الاصداراتتقارير جديدمتفرقات 1

"إسرائيل" وقمع الهبة الشعبية الفلسطينية قراءة في مكافحة "مكافحة التمرد" من وحي فرانز فانون

israel

مقدمة

لا تزال حركات التحرر أو الحركات الثورية أو ما يطلق عليها بـ”المقاومة” تشكل هاجساً لدى الأنظمة السياسية الاستبدادية والاستعمارية التي لا يتوقف سعيها في البحث عن شعوب قابلة للسيطرة والإخضاع؛ لإعادة تشكيل هويتها ووعيها بما يتلاءم مع منطقها الاستبدادي والاستعماري.

وفي لحظات يقظة الشعوب لاسترداد إنسانيتها، تبدأ أولى خطوات إعادة تكوينها وصهر فرديتها في حركات جماعية تحقق لها غايتها، لتظهر الحركات الثورية بصورة تتجه لإلغاء كافة أشكال التواطؤ الاستعماري، وإنهاء كل العلاقات التي يخلفها الاستعمار لكبح جماح الشعوب عن نيل حريتها؛ ليكون انبثاق هذه الحركات محاولة للنزوع نحو التحرر من الأنظمة الاستعمارية، وإعادة الهيبة التاريخية للشعوب شكلاً ومضموناً.

وأمام تشكَلاتٍ تحررية جديدة تجد في “العنف” لغتها وسلاحها الخاص، تتعدد أشكال الاستراتيجيات والتكتيكات الاستعمارية والسياسية للتعامل معها، فتبرز المواجهة العسكرية ــ”الخشنة” التي يستخدمها الاستعمار للقضاء على المقاومة أو إخضاعها، باستخدام وسائل قتالية تناسب منطق هذه الحركات؛ وفي الحالة التي يشعر فيها الاستعمار أن اللجوء للوسائل العنيفة وكثرة التدخلات العسكرية في بلد ما، قد يلحق الضرر بصورته الاستعمارية “الهشة”، يميل لاستخدام قوى “ناعمة” تحت ما يسمى بحملات “مكافحة التمرد”، أو “الإرهاب”( counter-insurgency ) والتي تقوم على مبدأ شيطنة الآخر وعزله حتى تفكيكه والإجهاز عليه.

الدليل الجديد لعقيدة مكافحة التمرد، الصادر مؤخراً عن القيادة المشتركة للجيوش الأميركية (البرية والبحرية والجوية)، لضمان استمرارية عمليات مكافحة التمرد في كل من أفغانستان والعراق وفلسطين، يؤكد على أمرين؛ الاتفاق على أن مفهوم التمرد والمتمردين مرادفان لكلمتي “المقاومة والمقاومين” في العرف الفلسطيني تحديداً.  فمكافحة التمرد تعني “مكافحة وتفكيك حركات مقاومة إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية”.[1] بالإضافة إلى التأكيد على استخدام لفظ “الإرهاب” لوصف الأعمال المعادية للولايات المتحدة، وتبرير شن حروب على دول لا تشكل خطراً أو أي تهديد حقيقي، لتحقيق أهداف غير معلنة فبدلاً من ذكر الحقيقة يقال أن الحرب شُنت “لمكافحة الإرهاب”.[2]

يعتبر الجنرال الفرنسي “غالولا”[3] من أولئك الذين استخدموا عقيدة مكافحة التمرد، حيث طبقها في الجزائر لمكافحة وتقويض الثورة الجزائرية. اعتمد فيها على كيفية صناعة العزل الجغرافي والبشري، والتفكيك المرحلي لأماكن تواجد الثوار. بالإضافة إلى الجنرال الأمريكي باترويس[4] الذي استخدم أيضاً مكافحة التمرد من أجل تقليل الخسائر المادية والعسكرية للولايات المتحدة في العراق وأفغانستان.[5] لا سيما بعد ما انتهجت إدارة جورج بوش استراتيجية “الأثر السريع” في أفغانستان عام2001 والعراق عام 2003 لإلحاق الهزيمة، لكن سرعان ما بانت الاستراتيجية العنيفة حين بدأ العراق يتفكك إثر انهيار نظام صدام حسين، وانزلاق البلاد لحرب أهلية. وقتئذ راهن بوش على “مكافحة التمرد” باعتباره الحل الأخير لتفادي الأزمة. فانتخب بترايوس لقيادة الحملة التي نجحت في وقف سفك الدماء في العراق وأفغانستان.[6]

منذ الاستعمار البريطاني، شكلت فلسطين مصدراً لتقنيات قمع الثورات ضد الاستعمار، تحت ما يسمى بـ”مكافحة التمرد”، إذ ترجع أصول الممارسات الصهيونية الحالية في هذه العقيدة إلى سياسات القمع البريطانية ضد الثورة الفلسطينية الكبرى 1936. وقد قامت “إسرائيل” بتحويل وسائل قمع المقاومة في فلسطين إلى منتج أمني تقوم بتصدير تقنياته وأدواته إلى العالم، فعلى سبيل المثال؛ أُستخدمت الخبرة الصهيونية في قمع الانتفاضة الثانية في الهجوم على مدينة الفلوجه العراقية من القوات الأمريكية، كما يعمل الكثير من الخبراء الصهاينة كمستشارين لدى الكثير من الحكومات التي تواجه ثورات وانتفاضات ضدها. [7]

في السنوات العشرين الماضية، لجأت “إسرائيل” إلى استعمال تكتيكات “ناعمة” في مواجهتها للفلسطينين؛ فقد شاركت على نحو متزايد في اتخاذ تدابير وقائية عقابية. في محاولة للإبقاء على الوضع الراهن بتجنب الهجوم الدموي التقليدي العنيف، واستخدام وسائل رادعة تقلل من “روتين” مواجهتها للأحداث الحاصلة في الضفة الغربية. وبدا ذلك بشكل واضح  بعد عقد اتفاقية أوسلو بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي، والتي دفعت الحكومة “الإسرائيلية” لتجنب الصراع المباشر مع الفلسطينين وإعادة صياغة العلاقة بصورة يبدو فيها الاحتلال أكثر تهذيباً في نشاطه الاستعماري وأقل عنفاً في ممارساته. من خلال أساليب السيطرة والتحكم التي تتوافق مع عقيد مكافحة التمرد الخاصة بها. والتي اتخذت صور عدة كإنشاء نقاط التفتيش، حظر التجول في القرى، الاعتقال، هدم البيوت وغيرها.[8]

أما في الهبة الفلسطينية الحالية[9]، فيعترف صناع القرار بأنهم أمام تحدٍ غير مألوف، يتمثل بالعمل المقاوم الفردي والعفوي ما يطلق عليه “بإرهاب الأفراد” أو “الذئاب الوحيدة”، حيث أنّ ماكينة القمع الصهيونية معدّة جيداً لمواجهة التنظيمات والبنى التحتيّة للمقاومة، بينما تواجه الآن مقاومة بدون عنوان. أمام الوضع الراهن، تسعى مراكز البحث وصناعة القرار الصهيوني إلى صياغة رؤية أمنية قادرة على التعامل مع التحدي الجديد، الذي تعترف أمامه بالارتباك.[10] وإعادة النظر في عقيدة مكافحة التمرد بالشكل الذي يحافظ على أمنها وسياستها.

في ظل هذه الفكرة، يدور سؤال البحث المركزي حول كيفية استلهام فانون في تشكيل حالة تنظيرية أو معرفية لمكافحة “مكافحة التمرد” أو كيف نبني على تنظير فانون رؤية مكافحة لعقيدة مكافحة التمرد؟

فرانز فانون الكاتب والفيلسوف الاجتماعي، في كتابة ” معذبو الأرض”[11] تناول الحديث عن العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، وكيف تحاول الأنظمة والنخب المحلية الخاضعة له القضاء على ثورات الشعوب وسعيها لنيل حريتها. ويركز الكتاب على مبدأ العنف كسبيل وحيد لتحقيق المحو الاستعماري، وإعادة الدخول إلى التاريخ البشري من خلال القوة ” العنف” التي تعيد تشكيل العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، ويكشف عن الدور الذي تلعبة النخب البرجوزاية ومثقفو الاستعمار في التواطؤ مع هذه الأنظمة، للالتفاف حول الشعوب وإخماد ثورتها وتخديرها لتبقى في حالة خضوع. ويتطرق الكتاب بشكل أو بآخر إلى الكيفية التي ينتهجها الاستعمار في تفكيك حركات التمرد والمقاومة، مستعينا ببعض النماذج التي تدلل على ذلك.

ستعتمد الدراسة على منهجية تحليل خطاب مكافحة التمرد من حيث تاريخ نشأته وكيفية اشتغاله. من خلال تحليل مضمون لأعمال فانون في تنظيره لمقاومة الاستعمار وتركيزه على آليات عمل الماكينة الاستعمارية. وحالة دراسة للهبة الشعبية الحالية كنموذج مكافح “لمكافحة التمرد”.

خطاب مكافحة التمرد بين الركائز والاستراتيجيات

تتعدد النظريات حول الدوافع والأسباب التي تؤدي إلى نشوء التمرد وتشكل المجموعات الثورية، أو المقاومة؛ ويرجع عدد من الباحثين إلى وجود نظريات تفسر ثورة الشعوب وتمردها على الأنظمة الخاضعة لها، فالنوع الأول من النظريات، تتعلق بالتغييرات الاقتصادية والاجتماعية الحادة، والتي تشكل نوعاً من الضغط على جسد المجتمعات، فالحالة الطبيعية أن تعيش الشعوب في ظل الاستقرار والأمان، إلا أن حدوث مثل هذه التغيرات يؤدي إلى ما يسمى

 بـ” ثورة الإحباطات المتزايدة” مما تدفع الشعب إلى التمرد والعصيان السياسي. بينما النوع الثاني من النظريات، يرى أن حالات التمرد تنشأ عن انهيار القدرات التنظيمية في المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، والتي تركز على العلاقة بين التغييرات الاجتماعية وانهيار المؤسسات. مما يحدث خللاً في حياة الأفراد. وترفع من مستوى الاستياء الذي يدفعهم للتمرد.[12]

ويرى آخرون ضمن هذه النظرية، أن الانقسامات التي تحصل بين الصفوة التي تحمل على كاهلها الحفاظ على استقرار الشعوب وأمنها. نتيجة خلافات ناتجة عن ضعف السيطرة  وتراجع السيادة، واستغلال بعض الأطراف في الحصول على تأييد الطبقات المحرومة والضعيفة التي تغذي آمال الشعوب بالحرية والعدالة. وأمام فشلها في القيام بالدور المطلوب، تخلق الجماهير أدواراً  تجعلها في الطليعة.[13]

يعتبر خطاب عقيدة مكافحة التمرد خطاب تفكيكي، حيث يتركز عمل الخطاب في البداية على عزل وتفكيك المجتمعات أي الحاضنة الشعبية عن الجماعات المتمردة “المقاومة” من خلال شيطنة وتجريم الأفعال التي يقوم بها الثوار، ووصفها بمصطلحات بـ “الإرهاب” أو “التخريب”. فعملية العزل التي يحدثها خطاب مكافحة التمرد في المجتمعات الخاضعه له، تكون وفق مراحل تبدأ بالمدينة، فالقرية، فالمخيم لتصل إلى عزل كلي وتام للثوار حتى تقضي عليهم. ثم ينتقل الخطاب ليعمل على تجنيد المجتمعات، بحيث تساعد المستعِمر في عملية مكافحة حركات المقاومة، وفي هذه الخطوة يلجأ الاستعمار إلى ما يسمى بــ”المساحات الخضراء الآمنة” الخالية من الثوار، داخل المجتمعات المستعمرة. حيث تعد المنطقة الخضراء غير قادرة على إنتاج حركات مقاومة أو مقاومين. وهنا تأتي الحواجز “الإسرائيلية” التي تقام حولها كوسيلة لحمايتها من دخول المقاومين أو نشوء حركات في داخلها، مدينة رام الله مثالاً على ذلك.[14]

عمليتي العزل والتجنيد التي يرتكز عليها الخطاب بصورة رئيسية تعتمد على مدى قدرة الاستعمار على جمع أكبر قدر ممكن من “المعلومات” عن المجتمع المستعمَر، من خلال الوسائل التكنولوجية الحديثة والدراسات والإحصائيات بالإضافة إلى أساليب العمالة والتخابر ذات الصيغة الاستعمارية الحديثة، ليصبح المجتمع متعاون مع المستعمِر، فيقدم المعلومات حول الثوار بطرق غير مباشرة.[15]

لا يقف الأمر عند حدود ذلك، بل يقوم بتحويل المجتمع إلى متعاون معها، من خلال إيجاد وسط مناسب لتفكيك المنظومة الاجتماعية للمجتمعات المستعمَرة، وضرب العلاقات الاجتماعية داخلها، فتغذي وسائل الاختلاف، وتقف وراء بعث وإحياء مشاكل داخل مجتمع المستعمَر، مما يجعل  مهمة الأنظمة السياسية والاستعمارية فيها أسهل وأقل ثمناً.[16]

يحمل عادةً خطاب مكافحة التمرد بين ثناياه مفردات تقوم على “كسب قلوب وعقول الناس”.[17] بترديد عبارات شبيهة بــ”حرصاً على سلامتكم” أو ” معاً نوقف الإرهاب” أو ” نحو مجتمع آمن” وغيرها. هذا النوع من الخطاب يقوم على توظيف الأفكار وكل الإمكانيات للانقضاض على المجتمعات. بالتركيز على الجانب العاطفي واللعب على وتر سيكولوجية الجماهير للسيطرة عليها. ومع ذلك  يبقى موضوع “حماية المدنيين” أمر مركزي يشتغل عليه الخطاب، والتي تنتهي عادة بعدم وضوح الرؤية بين المجال المدني والحربي؛ والذي ينظر إليه على أنه أمر طبيعي وحتمي من قبل الأنظمة الاستعمارية ومؤيدي  مكافحة التمرد.[18]

يؤكّد الجنرال الأمريكي باتريوس على مسألة الشرعية كهدف أساسي، فوجود حكومة محلّية يساعد على تسفيه ما تعلنه حركة التمرّد، وعلى تضافر الجهود نحو توحيد الخطاب وإن اختلفت الأهداف. ففهم خطاب مكافحة التمرد  لطبيعة المجتمع وثقافته وأدق تفاصيل تركيبته الإثنية والدينية والأيديولوجية عوامل حاسمة ومهمة في تمرير الخطاب وتفعيله.[19]وذلك من خلال جمع المعلومات الميدانية، وكل ما يتعلّق بحركة التمرّد.

تركيز خطاب مكافحة التمرد على تسفيه قضية المقاومين وقطع مصادر دعمهم أمر مهم، فلا يجب لهذا الخطاب أن يحولهم إلى أبطال، ولا يدفع من خلال نصوص تحريضية نحو قتلهم. فتأليف قلوب الأهالي وتجريم المتمرّدين هو المطلوب في هذا التكتيك العسكري والسياسي. [20]

وتكمن فعالية خطاب مكافحة التمرد الموجه للسكان أو “الحاضنة الشعبية” للمقاومة في استثمار المعلومات لخلق تطلّعات وآمال معقولة، والحذر من السقوط في امتحان الوعود غير المحققة، التي ستدفع الأهالي إلى حضن المقاومة من جديد، والبحث عن مشاريع تلعب دوراً في إبعاد الشعوب عن مناخ المقاومة ودعمها، وتفعيل وخلق قضايا عرضية جانبية أخرى.[21]

صناعة الخوف يستلزم صناعة عدوّ يدفع النّاس إلى الاصطفاف خلف الأجندة السياسيّة للحاكمين، سلماً أو حرباً، والذي يصل إلى اختراع عدوّ حقيقي من حيث كونه كياناً موجوداً في هذا العالم، ووهمي من حيث عدوانيّته وخطره أو حجم تهديده، وهذا ما يبدو مطلوباً أن يقوم خطاب مكافحة التمرد بالعمل عليه. فعدم وجود عدو، لايعني أن يقف الخطاب ساكناً بل يصنع عدواً يساعد الأنظمة الاستعمارية نحو بلوغ أهدافها وغاياتها؛ ومع نجاح آليات استمالة العقول والقلوب التي يقوم عليها الخطاب.[22] ينشأ الخوف في النفوس، ما يستدعي غريزيّا ضرورة مقاومته والانقضاض عليه. يقول أحد الساسة العسكريين “إنّك تخيف السكان، ترهبهم، ترعبهم حتى يكونوا خائفين ويجثموا خوفا، بعدها ستحقق نصرا عليهم”.[23]

في السياق السياسي والاستعماري هناك ما يعرف بــ”أبلسة العدوّ”، التي تقوم على معادلة نحن الأخيار وهم الأشرار، وتحويل الصراع إلى صراع قيمي بين الخير والشرّ، وللوصول إلى تلك الأهداف لابد من المرور بمرحلتين، تتمثل أولهما بعملية أدلجة الذات الاستعمارية ووضعها في مرتبة الخير المطلق، وإسباغ العصمة المعرفية لها. و تتجلّى الثانية في عملية شيطنة الآخر أو العدو تمهيداً لضربه أو شن الحرب عليه؛ فيتم الضخّ الإعلامي والتجييش السياسي من خلال خطاب مكافحة التمرد، وصولاً إلى التخويف المبالغ فيه من عدو يتم اختراعه، حتى يصبح الجمهور أو القسم الأكبر منه متقبّلاً لم لا يمكن تقبّله في ظروف أخرى.[24]

وبعد أن يتم حشد الجمهور وتعبئته ضد حركات المقاومة أو “المتمردين”، يتم الانتقال إلى إسباغ الشرّ على الخصم، تمهيدا لقبول الجمهور لأي عدوان أو اعتداء يتم تنفيذه لاحقاً تحت اسم “محاربة الإرهاب”. كما تفعل أمريكا أو تحت شعار ” محاربة الشيطان ” كما تفعل إيران. أو تحت اسم “محاربة الكفار” كما تفعل القاعدة. فالواجب الملقى على عاتق خطاب مكافحة التمرد “تصوير الخصم كعدو للبشريّة وبعيد عن الإنسانيّة “، وإظهاره وحشيّاً وغير إنساني، وفي هذه الحالة يتم كسر اللاوعي لدى الحاضنة الشعبية أو الاجتماعية لأنه في الحقيقة  ليس ثمّة حرب يمكن أن تنجح في الإجهاز على المقاومة إذا لم تختلق لها الأسباب مسبقاً[25].

“إسرائيل” ومكافحة التمرد ..محطات تاريخية

لم يتوقع الاحتلال “الإسرائيلي” اشتعال انتفاضة شعبية عام  1987 ولم يملك أمامها استراتيجية تعامل واضحة فقد استعان في البداية بتقنيات ومعدات مكافحة الشغب على غرار الشرطة، ونشر تدابير غير عسكرية كقطع خطوط الهاتف وفرض القيود الاقتصادية، وإنشاء وحدات المستعربين الخاصة لمطاردة معظم فصائل الانتفاضة التي كانت فعالة في تلك الفترة. واتبع الاحتلال مجموعة من التكتيكات التي ترتكز على فكرة الاستنزاف التراكمي الذي يستنفذ قوى المقاومة من خلال أسلوب الاشتباكات الصغيرة.[26] وعلى الرغم من قيام الجيش “الإسرائيلي” بتوظيف القوة النوعية المعدة لمواجهة الانتفاضة الشعبية، إلا أن استخدامها لم يكن متناسباً مع المقدار الكمي لحالات المواجهة؛ فقد كان منطق نهج الاحتلال في تلك الفترة معتمداً على ردع المتمردين، وإرغام السكان المدنيين الذين يؤوونهم على الخضوع. وتجسدت هذه الاستراتيجية بشكل واضح من خلال تعبير وزير الدفاع إسحق رابين حينها : ” ما سيضع حداً للعنف هي عملية تراكمية من التعب الجسدي والاقتصادي وتعطيل أطر الحياة اليومية”.[27]

بين عامي 1991- 1994، بدأ الاحتلال يتراجع عن استراتيجية “الاستنزاف” التي اتبعها بحق الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى، لا سيما بعد تليين موقف منظمة التحرير الفلسطينية الإيديولوجي، ونهاية الحرب الباردة وهزيمة العراق في حرب الخليج عام 1991. دفعت التغيرات الحاصلة في المنطقة “إسرائيل” إلى مفهوم عملياتي جديد يقوم على “ضبط النفس” أو ما يعرف بــ” مكافحة التمرد” خاصة في الضفة الغربية. فقد تم تخفيف الضغط عن السكان المدنيين، وكانت استراتيجية مكافحة الإرهاب تتم بواسطة التنسيق مع البرامج المدنية في قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية التي يديرها المنسق الإسرائيلي للأنشطة الحكومية في الأراضي المحتلة فالنهج “الإسرائيلي” في هذه الفترة  لم يقم على إجبار المقاومين والسكان المدنيين للتخلي عن النضال، وإنما  تعطيل أنشطة المقاومة. من خلال التأثير بفاعلية على تصورات السكان بطريقة تنسجم مع الأهداف الجديدة للمنظومة الاستعمارية.[28]

في عامي 2000 و2006 بدأ العمل الفعلي بصيغته الجديدة على النزاعات المنخفضة الشدة التي تعرف بـ”مكافحة التمرد”، بالتركيز على الأبعاد النفسية والمعرفية للمعركة، بواسطة تطبيق نهج أوسع لا يركز فقط على “الاستنزاف” البسيط، وإنما أخذ بعين الاعتبار الآثار المباشرة و غير المباشرة التي يمكن أن تحدد انهيار المقاومة ومجتمع المستعمَر.

أنتجت الحكومة “الإسرائيلية” في عام 2001 أول وثيقة مكتوبة شاملة حول إدارة الصراعات المنخفضة الحدة. وتضمنت الوثيقة تعريفاً لــ”مكافحة التمرد” أو الصراع المنخفض الحدة الذي يقوم على “مواجهة طويلة الأمد، لبلوغ الهدف السياسي بإنهاك إرادة الخصم في القتال، وتحقيق التغيير المعرفي في مجتمعه من “وعي النضال” إلى “وعي التكيف”. من خلال عملية تراكمية بإلحاق الأضرار المادية والاقتصادية والنفسية” .[29]

في تموز/ يوليو 2002، اشتد الضغط على السكان الفلسطينيين من خلال تطبيق مجموعة أوسع من التدابير غير العسكرية من قبل الجيش “الإسرائيلي”، والذي قام بتفكيك كامل البنية التحتية للمتمردين من خلال تكثيف التصفيات التي تستهدف قادة المتمردين البارزين، وتوسيع الوجود المادي الملموس على الأرض. فعلى الرغم من تطبيق مفاهيم ومنهجيات جديدة إلا أنه لم يُلاحظ أي تغييرات كبيرة على استراتيجية عملها العسكري حتى عام 2005 ، فلم تزل تواجه تجدد في نشاط المقاومين “المتمردين”.[30]

طريقة “إسرائيل” في مكافحة التمرد

عند الحديث عن طريقة مكافحة التمرد الإسرائيلية، إنه يمكننا التمييز بين ثلاث سمات أساسية للمكافحة؛ الردع كهدف استراتيجي لحملات مكافحة التمرد، وتدابير العدو المرتكزة على الهجوم بقوة، والتدابير القسرية التي تركز على السكان. [31]

في عالم الصراعات المنخفضة الحدة أو ما يعرف بــ”مكافحة التمرد”، تُرجم الفهم ” الإسرائيلي” لهذه العقيدة إلى اعتماد نهج “الردع بواسطة العقاب”، القائم على  عمليات انتقامية سريعة وغير متناسبة، ضد عنف وإرهاب وحرب تمرد على مستوى منخفض. وكان من المتوقع وفق السياسة العسكرية “الإسرائيلية” على المدى القصير أن تولد الاستراتيجية ردعاً بالشكل الذي يدعم معايير تقييد السلوك “للمقاومين”، بصورة تسمح للسكان المدنيين الإسرائيليين بعيش حياة طبيعية. أما فيما يتعلق بالعواقب على المدى الطويل، فقد صُمم النهج القائم على الردع لإقناع الخصوم بأن تدمير إسرائيل أمر مستحيل، أو بأنه يترتب عليه ثمن يفوق بكثير الفوائد المتوقعة من استمرار المعركة. هذا النوع من الردع طويل المدى والمسمى  بـ” الردع التراكمي”، أدى إلى نتائج سلبية من حيث إحباط محاولات العدو للحصول على مكاسب سياسية من خلال استخدام القوة ودعم مواقف قوة غير معادية يمكن منها جر خصوم ” إسرائيل” الى مفاوضات سياسية.[32]

برغم المزيج المتزايد من التدابير الهجومية والدفاعية، إلا أن الاحتلال “الإسرائيلي” بقي يستخدم فكرة الهجوم التكتيكي في مكافحة التمرد، حيث هدفت إلى تعطيل البنى التحتية والشبكات وضرب القيادات. والتي كانت سمة أساسية لحملات مكافحة التمرد “الإسرائيلية”. هذا الأمر ظهر بشكل واضح عندما حصلت موجات مكثفة من الهجمات، حيث مال الاحتلال إلى التصعيد من وتيرة عملياته الهجومية، في محاولة للحفاظ على استمرار العمليات الهجومية وإجبار العدو على أن يكون في موقف دفاعي.[33]

 لم يقتصر الأمر على السياسة التكتيكية لتعطيل وإضعاف البنى التحتية لحركات “المقاومة” بشكل منهجي يهدف لردع المتمردين، بل تجاوز لدق إسفين بينهم وبين جماهيرهم عن طريق الإكراه. كان الهدف الاستراتيجي إحداث تأثير تراكمي رادع قادر على فرض قواعد سلوكية تناسب الاستراتيجية “الإسرائيلية”، وإضعاف الدعم الذي يغذي حركات التمردً.[34] كما وتستهدف مكافحة التمرد “الإسرائيلية” العلاقات الاجتماعية. فهي تمزق الروابط الحميمة بين الناس إلا أنها نادراً ما تعيد صناعتها. كما تدمر قدرتهم على التعاون وتفسخ نسيج التضامن والتعايش وبهذا تفكك كل ما يمكن أن يشكل المجتمع.[35]

الهبة الشعبية الفلسطينية كنموذج لمكافحة “مكافحة التمرد”

من وحي فرانز فانون

تعتبر الهبة الشعبية الأخيرة، أو ما يطلق عليها البعض بــ” انتفاضة القدس أو السكاكين”، شكلاً من أشكال مكافحة الفلسطينيين أي الشعب –المستعمَر- للنظام الاستعماري “الإسرائيلي”، ومقاومة عقيدة “مكافحة التمرد” الناعمة التي ينتهجها الاحتلال بهدف إرجاع الفلسطينيين إلى الحالة الطبيعية – عدم التمرد والقيام بعمليات مقاومة- حتى يبقوا خاضعين للنظام الاستعماري الإسرائيلي، أو للسلطة الخاضعة للاستعمار كالسلطة الفلسطينية مثالاً. وفي الحالتين فإن مكافحة التمرد تعمل على تحويل الفلسطينيين إلى رعايا مطيعين للاحتلال، بحيث يصبح وجودهم مستقراً لا يثير أية مشاكل، بحيث تستطيع “إسرائيل” من خلاله الاستفادة قدر المستطاع اقتصادياً وعسكرياً.

على مدى السنوات الــ15 الماضية، قامت “إسرائيل” باعتماد حرب منخفضة الحدة يتم تفعيلها في المدن والقرى، بالارتكاز على مبدأ مكافحة التمرد باستخدام استراتيجيات وتكتيكات استعمارية ضد المقاومة في أراضي الضفة الغربية تحديداً. وكان بإمكان الاحتلال أن يلجأ للوسائل العنيفة التقليدية كالتي اتبعها في عملية السور الواقي عام 2002،[36] باقتحام الضفة وشن المجازر كما حصل في مخيم جنين. إلا أن تطور العلاقات بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية، بعقد الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والتنسيق الأمني دفع الاحتلال للقيام باتخاذ إجراءات وقائية رادعة ضد الفلسطينين. تمثلت بإنشاء العديد من الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش بين المدن الفلسطينية، والاستخدام المكثف للدوريات العسكرية، وحظر التجول في بعض المدن والبلدات والقرى، والتي يراها الاحتلال بمثابة بؤرة للمتمردين وللمقاومة.

رغم مرور عدة أشهر على الهبة الفلسطينية الأخيرة، استطاع الفلسطينيون خلالها القيام بأكثر من200 عملية، ومحاولة طعن لإسرائيليين في كل من الضفة والقدس تحديداً.[37] كان يغلب العنف بشكل واضح على العمليات التي يستخدم فيها الفلسطينيون السكين تحديداً كوسيلة لردع الإسرائيليين المدنيين والعسكريين. فبعد مرور سنوات على سياسة التفاوض أدرك الشعب المستعمَر على حد تعبير فانون أن “الاستعمار ليست آلة مفكرة، ولا جهازاً مزوداً بعقل، وإنما هو عنف هائج، لا يمكن أن يخضع إلا لعنف هائج أقوى منه”.[38]وهذا فعلاً بدى واضحاً من خلال التخبط التقني والعسكري الإسرائيلي في التعامل مع العمليات العفوية والفردية. ففي الوقت الذي كان فيه الاحتلال يكثف من إجراءات مكافحة المتمردين كجماعات، ظهرت الهبة بنوع آخر من المقاومة الفردية، التي لا يمكن حصرها أو قولبتها وتحديدها.

وأمام ذلك، شعر الاحتلال أنه كمنظومة استعمارية قد فشل في التعامل مع الفلسطينيين. خاصة وأنه طرح بدائل للنضال والتي كانت المفاوضات إحداها، ومحاولة تمرير الأيديولوجية الإنسانية في التعامل مع المستعمَر. كمنح التصاريح، وترديد خطاب دولة لشعبين والتي شعر الفلسطينيون أمامها بالتخلي التدريجي عن فكرة التحرر ومقاومة الاحتلال. عدا عن اتباع استراتيجيات استعمارية أخرى لا سيما عام 2007 بإشعال فتيل الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس، وتغذية الانقسامات الداخلية  بين أفراد المجتمع، والتي أشغلت الجماهير عن معاني النضال الوطني وغايات استرجاع الأرض. حيث بدت هذه الاستراتيجية متطابقة إلى حد كبير مع قول فانون”يهدف الاستعمار إلى تغذية الزعامات المحلية، وخلق الشروخات والانقسامات بين أفراد المجتمع” [39]. بهدف اخضاعه وتمكين السيطرة عليه.

في ظل ذلك. ظهرت العديد من الخطابات الاستعمارية الداعية لمكافحة حركات المقاومة والمقاومين بإطلاق  لفظ “المخربين” أو “الإرهابيين” عليهم، بدعوى أنها تعكر العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية، وتحول دون تحقيق السلام.  بالإضافة إلى التعاون المسبق بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية من خلال حملة ” جزّ العشب”، والتي هدفت إلى مطاردة وملاحقة المقاومين في الضفة. والتي بثَّت – من خلال التحالفات الحاصلة بين المستعمِر والنخب أو الطبقة الحاكمة- الخوف والرعب في قلوب الفلسطينيين، وغدت فكرة المقاومة فردية، لا جماعية تقوم على جمع الأفراد وتعبئتهم نحو التخطيط والتنفيذ. كما أن سياسة الحكومة الفلسطينية وأجنداتها المروجة للاعنف والسلام، وعمل مؤسساتها القائم على أموال الدول الأجنبية المانحة. والتركيز على الرفاهية الاقتصادية، وخلق انتماءات سياسية ناعمة، ونشاطات مدنية لتفريغ قدرات الشباب. وغيرها من استراتيجيات مكافحة التمرد، أدخلت الفلسطينيين في حالة من الغيبوبة النضالية. واستسلام الشعب في الوقت ذاته لعمليات المكافحة الإسرائيلية.

على الرغم من ذلك، جاءت الهبة الشعبية الأخيرة التي تغذت على الظروف الانفعالية، ورداً على سياسة مكافحة التمرد الإسرائيلية، بغربلة القيم مرة أخرى وفق فانون، لا سيما التي لا تتصل اتصالاً مباشراً بمعركة التحرير. كأن تتخذ من الكفاح المسلح طريقاً لها. تحاول من خلاله حشد الجماهير، وخلق القيم والمفردات النضالية الخاصة بها، وإعادة صياغة الشكل الجديد للعلاقة مع المستعمِر. هي اللحظة التي تحاول فيها حركات التمرد أو المقاومة على استبدال ممصطلح التفاهم الودي الذي أغرق المجتمع الفلسطيني في السنوات العشر الأخيرة الماضية، بمفاهيم  الزلزال الذي يضرب عمق الصراع مع المستعمِر، مذكراً إياه بقانون فناء الأنظمة الاستعمارية والقضاء على وجودها. وفشل سياسة خلق “المناطق الخضراء الآمنة” الخالية من المقاومين وحركات التمرد. من خلال خروج أفراد يقومون بعمليات طعن من مناطق مختلفة.

 تحسين أوضاع الناس، ومنح التصاريح، والسماح لهم بالسفر. كلها تمثل صوراً للإجراءات الإسرائيلية في مكافحة التمرد، التي تركز تحديداً على الجانب المدني والاجتماعي منها، في خطوة نحو قتل الحاضنة الشعبية للمقاومة. وتفكيك حركات التمرد، وإيصال رسالة استعمارية بأن الشعب لم يعد يكترث لمفاهيم التحرر ودحر الاحتلال.

في الهبة الأخيرة التي تصاعدت فيها العمليات الفردية، قام الاحتلال باستخدام العديد من التكتيكات العسكرية ضمن مفهوم

 “مكافحة التمرد” والتي تجلت بطرق عديدة منها: [40]

  • تقسيم المناطق الفلسطينية إلى مناطق آمنة وأخرى خطرة، ومناطق جيدة وأخرى سيئة. وبدا واضحاً من خلال القيام بحظر تجول وفرض طوق أمني في بعض مناطق وقرى الخليل، التي برزت فيها حركات التمرد والمقاومة بشكل واضح قياساً بباقي المناطق.
  • هدم بيوت المقاومين، بعد الكشف عن القيام بعمليات تجاه الاحتلال، ومنع إعادة بنائها في الوقت ذاته.
  • اقتحام البيوت والتفتيش، من خلال العمليات العسكرية المكثفة، والجرعات الاستعمارية القائمة على ضبط المجتمع، وإشعاره بالرقابة المستمرة من خلال تنظيم المداهمات، كأن تكون كل 24 ساعة. بهدف تفكيكه وتقليل دعمه لحركات المقاومة.
  • اعتقال كل من يمت بصلة للمقاومة والمقاومين، ومن ليس لهم علاقة أيضاً، وإصدار (الحكم الإداري) على العديد منهم، والذي غالبا يتم تطبيقه على الفلسطيني حين يفشل الاحتلال في إثبات تهمة موجهة ضده.

لم يقتصر الاحتلال على هذه الاستراتيجيات في عملية مكافحته للتمرد في الهبة الأخيرة، بل حاول خلق مصالح مشتركة مع المستعمَر من خلال النخب الثقافية، وهذا ما تقوم به الأنظمة الاستعمارية وفقاً لفانون: “عندما تفشل في السيطرة على البلاد المستعمَرة، تقرر أن تقود معركة خلفية في ميدان القيم والثقافة والتكنيك”. بهدف خلق مجموعة من التغييرات للتخفيف من الموجة الحالية، وإمكانيات نشوء هبات مستقبلية أخرى”.[41]

الخاتمة

تصل الدراسة إلى أن تطبيق عقيدة مكافحة التمرد في كافة المناطق التي تحتضن حركات مقاومة لا تؤتي أكلها على نحو مشابه، وهذا ما بدا واضحاً عند استعراض التاريخ الإسرائيلي لمكافحة التمرد والاستراتيجيات المستخدمة في ذلك. فنجاح هذه العقيدة في كل من أفغانستان والعراق على يد القوات الأمريكية، ليست بالضرورة أن تكون كذلك عند استخدام الاحتلال الإسرائيلي لها وتطبيقها على الوضع الفلسطيني. فتاريخية الصراع بين الطرفين لا تجدي التكتيكات “الناعمة” معها. خاصة وأن سيكولوجية الفلسطيني والظروف التي مر بها، تجعله قادراً على خلق وبعث روح المقاومة مع كل محطة فتور،  كما هو الحال في ظهور الهبة الشعبية الأخيرة، رغم مرور أكثر من عشرة سنوات على الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

تفكيك فانون لماكينة الخطاب الاستعماري وآلية عمله، من خلال استعراض العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر بدت واقعية وحيّة في الوقت ذاته، من حيث إخضاع السكان، والتحالفات التي ينشئها المستعمِر مع النخب الثقافية والطبقة الحاكمة، تشير إلى أن المنظومة الاستعمارية ليست عفوية أو مفتعَلة بقدر ما تقوم على سياسات مدروسة، تُبعد الشعوب عن نيل تحررها إذا لم يكن الشعب ذاته واعياً ومبصراً لآلية عمل هذه الماكينة. وقادراً في الوقت ذاته على استخدام الآليات والوسائل التي تقوضها وتقلل من فعاليتها.

فخطاب فانون كان بنظري مفككاً للاستعمار وللمجتمعات المستعمَرة على النحو الذي يساعد حركات المقاومة على معرفة خطوط تحررها. فلم يتوقف فانون  في أطروحته بالحديث عن الاستعمار وأساليبه في الهيمنة، بل فتح نوافذ لكيفية التعامل مع سياسته، لأن الوعي بنظره هو الخطوة الأولى للتحرر قبل امتلاك المقومات المادية المساعدة على النهوض والمواجهة.

وبهذا ينجح فانون في الوقوف على الملامح العامة للسياسات الاستعمارية، ويخوض بتفاصيلها بصورة تكشف للباحث كل ما له علاقة بالنظام الاستعماري. فهو لا يقيد الاستراتيجية الاستعمارية بمجتمع دون آخر، ولا يرهنها لنماذج تبطل فعاليتها. ليكون منطق مكافحة التمرد الذي ينتهجه الاستعمار ذاته المتبع في كل الدول والأقاليم الخاضعة للمستعمِر. وظهر ذلك واضحاً عند خوض الحديث عن الهبة الشعبية وكيف قامت العمليات الفردية  بمكافحة ” مكافحة التمرد”، حيث كان من السهولة استخدام أطروحة فانون في الحديث عن الواقع الفلسطيني، وتوظيف الأفكار التي طرحها في تفكيك سياسة مكافحة التمرد التي يتبعها الاحتلال تجاه الفلسطينيين في السنوات العشرين الماضية. كما ساعدت في الإشارة إلى الطرق التي يمكن من خلالها مكافحة “مكافحة التمرد” بالحديث عن مفهوم وحدة الصف. واستخدام العنف. ورفض الحلول السلمية، وخلق قيم ومعايير تليق بحركات التمرد وبالمجتمعات الحاضنة لها. ليمثل فانون الطبيب الحقيقي للشعوب المستعمَرة، حيث يشق جرحها ويجترح العلاج في الوقت ذاته. وبهذا ينطبق خطاب فانون إلى حد كبير، عند الحديث عن خصوصية المجتمع الفلسطيني المستعمَر، بالشكل الذي يُسدل أمامه أستار المثالية المنطبقة على أطروحات بعض المفكرين. والتي تكون مجرد نظريات منفصلة عن الواقع.

قائمة المصادر:

د. كنانة، علي ناصر، إنتاج وإعادة إنتاج الوعي ،2009، منشورات دار الجمل.

فانون، فرانز. ترجمة سامي الدروبي والدكتور جمال الأتاسي، معذبو الأرض، بيروت، دار الفارابي ومنشورات آنيب، 2004.

مواقع الكترونية:

التميمي، علا. دليل أمركي جديد لمكافحة المقاومة والقاعدة، موقع الأخبار، نسخة الكترونية استرجعت بتاريخ،14/1/2016، http://www.al-akhbar.com/node/198889

 الدسوقي، محمد. سيكولوجية التمرد: دراسة نفسية مقارنة بين المتمرد على السلطة والسيكوباتي، 1989، نسخة الكترونية استرجعت  file:///C:/Users/ekhlouf/Downloads/9801-001-014-0020-F.pdf

بتريللي، نيكولو. ردع المتمردين: ثقافة، تكيّف وتطور مكافحة التمرد الإسرائيلي 1987-2005. نسخة الكرتونية، استرجعت بتاريخ،17/1/2016،http://www.rsgleb.org/modules.php?name=News&file=article&sid=434،

بلشر، أوليفر. ما بعد الاستعمار، العلوم الاجتماعية العسكرية، وصنع عقيدة مكافحة التمرد الأميركية، موقع مجموعة الخدمات البحثية، نسخة الكرتونية، استرجع بتاريخ 17/1/2016، http://www.rsgleb.org/modules.php?name=News&file=article&sid=375

ديبو محمد، أدلجة الذات وأبلسة الآخر، استرجع بتاريخ 17/1/2016، نسخة الكترونية،

http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/1490

عبد المجيد، حامد. عمليات الاحتجاج والعصيان السياسي: دراسة في عوامل النجاح والفشل، 2000، نسخة الكترونية استرجعت بتاريخ 17/1/2016، file:///C:/Users/ekhlouf/Downloads/0468-002-008-004%20(1).pdf.

عزريل، سمر. ماهي عقيدة مكافحة التمرد، موقع شبكة القدس الإخبارية، نسخة الكترونية استرجعت بتاريخ 14/1/2016، http://www.qudsn.ps/article/18106، تاريخ التحميل 16/6/2013.

كابلنز، فريد. أفول عهد بترايوس ونهج مكافحة التمرد، موقع الحياة، نسخة الكترونية استراجعت بتاريخ 14/1/2016، http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat، تاريخ التحميل 6/2/2013.

نايلي، نبيل. العقيدة العسكرية الأمريكية من الصدمة والترويع إلى دليل مكافحة التمرّد، نسخة الكترونية، استرجعت بتاريخ 17/1/2016، http://www.amgadalarab.com/?todo=view&cat=20&id=00003270%20%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A9

مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي، http://alqudscenter.net.

مراجع بالانجليزية

. Yashar، Keramat. Twenty Years in the Making: The Palestinian Intifada of 1987,productoin2007, Digital Copy retrieved on 01/17/2016, http://www.nobleworld.biz/images/Keramati3.pdf

يوتيوب:

عودة الله، خالد. كيف تحاول إسرائيل قمع الهبة الشعبية.. قراءة في مكافحة التمرد في فلسطين، محاضرة الكترونية استرجعت بتاريخ 14/1/2016، https://www.youtube.com/watch?v=–nnyYcMX_I ،

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016

[1]. التميمي، علا. دليل أمركي جديد لمكافحة المقاومة والقاعدة، موقع الأخبار، نسخة الكترونية استرجعت بتاريخ،14/1/2016، http://www.al-akhbar.com/node/198889 ، تاريخ التحميل، 18/1/2014.

. المصدر السابق.[2]

[3]. دافيد غالولا: جنرال فرنسي، التحق بالمدرسة العسكرية الفرنسية، عمل بصفة ملاحظ للأمم المتحدة باليونان سنة 1949، حيث شهد اندحار التمرّد الذي قام به الشيوعيون. مهامه وترحاله الكثير مكنه من جمع قاعدة بيانات ومن دراسة ومتابعة حركات التمرّد والمقاومة عن قرب. ذلك ما أهّله لأن يكون على رأس كتيبة المدفعية عدد 45 بالجزائر سنة 1956، وتحديدا بمنطقة جبل ميمون بالقبائل الكبرى، حيث كانت حقلاًلتجربة أفكاره في قمع وإجهاض الانتفاضات وكسر حركة التمرّد.

[4]. جنرال أمريكي عمل في مجال القوات البرية وتولى مناصب قيادية في قوات المظليين الآلية والمشاة الجوية الهجومية في أوروبا والشرق الأوسط والولايات المتحدة. تم ترشيحه كقائد قائد للقوات الأمريكية لأنه  كان أحد مهندسي الخطة الجديدة للرئيس الأمريكي “جورج بوش” لإنقاذ قواته في العراق والتي تقضي بإرسال 21500 جندي إضافي إلي بغداد لمواجهة المقاومة الإسلامية التي تشكل خطراً كبيراً علي قوات الاحتلال .

[5] . عزريل، سمر. ماهي عقيدة مكافحة التمرد، موقع شبكة القدس الإخبارية، نسخة الكترونية استرجعت بتاريخ 14/1/2016، http://www.qudsn.ps/article/18106، تاريخ التحميل 16/6/2013.

[6]. كابلنز، فريد. أفول عهد بترايوس ونهج مكافحة التمرد، موقع الحياة، نسخة الكترونية استراجعت بتاريخ 14/1/2016، http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat، تاريخ التحميل 6/2/2013.

[7]. عودة الله، خالد. كيف تحاول إسرائيل قمع الهبة الشعبية.. قراءة في مكافحة التمرد في فلسطين، محاضرة الكترونية استرجعت بتاريخ 14/1/2016، https://www.youtube.com/watch?v=–nnyYcMX_I ، تاريخ التحميل 12/12/2015.

[8]. Yashar، Keramat. Twenty Years in the Making: The Palestinian Intifada of 1987,productoin2007, Digital Copy retrieved on 01/17/2016, http://www.nobleworld.biz/images/Keramati3.pdf

[9]هي موجة احتجاجات وأعمال عنف تشهدها الضفة الغربية وقطاع غزة وإسرائيل منذ بداية أكتوبر 2015 حتى اللحظة. تميزت بقيام  شبان فلسطينيين بعمليات فردية تمثلت بالطعن والدهس للإسرائيليين.[9]  وبلغ عدد الشهداء حتى اللحظة 158 شهيداً، و442  إعتداء من المستوطنين بحماية قوات الاحتلال الصهيونية.

. عودة الله، خالد. كيف تحاول إسرائيل قمع الهبة الشعبية.. قراءة في مكافحة التمرد في فلسطين، مرجع سابق. [10]

. فانون، فرانز، معذبو الأرض. 1979.[11]

[12]. عبد المجيد، حامد. عمليات الاحتجاج والعصيان السياسي: دراسة في عوامل النجاح والفشل، ص149، نسخة الكترونية استرجعت بتاريخ 17/1/2016، file:///C:/Users/ekhlouf/Downloads/0468-002-008-004%20(1).pdf.المرجع السابق، ص149.

.المرجع السابق، ص149.[13]

[14]. عزريل، سمر. ماهي عقيدة مكافحة التمرد، موقع شبكة القدس الإخبارية، نسخة الكترونية استرجعت بتاريخ 14/1/2016، http://www.qudsn.ps/article/18106

. المرجع السابق.[15]

.المرجع السابق.[16]

.[17] بلشر، أوليفر. ما بعد الاستعمار، العلوم الاجتماعية العسكرية، وصنع عقيدة مكافحة التمرد الأميركية، موقع مجموعة الخدمات البحثية، نسخة الكرتونية، استرجع بتاريخ 17/1/2016، http://www.rsgleb.org/modules.php?name=News&file=article&sid=375

[18]. بلشر، أوليفر. ما بعد الاستعمار، العلوم الاجتماعية العسكرية، وصنع عقيدة مكافحة التمرد الأميركية، مرجع سابق،http://www.rsgleb.org/modules.php?name=News&file=article&sid=375

[19] .  نايلي، نبيل. العقيدة العسكرية الأمريكية من الصدمة والترويع إلى دليل مكافحة التمرّد، نسخة الكترونية، استرجعت بتاريخ 17/1/2016، http://www.amgadalarab.com/?todo=view&cat=20&id=00003270%20%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A9، تاريخ التحميل، 14/8/2010.

[20] .المرجع السابق.

[21] .المرجع السابق.

[22] . د. كنانة علي ناصر، انتاج وإعادة إنتاج الوعي ،2009، منشورات دار الجمل، ص109-110.

[23]. المرجع السابق، ص111.

[24] . ديبو محمد، أدلجة الذات وأبلسة الآخر، استرجع بتاريخ 17/1/2016، نسخة الكترونية،http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/1490 ، تاريخ التحميل 22/4/2009.

[25] . المرجع السابق.

[26] . بتريللي، نيكولو. ردع المتمردين: ثقافة، تكيّف وتطور مكافحة التمرد الإسرائيلي 1987-2005. نسخة الكرتونية، استرجعت بتاريخ،17/1/2016،http://www.rsgleb.org/modules.php?name=News&file=article&sid=434، تاريخ التحميل 16/7/2013.

[27] . المرجع السابق.

.المرجع السابق.[28]

[29] . . بتريللي، نيكولو. ردع المتمردين: ثقافة، تكيّف وتطور مكافحة التمرد الإسرائيلي 1987-2005. نسخة الكرتونية، مرجع سابق.

. المرجع السابق.[30]

[31] . المرجع السابق.

[32] . بتريللي، نيكولو. ردع المتمردين: ثقافة، تكيّف وتطور مكافحة التمرد الإسرائيلي 1987-2005. نسخة الكرتونية، مرجع سابق.

[33] . المرجع السابق.

[34] .المرجع السابق.

[35] . المرجع السابق.

.[36]  Yashar، Keramat. Twenty Years in the Making: The Palestinian Intifada of 1987,productoin2007,page3-6, Digital Copy retrieved on 01/17/2016, http://www.nobleworld.biz/images/Keramati3.pd

[37] . مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي، http://alqudscenter.net.

. فانون، فرانز، معذبو الأرض، مرجع سابق، ص52.[38]

[39].المرجع السابق، ص59 .

[40]. عودة الله، خالد. كيف تحاول إسرائيل قمع الهبة الشعبية.. قراءة في مكافحة التمرد في فلسطين، محاضرة الكترونية استرجعت بتاريخ 14/1/2016، https://www.youtube.com/watch?v=–nnyYcMX_I

[41] . فانون، فرانز. مرجع سابق، ص40.

للتحميل من هنا

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات ©2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى