الاصداراتمشاهد

الاحتجاجات بين تجاوز البعد الطائفي والمستقبل السياسي القادم

يستمر الشارع اللبناني بالاحتجاجات التي بدأت في 17 تشرين الأول/أكتوبر، ضد سياسات وإجراءات الحكومة وتوجهات بعض التيارات والأحزاب السياسية الفاعلة في المشهد اللبناني على مدى سنوات منذ انتهاء الحرب الأهلية في لبنان عام 1990. وتقاسم السلطات على أساس طائفي قائم على المحاصصة؛ تم وضعه كحل للأزمة الطائفية في لبنان في مرحلة سابقة. لكن يبدو أن الشارع اللبناني بدأ يرى أن هذا الحل أصبح هو المشكلة ولذلك تعدت مطالبه بالإصلاحات الاقتصادية ضمن سياق الإصلاحات الحكومية إلى رفع شعارات البحث عن الدولة الوطنية.

وتسود حالة من الترقب لدى بعض التيارات السياسية الفاعلة في لبنان، لمحاولة استيعاب مطالب المحتجين بعيدًا عن التأثير على نفوذها في الدولة وأجهزتها ومن أبرز هذه الأحزاب: حزب الله وتيار المستقبل والتيار الوطني الحر والرئيس ميشيل عون. ما يطرح التساؤل حول ردود فعل هذه القوى بين مؤيد للاحتجاجات ومعارض لها ومحاول لاستيعابها.

بدأت ملامح الاضطراب السياسي في لبنان بالظهور منذ أحداث جبل لبنان 30-6-2019 التي حدثت فيها اشتباكات بين مناصرين للحزب التقدمي الاشتراكي وموكب وزاري تابع للتيار الوطني الحر الذي يرأسه جبران باسيل([1])، ما أعاد للأذهان الصورة القاتمة للحرب الأهلية اللبنانية وإمكانية عودتها في ظل انقسام سياسي حاد بين القوى المختلفة ظهر جلياً في قضية تشكيل الحكومة في 31-1-2019([2])، واستقالة سعد الحريري عام 2017([3]). وعودته لاستلام مهام منصبه مجدداً وأخيراً استقالته منذ أيام([4])، ما يفتح العديد من الاحتمالات أمام مستقبل تشكيل الحكومة واستقرار البلاد.

تداعيات الاحتجاجات استقرار أم فوضى؟

تحاول قوى الحراك المدني اللبنانية المحافظة على إطار الاحتجاج السلمي لإدراك اللبنانيين جيداً تداعيات إحداث أي أعمال شغب أو تخريب، ولذلك فإن الاحتجاجات اللبنانية لا زالت تحافظ على سلميتها، لكن الممارسات التي حدثت مؤخراً من قبل حزب الله وحركة أمل – أو على الأقل تيار نبيه بري المؤيد لحزب الله داخل حركة أمل- بإثارة أعمال العنف والاعتداء على المحتجين وتكرار لمشهد الترهيب الذي يتبعه حزب الله لضبط نفوذه في لبنان([5])، تترك الاحتمال مفتوحاً أمام استخدام القوة المفرطة من قبل حزب الله وحلفائه حركة أمل وغيرهم من الأحزاب التي قد تجد من مصلحتها إنهاء الاحتجاجات، ما قد يقود إلى سيناريو قاتم من أحداث الحرب اللبنانية الأهلية أو تكرار لأحداث 7 أيار التي اجتاحت فيها ميليشيا حزب الله وحلفائه العاصمة بيروت وحاصرت مبنى الحكومة اللبنانية في السرايا على خلفية كشف كاميرات المراقبة التابعة للحزب في مطار رفيق الحريري، ما دفع رئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة التابع لتيار المستقبل، بفرض قرارات “تقضي بتأكيد حق الدولة وواجبها وإصرارها على استكمال متابعة قضية الكاميرات لمراقبة المدرج الرئيسي في المطار والتي تم تركيبها من حزب الله، بما يهدّد أمن المطار وسلامته ويشكّل انتهاكاً أيضاً لسيادة الدولة. بالإضافة إلى رفض الادعاء بأن حماية حزب الله تستوجب إقامة مثل هذه الشبكة واعتبارها سلاحاً مكملاً لسلاح المقاومة”. وهو الأمر الذي استدعى تحرك حزب الله الميليشيوي تجاه بيروت([6]). وعليه فإن اتبع حزب الله ذات التوجه فستكون الخطوة الاستباقية التي قام بها الجيش اللبناني بالانتشار لحماية المتظاهرين([7]) غير مجدية خصوصاً في مناطق نفوذ الحزب وحركة أمل.

بالتالي فإن حزب الله قد يكون لديه الاستعداد لتكرار ذات الخطوة إذا ما شعر أن هناك تهديداً بعيد المدى سيضر بمصالحه ويؤثر على شبكة نفوذه واسعة النطاق في لبنان على الأصعدة الأمنية والاقتصادية -غير الشرعية- واللوجستية([8]) وهو ما حملته مضامين خطاب حسن نصر الله الأخير خصوصاً عندما حذر من حرب أهلية محتملة في حالة فراغ السلطة ([9])، لكن ما قد يمنع حدوث ذلك هو أن تقوم غالبية الحاضنة الشعبية والمؤيدة للحزب بالانضمام للانتفاضة ما سيؤدي إلى حدوث انشقاقات أو تباينات داخل قيادات وعناصر حزب الله وهو ما سيضعف ردة فعله على قمع الاحتجاجات.

مستقبل الحياة السياسية في لبنان

كان من اللافت الشعار الذي حملته الاحتجاجات اللبنانية وهو المناداة بتجاوز المحاصصة الطائفية وبناء دولة وطنية تحقق العدالة لجميع الطوائف وتمهد لمرحلة سياسية جديدة في البلاد، بعد أن كان الدافع الرئيسي للحراك هو سوء الحالة الاقتصادية وسياسات الحكومة بتحسين سبل العيش بالنسبة للمواطنين([10])، لكن أزمة الثقة بين الشارع وحكومة العهد والتيارات السياسية أفضت إلى رفع الشارع سقف مطالبه بتغيير الملامح الرئيسية لشكل الدولة في لبنان. ما قاد رئيس الحكومة سعد الحريري إلى الاستقالة لإدراكه أن بقاءه على رأس حكومة فقدت ثقة الشعب سيشكل خطراً على مستقبل تيار المستقبل في الحياة السياسية اللبنانية المقبلة بالتالي فإن خطوة الحريري كانت هروباً إلى الأمام للتخلص من المسؤولية الملقاة على عاتقه بإدارة الحكومة، فكان أفضل الخيارات بالنسبة للتيار وللحريري مواكبة مطالب المحتجين.

في ذات الوقت حاول الرئيس ميشيل عون احتواء الموقف لكن الشارع الذي يرى في شخصية عون شخصية عسكرية توافقية لم تقنعه الوعود التي أطلقها، وكان الشارع في حالة ترقب لموقف الرئيس عون، لكن يبدو أن رد فعل الأخير لم يكن بحجم ما يتطلع إليه الحراك، خصوصاً في خطابه الأخير الذي اعتبر فيه أن “النظام لا يتغير في الساحات ولكن التغيير يتم من خلال المؤسسات الدستورية”([11]). وبناء على ذلك فإن الأنظار متجهة حالياً إلى الدور الذي سيلعبه عون كرئيس للدولة من طرف، وكشخصية قديمة في لبنان تمتلك نفوذاً كبيراً على المستوى الداخلي وعلاقات خارجية جيدة مع دول منها فرنسا والولايات المتحدة، بضبط ما آلت إليه الأحداث ومنع انجرار البلاد نحو فتيل حرب طائفية جديد قد يسعى إلى تنفيذه حزب الله ومن يسانده.

وبالنسبة للتيارات الفاعلة الأخرى التي أيدت الحراك ومنها، حزب القوات اللبنانية([12]) والحزب التقدمي الاشتراكي([13]) والكتائب اللبنانية([14])، فهي تتطلع للعب دور الممثل لصوت المتظاهرين، وأن تمثل الغطاء السياسي لمطالبهم، لكن قد يكون الشارع أصبح رافضاً لتصنيفه على أحزاب وتيارات معينة لذلك قد يصبح تمثيل صوت المحتجين مدنياً أي تقوده المنظمات الأهلية والمجتمع المدني ما سيؤكد أيضاً على سلمية الاحتجاجات ويلعب دوراً إيجابياً في عدم الانزلاق نحو العنف.

أما القوى التي ستكون خارج دائرة مطالب الشارع، كحزب الله وحركة أمل وغيرها فإن مستقبلها سيكون مرهوناً بردود أفعالها، فإن اتجهت نحو التصعيد والعنف فهي ربما تنجح في قمع المظاهرات وستتمكن من تثبيت نفوذها في السلطة لكن ذلك لن يكون إلا على المدى القريب فقط، وعلى المدى المتوسط ستواجه هذه القوى القمعية خيار التفكك أمام احتجاجات لبنانية جديدة ستتحرك لمواجهة هذه السياسات. أما إن اختارت تلك القوى التزام موقف الحياد –على سبيل المثال- فإن الشارع كذلك لن يتقبلها لمعرفة توجهاتها وسلوكها الميليشيوي القائم على بسط النفوذ ودعمه بطرق غير شرعية. في حين إن كان خيارها دعم مطالب المحتجين فليس من المتوقع أن يحدث ذلك بدون حصول انشقاقات داخل تلك القوى تؤدي بانقسامها إلى ظهور تيارات تدعم المتظاهرين.

([1]) “أثار عاصفة سياسية.. اشتباك في جبل لبنان يودي باثنين من مرافقي وزير”. الجزية نت، 30-6-2019. https://bit.ly/2Nwq4le

([2]) “لبنان: إعلان تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري بعد أكثر من ثمانية أشهر على تكليفه”. فرانس24، 31-1-2019. https://bit.ly/2PCxZjF

([3]) “لبنان: رئيس الحكومة سعد الحريري يعلن استقالته”. فرانس24، 4-11-2017. https://bit.ly/2N39pqh

([4]) “استقالة سعد الحريري: اشتباكات واحتفالات في لبنان”. بي بي سي، 30-10-2019. https://bbc.in/2r3dNNA

([5]) “لبنان.. أنصار “حزب الله” و”حركة أمل” يهاجمون متظاهرين وسط بيروت”. الأناضول، 29-10-2019. https://bit.ly/336wJJr

([6]) “المشهد اللبناني: نفوذ حزب الله وذكرى أحداث 7 أيار”. برق للسياسيات، 29-6-2019. https://bit.ly/2PIEsJX

([7]) “الجيش اللبناني “ملتزم بحرية التعبير”.. وفيديو لجندي يبكي في مواجهة المتظاهرين”. سي إن إن، 23-10-2019. https://cnn.it/337Z2Hg

([8]) انظر المرجع رقم (6).

([9]) “لبنان: نصر الله يحذر من حرب أهلية محتملة في حالة فراغ السلطة”. DW، 25-10-2019. https://bit.ly/2JG5JZp

([10]) “ناشطون: ثورة لبنان نسائية شبابية ترسم مستقبلا واعدا (تقرير)”. الأناضول، 25-10-2019. https://bit.ly/2oA5V5a

([11]) “دعا للحوار.. عون: الطائفية حطمتنا والفساد نخرنا حتى العظم”. الجزيرة نت، 24-10-2019. https://bit.ly/2q98iwg

       “احتجاجات لبنان.. رد على خطاب عون بـ”كلمة واحدة”. سكاي نيوز عربية، 31-10-2019. https://bit.ly/36hpss6

([12]) “مظاهرات لبنان.. جنبلاط يدعو أنصاره للتحرك السلمي: في مناطقنا لعدم خلق حساسيات”. سي إن إن، 18-10-2019. https://cnn.it/2qeH47G

([13]) “مظاهرات لبنان: سمير جعجع يعلن استقالة وزراء حزب القوات اللبنانية من الحكومة”. بي بي سي، 19-10-2019. https://bbc.in/2qVXzFM

([14]) “سامي الجميل ينضم الى المتظاهرين في جل الديب… ويفترش الأرض معهم (فيديو)”. LBCI، 23-10-2019. https://bit.ly/2oASKRw

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى