترتبت على هذا الاستهداف ويعطيها الفرصة لتلتقط أنفاسها وتستعيد المبادرة من جديد في المناطق المختلفة.

 أما على الصعيد التركي فقد اعتبرت أنقرة التدخل الروسي في الأزمة السورية تعدياً – بشكل ما – على أمنها القومي، حيث منعها هذا التدخل من إقامة منطقة آمنة على الحدود التركية السورية لإيواء الفارين من جحيم الحرب في سوريا، وكان بإمكان تركيا من خلال إقامة هذه المنطقة تقليل أعداد اللاجئين السوريين الفارين إليها، والذي كلفها عالياً على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأمني. عدا عن كون هذا التدخل  قد انصب بشكل أساسي على دعم أكراد سوريا بالذات حزب الاتحاد الديمقراطي الذي خدمه القصف الروسي في محاولة لتطهير المناطق الحدودية من المعارضة السورية والاستيلاء عليها من هذا الحزب. مما يشكل خطر مباشراً على أمن تركيا، لا سيما لعلاقة هذا الحزب بالحزب العمالي الكردستاني التركي الذي يخوص صراعاً مع أنقرة.

المتضررون من قرار الانسحاب الروسي

النظام السوري هو الخاسر الأكبر من هذا القرار، حيث راهن على استمرار التدخل الروسي إلى حين سيطرة الأسد على كامل التراب السوري كما أشار. وبوجود القوة الروسية يتجنب الدخول في مفاوضات حقيقة مع المعارضة السورية تفضي إلى مرحلة حكم انتقالي وتغيير جذري فيما بعد لبنية هذا النظام. ولكن هذا القرار المفاجئ أربك كل حسابات النظام السوري ومناصريه.

 وعلى الرغم من إبقاء روسيا على جزء من قواتها في قواعدها في سوريا خصوصاً منظومة صواريخ (إس 400) واستمرارها بشكل ما بضرباتها الجوية، إلا أن هذا القرار سيضع النظام السوري في وضع عسكري مختلف على المدى المنظور، وهو رسالة -كما يبدو- من القيادة الروسية إلى النظام السوري بوجوب الوصول لتسوية ما مع المعارضة، والتخلي عن أوهام السيطرة الكاملة وسحق المعارضة.

أما إيران وميليشياتها التي كدستها في سوريا فقد اعتبر كثير من المحللين أن روسيا وإيران لهم رؤى متطابقة حول الأزمة السورية إلا أن الواقع حمل بعض المؤشرات على وجود بعض المتناقضات بين طهران وموسكو، كان أوضحها تصريح (روحاني) بوجود بعض الاختلافات بينهم وبين موسكو. ومن هذه التناقضات على المستوى العملي اعتقاد إيران بوجوب بقاء الأسد في سدة الحكم دون أي تغيير حقيقي في بنية النظام السوري على عكس الرؤية الروسية التي لا تتشبث بالأسد وترى بضرورة وصول كل من المعارضة والأسد إلى تسوية حتى لو أحدث ذلك تغييراً ما في بنية النظام السوري الحالية، طالما تم تأمين مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية في سوريا.

عدا عن ذلك تتخوف طهران من دعم موسكو للأكراد في سوريا. ويعود هذا الخوف الإيراني من أنها لا تريد للأكراد أن يكونوا أقوياء لدرجة تمكنهم من الخروج عن سيطرة النظام مستقبلاً ولا سيما إذا تم تطبيق النظام الفيدرالي الذي تدعمه وتروج له روسيا، وربما تنتقل حالة المطالبات الكردية بالفيدرالية لإيران ذاتها التي يوجد فيها عدة ملايين من الأكراد. كذلك فإن إقامة فيدرالية في سوريا وقيام إقليم سني محاذي للعراق حليفة إيران، سيمنع التواصل الجغرافي لحلفاء إيران وصولاً إلى الساحل حيث الإقليم العلوي الذي يتم الترويج له الآن، هذا الإقليم السني أيضا في حال قيامه سيمنع التواصل الجغرافي بين إيران والعراق من جهة، ولبنان حيث يوجد حزب الله اللبناني من جهة أخرى.

 حزب الاتحاد الديمقراطي بقيادة (صالح مسلم) والذي استفاد من القصف الروسي للسيطرة على كثير من الأراضي على الحدود مع تركيا، كما حضَّر هذا الحزب نفسه لإعلان إقليم كردي في المناطق التي يسيطر عليها، وربما يتم إعلان اقليم فيدرالي من طرف هذا الحزب وحلفائه في غضون أيام مما سيشكل تهديداً لتركيا من جهة ولوحدة الأراضي السورية من جهة أخرى، لأنه إن تم إعلانه فسيكون بإرادة منفردة من قبل صالح مسلم، وعلى جزء من الأراضي لا يوجد فيها أغلبية كردية.

أما الرقم الأهم في والأكثر حساسية في معادلات المنطقة “إسرائيل” فإنها لم تخفِ تخوفاتها من الانسحاب الروسي الذي يبدو أنه قد فاجأها أيضاً، خصوصاً وأن “إسرائيل ” قد أعلنت مراراً أنها تنسق بشكل كامل مع الروس في سورياً بما يحفظ أمنها ويمنع وصول أسلحة متطورة إلى أعدائها في المنطقة، فخروج الروس بهذا الشكل سيربك الحسابات الإسرائيلية ويجبرها على التعاطي بشكل مختلف مع الوضع في سوريا.

أخيراً فإن حالة عدم الاستقرار التي تعيشها المنطقة وتوالي الأزمات وانفلاتها من عقالها يعيد في النهاية الكل إلى مربع الترقب وانعدام اليقين.  لا سيما ونحن أمام جولة جديدة من محادثات جنيف لوضع الأسس العملية لمرحلة الحكم الانتقالي في سوريا – كما يشاع-في حال أدرك النظام السوري أنه لا يستطيع الاستمرار في لعبة المراوغة. ومع ذلك ستظل المنطقة بحالة من التوجس والقلق، وقليل من التفاؤل نرجو أن يزداد عبر حصول الشعب السوري على حقوقه التي ناضل من أجلها وقدم فيها مئات الآلاف من الشهداء والجرحي والمنكوبين من أجل الحصول على حقِّه بالعيش بحرية.

لحميل الملف بصيغة PDF من هنا

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى