الاصداراتمشاهد

قراءة في مواقف “الشخصية الحرجة” في الانتخابات التونسية

أشارت حملة الانتخابات الرئاسية في تونس إلى وصول البلاد نحو مرحلة سياسية مغايرة عن الذي شهدتها في الأعوام الماضية، حيث حمل فوز المرشح قيس سعيد بكرسي الرئاسة دلالات عدة حول مستقبل تونس السياسي، وحول مدى التأثير الحزبي على آراء الناخبين التونسيين، والذي أفضى إلى وصول شخصية مستقلة بعيدة عن العمل الحزبي إلى رأس السلطة، عبر حملة انتخابية متواضعة لأستاذ جامعي مختص في القانون الدستوري، وصاحب مواقف أثارت الجدل في الشارع التونسي، بالإضافة إلى منافسة مرشح متهم بقضايا تهرب ضريبي.

كان المشهد التونسي في سباق الرئاسة معقدًا ومثيرًا للتساؤلات، ففي المرحلة الثانية تم حصر خيار الناخبين بين شخصية تمتلك أدوات التأثير لكنها متهمة في نزاهتها وهو المرشح نبيل القروي، وشخصية أخرى أكاديمية بعيدة عن دوائر صناعة القرار وعن الخبرة في العمل السياسي وهو قيس سعيّد الذي راهن على القاعدة الشعبية ومواقفه الصريحة في عدة قضايا داخلية ودولية حساسة، لكن في مضامينها هي أقرب للشعارات منها إلى التطبيق في ظل واقع سياسي داخلي وخارجي متغير، ما يضع خطاب الرئيس التونسي في خانة التساؤل حول إمكانية المضي قدمًا فيما وعد بتطبيقه وفيما عبر عنه من آراء.

من جهة أخرى، بدا مسار العملية الانتخابية الرئاسية غير منطقيٍ لكثير من الأوساط السياسية، وخصوصًا عندما فاز حزب النهضة الذي دعم قيس سعيد بغالبية المقاعد البرلمانية التي تؤهله  لتشكيل حكومة ائتلافية وهي المعنية بإدارة شؤون البلاد أكثر من الجهاز الرئاسي، وعليه يثار التساؤل عن طبيعة العلاقة المستقبلية بين الحكومة والرئيس قيس سعيد، خصوصًا وأنها كانت في عهد الرئيس السباق الباجي قايد السبسي متوترة إلى حد بعيد وصل إلى مطالبته باستقالة رئيس الحكومة حينها يوسف الشاهد.

مضامين مواقف الرئيس سعيّد في طريق الوصول إلى كرسي الرئاسة

كان خطاب الرئيس قيس سعيد أقرب إلى الخطاب المحافظ الشعبوي، الذي يميل إلى كسب ثقة ومشاعر الجماهير بمواقف كلاسيكية بعيدة عن الخطاب الحداثي سواء السياسية منها أو الاجتماعية وفيما يلي أبرز هذه المواقف:

القضية الفلسطينية([1])

اعتبر قيس سعيد أن: “أي تطبيع مع إسرائيل هو خيانة وجريمة عظمى، متعهدًا أنه في حالة فوزه بكرسي الرئاسة سيمنع دخول أي شخص بجواز سفر إسرائيلي إلى تونس، لأن الأخيرة في حالة حرب مع إسرائيل”. مظهرًا دعمه الصريح للقضية الفلسطينية، لكن وفق عبارات أقرب إلى الخطاب القومي العربي، لكن هذا الموقف أعطاه الأفضلية على منافسه نبيل القروي لأنه بحسب وسائل إعلامية كان له لقاء مع ضابط موساد إسرائيلي، وتلقى منه مبالغ طائلة لقاء الترويج لحملته الرئاسية دوليًا، وقد فتح القضاء التونسي تحقيقًا في القضية.

وفي الوقت الذي يشهد فيه المسار العربي- الإسرائيلي جدلًا حول الدخول في ما يشبه عملية التطبيع وإنشاء علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وفق ما بات يسمى بـ “تسويات كوشنر” أو “صفقة القرن”([2])، يسود اعتقاد حول الخطوات العملية التي ستترجم مواقف الرئيس سعيد، التي قد تشكل عقبة أمام تقدم مستوى تونس الدبلوماسي في علاقاتها مع المحيط الإقليمي والدولي لأن هذا الملف قد يشكل حساسية بالغة في المدى المتوسط بين دول رافضة للتطبيع ودول أخرى تسعى إليه.

الربيع العربي والعلاقات مع الدول العربية([3])

يستخدم قيس سعيد في خطاباته مصطلح الثورة كثيرًا ويبني عليه العديد من رؤاه ووعوده، ومن هذا المنطلق “أعلن انحيازه الصريح للربيع العربي وشددّ على أهمية وحدة المغرب العربي، فأول زيارة خارجية له ستكون إلى الجزائر؛ أما جامعة الدول العربية التي عمل بها طويلًا، فقد وصفها بأنها كيان يمتلك حصانة ضد الموت، لكنّه أيضًا يمتلك مناعة ضد التقدم”. لكنه في ذات الوقت يرفض التدخل في أي من الصراعات الدائرة في المنطقة، سواء سوريا أو ليبيا، أو اليمن.

وأكد سعيد التزام بلاده “بكل المعاهدات المبرمة سابقًا وإن كان من حقها مراجعة البعض منها على أسس التفاهم بين الأمم والشعوب مشددًا على أن الامتداد الطبيعي لتونس هو مع بقية دول المغرب العربي وإفريقيا والعالم العربي وشمال المتوسط ومع بقية الدول الصديقة لها”.

الاتحاد الأوروبي

اعتبر سعيد أن “الاتحاد الأوروبي ند بلا أفضلية، يتساوى مع بلاده في الاحتياج والمصالح المشتركة. ويرفض أن يكون للتدخل الأجنبي دور في توجيه خيارات الشعب”([4]). وحول العلاقة مع فرنسا رأى أنه “يجب احترام سيادة تونس على ثرواتها وحدودها، وأن هناك ضرورة لمراجعة كل العقود الموقعة والتي ستوقع مع الشركات الفرنسية والأجنبية لاستغلال ثروات تونس”([5]). وعلى الرغم من لقاء سعيد ببعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات في تونس قبيل إعلان النتائج بأيام([6])، ترى أوساط سياسية أن الرئيس الجديد لن يكون بمقدوره الخروج من دائرة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والتعامل معه بندية كما تحدث سعيد، نظرًا لوجود مصالح استراتيجية طويلة الأمد للاتحاد في تونس والتي ينظر إليها على أنها أحد عوامل استقرار القارة الأوروبية، وعليه فإن سعيد لن يستطيع إحداث تغيير بنيوي في طبيعة العلاقات الأوروبية-التونسية.

القضية السورية([7])

كان موقف سعيد من الوضع في سوريا غير واضح المعالم، فهو يعتبر أن الثورة السورية تحولت إلى مؤامرة تهدف إلى تقسيم سوريا إلى دويلات، وأن الوضع القائم حاليًا يهدف إلى إسقاط الدولة السورية، وليس إلى تحقيق الديمقراطية والتحرر من الاستبداد الذي طالب به السوريون في احتجاجاتهم. وأن التدخل الأجنبي في سوريا كان هدفه إسقاط الدولة وليس النظام، معتبرًا أن قضية إسقاط النظام شأن داخلي سوري وليس لتونس علاقة بها.

وبحسب مصادر خاصة مقربة من الرئيس التونسي، فإنه “ليس لديه مانع من إعادة العلاقات مع ما سماه “الدولة السورية” وليس بشار الأسد”. لكن هذا الموقف يثير الجدل حول طبيعة تأييد الرئيس سعيد لثورات الربيع العربي وحراك الشعوب ضد الاستبداد وتبنيه لشعار “الشعب يريد” لحملته الانتخابية وبين اعتباره ما آلت إليه الاحتجاجات في سوريا إلى مؤامرة، وهو ما يفتح الباب أمام إمكانية قبول تونس بعودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية وهو الرابط بين موقفه من جامعة الدول العربية وبين موقفه من القضية السورية.

القضايا الداخلية

على الصعيد الاقتصادي يرى الرئيس أن “الاقتصاد لن يتحسن، والبطالة لن تُحل، إلا إذا أصدرت الدولة مبادرات تشريعية جديدة. كما أنّه على تونس أن تسترجع مكانتها الاقتصادية وفاعليتها الاجتماعية، مشددًا على مكافحة الفساد بأنه لن يتسامح مع أي فلس يخرج من أموال التونسيين دون وجه حق”، لكنه لم يوضح في ذات الوقت “التشريعات التي تحتاجها تونس في الفترة الراهنة، ولا استراتيجيته لتستعيد تونس مكانتها الاقتصادية والاجتماعية”([8]).

وبالنسبة للحياة السياسية في تونس فأوضح أنه يريد القيام بمشروع “يتمثل في إنشاء مجالس محلية بحساب نائب عن كل عمادة، لكن لا يتم قبول الترشح إلا بعد أن تتم تزكيته من قبل عدد من الناخبين والناخبات مناصفة، ويتم الاقتراع على دورتين إلى جانب من يمثل الأشخاص ذوي الإعاقة وإلى جانب ممثلين عن المجتمع المدني، وأن يكون ربع المترشحين من العاطلين عن العمل، وأن يتولى المجلس المحلي وضع مشروع التنمية في مستوى الجهة، أي أن الإرادة تنبع من الناخبين، فوكالة النواب هنا قابلة للسحب إن لم يكن النائب في مستوى ثقة ناخبيه. وأن يكون هناك نائب عن كل مجلس محلي، مثلًا محافظة تحتوي على عشر معتمديات تكون فيها عشرة مجالس محلية وعشرة نواب، ويتم تمثيل المجالس بالتناوب حتى يكون هناك نوع من الرقابة، فضلًا عن مراقبة الناخبين بإمكانية سحب الوكالة”([9]). وهذا الطرح يبدو غير واقعي في ظل انقسام حزبي وسياسي داخل تونس، وتصاعد التباينات حول تشكيل الحكومة القادمة التي لم يشهد عملها استقرارًا منذ تولي يوسف الشاهد لإدارتها في عهد الرئيس الرحل السابق الباجي قايد السبسي([10]).

العلاقة مع حزب النهضة والحكومة القادمة

أكد الرئيس التونسي أنه سيبقى مستقلًا ولن يصنف بأي حزب أو تيار سياسي، لكن المفارقة التي أظهرتها نتائج الانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية التي فاز فيها النهضة بغالبية المقاعد البرلمانية([11])، ودعمها لقيس سعيد([12]) بعد إقصاء مرشحها الرئاسي عبد الفتاح مورو من الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة بعد حلوله في المرتبة الثالثة بنسبة الأصوات –حصل على 12.88% من الأصوات مقابل 15.58% حصل عليها نبيل القروي، و18.40% حصل عليها قيس سعيّد([13])– يشير إلى وجود مقاربة وتقاطع في المصالح بين قيس سعيد المحافظ -المعارض لقضية المساواة بالميراث والمثلية الجنسية([14])– وتوجهات حزب النهضة الذي يسعى إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع أحزاب أخرى فازت بمقاعد برلمانية، لكنه إذا فشل في ذلك، سيقوم الرئيس حينها بتكليف شخصية أخرى لتشكيل حكومة، وإذا فشل فستجري الانتخابات مرة أخرى([15]). أي أن النهضة في حال فشلها بتشكيل حكومة ائتلافية يمكن أن تستثمر علاقاتها مع الرئيس بتكليف شخصية مقربة من النهضة، وبالنسبة للرئيس التونسي فكونه مستقل ولا يمتلك أي دعم حزبي داخل البرلمان فهو يرى أن كتلة النهضة قد تساهم في دعمه سياسيًا بتطبيق قراراته المقبلة وتحقيق توجهاته.

وعليه فإن مستقبل تونس السياسي بالرغم من تحقيق الانتقال الديمقراطي وتطوير المسار الانتخابي ليختار التونسيون من يريد أن يحكمهم، إلا أن هذا المستقبل لا يزال غير واضح المعالم في ظل واقع سياسي داخلي متقلب شهد تراجع أحزاب مؤثرة عن المشهد السياسي كحزب الرئيس السابق باجي قايد السبسي نداء تونس، وتقدم أحزاب جديدة وحصولها على مقاعد برلمانية، وهو ما قد يؤثر سلبًا على آليات عمل الحكومة القادمة، ويقود إلى موجة جديدة من عدم الاستقرار السياسي في البلاد.

([1]) “حمل هم شعبها.. قضية فلسطين الحاضر الأبرز في خطاب قيس سعيد”. الجزيرة نت، 14-10-2019. https://bit.ly/2qeiJ1P

([2]) “المشهد البحريني: ورشة البحرين الطريق إلى تسويات “كوشنر”. برق للسياسات، 8-7-2019. https://bit.ly/32Hwq7x

([3])”The ex-professor out to remake Tunisian politics”. Reuters, 19-9-2019. https://reut.rs/2oYwwcz

   “قيس سعيد، الأستاذ الجامعي الذي فاجأ الساحة السياسية في تونس”. بي بي سي، 14-10-2019. https://bbc.in/2PolPuH

([4]) “قيس سعيد، الأستاذ الجامعي الذي فاجأ الساحة السياسية في تونس”. بي بي سي، 14-10-2019. https://bbc.in/2PolPuH

([5]) “قيس سعيد: لا تحالفات علنية أو في الخفاء وسأنفتح على جميع التونسيين”. الأناضول، 17-9-2019. https://bit.ly/2NaCAGI

([6]) “ماذا في اجتماع قيس سعيد ببعثة عن الاتحاد الأوروبي؟”. حقائق أونلاين، 25-9-2019. https://bit.ly/2W9HlVl

([7]) فيديو بعنوان “قيس سعيد : أنا ضد قطع العلاقات مع سوريا”. صفحة Tunis Info على فيسبوك، 19-9-2019. https://bit.ly/2We6Zbl

     “قيس سعيد: التدخل الأجنبي في سوريا كان هدفه إسقاط الدولة”. روسيا اليوم، 28-9-2019. https://bit.ly/2N9sLZE

([8]) “قيس سعيد: رئيس فصيح بلا برنامج أو خبرة”. إضاءات، 13-10-2019. https://bit.ly/2Pc9iu4

     فيديو بعنوان “كلمة السيد رئيس الجمهورية قيس سعيد”. قناة Watania Replay على يوتيوب، 23-10-2019. https://bit.ly/32LADqU

([9]) “المرشح المستقل لرئاسيات تونس قيس سعيد: لن أتحالف مع أي حزب.. وعلى أوروبا رفع يدها عن ثرواتنا”. الجزيرة نت، 1-6-2019. https://bit.ly/2nPzhf3

([10]) “تونس: السبسي يدعو لتعديل الدستور للحد من صلاحيات الشاهد”. DW، 20-3-2019. https://bit.ly/2BETCYa

([11]) ” تونس في مسار معقد:الانتخابات تفرز مجموعة أقليات”. المدن، 10-10-2019. https://bit.ly/32Je8CX

([12]) “رجل في الأخبار- قيس سعيد.. أستاذ القانون السابق يغير المشهد السياسي التونسي”. رويترز، 14-10-2019. https://bit.ly/32Ii2Mu

([13]) “تونس: هل يكون قيس سعيّد طوقَ نجاة النهضة للبقاء في الحكم؟”. تي آر تي عربي، 27-9-2019. https://bit.ly/32JRP06

([14]) “حركة “النهضة” تعلن دعمها للمرشح قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية”. DW، 20-9-2019. https://bit.ly/2kslGsZ

([15]) “تونس في مسار معقد:الانتخابات تفرز مجموعة أقليات”. المدن، 10-10-2019. https://bit.ly/32Je8CX

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى