الاصداراتمقال رأي

دروس سريعة من محاولات الانقلاب الفاشل

inkilab

يمكن أن تُصنّف محاولة الانقلاب هذه على أنّها محاولة بدائية قديمة أكل الزّمان عليها وشرب، حيث تُمثّل تكراراً لما عانته دول مثل تركيا وسورية والعراق في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث أمكن اغتصاب السلطة وحلّ الأحزاب بمجرد الاستيلاء على أهمّ المقرات في العاصمة مع إذاعة بيان الانقلاب رقم 1، ليتمّ فرض حظر التجوال، ويستكين الشعب في ظل تعتيم إعلامي وجهل سياسي.

لكنّ المعادلة الدّاخلية أضحت مختلفة تماماً في تركيا، فبعد أن عرف الشعب بكافّة قطاعاته معنى السلطة المدنية المنتخبة التي يمكن أن تُحاسب على نجاحها أو فشلها، لم يعد من السهولة بمكان الانقلاب على الحياة السّياسية المبنية على الانتخابات وتداول السلطة، بعد أن رسّخت عقداً اجتماعياً سياسياً بين مؤسسات الدولة والشعب، خاصّة بعد أن جرّب الشعب انقلابات الجيش في تركيا والمنطقة، والتي كانت اغتصاباً للسلطة، ولم تجلب لمجتمعاتها سوى القهر والخراب.

النموذج التركي السياسي، أضحى أيقونة وبوصلة حقيقية لشعوب المنطقة، خاصة مع وجود العلاقات التاريخية لتركيا بشعوب المنطقة، والتقارب الثقافي معها، ودعم تركيا للقضايا العادلة، وعدم تورطها بدعم الدكتاتوريّات في المنطقة.

ولهذا، فلا عجب أن تبدو ملامح دعم الانقلاب في التصريحات الأولية للدول الغربية والولايات المتحدة في الساعات الأولى للانقلاب، رغم ادراكهم التام لطبيعة الحركة الانقلابية التي تهدف لاغتصاب السّلطة وإعادة الحكم بالبوط العسكري، لأنها نفس الحكومات التي دعمت ودبّرت الانقلابات العسكرية في معظم بلداننا العربية والشرق أوسطية، والتي حكمت الناس بالحديد والنار، وبالبسطار العسكري، بل هي نفس الحكومات التي استعمرت بلدان المنطقة واستعبدت شعوبها.

فرنسا، التي تعتبر موطن الثورة الفرنسية التي صدّرت قيم الديمقراطية للعالم، هي التي دعمت وبشكل وحشي جنرالات الجزائر في انقلابهم على خيار الشعب الجزائري في التسعينيات، بعد أن فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر بالانتخابات، بل لقد صرّح قادتها بأنّهم مُصرّون على اجهاض تجربة الحياة الدستورية والسياسية الجزائرية، ولو أدّى ذلك بهم إلى إعادة احتلال الجزائر والتّدخل المباشر فيها مرة أخرى، بعد أن استعمروها لسنوات طويلة، حتّى دفع الشعب الجزائري أكثر من مليون شهيد ثمناً لتحرره من الاحتلال الفرنسي.

أمّا الولايات المتحدة، فقد دعمت إلى جانب غيرها من الدول انقلابات حسني الزعيم في سورية وجمال عبد الناصر في مصر، واستمروا في ذلك حديثاً من خلال دعمهم لانقلاب السيسي الوحشي على الشرعية المنتخبة في مصر، ودعمهم للحكومة الطّائفية في العراق بعد أن دمروا العراق بحجّة نشر الديمقراطية.

فالديمقراطية التركية اليوم، هي تجربة جديدة مختلفة، منسجمة مع المبادئ والقيم الأخلاقية، وليست كالديمقراطيات الغربية المتناقضة التي تدعم خيار الشعوب في بلدانها، ولكنها تدعم الدكتاتوريات والطائفية في بلداننا، وهي لذلك أضحت منارة وأملاً لشعوب المنطقة، وهي لنفس السبب مستهدفة بشكل كبير من أعدائها ومنافسيها الغربيين، والذين بدا أنّهم يدعمون الانقلاب عليها للوهلة الأولى، ولكنّهم غيّروا تصريحاتهم بعد أن علموا أنّ فرصة لصوص السلطة (الانقلابيين) في النجاح معدومة.

من المهم أن نلاحظ أنّ حرية الشعوب تحرسها القوة أيضاً، فالشرطة والاستخبارات والأمن التركي، إضافة إلى معظم وحدات الجيش التركي كان لهم الدور الأكبر في إفشال الانقلاب، إضافة إلى الوعي الشعبي والسياسي الكبير، حيث نزلت الجماهير للساحات، فيما عبّرت معظم أحزاب المعارضة (بما في ذلك حزب الشعب الجمهوري العلماني الأتاتوركي العريق) عن وقوفها إلى جانب الشرعية المنتخبة في مشهد لافت منقطع النّظير في شرقنا الأوسطي. يظهر هذا تماسك فعاليات المجتمع عند الاتفاق على عقد سياسي اجتماعي لفترة طويلة، ويظهر هذا أهمية ايمان أجهزة ” الدولة العميقة” بخيارات الشعوب، حيث نجح حزب العدالة والتنمية عبر سنوات طويلة في اجراء تحولات حقيقية في معظم أجهزة الأمن والشرطة والقضاء باتجاه الولاء والانحياز لخيارات الشعوب، الأمر الذي لم يتوفر في التجربة المصرية أو الجزائرية، أو حتّى في التجارب التركية السابقة التي انقلب عليها الجيش التركي عدّة مرات.

لعلّ مبررات استهداف تركيا الآنفة الذكر يشير إلى وجود خيوط مؤامرة تشترك فيها أطراف خارجية إضافة إلى الأطراف الداخلية، ويعني ذلك إمكانية تكرارها لنفس الأهداف.

لعلّ من المهم التنويه هنا بأنّ المفهوم الفطري الشائع للديمقراطية عند شعوب المنطقة، والشعب التركي بشكل خاص، يتعلق بالحرية السياسية، حرية اختيار من يحكمهم، وهو يتوافق مع المبدأ الإسلامي الراشدي الأصيل الشهير (السلطان للأمة)، والذي يعني حقّ الناس في اختيار من يحكمهم، قبل أن تمتلأ كتب الفقه الإسلامي بأحكام “فقه التغلب” لقرون طويلة، والتي كتبت في ظل ” الملك العضوض” و”الحكم الجبري” الذي تحدثت عنهم الأحاديث الشريفة، ولا عجب هنا أن سمعناهم يحثون الناس على حراسة ” الديمقراطية” من على منابر المساجد، فهم يقصدون حريتهم السياسية، ولا مشاحة في المصطلحات وخاصّة عند شيوعها.

وإنّه لمن المؤسف أن تتقدم شعوب المنطقة على بعض نخبها في دعم هذا النموذج الراقي المبني على مبدأ إسلامي أصيل (السلطان للأمة)، فيما لا تزال بعض النخب الشرعية غارقة في تبرير فقه التغلب لفصائل صغيرة، يفترض أنّها خرجت من رحم ثورات تنشد نموذجاً مشابهاً في التنمية والحرية والعدالة.

انتصار تركيا اليوم، هو ليس انتصار الشعب التركي فحسب، بل هو انتصار كل شعوب المنطقة المظلومة، ولربّما ما نشهده من فشل لثورة مضادّة في تركيا، مع ما شهدناه من ربيع عربي وثورات مضادة في بلدان المنطقة الأخرى، مشابه لما حدث في أوربا من ثورات مضادة بعد الثورة الفرنسية، الفارق هنا، أنّه نموذج جديد للحرية والعدالة، يستهدف حقاً عدالة إنسانية عامة، وليس تفوقاً للرجل الأبيض، ليقوم باستعباد الشعوب الأخرى.

للتحميل من هنا

 
 

“الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات “

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى