الاصداراتترجمات

السودان، عمر البشير والسلاح والشريعة

بعد ثلاثين سنةً من توليه السلطة في البلاد، يواجه الرئيس السوداني عمر البشير غضبًا شعبيًا عارمًا، البشير الذي تتميز فترة حكمه بسجلٍ فظيعٍ من الحروب الأهلية التي لا تتوقف وبالفقر القاسي الذي سيطر على الشعب.

إذا كان هناك اسمٌ يجب أن يُعطى لهذه المرحلة المتأزمة من تاريخ السودان منذ 19 من كانون الأول/ديسمبر، سيكون الاسم عنوانًا لهذه الفترة (الديكتاتور الذي يلتف حوله الحبل).

بعد أسابيع قليلةٍ من بدء المظاهرات في جميع أنحاء السودان ضدّ ارتفاع سعر الخبز، تحدّثت منظمة العفو الدولية عن 37 قتيلًا خلال عمليات قمع الاحتجاجات. بعد هذه الأسابيع وهذا القمع يبدو أنّ الرئيس المشير هو الوحيد المقصود بكل غضب هذا الشعب المظلوم السلمي الذي يعاني كلّ أنواع الفاقة.

في ظلّ دعوات الاستقالة التي تنطلق من مناهضي البشير، يعتقد مؤيدو الرئيس أنّهم يسيرون بالطريق الصحيح عندما يدعون إلى مظاهراتٍ مضادةٍ في مدينة الخرطوم، إذ يدعو هؤلاء إلى تجمعاتٍ لدعم “الريّس” السوداني، الزعيم الرمز الحي لنظامٍ لا يليق بالسودانيين، القائد ذو السجل الجنائي الذي جاء بعمليةٍ انقلابيةٍ منذ ثلاثين عامًا.

في ذلك اليوم -يوم الانقلاب- في 30 حزيران/يونيو عام 1989، اقتحم جزءٌ من الجيش السوداني القصرَ الرئاسي في العاصمة الخرطوم، وتمّ إقصاء الصادق المهدي، رئيس الوزراء الذي تمّ انتخابه قبل ثلاث سنوات في حكومةٍ إئتلافيةٍ هشة.

تمّ خلع الصادق المهدي بدون إطلاق رصاصةٍ واحدة، وقتها كان اسم زعيم المجموعة الانقلابية التي تولّت هذه المهمة لا يزال غير معروف، لكن سرعان ما بدأت وكالات الأنباء في العالم تطرح اسم عقيدٍ غامضٍ، تمّ التأكيد فيما بعد أنّه عمر البشير.

مآثرُ وإنجازاتُ هذا المظلي السابق ليست معروفةً بشكلٍ جيد، فقط قيل أنّه ينحدر من عائلة فلاحين بسيطة ولد عام 1944، وقيل أيضًا أنّه شارك في حرب 1973 في صفوف الجيش المصري ضدّ إسرائيل في تشرين الأول/أكتوبر. العقيد الذي أنهى دراسته في نهاية الستينات من القرن الماضي من الأكاديمية العسكرية في القاهرة ربما تمّ إعداده مسبقًا ليكون رئيسًا مستقبليًا للبلاد.

المجلس العسكري يحلّ كلّ الأحزاب السياسيّة:

وصول هذا الجندي إلى السلطة بدون خلفيةٍ وتاريخٍ سابقٍ وبدون جهدٍ كبيرٍ ليس أبدًا نتيجة المصادفة، إذ بدت عليه في الوقت نفسه شخصيةٌ أخرى، هي شخصيةُ العسكري المرتبط بالدين الإسلامي.

كان زعيم جماعة الإخوان المسلمين السودانية آنذاك حسن الترابي في السلطة ضمن حكومة صادق المهدي الائتلافية، استغل منصبه في الحكومة – كان يشغل منصب وزير العدل ثمّ نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية في نفس الوقت- تحرك حسن الترابي رئيس الجبهة الإسلامية الوطنية -غير اسمها من جماعة الإخوان المسلمين في السودان إلى الجبهة الإسلامية الوطنية- تحرّك داخل الجيش لإيجاد الرجل المخلص والمرتبط به الذي سيساعده على إكمال مشروعه، كان يجب أن يكون عمر البشير ذلك الرجل المنشود عند الترابي، دون التفكير بنهم السلطة لدى العقيد الصغير الذي سيقوم فيما بعد بإبعاد حسن ترابي ذاته وبإيداعه سجون البلاد.

تمّ تأهيل نظام البشير بشكلٍ جيّدٍ، إذ بعد سنواتٍ قليلةٍ من توليه السلطة في البلاد قام المجلس العسكري بحلّ الأحزاب السياسية مع إيلاء اهتمامٍ خاص جدًّا للحزب الشيوعي السوداني(PCS) والذي يعدّ كذلك الأكثر أهميةً في أفريقيا كلها.

تمّ إثرَ قرار المجلس العسكري إلقاء القبض بشكلٍ منتظمٍ على النشطاء السياسيين وحتى على من يتعاطف معهم، وكذلك تمّ حظر النقابات العمّالية، وقامت سلطة البشير أيضًا بفرض الشريعة على البلاد.

أعلن عمر البشير نفسه رئيسًا للوزراء ثمّ رئيس القوات المسلحة ووزير الدفاع قبل أن يُصبح رسميًا رئيسًا لجمهورية السودان في 16 تشرين الأول/أكتوبر عام 1993.

عُرِفَ البشير باستضافته لأسامة بن لادن، إثر ذلك ما لبثت السودان بقائدها ودولتها التي كانت لا تزال وقتها أكبر بلدٍ في افريقيا، ما لبثت أن أصبح يُنظَر إليها وبسرعةٍ أنّها راعٍ للإرهاب الدولي، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية بوضع السودان على القائمة السوداء، منذ ذلك الوقت وتحديدًا منذ عام 1997 تأثرت السودان بشكلٍ مأساوي بالعقوبات الاقتصادية والتجارية التي فُرِضت عليها.

منذ ذلك الحين حرص الرئيس المشير على تعزيز سلطاته التي تمسّك بها بقوّةٍ عن طريق حزبه السياسي الخاص حزبُ المؤتمر الوطني، هذه القبضة أحكمها البشير باستراتيجيةٍ بسيطةٍ جدًّا هي استراتيجية الانقسام والحُكم.

لنْ يقوم البشير بأي شيءٍ لإنهاء الخلاف بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي الذي قبل بضع سنواتٍ من الانقلاب، وتحديدًا في عام 1983، تمرّد من خلال الحركة الشعبية لتحرير السودان SPLA (الحركة الشعبية أو الجيش الشعبي)، وهي حركة ماركسيّة يقودها جون قرنق.

هذا الخلاف ما لبث أن تحوّل إلى حربٍ أهليةٍ قاسيةٍ، الأمر الذي سمح للرئيس البشير أن يبرّر وجوده على رأس دولةٍ تعيش في حالة طوارئ دائمة.

لكن في مطلع الألفية الجديدة أجبرته الكلفة الباهضة لهذا النزاع بين الأشقاء على بدء مفاوضاتٍ مع الحركة الشعبية لتحرير السودان.

حيث تمّ في عام 2005 توقيع اتفاق سلامٍ شاملٍ ((CPA مع المتمردين الجنوبيين، كان القصد الرئيسي من نص الاتفاق هذا تعديل الأوراق السياسية للبلاد وإجراء انتخاباتٍ عامةٍ.

 كان يُفترض أن يكون أحد أهم المرشحين لهذه الانتخابات جون قرنق الذي توفي بعد بضعة أشهرٍ في حادث تحطم طائرةٍ مروحيّةٍ، هذه الحادثة أدّت إلى تغيير كل قواعد اللعبة، حيث تحولت خارطة الطريق (CPA) سلبيًا إلى العدّ التنازلي المؤلم.

في نهاية عام 2000 تمّت إعادة انتخاب البشير رئيسًا للسودان بدون أي معارضةٍ تُذكر، بعدها بسنتين أي في عام 2002 وافقت الحكومة السودانية على حق تقرير المصير للجنوب -في اتفاق مشاكوس- الذي أصبح فيما بعد جزءًا من اتفاقية السلام الشامل (CPA) عام 2005، حتى وصل الأمر إلى ذروته في 11 تموز/يوليو 2011 باستقلال الجنوب بعد استفتاءٍ أُجري لهذا الغرض.

رئيس الدولة تحت أمر اعتقالٍ دولي:

خسارة النظام الحاكم كانت كبيرة جدًّا، أكثر من 70% من عائدات التصدير في السودان تأتي من ضخّ جزء من النفط إلى الجنوب، ولكن أيٌّ من المناطق النائية لم ترَ طعم الحياة.

في عام 2000 حدثت في دارفور وفي مناطق كردفان والنيل الأزرق حركاتٌ مناهضةٌ جديدةٌ والتي تمّت تصفيتها هي أيضًا بالقوّة.

أصبح البشير أوّل رئيس دولةٍ يتولى منصبه بعد صدور مذكرة اعتقالٍ دوليةٍ بحقّه -صدر الأمر عن محكمة الجنايات الدولية عام 2009 و2010- كانت التهمة الموجهة للبشير ارتكاب جرائم حربٍ وجرائم ضدّ الإنسانية وكذلك جرائم إبادةٍ جماعيةٍ تمّ ارتكابها في دارفور.

يُضاف على لوحة الشرف للرئيس البشير أيضًا قمع سكان الشمال في احتجاجاتهم في كانون الأول/سبتمبر 2013، حيث اشتعلت أعمال شغبٍ بسبب الجوع في جميع أنحاء البلاد، وذلك بعد ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية.

سقط في هذه الاحتجاجات أكثر من 200 قتيلٍ وألف جريحٍ، وتمّ اعتقال حوالي 3000 شخص. الآن وبعد مرور خمس سنواتٍ كان الرد الشعبي عنيفًا ضدّ السلطة التي فيما يبدو وصلت إلى نهاية عهدها، وهذا ما سيحصل حتى النهاية.

ستيفان أوبوارد لصحيفة (لومانيتي) الفرنسية 8 كانون الثاني/يناير 2019

رابط المقال  الأصلي من هنا

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية © 2019

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى