الاصداراتالدراسات الاستراتيجية

التقارب المصري التركي دلالات التوقيت والفوائد المشتركة

مقدمة:

شهد الربع الأخير من عام 2020 تغيّرات دراماتيكية على الساحة الدولية؛ خاصة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث بدأت بعض الدول تُعيد النظر في أولوياتها الخارجية؛ سعيًا إلى ضبطها بما يتناسب مع مصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي.

بالإضافة إلى ذلك حدثت تغيرات نسبيّة وبينيّة في طبيعة التحالفات السياسية التي استمرت طيلة السنوات العشر الماضية، لاسيما في منطقتي الخليج العربي والشرق الأوسط، ما أسهم في إظهار النزعة البراغماتية لعدّة دول بدأت تُعطي اهتمامًا أكبر لمصالحها الاستراتيجية والمُهددات التي تحيط بها.

وقد كان المحرّك لهذه التطورات هو التغيّر الذي حدث في الولايات المتحدة الأمريكية على مستوى إدارة البيت الأبيض مع وصول الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن لسدة الحكم، وإظهاره سياسات تبدو مختلفة عما كان في حقبة سلفه دونالد ترامب؛ فما إن ظهرت الملامح العامة لتوجّهات إدارة بايدن الخارجية، حتى تسارعت التفاعلات في المنطقة، فتمّت تسوية الأزمة الخليجية الثالثة في قمة العُلا في كانون الثاني/ يناير- 2021، وانتهى السجال حول الحسم العسكري في ليبيا بعد إنتاج تسوية سياسية بين فرقاء الأزمة، وتصاعد الحديث عن تهدئة في اليمن بالتوازي مع ظهور تفاعلات سياسية في ملفات أخرى في عموم المنطقة.

في ظل هذه التحولات ظهرت سيولة إيجابية في مسار العلاقات المصرية التركية، فخلال الشهرين الماضيين تبادل الطرفان رسائل دبلوماسية مُعلنة على مستويات متعدّدة، كشفت عن رغبتهما في إعادة التواصل الجزئي بعد قطيعة على المستوى السياسي منذ عام 2013؛ ففي آذار/ مارس- 2021 تحدّث مسؤولون أتراك عن وجود اتصالات على مستوى المخابرات بين القاهرة وأنقرة بخصوص ليبيا، وأعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عن بدء عودة الاتصالات الدبلوماسية بين بلاده ومصر بهدف عودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي دون شروط مسبقة[1]، وجاء تأكيد آخر على هذا من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بقوله: “تعاوننا الاقتصادي والدبلوماسي والاستخباري مع مصر متواصل”.[2]

وقد جاءت التصريحات التركية متماشية مع تطورات في موقف القاهرة التي أجرت على التوازي تعديلًا في سياستها الخارجية؛ بدأت تظهر نتائجه في بعض الملفات المشتركة مع تركيا على قاعدة الحياد الإيجابي والمصالح المشتركة، وهو الأمر الذي قرأته أنقرة بمساره الصحيح؛ خاصة بعد طرح القاهرة في 18 من شباط/ فبراير- 2021 أول مزايدة عالمية للتنقيب عن البترول والغاز الطبيعي في خليج السويس والصحراء الغربية وشرق المتوسط.[3] وعند التمعّن في هذه المزايدة، يبدو لنا أن مصر قد أخذت بعين الاعتبار الجُرف القاري التركي المنصوص عليه باتفاق جرى مع حكومة  الوفاق الوطني في ليبيا عام 2019.

واللافت للنظر هنا أنّ التحرك المصري لم يقتصر على الانسيابية الواضحة في المواقف غير المباشرة؛ بل أخذ طابعًا رسميًا عن طريق مؤسسات مصرية رسمية؛ منها الخارجية والمخابرات والإعلام؛ ففي 14 من آذار/ مارس- 2021 أعلن وزير الخارجية المصري سامح شكري أثناء اجتماعه مع لجنة العلاقات الخارجية المصرية “أنَّ مصر تحرص دائمًا على استمرار العلاقات بين الشعبين المصري والتركي، مضيفًا أنّ التواصل على المستوى السياسي مع تركيا ممكن إذا ما كان هناك تنسيق في المواقف والأفعال في بعض الملفات”.[4]

ومن خلال هذه المواقف التي عكست في إطارها العام رغبة متبادلة مصرية تركية في إعادة مبدئية للعلاقات، أثيرت تساؤلات عدّة عن أسباب ودوافع هذا التقارب ونوعيته، لا سيما أنّ الرسائل المتبادلة انتقلت مؤخرًا من المستوى الأمني إلى السياسي، بعد إعلان تركيا في 14 من نيسان/ أبريل- 2021 أنّ وفدًا تركيًا برئاسة نائب وزير الخارجية سيزور مصر بداية أيار/ مايو الحالي. يُضاف إلى ذلك إعلان حزب العدالة في 20 من نيسان/ أبريل تقديمه مقترحًا لرئاسة البرلمان بتشكيل مجموعة صداقة مع مصر وليبيا.[5] ما يطرح تساؤلًا آخر عن ماهية هذا التواصل؛ فهل هو عودة شاملة للعلاقات، أم تنسيق تكتيكي نفعي مشترك في بعض الملفات؟ وكيف سينعكس كل ذلك على الملفات المهمة في المنطقة؟

تُعالج الورقة هذه التساؤلات بهدف الإجابة عنها بنظرة موضوعية محايدة.

أولًا: توصيف حال العلاقات التركية المصرية:

مما يميز العلاقة بين مصر وتركيا، أنّها لم تشهد حالة يقين وثبات دائمين، واتخذت مسارات صاعدة وأخرى هابطة من مرحلة إلى أخرى، لا سيما في فترة الحرب الباردة التي شهدت توترًا بعد انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) مع التقارب المصري مع الاتحاد السوفيتي.[6]

وفي الحقبة الحالية شهدت العلاقات بين البلدين نهوضًا كبيرًا؛ خاصة في فترة الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي  لعب دورًا مهمًا في نزع فتيل الأزمة التي نشأت على خلفية دعم حافظ أسد لمنظمة “بي كا كا” الإرهابية. ثم شهدت العلاقات طفرة إيجابية أخرى خلال حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، لكنها في عام 2013 اتّجهت نحو الانحسار والقطيعة السياسية، حتى اقتصرت على مستوى القائم بالأعمال؛ بسبب التباين الذي حصل حول التطورات الداخلية التي حدثت في مصر، والتي آلت لصعود الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي لسدة الحكم.

ومع ذلك، وبرغم كل الأزمات تُرك الباب مفتوحًا من قبل الطرفين لاحتمال أي عودة مستقبليّة وبهدف الحفاظ على جسور الاتصال، وهو ما اتضح في استمرار التعامل الأمني والاقتصادي، حيث احتلت تركيا الترتيب الثالث والرابع من بين قائمة الدول المستوردة والمصدرة لمصر؛ إذ بلغ حجم التجارة بين البلدين 5 مليارات دولار أمريكي في الفترة ما بين 2018 و2020. وقد عكست هذه الأرقام مدى نجاعة جهود مؤسسات الدولتين في التأكيد على ضرورة استمرار التعامل البيني للدولتين دون إخضاعه لدائرة التأثير الخلافية التي بقيت محصورة في مستوى القيادة السياسية.[7]

بطبيعة الحال، وقبل الخوض في ديناميات التقارب بين الطرفين، نلفت الأنظار إلى نقاط الخلاف بينهما؛ وذلك لمعرفة الظروف التي حدث فيها التقارب مؤخرًا، ويمكن حصر نقاط الخلاف بين الطرفين في إطارها العام في الآتي:

  • الموقف التركي من وصول السيسي للحكم عام 2013 في مصر واحتضانها لقيادات معارضة، وما قابله من رفض وتصعيد سياسي مصري ضد هذا الموقف، أسهم في تأزّم العلاقة على المستوى السياسي.
  • طبيعة التحالفات المتناقضة التي دخل فيها الطرفان أسهمت في تعقيد العلاقة وإخراجها من دائرة الخلاف الثنائي إلى الجماعي، وتجلّى ذلك أكثر من خلال ظهور ما بات يُطلق عليه إعلاميًا “سياسة المحاور” في المنطقة.
  • التباعد في الرؤى والمواقف في ملف غاز شرق المتوسط؛ حيث عقد البلدان اتفاقات متناقضة انعكست سلبًا على مصالحهما المشتركة؛ فمصر أجرت ترسيم حدودها البحرية جزئيًا مع اليونان وقبرص، واشتركت في تأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط” مع أطراف خارجية آثرت استبعاد تركيا منه. وبالمقابل قامت تركيا بترسيم المنطقة الاقتصادية المشتركة لها مع ليبيا في 27 من تشرين الثاني/ نوفمبر- 2019.[8]
  • وقوفهما على النقيض في الأزمة الليبية بين شرق البلاد وغربها، مما كاد يفجّر مواجهة عسكرية عند خطوط التماس بين سرت والجُفرة، لولا عملية ضبط النفس والاحتواء الثنائية التي آلت إلى تعزيز الجهود وإنتاج تسوية سياسية في عام 2021.[9]
  • ظهور تناقض آخر بينهما في أزمة الخليج الثالثة (حصار دولة قطر) التي بدأت في 5 من حزيران/ يونيو- 2017، حيث كانت مصر أحد أطراف الحصار الأربعة، في حين كانت تركيا وما زالت أحد أهم الشركاء الاستراتيجيين لقطر.[10]

لكن مع انتهاء هذه الأزمة الأخيرة – إلى جانب ملفات أخرى كليبيا وظهور تهدئة نسبية في شرق المتوسط – يمكن القول: إنّ الخلافات بين الطرفين بدأت تذوب تدريجيًا، وهو ما يظهر من خلال مؤشرات التقارب الثنائية.

ثانيًاً: مؤشرات التقارب:

بعيدًا عمّا ترنو إلى استكشافه بعض وسائل الإعلام بالتعرف على من قام بالتنازل أولًا؛ مصر أم تركيا، فإنّ مؤشرات التقارب بين الطرفين تتعدّى الوقوف عند هذا الطرح؛ فانطلاقًا من الأهمية الاستراتيجية لكلا البلدين، وما يجمعهما من تاريخ وقيم ومبادئ وعلاقات وإرث حضاري، يمكن القول: إنّ مصر وتركيا بحاجة بعضهما لبعض، ولا يمكن لأيّ منهما أن يتجاوز الآخر مهما طال زمن الخلاف؛ فتركيا تُدرك أن مصر من أكبر الدول العربية، ولديها خصائص وموارد تؤهلها أن تكون قوة مركز – على حد تعبير أحمد دواد أوغلو في كتابه ” العمق الاستراتيجي”[11] – وتنظر لها تركيا على أنها بوابتها الأفريقية، كما أنّ وجودها على حدود فلسطين جعلها محل أنظار واهتمام الكثير من الدول التي لديها سجل طويل مع القضية الفلسطينية، وتركيا واحدة من هذه الدول.

وبالنسبة لمصر، فإنها تعي تمامًا أهمية تركيا؛ سواء من جهة موقعها الواصل بين آسيا وأوروبا، ووصولًا إلى الأهمية التجارية والاقتصادية، وكذلك دورها الفاعل في المنطقة الذي جعلها تشترك مع مصر في الكثير من الملفات والمخاطر والفرص.

وبناءّ عليه جاءت مؤشرات التقارب بينهما على شكل اندفاع ثنائي منطلق من وعي  تاريخي مشترك – على الأقل – بالمخاطر التي تَعتَرِض كليهما، وأهمها على الصعيد الإقليمي: مسائل غاز شرق المتوسط وليبيا؛ فمصر لم تستجب بشكل كامل للتكتّل الفرنسي اليوناني ضد تركيا في جزيرة كريت[12]، برغم وجود اتفاق ترسيم حدود بحريّ لها مع قبرص واليونان في 2003،  حيث تمكنت وزارة الدفاع المصرية من خلال إدارتها لهذا الملف من كبح مشاركتها في المواجهة الإقليمية ضد أنقرة، واتضح ذلك في عام 2020 عندما وقّعت مصر اتفاقًا بحريًا مع اليونان، فقد لاحظ الخبراء أنّه أخذ في الاعتبار تحفظات تركيا على الحدود البحرية والجزر؛ ويُضاف إلى ذلك أنّ مصر لم تنضم للمنتدى الرباعي الذي أعلنت عنه إسرائيل في 16 من نيسان/ أبريل- 2021، وجمع كلا من إسرائيل والإمارات واليونان وقبرص؛ بهدف تعزيز العلاقات بينها والاستفادة من ثروات شرق المتوسط.[13]

كذلك ظهرت في الملف الليبي مؤشرات عملية على تقارب في المواقف بين أنقرة والقاهرة؛ أحدها كان على المستوى الأمني والاستخباراتي، فمن خلال النظر إلى مقاربة القاهرة الجديدة في ليبيا – التي جاءت بعد فشل مشروع خليفة حفتر – اتخذت مصر عدّة خطوات، وأرسلت أكثر من مرة وفودًا دبلوماسية وأمنية إلى طرابلس وحكومتها؛ وأعلنت عن رغبتها في إعادة فتح سفارتها التي كانت مغلقة منذ 2014.[14]

ولعل تنبه القاهرة لأهمية أمنها القومي في حدودها الغربية المشتركة مع ليبيا، إلى جانب أهمية الحفاظ على مصالحها التجارية والاقتصادية معها، دفعها في نهاية المطاف لتبنّي استراتيجية جديدة بعيدًا عن حلفائها القدامى. كما أنّ دخول تركيا على خط الأزمة الليبية في عام 2019 غيّر موازين القوى فيها، وأعاد ضبطها من جديد، وهو ما قرأته القاهرة على أنه أمرٌ واقعٌ لا يمكن تجاهله.

لم تمر المواقف المصرية من دون اهتمام تركيا؛ فقد أبدت احترامها لجهود القاهرة، وأخذت بعين الاعتبار مخاوف أمنها القومي، ودورها الحيوي في تحقيق الاستقرار الليبي، وتُرجمت هذه المواقف بإبداء تركيا التزامها بوقف العمليات العسكرية عند خطوط التماس (سرت- الجفرة). وعندما دفعت الأمم المتحدة جهود التسوية السياسية مطلع 2021، كان لكل من مصر وتركيا دور رئيس في إنتاج التسوية، وبحسب مصادر خاصة لبرق حدث نوع من التنسيق بينهما بعيدًا عن متناول الإعلام في مجالات الأمن والاستخبارات، وكانت هذه الإجراءات مؤشرًا إيجابيًا غير مباشر على قرب عودة العلاقات.

وعلى الرغم من أهمية هذه التطورات، فإنّها تبقى غير ذات جدوى من دون النظر إلى الدوافع التي كانت سببًا في ظهور مؤشرات التقارب وتطوراتها التالية.

ثالثًا: دوافع التقارب:

1_ متغيرات دولية وإقليمية:

  • إدارة بايدن:

أدى وصول رئيس ديمقراطي لرئاسة البيت الأبيض؛ جو بايدن، إلى فرض تحدّيات مشتركة أمام مصر وتركيا اللتين غيّرتا من سياستهما التقليدية المُتّبعة في حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث وفّر لمصر دعمًا داخليًا في مسائل حقوق الإنسان، وإسنادًا ما في ملف سد النهضة. وبالمقابل نجحت تركيا في نزع ضوء أخضر للتحرك والتوسّع في بعض المناطق، منها: سورية (عملية نبع السلام شمال شرق سورية)، وليبيا (في طرابلس)، وجنوب القوقاز (ناغورنو كارباخ).[15]

لكن هذه السياسات طرأ عليها تعديل في عهد إدارة بايدن، التي من الواضح أنّها تسير في اتجاه معاكس للسياسة التي اتبعها ترامب، فالخطوط العريضة لسياسته في الشرق الأوسط تسير نحو إتمام صفقة مع إيران تطلق يدها لمزيدٍ من الفوضى في المنطقة، وتعيدها في الوقت نفسه إلى المشهد الدولي.

أدت هذه الإجراءات إلى نوع من الفتور في مسار العلاقات الأمريكية مع مصر وتركيا، وولّدت لديهما شعورًا بضرورة إعادة ترتيب وهندسة العلاقة الثنائية؛ لاحتواء أجندة الإدارة الأمريكية الجديدة بما يُجنّبهما الصدام معها.

وتمثلت الخيارات المتاحة لهما في التوجّه نحو أوروبا لتعزيز العلاقات وإحداث نوع من التهدئة المؤقتة في ملفات الاشتباك؛ فتركيا مثلًا: أجرت في كانون الثاني/ يناير- 2021 أولى محادثاتها الرسمية مع اليونان منذ توقفهما في 2016 بسبب النزاع في شرق المتوسط، والخلاف على المسألة القبرصية[16]، كما أجرت محادثات بعيدة عن متناول الإعلام مع فرنسا بهدف وضع خارطة طريق لتسوية المسائل الخلافية.

أما مصر، فقد كثّفت من تواصلها مع فرنسا وألمانيا وروسيا؛ لتأمين نوع من الدعم الإقليمي يكون موازنًا وداعمًا لها أمام إجراءات بايدن الذي صرّح سابقًا “أن مصر لن تحصل بعد اليوم على شيكات مفتوحة”.[17]

  • تمدّد إسرائيل:

كذلك أدى التمدّد الإسرائيلي في المنطقة من المشرق العربي والخليج إلى المغرب، مرورًا بالقرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر، إلى تنامي مشاعر القلق المصرية التركية على مصالحهما؛ خاصة فيما يتعلق بمشاريع نقل الغاز والطاقة إلى أوروبا وما سينجم عنها من تهديد لقناة السويس.

ولدى إسرائيل مشروع آخر مهم من شأنه أن يؤثر مباشرة على أمن مصر المائي، ويضر بدور تركيا في نقل الغاز عبر خطوطها إلى أوروبا، وهو مشروع نقل نفط الإمارات من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط عبر خط أنابيب (إيلات- عسقلان)، في الإشارة إلى تأسيس مسار بديل مستقبلًا عن قناة السويس أصبح يُعرف إعلاميًا بــ “قناة بن غوريون”، وهذا المشروع هو الأخطر على مصر وعلى أمنها المائي. ومؤخرًا بدأت إسرائيل في إنشاء ميناء كبير في عسقلان ليستوعب السفن وناقلات الحاويات الضخمة التي ستُبحر عبر البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يعني أنّ هناك مسعى لتحويل الأهمية الاستراتيجية للتجارة في الشرق الأوسط من مصر إلى إسرائيل.[18]

  • تسوية أزمة الحصار:

فتحت تسوية الأزمة الخليجية الثالثة الباب أمام تهدئة العلاقات بين بعض الدول وبعضها الآخر؛ فالمصالحة هيّأت لتركيا المزيد من تقوية علاقاتها مع قطر والكويت، وتوطئة جزئية مع المملكة العربية السعودية، وإلى حد ما مع الإمارات، وبالتالي رأت مصر مصلحة لها في تطبيع علاقاتها مع تركيا. وبموجبه يمكن القول: إنّ حل أزمة الخليج أسهم في تقريب وجهات النظر بين مصر وتركيا في عدة ملفات؛ مثل: ليبيا، وشرق المتوسط، والسودان.

2_ حسابات داخلية (مصر- تركيا):

تُوجد مجموعة من الحسابات الداخلية تُفسر حالة السيولة الإيجابية الراهنة بين مصر وتركيا، ويمكن النظر لها من دائرة المصالح والمُهددات لكلا البلدين؛ فأما مصر فهي محاطة بمجموعة من المخاطر انعكست سلبًا على دورها الإقليمي وأدائها السياسي، وهي الأمور التي تُحاول تلافيها في المرحلة الراهنة؛ فجبهتها الشرقية ما تزال تحت تأثير الضغط من قبل تنظيمات مسلحة في سيناء، بالإضافة إلى مهددات لأمنها القومي في حدودها الغربية المشتركة مع ليبيا، والجنوبية مع السودان بسبب أزمة سد النهضة؛ إذ تستعد إثيوبيا لتنفيذ المرحلة الثانية من تعبئة السد في أيار/ مايو الحالي؛ الأمر الذي سينعكس سلبًا على ثروة البلاد المائية خلال السنوات القادمة.[19]

وانطلاقًا من وعي مؤسسيّ لدى مصر، وبعد ظهور تحديات خارجية لها فرضتها إدارة بايدن، رغبت القاهرة في نزع فتيل الأزمات في الملفات التي انخرطت فيها مع بعض الدول، بهدف التفرّغ لمواجهة الخطر الأكبر عليها (أزمة سد النهضة).

وفي أزمة شرق المتوسط بدأت القاهرة نسج مقاربة جديدة لضمان حصصها الاقتصادية الغازية، وجذب استثمارات شركات الدول الكبرى، وعززت هذه الرؤية من خلال مناقصة التنقيب التي طرحتها في 18 من شباط/ فبراير الماضي، التي هدفت من ورائها إلى جذب الشركات للتنقيب في المناطق البحرية التي لا يشوبها نزاع مع الدول الأخرى.[20]

وحتى تضمن حياد هذه المناطق، مدّت مصر جسور التواصل مع تركيا لنزع فتيل الأزمة التي تفجرت عبر منتدى شرق المتوسط في 2019، وكذلك الاتفاقية الأخيرة التي وقعتها مصر مع اليونان في 2020. وبحسب بعض الخبراء، فإنّ القاهرة تعمّدت ترك بعض الثغرات في هذا الاتفاق الأخير لتمكنها من إجراء تعديل عليها مستقبلًا بإدخال أطراف جديدة عليها كتركيا؛ لأنّ مصر تعي تمامًا أنّ أي ترسيم بحري مع تركيا سيُعيد إليها حصصًا أكبر من التي حصلت عليها باتفاقها مع اليونان؛ لأجل ذلك أعلنت تركيا أكثر من مرة في نيسان/ أبريل الحالي عن رغبتها في توقيع اتفاق بحري مع مصر.[21]

ومما دفع مصر كذلك إلى تسوية إيجابية مع تركيا، حالة التهميش والتحجيم التي استشعرتها مصر من قبل حلفائها في ملف شرق المتوسط، حيث وقّعت اليونان في الأول من آذار/ مارس- 2021 اتفاقًا للربط الثلاثي الكهربائي مع إسرائيل وقبرص لمد أطول كابل كهربائي سيقطع البحر المتوسط ويربط الشبكات الكهربائية للدول الثلاث[22]، كذلك ذات الدول كانت قد وقّعت اتفاقًا فيما بينها في بداية عام 2020 لإنشاء خط أنابيب “إيست ميد” لنقل الغاز إلى أوروبا.[23] ومن ثَمّ رأت الحكومة المصرية في هذه المشاريع تهديدًا لطموحها في التحوّل لمنصة عالمية في صناعة الغاز، وهو ما قادها لوضع علامات استفهام حول التحالف الذي انخرطت فيه مع تلك الدول في منتدى غاز شرق المتوسط.

وعلى صعيد آخر، فإنّ تهدئة النزاع في الساحة الليبية قد بات ضرورة لضمان أمن مصر القومي، ورأت ذلك ممكنًا من خلال التنسيق مع تركيا لملء الفراغات الأمنية؛ خاصة بعدما تغيّرت خريطة الصراع على وقع التطورات السريعة التي شهدتها ليبيا. وقد أثرت المصالحة الخليجية على موقف مصر من الأزمة الليبية، وولّدت لديها قناعات قادتها إلى إعادة النظر في أولوياتها، لا سيما أنّ المصالحة ذاتها قد تُفضي مستقبلًا لتقريب وجهات النظر مع بعض الدول، وبالتالي ظهرت ضرورة لدى القاهرة أن تنسق مع أنقرة؛ كونها تشترك معها في حزمة من الملفات والمصالح والمخاوف.

وفي نفس السياق فإن الظروف الموضوعية التي دفعت بمصر إلى التقارب مع تركيا، يمكنها الاستفادة منها في كثير من الملفات؛ حيث تسعى مصر إلى تحقيق اختراق على صعيد ملف المعارضة المصرية داخل تركيا. وبرغمّ أنّ الموقف التركي لديه رؤية خاصة مختلفة نوعًا ما عن طموح القاهرة في هذا الملف، فإنّ خرقًا قد حدث مؤخرًا بعد تواتر عدة مصادر أفادت أنّ أنقرة أخطرت القائمين على وسائل الإعلام المصرية داخل تركيا بضبط خطابهم الإعلامي[24]؛ ما يعني أنّ هذا الملف سيبقى معروضًا في الأخذ والرد السياسي المفتوح بين البلدين.

وأما بالنسبة لتركيا، فهي تسعى لتفكيك التحالف المكوّن ضدها في ملف شرق المتوسط، والمكون من إسرائيل واليونان وقبرص ومصر وفرنسا، ومن هنا فإنّ أي نجاح في اجتذاب مصر لصالحها من شأنه أنّ يُسهم – ولو بشكل مبدئي – في إضعاف هذا التحالف، لا سيما أنّ مصر بدأت تمتعض منه – كما سبق – بسبب عقد الحلف اتفاقيات بمعزل عن القاهرة. وربما كان هدف تركيا الاستراتيجي من عقد اتفاق بحري مع مصر، هو رغبتها في تحقيق اختراق كبير داخل هذا الحلف الذي أجرى مؤخرًا مناورات بحرية بالتزامن مع مؤشرات التقارب المصري مع تركيا.[25]

كذلك تطمح أنقرة من وراء تقاربها مع مصر، إلى جانب تهدئة جبهاتها مع مختلف الأطراف في المنطقة، إلى التفرّغ لترتيب بيتها الداخلي، وحلحلة بعض المشكلات السياسية والاقتصادية؛ حيث الاهتمام بأولويات الحزب الحاكم في تركيا؛ مثل: النقاشات المثارة حول موضوع الدستور، والإصلاحات الاقتصادية، وصولًا إلى موضوع انتخابات 2023.

رابعًا: أفق التقارب:

في ظل تسارع التطورات بين مصر وتركيا، بات الحديث رائجًا عن مستوى هذا التقارب، لا سيما أنّ معوقات عديدة موجودة من شأنها أن تعرقل هذه الجهود، من بينها عدم رضا حلفاء مصر الدوليين كاليونان وقبرص وإسرائيل، فهؤلاء يمتلكون أوراق ضغط على القاهرة في عدة ملفات.

كذلك هناك معوقات أخرى متعلقة باتفاقيات الحكومة المصرية مع تلك الدول، فكيف سيكون مصير هذه الاتفاقات التي تتناقض مع أي تقارب مصري تركي؟ لكن الحديث عن هذه النتائج لا يزال مبكرًا؛ خاصةً إذا ما كانت مصر ستمضي في البحث عن حل وسط يُرضي جميع الأطراف تحديدًا في ملف الاشتباك الجماعي في غاز شرق المتوسط.

ومع ذلك لا يمكن تجاهل دلالات مؤشرات التقارب المصري التركي في المدى القريب، والتساؤل المطروح حاليًا حول مدى التقارب؛ فهل سيصل لحد مستوى رئاسة البلدين، أم سيقتصر على المستوى دون الرئاسي؟ وقد ظهرت وجهتا نظر لدى المراقبين بهذا الخصوص:

الأولى: ترى أن لا وجود للمستحيل في السياسة، وانطلاقًا من إدراك الطرفين لحزمة المصالح واشتراكهما في ملفات متداخلة ومخاوف عدّة، فمن الممكن أن يصل التقارب إلى المستوى الرئاسي. وهذا الفريق يتوقّع أن يتصافح رؤساء البلدين في نهاية المطاف. لكن هذا الطرح غير واقعي، مع اقتصار الحديث عن تنسيق الطرفين على بعض الملفات بشكل يتناسب مع طبيعة المتغيرات الطارئة على الساحة الدولية.[26]

الثانية: آخرون رأوا أن التقارب سيقتصر في المديين القريب والمتوسط على مستوى مسؤولين رفيعي المستوى في السلطة التنفيذية دون المستوى الرئاسي، ويستند أصحاب هذا الطرح إلى صعوبة تجاوز الطرفين لكامل النقاط الخلافية، أهمها يتعلق بالتوجّهات المتناقضة والرؤى المختلفة لبعض ملفات المنطقة التي بدأت تفاعلاتها منذ العام 2011، كما أنّ ملف المعارضة المصرية يُعتبر أحد أهم الملفات الشائكة، وسيبقى رهن التجاذبات والتفاعلات مستقبلًا.

خاتمة:

بناءً على ما سبق يمكن وصف طبيعة التقارب بين مصر وتركيا في الوقت الحالي على أنّها تحوّل تكتيكي سيقف عند حدود معينة، فرضته الظروف الدولية التي يقودها الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن في سعيه لإعادة ضبط التحالفات والعلاقات وموازين القوى في المنطقة، وبالتالي فإنّ التقارب المصري التركي أصبح نوعًا من أنواع التهدئة المؤقتة، وتطوّره لمستويات عليا متوقّف على إرادة الطرفين وسعيهما الدءوب في تجاوز الصعوبات والتحدّيات المشتركة معًا.

وفي حال حدث هذا التقدم فمن شأنه أن ينعكس على بقية الملفات في المنطقة، ويُعيد ترتيب وهندسة جغرافية الشرق الأوسط السياسية، فمصر وتركيا لديهما إمكانات في التحرّك سويةً في أكثر من مجال جغرافي، ولديهما مصالح مشتركة في السودان وأفريقيا، ومن الممكن أن تستفيد تركيا من حالة التحالف المصري السوداني في إحياء اتفاقاتها مع السودان المبرمة في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير. وفي نفس الوقت من الممكن أن تستفيد مصر من تركيا في عدة مجالات؛ أهمها المجال العسكري، عبر عقد صفقات للطائرات المسيرة التركية، إلى جانب الإفادة من دور تركيا الحيوي في أفريقيا، حيث تمتلك تركيا استثمارات كثيرة مع عدة دول؛ مثل: تشاد والنيجر والصومال ومالي، كما أنّ حالة التقارب من الممكن أن تنعكس على حلحلة بعض ملفات المنطقة في سورية والعراق ولبنان، فالطرفان لديهما وجود مؤثر ومتعدّد في قضايا المنطقة بحيث لا يمكن تجاهله.

“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2021


[1] https://bit.ly/3tvzVeR

وزير الخارجية التركي يعلن عودة الاتصالات الدبلوماسية مع مصر، الشرق الأوسط، 12- مارس 2021,

[2] https://bit.ly/3tucse5

أردوغان: تعاوننا الاقتصادي والدبلوماسي والاستخباراتي مع مصر متواصل، TRT، 12- مارس، 2021.

[3] https://bit.ly/3v76sbD

مصر وتركيا.. مزيد من الإشارات الإيجابية فهل اقتربت المصالحة، DW، 6-3- 2021.

[4] https://bit.ly/3ghKqyF

مصر: ننتظر من تركيا «أفعال لا أقوال» وقطر جادة في عودة العلاقات مع القاهرة، أخبار اليوم، 15-3- 2021.

[5] https://bit.ly/2QLabwj

تركيا.. مقترح للبرلمان لتشكيل “مجموعة صداقة” مع مصر وليبيا، الأناضول، 20-4-2021.

[6] https://bit.ly/2RC1apQ

العلاقات التركية المصرية… تاريخ من التوترات والتعاون، الأناضول، 24-3- 2021.

[7] https://bit.ly/3gkShv7

ارتفاع حجم التبادل التجاري بين تركيا ومصر، العربي الجديد، 26- مايو- 2019.

[8] https://bit.ly/3egQt3E

Turkey-Egypt relations: What’s behind their new diplomatic push. 12 March 2021.

[9] https://bit.ly/2QyxSYL

Libya’s new unity gov’t sworn in by parliament. 15.3.2-21.

[10] https://bit.ly/2CKFAs8

قراءة في سلوك دول الحصار تجاه المنطقة العربية تزامنًا مع الذكرى الثالثة لأزمة الخليج، ورقة من إعداد الباحث، برق للسياسات والاستشارات، 3- يوليو 2020.

[11] https://bit.ly/3svuCKU

محددات السياسة الخارجية التركية إزاء مصر، إدراك، 1- إبريل 2016.

[12] https://bit.ly/3sxqV7w

التقارب المصري التركي: الحدود والأبعاد، المعهد المصري للدراسات، 26-مارس- 2021.

[13] https://bit.ly/3uUk5uq

اجتماع رباعي في قبرص الجمعة بين وزراء خارجية إسرائيل والإمارات واليونان وقبرص، 24 نيوز، 15- إبريل 2021.

[14] https://bit.ly/3am53G3

ليبيا.. وفد مصري بطرابلس خلال ساعات لإعادة فتح السفارة، الأناضول، 14-2- 2021.

[15] https://bit.ly/3svqTwQ

مصر وتركيا: بوادر مرحلة جديدة من العلاقات.. ما هو سقفها، نون بوست، 19-3- 2021.

[16] https://arbne.ws/3amcYmE

للمرة الأولى منذ 2016 محادثات تركية – يونانية بشأن أزمة شرق المتوسط، الحرة، 25- يناير 2021.

[17] https://cnn.it/3suaOYv

بايدن ينتقد اعتقال وتعذيب نشطاء في مصر: لا مزيد من الشيكات لـ”ديكتاتور ترامب المفضل، CNN، 13 يوليو 2020.

[18] https://bit.ly/2OY7TJM

مخاطر اتفاق توريد النفط الإماراتي لإسرائيل عبر خط “إيلات-عسقلان، عربي بوست، 23-10- 2020.

[19] https://bit.ly/3tuV7BN

دوافع وآفاق التقارب المصري التركي، العاصمة، 15- مارس -2021.

[20] https://bit.ly/3v2dT3K

هدنة تكتيكية أمام تحديات مشتركة.. ما وراء التقارب المصري-التركي الحالي، عربي بوست، 9-3- 2021.

[21] https://bit.ly/3gkoSRS

Turkish-Egyptian Maritime Negotiations: Hype or Substance. March 22, 2021

[22] https://bit.ly/32r1Hxi

الغزل بين القاهرة وأنقرة … كيف بدأ ولماذا الآن، مونت كارلو، 20-3- 2021.

[23] https://bit.ly/3gmX1R4

“إيست ميد”.. لعبة سياسية بلا جدوى اقتصادية تستهدف إقصاء تركيا، الأناضول، 7-1- 2020.

[24] https://bit.ly/3svqTwQ

مصر وتركيا: بوادر مرحلة جديدة من العلاقات.. ما هو سقفها، 19-3- 2021.

[25] https://bit.ly/3sts0xj

إلى أين تتجه العلاقات المصرية التركية، اندبندنت، 26- مارس- 2021.

[26] https://bit.ly/2P0paCh

ما هي سيناريوهات عودة العلاقات المصرية التركية، مركز الإنذار المبكر، 7-3- 2021.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى