الاصداراتترجمات

الإنجيل من وجهة نظر دونالد ترمب

يراهُ بعض الناخبين في الدوائر الأكثر إنجيليةً أنّه “مُرسَلٌ من الرب” جاء “لإنقاذ” الولايات المتحدة، بل وحتى العالم بأسره.

يبدو أنّ دقيقتين من الصلاة والثناء على المسرح من قبل القسّ غييرمو مالدونادو في ٣ كانون الثاني/يناير قد بدت ساعاتٍ طويلة أمام الرئيس الأمريكي، في هذه الأثناء تتشابك اليدان وتُغلق العينان، هكذا يقفُ دونالد ترمب، يُحيط به بعض الرجال والنساء الذين يُلامسونه بشكلٍ مُفرِط كما لو أنّهم يعبدون صنمًا.

تقف قريبًا جدًّا منه مستشارته الروحية باولا وايت الشخصية المثيرة للجدل، البروتستانتية التي يُخيَّل أنّها تسكنها قوى “الروح”، إنّها لحظةٌ إنجيلية ثقيلة الوزن وجديرةٌ بالمباركة من أكثر الكنائس اعتبارًا في البلاد، حيث أُطلِقت مجموعةٌ تحمل اسم ” الإنجيليون من أجل ترمب”، ذلك في خضمّ حملة الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر.

في ذات الموقف أعلن القس ديزرت نفسه في الخدمة الدولية للملك يسوع، واستحضر الروح القدس، كما ناشد أن تتنزّل بركات الرب على أمريكا ترمب “أعظمُ أمّةٍ على وجه الأرض”.

مع هذه الكلمات لم يستطع ترمب أن يبتسم أو حتى أن يفتح عينيه، ثمّ أخيرًا بدا عليه السرور عندما أخرج نفسه ليصنع لحظاتٍ من التأمل، والأهمّ ما في هذه اللحظات أنّها لا تشبه دونالد ترمب أبدًا، والدليل على ذلك كان واضحًا عندما تكلّم أخيرًا “الله إلى جانبنا”، كيف لا يُسمع مثل هذا الكلام من ترمب الشهير بقدرته على إشعال جمهوره.

“المُدافع المُقتنِع” بقضية مناهضة الإجهاض:

منذ أنْ أدرك الثقل الحاسم للناخبين المسيحيين في انتخابه في عام ٢٠١٦ (صوّت لصالحه ٨١٪ من الإنجيليين البيض)، ومنذ أن وضع في الاعتبار ولاءهم الذي لا غنى عنه لإعادة انتخابه المحتمل، لم يخالط ترمب الزعماء الدينيين بل “صلّى” أمام جمهوره مباشرةً و”استحضر الرب”.

في ٢٤ كانون الثاني/ يناير كتبَ ترمب تاريخه الخاص بيده عندما أصبح أول رئيس أمريكي يتكلم في واشنطن أمام الناشطين المناهضين للإجهاض في “Maech for life/مسيرة من أجل الحياة _مسيرة سنوية تحتج على شرعية الإجهاض”.

بدأ هذا الحدث السنوي في عام ١٩٧٤، وذلك في أعقاب قرارٍ أصدرته المحكمة العليا الأمريكية في عام ١٩٧٣، يُجيز هذا القانون الإجهاض في جميع أنحاء البلاد.

في ٢٤ كانون الثاني/يناير وعلى ناشيونال مول في العاصمة الفيدرالية وأمام بحرٍ من اللافتات التي تحمل أسماء المدارس المسيحية والأبرشيات الكاثوليكية التي نشأت منها الصلبان، طمأن الملياردير الذي كان معروفًا حتى عام ٢٠٠٠ بقناعاته بالحق في الاختيار، طمأنَ رعيته “كلّ طفلٍ هبةٌ ثمينة من الله، صُنع على صورته” وتابع “لم يكن لدينا من قبل مثل هذا المُدافع القوي في البيت الأبيض”.

الكتاب المقدّس يُعلّم الرحمة، ولكنه يدافع أيضًا عن القانون والنظام، وترمب من جانب القانون والنظام” ديفيد برودي من قناة CBNالمسيحية:

يبدو رجل الأعمال مؤمنٌ، رغم أنه يكرّس راحة يوم الأحد ليمارس الجولف في نيويورك أكثر من عناء الذهاب إلى الكنيسة، على هذا يحاول الكثيرون إثبات حُسن ولائه الديني.

الصحفي السياسي ديفيد برودي الذي يعمل لصالح قناة كريستيان برودكاستينغ الصغيرة CBN  والتي ارتقت منذ انتخاب ترمب إلى مرتبة وسائل الإعلام المهمة، وهو في نفس الوقت مؤلف كتاب (إيمان دونالد ترمب: السيرة الروحية)، أجرى هذا الرجل المُتديّن حديثًا والمولود لعائلة يهودية مقابلتين مع الرئيس ترمب وعشرين مقابلة مع رجل الأعمال الملياردير ترمب منذ عام ٢٠١١.

وعلى الرغم من محادثاتهم الكثيرة، يكافح برودي ليشهد على معتقدات الرئيس الدينية، ولكن وكما يقول: “أولئك الذين يعرفونه يعتقدون جيدًا أنه مسيحي ويفهم مهمّة يسوع” ثمّ يختتم بحذر: ”بالنسبة لأي شيءٍ آخر، يبقى بينه وبين الله”.

في آب/أغسطس ٢٠١٩ عندما سألته وكالة بلومبرج عن إيمانه وأصرّت عليه أن يذكر مقاطعه المفضلة من الكتاب المقدس “كتابه المفضل والخاص للغاية” تهرّب ترمب من الإجابة “لا أريد الدخول في تفاصيل أمرٍ شخصي”.

في ٦ شباط/فبراير وأثناء “إفطار الصلاة الوطني” التقليدي وأمام العشرات من أتباع الديانات ومن جميع الطوائف، رفض دونالد ترمب وبشكلٍ قاطع إحدى الوصايا المسيحية “هل تحبّ أعداءك؟” أجاب قبل أن يهاجم خصومه السياسيين بقوة “لستُ متأكدًا من أنني أتفق معك”.

يعترف برودي أن ترمب “لا يتزعزع، لكن مع بعض العيوب” ويتابع “ولكن من منّا لا يُخطئ؟”، ولكن لا يتذكر برودي خطابات ترمب الإهليلجية وسياسته ضدّ الأجانب وأكاذيبه وشتائمه، نظريًّا هذه ليست سلوكيات مسيحية، ومع ذلك يصرّ برودي “الكتاب المقدس يعلم الرحمة ولكنه يدافع عن القانون والنظام، وترمب من جانب القانون والنظام، ولكن بالفعل يمكنه أن يكون في خطاباته أكثر ليونة”.

الحنين إلى أمريكا المسيحية:

يقول روبرت ب. جونز مؤسّس معهد أبحاث الدِّين ومؤلّف كتاب (نهاية أمريكا المسيحية البيضاء) “من المعروف أن ترمب بروتستانتي كلاسيكي ينتمي إلى الكنيسة المشيخية” _المشيخية تُشير إلى عدّة كنائس مسيحية تتبع تقاليد العالم اللاهوتي_.

يتابع جونز أن ترمب كان قد تلقى تعاليم غير مسيحية، ولم يتوسل أبدًا مغفرة الله، “لم يكن نجاحه مع الإنجيليين البيض إلا عندما جذبهم إلى مصالحهم ومخاوفهم وإلى حنينهم إلى أمريكا البيضاء المسيحية أكثر من قيمهم، ولكي يحافظوا على عالمهم فإن البعض على استعدادٍ للدوس على أخلاقهم مهما كان الجدل”.

يتمّ التعبير عن هذا القلق الوجودي الذي لا يزال تزدهر فيه هذه الثقافة في بعض الأرقام: يُمثّل المسيحيون اليوم ٦٥٪ من السكان الأمريكيين بانخفاض ١٢ نقطة على مدى عشر سنوات.

تحرّكت نسبة البروتستانت المسيحيين بالمعنى الواسع من ٥١٪ إلى ٤٣٪ والإنجيليين البيض من ٢٣٪ من السكان إلى ١٥٪، كما انخفض عدد الكاثوليك من ٢٤٪ إلى ٢٠٪.

في هذا المشهد المُعاد تشكيله يبقى شيء واحدٌ مستقرًّا: ٧٠٪ من الجمهوريين لا يزالون يعرّفون أنفسهم على أنّهم “مسيحيون بيض”، ذلك لأنّ الإنجيليين يمثّلون ثلث “القاعدة الترمبيّة”، فالإنجيليون لم يكونوا سوى هذا العالم الفريد الذي يتعاطف معه الرئيس عن طريق الحركات والتصريحات فقط.

تعهّدات غير مسبوقة مُنحت لإسرائيل:

كتعهّد بحسن النية، ألم يحتفل بعيد الميلاد في أكثر الكنائس المعمدانية المحافِظة في فلوريدا متخليًّا عن رعيته الليبرالية التي عن طريقها بارك زواجه الثالث؟.

الأهم من ذلك أن تعيين قاضيين محافظين يعارضون علنًا الإجهاض في المحكمة العليا (نيل غورسوش وبريت كافانو) يمنح الأمل في صفوف المكافحين ضدّ “خطر الإجهاض”.

تُضاف إلى هذه الوعود التعهّدات غير المسبوقة الممنوحة لإسرائيل، فالقدس مُنحت عاصمةً لها، حتى وصل الأمر إلى التحريض على ضمّ المستعمرات في الضفّة الغربية.

لم يكن يتوقّع الإنجيليون الذين يرون في صلابة الدولة اليهودية شرطًا مسبقًا لعودة المسيح في “يهودا والسامرة” أكثر ممّا فعله ترمب لإسرائيل.

كما لم يكن يتوقع أحدٌ أن ينزعج ترمب بشكل خاصّ ومنتظم من الهجمات على الحريات الدينية في البلاد، ويتأسف كلّ عام على “انخفاض زخم عيد الميلاد” المسيحي لصالح الأعياد المحايدة.

في خطابه عن حالة الاتحاد الثلاثاء ٤شباط/فبراير واجه ترمب بعناءٍ شديدٍ الدفاع عن “الحق الدستوري في الصلاة في المدارس العامة” معتبرًا إياه حقًّا فرديًّا باستثناء الصلوات الجماعية والتي أصلًا لم توضع مطرح نقاش مطلقًا “في أمريكا نحن لا نعاقب على الصلاة ولا نحظر الرموز الدينية” وقال ربّما لدرء خطرٍ وشيك “نحن لا نُسكِتُ الواعظين والقساوسة”.

يسمع “المؤمنون” هذه الخطابات المتكررة كتشجيعٍ لإظهار إيمانهم مع خطورة كسر القوانين، تمّ تسريح مدرّب كرة القدم العام لمدرسةٍ ثانويةٍ عامةٍ مؤخّرًا حين كان يصلّي في الملعب مع اللاعبين بعد انقضاء تدريبهم، هذا هو نفسه الذي كان يدافع عنه دونالد ترمب.

كيف كان سينجو ترمب من جميع الهجمات “إذا لم يكن في حمايةٍ إلهية”؟ ستيفن سترانغ مؤسّس المجلة الإنجيلية (كاريزما)

مقابل هذه الأخلاق الحميدة يبدو أن غالبية الإنجيليين على استعداد لقبول كلّ شيءٍ من هذا الرئيس غير التقليدي، وحتى عندما قام بتعيين باولا وايت إلى رتبة “المستشار الروحي” حصل في النهاية على دعمهم.

هذا الملياردير الإنجيلي المتكلّم المُطَلَّق الذي ينتمي إلى إنجيل الرخاء يَصدُم مع ذلك مَن حوله بكلامه غير ذي المعنى وفي نفس الوقت غير المعقّد.

يوضّح جونز “قد يجدُ بعض من يقول عن نفسه مؤمنًا أن هذا اللاهوت الذي/يربط الثروة بالبركة الإلهية/ مجرّد هرطقة، ومع ذلك لم يحرّك أحدٌ منهم ساكنًا أمام هذه الفكرة” ويتابع جونز مؤكّدًا “إنهم وبهذا النهج يناسبون شخصية دونالد ترمب الذي يقف هؤلاء/المؤمنون وراءه اليوم”.

في مثل هذه البيئة كما هو الحال في أي مكانٍ آخر يُتاح للرئيس أن يصنّف بسرعةٍ الأصوات المعارضة على أنّها “يساريّة”، فقد أثار كاتب تحرير المجلة الإنجيلية (كريستيانتي تودي) الذي أيّد إقالة ترمب بسبب “إخفاقاته الأخلاقية” غضبًا رئاسيًّا، بعد ذلك فورًا وقّع حوالي ٢٠٠ شخصية إنجيلية على خطاب دعمٍ للرئيس.

على موقعه الإلكتروني رد ستيفن سترانغ مؤسّس مجلة كاريزما ومؤلّف كتاب (الرب وترمب وانتخابات ٢٠٢٠) “كاريزما ١٠٠٪ خلف الرئيس لأنه حتى وإن لم يكن كاملّا فقد اختاره الله رئيسًا لينقذ أمريكا” ويصرّ الرجل “الصحفي المسيحي” كما يطلق على نفسه “كيف كان سينجو ترمب من جميع الهجمات إن لم يكن ينعم بالحماية الإلهية؟”.

الملك ديفيد الجديد:

في غضون ثلاث سنوات اتّخذت العلاقة بين الإنجيليين والرئيس منحى صوفيًّا حازمًا مدفوعًا بالدِّين بحثًا عن “رجلٍ قوي”، هؤلاء هم الذين يعتبرونه “مرسلٌ من الرب” وفي كلّ مناسبة لا يُفوّت ترمب مثل هذه الفرص ليقترح في عدّة مناسباتٍ أن يكون “الشخص المختار”.

المتحدّثة السابقة باسمه (٢٠١٧_٢٠١٩) سارة ساندرز تعتقد متيقنةً أن “الله هو من أراد أن يصبح ترمب رئيسًا”، وشبّهه وزير خارجيته مايك بومبيو بـ(إستير) الشخصية في الكتاب المقدس التي “أنقذت الشعب اليهودي من الموت”.

يرى البعض الآخر أنّه الملك ديفيد الجديد أو الملك الفارسي سايروس الذي -وفقًا للعهد القديم- أعاد بناء الهيكل في القدس.

يُضيف برودي “يؤمن الإنجيليون أن الله ينظّم شؤون العالم ويستخدم الأشخاص الناقصين لتحقيق هدفه الكامل، لذلك تمّ انتخاب ترمب وفقًا لإرادته”.

ويقول سترانغ “إذا لم تتم إعادة انتخابه ستقع البلاد فريسةً للاشتراكيين والكارهين” أما جوبز فيوضّح “بالنسبة إلى الإنجيليين فإنّ ترمب هو الفرصة الأخيرة لإنقاذ عالمهم”.

ربّما لم يكن يتخيل ترمب المقاول والمقدّم التلفزيوني والممثل الكومبارس والرئيس الحالي أن الملايين من الأمريكيين سوف يرونه يومًا ما “منقذًا” بفضل الإنجيليين وهذا ما يحصل الآن بالفعل.

ستيفاني لوبار لصحيفة لوموند ١١شباط/فبراير ٢٠٢٠

الرابط الأصلي من هنا

“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى