الاصداراتالدراسات الاستراتيجيةتقدير موقف

أزمة فنزويلا

الدلالات والأبعاد المحتملة

ملخص

دخلت فنزويلا منعطفًا جديدًا على ضوء تصاعد أزمتها الداخلية السياسية التي وصلت أعلى درجاتها بعد إعلان رئيس الجمعية الوطنية خوان غوايدو في الثالث والعشرين يناير/كانون الثاني 2019  نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد، حيث فُسَّر إعلانه باعتباره محاولة انقلاب ناعم مدعوم أمريكيًا على الرئيس الاشتراكي نيكولا مادورو والذي نال ولاية ثانية لعام 2025 بعد فوزه بنسبة 69% بالانتخابات التي أجريت أواخر 2018. شكل صعود زعيم المعارضة انقسامًا حادًا على الصعيد المحلي والإقليمي وأدخل فنزويلًا من دائرة الصراع الدولي وسط تباين في المواقف الدولية، كما طرحت الأزمة تساؤلات عن الاتداعيات المحتملة على الواقع الداخلي الغارق بأزمات اقتصادية بعد تجاوز أسعار التضخم المليونين 13779 %إلى جانب تشظي مجتمعي حاد بعد ارتفاع نسبة الهجرة إلى 2.3 مليون إلى دول الجوار.

وعلى صعيد إقليمي أعادت فنزويلا حدة التنافس بين المعسكرين الشرقي والغربي وأفرزت نوعًا من الاصطفاف لدول أمريكا الجنوبية مع الزعماء الإقليمين المتنافسين على قسمة زعامة المنطقة في قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، ولا شك إن ما تمثله فنزويلا من موقع استراتيجي مهم بوصلها المشارف البحرية والبرية بين أمريكا الجنوبية والشمالية جعلها محل اهتمام دولي ونقطة تجاذب بين أمريكا التي تعتبرها ضمن مساحة حديقتها الخلفية، وبين موسكو التي ترى فيها آخر قلاعها في أمريكا اللاتينية.

تناقش هذه الورقة تقدير موقف للأزمة الفنزويلية في سياق أزماتها الداخلية السياسية والاقتصادية وقوة التأثير الخارجي عليها، والسيناريوهات المحتملة.

أزمات داخلية متصاعدة

تعصف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بكامل مفاصل الحياة في فنزويلا، منذ وصول مادورو إلى السلطة 2013 وبدلًا من اتباعه نهجًا جديدًا  يُرمم به حزمة الأخطاء التي وقع بها سلفه هوغو شافيز، لجأ إلى تطبيق براغماتية مطلقة بهدف تكريس دعائم سلطته على مقدرات البلاد، فواصل من حيث توقف هوغو ومارس سياسات اقتصادية غير صحيحة أغرقت البلاد بفساد مجتمعي ونزيف أخلاقي رفع من معدلات الجريمة وصنف فنزويلا في المرتبة التاسعة بالفساد حسب منظمة الشفافية الدولية[1].

وبالرغم من امتلاك فنزويلا أكبر مخزون احتياطي نفطي عالميًا بـ 300 مليون برميل إلا أن مشكلة انخفاض أسعار النفط في 2014 أدت وبشكل دراماتيكي إلى انهيار مدوي لإنتاج النفط وصل إلى 1.2 مليون برميل بعدما كان 3.5 مليون قبل عشر سنوات. كما شهد عصر مادورو تراجعًا ملحوظًا في قطاعات الحديد والذهب والغاز والألمنيوم، بسبب اعتماده على قطاع  النفط بنسبة 98بـ% كعائدات للبلاد فتراجع الإنتاج المحلي إلى 131 مليار دولار وارتفع معدل البطالة إلى 24 بـ% وبلغت نسبة الفقر 38ب%.

كما أدت ممارسات السلطة إلى قمع الحريات السياسية، لوحظ ذلك منذ عودة الاحتجاجات 2014وصولًا إلى فترة الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2018 حيث تقوم المؤسسة العسكرية بهذه المهام بناء على إمساكها بزمام الأمور في كامل مؤسسات الدولة وتحكُّمها بقطاع النفط والوزارات الرئيسية والامتيازات المالية. من هذا المنطلق كان موقفها  مساندًا لمادورو في الأزمة الراهنة لكنها بنفس الوقت تراقب عن بعد عوامل التأثير الخارجي الممارس عليها.

القبضة الأمنية الحاكمة في البلاد هي التي أوصلت مادورو إلى الحكم وساندته في الحصول على ولاية ثانية ما دفع آلاف الفنزويليين إلى النزول للشارع وتأييد حركة الانقلاب التي أقدم عليها غوايدو، لكن الموقف المتصلب في سياسة مادورو لا تشي بأنه يرغب بالتنازل للشعب كونه يعتبر نفسه أنه وصل للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع فالشرعية برأيه يستمدها من الشعب، وبذلك يعتمد نفس الأسلوب والسياسة التي استخدمها الرئيس  الراحل هوغو شافيز والذي حاول الوصول للسلطة بانقلاب عسكري 1992 وبعد فشل المحاولة الانقلابية ما لبث أن نجح من خلال صندوق الاقتراع 1998 ومن أجل تثبيت حكمه كان أول ما قام به أن شكل حكومة ظل بهدف احتكار السلطة واستعان بكوبا وإيران والنظام السوري وروسيا.

من هنا نرى بأن الواقع المتردي الماثل في فنزويلا ليس وليد الصدفة فهو امتداد لتسعينات القرن الماضي وزاد ترديًا في عهد مادورو الذي عزز علاقاته مع روسيا والصين وإيران بهدف إسناده، وقدم مقابل ذلك امتيازات اقتصادية تصدرتها الصين الدائن الأكبر لفنزويلا بـ 20 مليار دولار، وأصبحت موسكو المزود الأكبر لفنزويلا في مجال التسليح حيث بلغت قيمة الأسلحة المقدمة بالفترة ما بين 2005 و 2017 بما يقارب 11 مليار دولار، وبلغت قيمة استثماراتها النفطية بمعدل 6 مليار . وعلى الصعيد الإيراني حافظ مادورو على سير العلاقات  الممتدة  منذ 1999 حيث عززت خطوة تأسيس البنك الإيراني الفنزويلي في 2012 بهدف تمويل مشاريع التنمية في كلا البلدين متانة العلاقة بين إيران وفنزويلا[2].

تنافس إقليمي

أثار إعلان خوان غوايدو انقسامًا لم يقتصر على دول أمريكا الجنوبية بل وصل إلى تسارع أقطاب العالم للدول الإقليمية في تشكيلها اصطفافًا دوليًا يُشكل عامل ضغط  على الداخل الفنزويلي بغية إحداث تأثير على مسار الأحداث الداخلية وقد انقسمت الدول إلى فريقين فريق داعم للرئيس المؤقت خوان غوايدو بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب 12 دولة في أمريكا الجنوبية ودول أوروبا، وفريق آخر ممثلا بروسيا والصين وإيران وكوبا والأرجنتين. ولعل محاولة كل من أمريكا وروسيا استغلال معطيات الحدث الفنزويلي فتحت شهية الطرفين على مطامع قديمة بث فيها الحياة من جديد، فالولايات المتحدة ترمي باهتمام استراتيجي لكامل المنطقة اللاتينية وتعتبرها حديقتها الخلفية ومجالها الحيوي وخط دفاع أول عن مناطقها الداخلية واستطاعت عبر سنواتها السابقة من فرض هيمنتها على عدد من الدول ذات الأنظمة اليسارية الاشتراكية لكن موسكو والصين استطاعتا كسر جدار الحماية في أمريكا الجنوبية في الألفية الجديدة وأقدمت موسكو على التوغل اقتصاديًا بهدف جعل فنزويلا نقطة ارتكاز على اعتبار أنها آخر ما تبقى لها في أمريكا الجنوبية، لذا من غير المرجح أن تتنازل موسكو أمام واشنطن تماشيًا مع سياساتها في سورية بصورة مماثلة تمامًا. فسورية أيضًا هي المنفذ الوحيد لها في المياه الدافئة وتعمل اليوم على تعزيز وجودها بهيمنة شبه كاملة على كامل الأراضي السورية، كذلك تحركها في فنزويلا يدخل في سياق رد فعل طبيعي على تحرك أمريكا في دول البلطيق وجورجيا بهدف تضييق الخناق عليها وردعها بعيدًا عن مناطق التأثير.

استنادًا على المعطيات المذكورة فإن الأزمة الفنزويلية أظهرت مرة أخرى حجم التنافس والخلافات بين موسكو وواشنطن في ساحة صراع جديدة ميدانها أمريكا اللاتينية والتي تتمتع بثروات طبيعة هائلة وأهمية جيواستراتيجية، ومن جانب آخر كشفت الأزمة عن عوامل التأثير الهادفة لتعزيز التواجد والحضور، فأمريكا لا زالت تمارس سياسة الانقلابات الناعمة وما وقوفها مع رئيس مجلس النواب خوان غوايدو إلا انعكاس لغاية أمريكية في ترتيب الوضع من جديد وتحقيق نقاط قوة جديدة تعزز من موقفها العالمي أمام خصومها في أمريكا اللاتينية، كذلك  يبدو أن موسكو والصين لا يستهدفان الجانب الاقتصادي فقط تعزيز وجودهما في المنطقة، بل إن الحضور السياسي يمثل هدفًا  تكتيكيًا بعد حضور أمريكي جديد عن طريق حلف الناتو في أوروبا الشرقية، ونشرها منظومات صاروخية دفاعية في الحدود الروسية وعليه فإن المشهد الفنزويلي الحالي يُوحي بشكل أو بآخر بإحياء جذور الحرب الباردة حينها شكلت كوبا تهديدًا خطيرًا على الولايات المتحدة من خلال الدعم الذي تلقته من الاتحاد السوفيتي، وبظروف مشابهة وبناءً على الدوافع المذكورة فمن الطبيعي إذًا أن تدعم أمريكا انقلابًا على الرئيس مادورو المسنود بكل عوامل القوة من موسكو أمَّا الأخيرة فقد أبدت المزيد من الاستعدادات للتضييق على المعارضة الداخلية عبر تمكين عوامل القوة في مؤسسة الجيش فأرسلت المئات من المرتزقة إلى فنزويلا من خلال شركة فاغنر الروسية[3].

وبعد أن بدأت كل الأطراف بالتلميح بأوراق القوة التي لديها فقد بات من الصعب التنبؤ بمصير قريب لمستقبل فنزويلا لكن يمكن الاستشراف ببعض السيناريوهات.

السيناريوهات المحتملة.

مجمل الأحداث المتصاعدة ورغم وجود عوامل التأثير الخارجي فإن مستقبل فنزويلا مرهون على المدى القريب والمتوسط على تحرك الفواعل الداخليين من النظام والمعارضة ومدى تعاطيهم مع حزمة المبادرات الدولية لتسوية النزاع ومنع تحويله إلى أزمة إقليمية كبرى، وبما أن مؤسسة الجيش تمتلك جميع الامتيازات فيبدو أن موقفها هو من سيقرر مستقبل الصراع وما يعزز ذلك إفشالها محاولة الاحتجاجات السابقة وإعلانها اليوم مساندة مادورو من هنا نرى أن المعارضة تُحاول استمالة كبرى الشخصيات الرفيعة من خلال المفاوضات السرية التي تجريها إضافة إلى تركيز الفواعل الدوليين على التأثير على موقف الجيش بهدف تحقيق انقسامات عولت عليها الأمم المتحدة، واتضح ذلك من  خلال مطالبة واشنطن الجيش الوقوف في صف المعارضة[4] في المقابل تعمل موسكو على الحفاظ على نواة القوة الصلبة في الجيش بتقديم إسناد بري لها ومعنوي ولوجستي. وضوح الصورة جعل الإدارة الأمريكية تقول إن كل الخيارات مطروحة في الأزمة الفنزويلية بما فيها الخيار العسكري.

1_ التدخل العسكري

رغم أن واشنطن ألمحت إلى استخدام الخيار العسكري إلا أنه يبقى مستبعدًا من كل الأطراف فالتواجد الأمريكي الراهن والمنتشر في أكثر من منطقة قد لا يدفعها إلى تدخل عسكري مباشر  كما أن اندفاع موسكو ومن خلفها الصين في تشكيل جدار صلب أمام واشنطن قد يدفعها إلى التفكير مليًا في عدم الانزلاق في مستنقع آخر موازي لما يحدث في سورية، مع ذلك يبقى هذا الخيار ضمن قائمة الاحتمالات المطروحة وفي حال لجأت الولايات المتحدة إليه فتدخلها سيكون بتوفير ذرائع قد تتمثل كما بـــ:

_ الدفع  لاغتيال حليفها مادورو مما يوفر لها التدخل بذريعة تطبيق الديمقراطية والإطاحة بنظام تعتبره غير شرعي ومعادي لمبادئ الديمقراطية.

_ التدخل الوقائي والإنساني قد تلجأ الولايات المتحدة في خيار التدخل العسكري بالاستناد إلى مواثيق التدخل الوقائي والتي تبنته منذ 1992. أو إلى اعتبارات إنسانية ما يعني أنها قد تلجأ إلى المساهمة أكثر في تردي الوضع الإنساني ووصوله لمعادلة صفرية.

كما يشوب هذا الخيار صعوبة وعائق أمام الإدارة الأمريكية فمثل هذه الخطوة تتطلب دعمًا دوليًا وموافقة من قبل دول أمريكا الجنوبية  وقرار من مجلس الأمن وهو ما سيلقى معارضة حتمًا وفيتو من قبل روسيا والصين كما أن البرازيل وكولومبيا تعارض هذا الخيار.

على الطرف الآخر المعسكر الروسي أيضًا قد لا يرغب في الإقدام على هذا الخيار لأنه يضعها في مواجهة 12 دولة فميزان القوى هنا ليس في صالحها، لذا من المرجح ان تعتمد النهج البراغماتي تماشيًا مع نهجها في أوكرانيا.

2_ استنساخ نماذج سوريا اليمن أوكرانيا كوبا

مع استبعاد احتمال لجوء الأطراف للتدخل العسكري المباشر فإن إحدى النماذج المذكورة قد يُطبق في فنزويلا بدفع من الفواعل الدولية لها، ويرتبط ذلك بمدى تحكمها بمسار الأزمة الداخلي وإفشالها أي محاولة للتسويات أو المبادرات المطروحة من قبل الأطراف المحايدة كالمكسيك والأورغواي الداعمين للحوار الوطني بين جميع الأطراف الفاعلة في الأزمة.

خاتمة

لا يبدو أن الأزمة الفنزويلية قد يكتب لها النهاية في المدى القريب مع وجود دعم مفتوح وإسناد لطرفي الصراع، وقد يكون عامل الزمن الورقة الرابحة بأيدي الفاعلين الدوليين لاستغلال مجريات الأحداث للبناء عليها فمن خلال ما تم ذكره في الورقة  أعادت فنزويلا دائرة الصراع المضمرة وصدرتها في وجه اهتمامات الدول الإقليمية والتي ترغب في تمرير أجندات ورسم سياسات جديدة تناسب مصالحها في المنطقة، خصوصًا أن فنزويلا أصبحت مناسبة للصراع الدولي مع توفير الأدوات الظاهرة من خلال ارتفاع أزماتها الداخلية سواء على صعيد الاقتصاد أو موقعها الاستراتيجي، وبناءَ على الدوافع التي تم ذكرها للمعسكرين الرئيسين فمن المرجح أنهما سيقومان باستثمار الظروف الحالية وتوظيف الأزمة الداخلية بهدف الدفع أكثر للحضور ومن هنا يتطلب على الفواعل المحليين عدم الاستناد إلى الخارج والإسراع نحو تسوية داخلية لا تكون الأطراف الإقليمية طرفًا فيها فكل الأنظار تراقب سلوك المؤسسة العسكري والتي باستطاعتها حقن المئات من الدماء ووقف النزيف المجتمعي إذا ما استخدمت امتيازاتها في سبيل تحقيق الاستقرار وتلبية تطلعات الشعب.

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية © 2019

[1] https://bit.ly/2AHgabd

منظمة الشفافية الدولية، مؤشر مدركات الفساد ، شوهد بتاريخ – 4 فبراير/ شباط 2019م

[2] https://bit.ly/2GbnHTo

GObierno ، العلاقات بين إيران وفنزويلا في أعلى مستوياتها ، شوهد بتاريخ 4 فبراير/ شباط 2019

[3] https://bit.ly/2TxnY6j

تلفزيون سوريا، موسكو ترسل مرتزقة إلى فنزويلا لحماية مادورو، شوهد بتاريخ 4- فبراير/ شباط 2019م

[4] https://bit.ly/2WGPNer

سكاي نيوز، واشنطن تدعو الجيش في فنزويلا للانضمام إلى معسكر غوايدو، ن- بتاريخ 3- فبراير 2019 شوهد بـ 4 فبراير/ سباط 2019م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى