الاصداراتمتفرقات 1مقال رأي

حول كيفية قراءة السياسات، بـ" الأبيض والأسود" أم بالألوان؟!

85410

بداية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المقالة تحاول طرح بعض الإشكاليات الفكرية الإسلامية مع شيء من ملامح الإجابة، وليس الدّفاع عن شخص أو عن دولة بعينها.

قد لا يكون “التطبيع” مع اسبانيا يختلف كثيراً عن “التطبيع” مع ” إسرائيل” نظرياً، على اعتبار أنّ اسبانيا (الأندلس) أيضاً هي أرض إسلامية، فتحها وحكمها المسلمون لثمانية قرون، بل ربّما ما تعرّض له المسلمون من طرد وتهجير ومحاكم تفتيش، واجبار على اعتناق النصرانية يفوق بشدّة ما يتعرّض له أهل فلسطين اليوم من قبل “الإسرائيليين”، ولا يشفع فارق الزمن في تبرير اختلاف التّعامل مع الحالتين.

ويمكننا قياس مثل هذه الحالة على كثير من دول العالم الأخرى، وفق هذا الاعتبار، لا يمكن لدولة “إسلامية” وطنية أن تقيم علاقات مع أغلب دول العالم!، ولعلّ هذه الإشكالية برزت بشكل واضح بعد هدم دولة الخلافة الجامعة لكل المسلمين، ثم ظهور الحدود الوطنية.

يتبادر هذا إلى الذهن، عندما نتأمل الجدل الحاصل بين النّاشطين على وسائل التواصل الاجتماعي حول ما فعلته تركيا من تطبيع مع ” إسرائيل”، ما بين من اعتبر أردوغان “بطلاً ركّع إسرائيل”، وبين من اعتبره صديقاً وعميلاُ ل “إسرائيل”، فيما الحقيقة أنّ الاتفاقية مبنية على الحلّ الوسط بين الطرفين.

هذه الرؤية التي تتراوح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، أو بين مُطلق اللونين ” الأبيض والأسود” تبدو ناتجة عن التصوّرات التي تمّ تسويقها مع فكر “تنظيم القاعدة” وما شابهه حول “انقسام العالم إلى فسطاطين، فسطاط كفر لا ايمان فيه، وفسطاط ايمان لا نفاق فيه” بعد عملية 11 أيلول، والتي يتبناها تنظيم الدولة بشكل أكبر حالياً، معتبراً أنّ معسكره هو معسكر الإيمان، وهذه الإشكالية أيضاً، هي جزء من أزمة بعض الحركات الإسلامية في ليّ عنق نصوص آخر الزمان لتوافق سياستها، وبشكل مشابه لتبريرات المتطرفين المسيحيين للوصول إلى معركة “هرمجدون” في آخر الزمان، بدلاً من تصديقها وانتظار وقوعها على حقيقتها الواقعية[1].

هذه الرؤية التي تُمثّل (إما أبيض واما أسود)، تتناقض في الحقيقة مع الواقعية السياسية التي عاشها المسلمون منذ عصر الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) حتى الآن، فلم يكن صلح الحديبية إلا شكلاً من أشكال الاتفاقيات التي نراها حالياً، اعترفت من خلالها القوى الإقليمية (التي كان لها سطوة النظام الدولي في ذلك الوقت لوجود الكعبة والديار المقدّسة فيها وتأثيرها على العرب) بالدّويلة الإسلامية الوليدة، ووفّرت لها بعض الحماية من تكرار ما حدث يوم الخندق، حين رمتهم العرب كلها عن قوس واحدة، وقدّم المسلمون فيها تنازلات لا شكّ بأنّها كانت مؤلمة لدرجة أن الصحابة لم يقتنعوا بمجمل فكرة الصّلح في بدايتها!..

والتّاريخ الإسلامي يحفل بعد ذلك باتفاقيات وهُدن ومعاهدات مع دول كثيرة، الدّولة العثمانية (والتي توصف من مختلف التيارات الإسلامية -بما فيها “السلفية الجهادية”-بدولة الخلافة العثمانية[2])، تبادلت السّفراء والاعتراف بكافّة دول أوربا وروسيا، وكانت تحاول الموازنة في علاقاتها بين المحور الأوربي (فرنسا – بريطانيا وباقي الدول الأوربية)، وبين روسيا القيصرية، فتتقوّى بطرف على آخر دون أن تحاربهم كلّهم دفعة واحدة كما يريد أنصار نظرية “الفسطاطين” أن يفعلوا.

من الأمثلة الواضحة على ذلك، دخلت الدّولة العثمانية في حلف وحاربت جنباً إلى جنب مع بريطانيا وفرنسا ضد روسيا القيصرية في حرب القرم) 1853- 1856 م) تبعاً لالتقاء المصالح.

صلاح الدّين الأيوبي، القائد الفذّ الشهير، لم يكتف بالتطبيع مع دولة معادية في زمانه (الدولة الفاطمية)، بل أصبح جزءاً منها!، حينما أصبح وزيراً للخليفة الفاطمي لمدة ثلاث سنوات (وهو ما يجعله مرتداً عن الدين بمقياس بعض الحركات الإسلامية اليوم!)، ريثما هيّأ الوضع داخلياً لإعادة مصر إلى مذهبها السني.

ليس الهدف من إلقاء الضوء على الإشكاليات وما شابهها لدى المسلمين تاريخياً، الدفاع عن تركيا وخياراتها السياسية، بل الهدف هو رفع سوية الوعي السياسي بشكل خاص لدى الشباب (على اعتبار أنّ مركز برق هو حركة بحثية شبابية)، من أجل الارتقاء بمنهجية التفكير، فالمصالح والمفاسد في السياسة تُوزن بميزان الذّهب الدقيق، وتُقرأ بدقّة لاستعراض كافّة الألوان بدرجاتها المختلفة، بعيداً عن المقياس الثنائي العاطفي البسيط “الأبيض والأسود”!.

ولا شكّ بأنّ واقع الدول الوطنية التي فرضت على المسلمين بعد هدم دولتهم قد عمّقت من هذه الإشكاليات، فالاستفادة من التناقضات الإقليمية أو الدولية لتحسين العلاقات مع دولة ما، ستؤدّي غالباً لتحسين العلاقة مع عدو مباشر للمسلمين في مكان آخر، فالتحالف مع الأمريكان في أفغانستان ضد السوفييت، كان يعني التّحالف مع الدولة الراعية بشكل مباشر للكيان الصهيوني، ازداد هذا الأمر تعقيداً بعد عمليات 11 أيلول وغزو الولايات المتحدة للعراق وأفغانستان، فغدت إقامة العلاقات مع الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم -وهو شرّ لا بدّ منه – يعني تطبيع العلاقات مع عدو مباشر للمسلمين في العراق وأفغانستان، وبشكل مماثل، ينطبق نفس الوصف بدرجات متفاوتة على ايران، روسيا، وبقية الدّول المُؤثّرة.

وفيما يتعلّق بالتّطوّرات الأخيرة المتعلقة بتركيا وعلاقاتها مع موسكو وإسرائيل، فلم يكن تطبيع الدّولة التركية مع إسرائيل مرتبطاً بحزب العدالة، فتركيا ذات علاقات جيدة بإسرائيل قبل قدوم الحزب إلى السلطة، كما أنها عضو في حلف شمال الأطلسي.

ساءت العلاقات مع إسرائيل عقب حادثة سفينة مرمرة التي كانت تستهدف الوصول إلى غزة، وبعد مفاوضات طويلة وصلت لحل وسطي بين الطرفين، وتمّ الاتّفاق الأخير الذي سيُخفّف من الحصار على غزة كما سيُخفّف التوتّر مع إسرائيل، والذي ساهم في عُزلة دولية لتركيا مؤخّراً، حيث ساءت علاقتها بروسيا نتيجة تدخّلها في سورية، وخاصّة بعد إسقاط الطائرة، كما ساءت علاقتها بالولايات المُتّحدة نتيجة دعم الأخيرة للوحدات الكردية الانفصالية في سورية، فضلاً عن علاقات سيئة أيضاً مع مصر وإيران.

وبحسب ناشطين سوريين، فإنّ معركة الفصائل الثّورية السّورية في السّاحل السوري قد بدأت بالتّزامن مع تحسّن العلاقات الروسية التّركية، وغير بعيدة عن دعم تركي لها، الأمر الذي يمكن أن يُفسّر على أنّه بعض من غضّ الطرف الروسي عن النّشاطات التركية، بعد أن بدا أنّ عدم الموافقة على المشروع الكردي الانفصالي نقطة مشتركة بين الروس والأتراك والإيرانيين.

قد يبدو بأنّ تحسن العلاقات التركية – الروسية سيكون مفيداً للثوار السوريين، كما قد يبدو بأنّ تحسن العلاقات التركية -الإسرائيلية مع تخفيف الحصار مفيداً لأهل غزة، الأيام ستكشف ذلك، ولكن إشكاليّة العلاقات تزداد وضوحاً عندما يكون أحد أهمّ أهداف العلاقة هي محاولة ” تبييض الجرائم”، كما في حالة علاقة الفصائل الفلسطينية (حماس – الجهاد الإسلامي) مع إيران المتورطة بدماء السوريين والعراقيين الذين تقتلهم على الأسس الطّائفية.

لا شكّ بأنّ الإشكاليات المطروحة فكرياً وسياسياً أكبر من أن تناقش في مقالة، وهي بالتّالي دعوة للكتّاب والمفكرين لمناقشة ملفّات العلاقات الدولية للدّول الإسلامية ضمن الوضع الاستثنائي الذي طرأ على الأمّة بعد زوال خلافتها الإسلامية، والذي يحتاج مقاربة منهجية مختلفة تماماً عن المقاربة حال وجود المسلمين في دولة واحدة.

[1]  حتّى أنّه يعزى تمسك تنظيم الدولة بشكل كبير بريف حلب الشمالي نظراً لرمزية بلدة دابق فيه، حيث وردت في أحاديث تذكر قتال الكفار، والانتصار عليهم في آخر الزمان.

[2]  في إصدار جبهة النصرة والتي تعتبر فرع القاعدة في سورية، يصف أبو فراس السوري القيادي في النصرة الدولة العثمانية بدولة الخلافة العثمانية، أنظر اصدار ورثة المجد الجزء الأول الدقيقة 20.

للتحميل من هنا

 
 

الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى