الاصداراتترجمات

إيران: المفاوضات “السمّ القاتل” مع واشنطن

في الوقت الذي يظهر فيه نظام طهران مهزومًا بالكامل بالمقاومة الشعبية الداخلية القوية وبالانتفاضات الشعبية المُتزايدة ضدّ تدخلاته في العراق ولبنان، يُهاجم المُرشد الأعلى علي خامنئي جهود الوساطة التي يبذلها الرئيس الفرنسي.

بمناسبة الذكرى الأربعين لاحتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران، والذي يحتفل فيه نظام الملالي في 3 تموز/يوليو من كلّ عام باعتباره “يوم الكفاح ضدّ الغطرسة العالمية”، بهذه المناسبة أدلى المُرشد الأعلى علي خامنئي بعدد من التصريحات حول الخطوط الرئيسية لسياسته وكذلك حول آخر المستجدّات.

توضيح الرفض:

بالإشارة إلى مطالب بعض مسؤولي النظام في إيران بالتمسّك بالاتفاقات الدوليّة لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب (التي تقتضيها مجموعة العمل المالي الحكومية الدولية/مجموعة العمل المالي) لتمهيد الطريق أمام استئناف المعاملات المالية بين إيران والعالم الخارجي.

أوضح المسؤول الأول في إيران أن: “الحظر الذي تمّ فرضه _وهو نفسه من فرضه_ على أي تفاوض مع الولايات المتحدة هو أحد الوسائل والأدوات اللازمة لمنع التدخل الأمريكي في شؤون [الدولة]”.

كما ادّعى خامنئي أنّ: “هذا الحظر لا ينمّ عن مشاعر عِداء ولكنها سياسةٌ حازمةٌ قائمة على المنطق السليم” وأضاف أن: “البعض في إيران يعتقد أنه لحل مشاكلنا علينا أن نتفاوض مع أمريكا، هؤلاء مخطئون مئة بالمائة”.

امتدادًا لذريعة خامنئي هذه يُشير المرشد الأعلى إلى محاولات الرئيس ماكرون للتوسط بين طهران وواشنطن “قال الرئيس الفرنسي: أنّه يكفي أن تجتمعوا مع المسؤولين الأمريكيين لحل كلّ مشاكلكم، إمّا أنه ساذج أو متواطئ مع الولايات المتحدة”.

نظامٌ كاملٌ وتاريخٌ استمرّ أربعين سنة:

خلال رحلته إلى نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر الماضي، أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن: “دونالد ترمب يقرّر بسرعة ولوحده، لديه منطق المعاملات وليس صعبٌ جدًّا إقناعه، وحسن روحاني بدوره يحتاج إلى المفاوضات لتسوية وضع نظامٍ كامل لديه تاريخ أربعين سنة”.

من خلال هذا التصريح للرئيس الفرنسي يركّز ماكرون بوضوح على ضرورة الانتباه إلى تغيير السياسات والأساليب والاضطرابات التي دامت أربعين عامًا تحت حكمٍ ثيوقراطي وحشي، والذي يمثّل اليوم سلوك القوّة الضعيفة والعنيفة للغاية.

 من هنا يُشير ماكرون إلى صعوبة تنظيم لقاء بين المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين لأنه أولًا يجب أن تتغيّر سياسات طهران، أو أن يتقبّل الأمريكيون سياسات نظامٍ الملالي.

 تُظهِرُ نظرةٌ موجزةٌ على “أربعين سنةٍ من التاريخ” أن الجمهورية الإسلامية، منذ بدايتها، كوّنت نظام حكمٍ فريدٍ من نوعه في العالم، فهو ديكتاتورية “دينية” ذات مظاهر ديمقراطيّة.

سعى النظام إلى بقاء سلطته ضد معارضةٍ داخليةٍ قويةٍ من خلال استخدام شعاراتٍ من قبيل “الموت لأمريكا” “الموت لإسرائيل”، مُعتبرًا هذين البلدين “كأعداءٍ” يعارضان الثورة الخمينية.

سمحَ الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران للنظام، بعد تسعة أشهرٍ فقط من سقوط النظام الملكي، بقمع المعارضين المحليين أو إزالتهم، ومعظمهم من القوى الديمقراطية والتقدمية التي تُطالب بالحريّات العامّة وبنظامٍ ديمقراطي.

ليس هذا فقط، بل سمح أيضًا بحشد الطبقات المحرومة وكارهي الأجانب والقوى الرجعية في إيران وفي أماكن أخرى في الشرق الأوسط ليُشكّل من هذه الطبقات مجموعاتٍ من الميلشيات الإجرامية التي تحمي النظام وثيوقراطيته.

تغييرٌ جذري في السياق الدولي:

إذا كان خامنئي قد وافق على إجراء محادثاتٍ سرية مع الولايات المتحدة أدت إلى التوصل إلى اتفاق 2015 بشأن البرنامج النووي الإيراني، فإن الظروف السياسية والسياق الإقليمي والدولي اليوم ليست كما كانت عليه قبل خمس سنوات.

إذ سيطرت وقتها سياسة “الرضا” على العلاقات بين الغرب ونظام طهران، واستمرّت هذه السياسة قرابة ثلاثة عقود، لكنّنا اليوم نشهدُ تغييرًا جوهريًّا، لأنّ سياسة الحزم نتجت عن إدراك عجز الجمهورية عن الإصلاح أو حتى تغيير سلوكيّاتها ولو إلى أدنى حد.

في نفس الإطار تهدف استراتيجية “أقصى ضغط” التي تبنتّها الولايات المتّحدة وحلفاؤها إلى إجبار نظام المرشد الأعلى على الحدّ من برنامجه النووي، وكذلك الكفّ عن تدخله في الدول العربية في المنطقة، إذ يشكّل هذا التدخل المصدر الرئيسي لوضعٍ فوضوي خطيرٍ للغاية بالنسبة لمستقبل الشعوب في هذا الجزء الحسّاس في العالم.

هذان الشرطان هما أيضًا المطلبان الواردان في خطّة الرئيس ماكرون لوقف التصعيد في الشرق الأوسط والتي تعارضهما طهران جملةً وتفصيلًا.

التعنّت الإيراني لم يأتِ عن فراغ، فالنظام يتشدّد في تنفيذ مطالب الغرب ليخفي عجزه الطبيعي عن الاستجابة للمتطلبات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المشروعة للسكان، وبالتالي لضمان بقائه كنظامٍ مرفوضٍ شعبيًّا.

تعتمد الثيوقراطية الإيرانية على دعامتين أساسيتين هما اللجوء المستمر إلى خلق أزماتٍ مختلفة مثل أخذ الرهائن والهجمات الإرهابية، وكذلك انتهاج سياسةٍ توسعيةٍ تُثير الحروب والخراب خارجيًّا وتنتهك حقوق الإنسان داخل البلاد.

على هذا الأساس فمن المؤكّد أنّ أي انهيارٍ لأيّ من هذه الأعمدة سيؤدّي بالضرورة إلى سقوط النظام المبني على السيادة المطلقة “للزعيم الديني الأعلى”.

مطالب لا نهاية لها ووحدات المقاومة:

في كلمته الأخيرة أكّد علي خامنئي صحّة هذا التحليل بكلماتٍ مبطّنة “الغربيّون لديهم مطالب جديدة من قبيل لا تنشط في المنطقة ولا تساعد محور المقاومة وأوقف وجودك في هذا البلد أو ذاك وارمِ برنامجك الصاروخي وهلمّ جرّا” ثمّ يتابع المرشد “يذهبون شيئًا فشيئًا إلى أبعد من ذلك بمطالب لا نهاية لها”.

بالتالي فإنّ مثل هذا التصريح يعبّر عن الخوف الحقيقي أن يضطر النظام أن يستجيب للمطالب الشعبية بعد 40 عامًا  من القمع، وهذا ما يعدّ نتيجةً حتميّةً يجبره فيما بعد أن يوقف تدخلاته في بلدان المنطقة والتراجع عن الاستمرار في برنامجه البالستي وهو ما يطالب به المجتمع الدولي طهران منذ سنوات.

من هنا تسعى إيران إلى التمسك بعدم تنفيذ هذين المطلبين لتحمي نفسها من السقوط، وهذا ما يفسّر المعضلة الكبيرة التي تواجهها سلطة الملالي.

يخاطر خامنئي إن قبِل بفتح مفاوضاتٍ مع واشنطن في الظروف الحاليّة وتحديدًا في ظلّ الاستياء الشعبي المتزايد، وكذلك في ظل تطوّر وحدات وخلايا المقاومة في كلّ مكان في إيران، لذلك فإنّ قبوله ببدء مفاوضاتٍ جديةٍ مع الأمريكيين لا يبدو مرجّحًا.

تجتذب هذه الوحدات، والتي اعترف بوجودها كبار قادة النظام بمن فيهم خامنئي، المزيد والمزيد من الشباب المحرومين والنساء الغاضبات والناقمات على دكتاتورية النظام الذي يتشدّد في كره النساء على مدى سنوات حكمه.

يُضاف إلى وحدات المقاومة هذه جيشٌ من العاطلين عن العمل ومن المواطنين الذين فقدوا أيّ وهمٍ بالإصلاح من الداخل باتجاه تغيير النظام بشكلٍ كامل.

على هذا فيوجد لدى وحدات المقاومة الداخلية اليوم فرصةٌ كبيرةٌ لتحقيق أهدافها، خاصّةً أن الأذرع الطويلة للزعيم الأعلى في العراق ولبنان في خطرٍ بالغٍ في أعقاب الانتفاضات الشعبية الجارية حالياً في تلك البلدان، والموجهة أيضاً ضد هيمنة نظام الملالي.

نادر نوري، دبلوماسي إيراني سابق مقيم في باريس، الأمين العام لمؤسسة دراسات الشرق الأوسط   FEMO

صحيفة لا تروبين 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2019

الرابط الأصلي من هنا

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات © 2019 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى