الاصدارات

تشكُّل الجماعة الوطنية في العالم العربي وتطورها (2)

الجماعة الوطنية وتقاطع الهويات

يندر أن نجد مجتمعًا حديثًا ذا هوية واحدة من الناحية العرقية والدينية والمذهبية والثقافية؛ أي أن أغلب الدول تواجه ضمن مشروعها الوطني إشكالية إدارة تنوع. والذي يدرس أحوال هذه الدول يتأكد لديه أن التنوع ليس مشكلة في ذاته، وإنما يصبح مشكلة مستفحلة وخطيرة تهدد الكيان السياسي برمته حينما يساء إدارة هذا التنوع؛ سواء أكان هذا بقصد أم بدون قصد!

والحقيقة أن الأمثلة التي يمكن عرضها في هذا الصدد من الكثرة بمكان، ولعل حالة الولايات المتحدة الأمريكية تبدو نموذجية تمامًا هنا، فقد اعتمدت الدولة العملاقة بعد إلغاء قوانين التمييز العنصري فيها، على صيغة تعايش وطني تتيح لجميع المواطنين حقوقًا قانونية متساوية، مما أتاح لمواطن أمريكي زنجي أن يشغل أكبر منصب في الدولة لمدة ثماني سنوات كاملة (باراك أوباما من سنة 2008- 2016)، مع وجود حقائب وزارية كثيرة شغلها مواطنون زنوج وملونون فيما سبق، والآن يشغلها أمثالهم في حكومة جوزيف بايدن.

إلا أن الطبقية والعنصرية تعيش في نسيج النظام الرأسمالي نفسه بسبب طبيعة تصوراته؛ وذلك أن الأضعف والأقل والأفقر فيه هو أدنى منزلة من الأقوى والأكثر والأغنى، مما يسمح لمعتنقي المبدأ الرأسمالي بعقد مقارنات لا نهاية لها من الوجهات العرقية والدينية والثقافية، فيصبح الأبيض فيها – عمليًا وواقعيًا ودون حاجة إلى تصريح – أرقى من الأسود واللاتيني، وذو الأصول الثقافية الأوربية أعلى مكانة من أصحاب الأصول الأخرى، وهكذا.

كما غذى الرؤيةَ العنصرية والنظرة الطبقية في الولايات المتحدة مع الوقت هذا الفصامُ الواضح بين اعتبارها مركزَ الديمقراطية الأعظم وموطنَ الحريات الأكبر في الكوكب برمته، وما تمارسه هي نفسها من وصاية على المستوى الخارجي تترجم بها عن نظرة دونية إلى الآخر الذي يمكن استباحة كل شيء فيه وله، وهو ما لابد أن يظهر في سلوك المواطن الأمريكي – ولو بالتدريج – تجاه كل آخر، حتى وإن كان مواطنًا أمريكيًا يقيم فيها منذ عهد التأسيس!

ولعل إنتاج النظام السياسي الأمريكي مؤخرًا لشخصية غير سياسية على الإطلاق مثل دونالد ترامب الذي حمل إلى أكبر منصب في الولايات المتحدة أخلاق السوق الرأسمالي بعنفها وعنصريتها، وأدار التنوع في الولايات المتحدة أثناء إدارته للدولة بأسوأ ما يمكن من الصور، كما تعامل مع الخارج بعُنْجُهية وتعال وحس استعماري ظاهر، بحيث طبق السياسة الخارجية الأمريكية كما بدت منذ عقود، ولكن هذه المرة على مواطنيه؛ أقول: لعل هذا الإنتاج هو الترجمة الأحدث لكوامن المنظومة الرأسمالية والسياسة الخارجية الأمريكية.

ومهما يكن، فإن النموذج المعروض – كما هو واضح – يتماسك ويتهافت وفقًا لعاملين:

  • الأول: درجة النجاح في إدارة التنوع العرقي والثقافي الأكبر في العالم.
  • الثاني: اشتمال النموذج أو عدم اشتماله على تناقضات أولية في الأداء السياسي والاجتماعي؛ من نوع دعم الديمقراطية في مكان، ومساندة بل صناعة الاستبداد والإجرام في آخر.

وإن كان العامل الأول أسرع تحقيقًا لنتائجه السلبية الداخلية؛ نظرا لتعلقه المباشر بالمكون السكاني للدولة، فإن الثاني ليس أقل خطورة منه؛ لأن المواطن ابن دولته؛ يتقمص شخصيتها في أداء دورها الخارجي والداخلي، حتى وإن طبق ذلك على مواطنيه لمجرد المشابهة بينهم وبين آخر من الآخرين، أو لوجود اختلاف بينه وبين مواطنيه مما يصل إلى درجة أن يُطرَد السود والملونون من بعض الكنائس لأنها خاصة بالملائكيين ذوي البشرة البيضاء!

وهنا تُحَل إشكالية الجمع الأمريكي بين التفوق العالمي الضخم سياسيًا واقتصاديًا وبين هذه العوامل السلبية الخطيرة بأن العامل السلبي في المكوِّن السياسي الضخم يُحدث فيه تآكلًا يرتفع معدله في بعض المراحل، وينخفض في مراحل أخرى حسب توزانات قائمة في جسم هذا المكوِّن بين عوامل القوة وعوامل الضعف التي فيه، وإن لم يعالَج فإنه يميل بالنموذج كله جهة الغروب.

المهم في هذا كله هو أن سوء إدارة أي مجتمع متنوع يمثل واحدًا من أكبر عوامل هدر الطاقات والقوى، بل يؤدي إلى تآكل في مذخوره الإنساني ورصيده البشري. ولو صححنا الصورة، ونظرنا إليها من وجهة نظر علمية وإنسانية متوازنة، لعلمنا أن التنوع السكاني ثروة بشرية فوق الثروة؛ وذلك أن الشعوب تتنوع ميزاتها النفسية والعقلية والمهارية بحيث يمكن الاستفادة من تنوعها هذا في تحقيق تكامل في الإنجازات، ويمكن أن يلاحظ هذا في دولة مسلمة مثل باكستان التي تحتوي من الأعراق والأديان والمذاهب واللغات الكثيرَ، ولكل عنصر فيها امتياز في أشياء يفوق بها العناصر الأخرى في الدولة.

الجماعة الوطنية ومشكلة التنوع:

ولكن، أين موضع الجماعة الوطنية من هذه القضية التي طال الحديث عنها؟

والحقيقة أن ما سبق كان تمهيدًا مهمًّا للإشارة إلى معنيين:

  • أنه من الناحية التاريخية قد تقع الخلافات والحروب بين أبناء القبيلة الواحدة، وكذلك بين شعوب ترجع إلى عرق واحد، أو أمم ذات دين أو مذهب أو أيديولوجية واحدة، وقد يسود السلام بين قوم متنوعين جدًا، وهذا يعني براءة تعدد الهويات من أن يكون هو في نفسه سببًا للخلافات والحروب والمشكلات الداخلية للدولة.
  • والمعنى الثاني هو أن الجماعة الوطنية بانتسابها إلى الوطن تقدم صيغة لتفاعل أطراف هذا التنوع، وهو توجيه المجموع لطاقاته في ناحية خدمة الجوامع والكليات العامة التي تهم الشعب كله، وليس جماعة أو حزبًا معينًا.

والجماعة الوطنية بهذه التنوعات تجمعها خدمة قضايا المجموع السكاني الذي تحويه الدولة، ولا يمكن حصول فصيل ما على عضويتها (أي الجماعة الوطنية) وهو يعمل لأهداف خاصة، أو أهداف تستثني فريقًا من الطيف الوطني، فضلًا عن أن تكون أهدافًا ضد مصالح الوطن. كما أن الجماعة الوطنية لا تقتصر جهودها على الاصطفاف – بأي معنى من معانيه – لمواجهة المخاطر الخارجية، بل إنها تهتم بدرء الفتن الداخلية وتحقيق السلام الأهلي كذلك.

ويجب أن نلاحظ هنا أن البحث عن جامع للتنوع تحت المظلة الوطنية يتجنب أمرين:

الأول: العمل بعنصرية وتعالٍ – ولو مبطن – مع هويات المواطنين الأخرى مهما قل ممثلوها، والسعي إلى تذويبها، وإن كانت المظلة المذكورة ستفتح مجالا للتفاعل فيما بين مختلف الهويات؛ أي أنها ستحقق تبادل التأثير بين الهويات في أجواء صحية. وهنا نؤكد أن تفاعل الثقافات في ظروف طبيعية، مع أنه قد يؤدي إلى تلاشي أو تحول بعض العناصر الثقافية من هنا أو هناك، إلا أنه يؤدي عادة إلى صهر عناصر من هنا وعناصر من هناك حتى تزداد الجوامع فيما بين العناصر السكانية، ويصبح التنوع نفسه جزءًا من الشخصية الثقافية.

الثاني: التسوية التامة بين ما لا يتساوى من مكونات الجماعة الوطنية في توصيف الوطن وتحديد هويته؛ فمثلا لا يتساوى حجم المكون الصيني في تحديد هوية ماليزيا مع المالاوي بالرغم من أن الماليزيين من ذوي الأصول الصينية هم من أنشط السكان اقتصاديًّا، ولا المكون المسيحي مع الإسلامي في توصيف مصر، على الرغم من أن المسيحية في مصر سابقة على الإسلام؛ لأن تحديد الهوية الوطنية العامة في كلا الحالين يعتمد على حجم الإسهام في صناعة تاريخ الوطن وثقافته وكثافة تمثيل الواقع القائم فيه.

وإذا جئنا إلى الثقافة الراسخة في سكان الشرق العربي تجاه العنصرية، فسنجد فيها مساحة كبيرة لفكرة الأخوة البشرية، وأن الرأسمالية وإن كانت قد تشربتها بعض أقطارنا حتى سكرت منها، فإنها لم تقض تماما على ما يسميه طيب الذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري “المجتمع التراحمي” الإنساني مقابل “المجتمع التعاقدي” صاحب العلاقات القانونية الصارمة الذي يميت كثيرًا من معاني الإنسان.

وأخطر نتيجة لإقرار هذه الحقيقة، مع تأييد وقائع التاريخ الإسلامي الطويل للمنطقة لها، هو أن العلاقات لا تسوء بين المكونات الاجتماعية ذات الهويات المختلفة في العالم العربي إلا إذا تدخلت يد مغرضة لتفسد ما بينها، أو تشغل الجميع عن فسادها وتسلطها وسرقتها للثروات والخيرات، أو تسوغ سياساتها الباطشة بحجة حفظ الأمن وصيانة الدولة!

وقد أدرك رواد الإصلاح الإسلامي الحديث هذا البعد في العلاقة بين أطياف العالم العربي الدينية والمذهبية والعرقية، فقد أجرى أحد الصحفيين الإنجليز أثناء الاحتلال الإنجليزي لمصر حوارًا مع الشيخ محمد عبده رحمه الله عقب أحداث ما تسميه أدبياتنا اليوم بـ “الفتنة الطائفية” بين المسلمين والمسيحيين، ولم يكن هذا أمرًا مألوفًا في مصر من قبل، فسأل الصحفي الشيخ عبده: ماذا ستفعلون بالمسيحيين إذا خرج الإنجليز من مصر؟ فأجابه الشيخ إجابة لبقة بقوله: كما كنا نفعل معهم قبل أن تأتوا!

وكل قطر عربي يجب أن تدرك نخبته وجماعته الوطنية أنها إن لم تكن عاقلة وفاعلة وواعية، فإن الطغيان سيأكلها، أو يوظفها عنده في وظيفة كاتبي تقارير ومخبرين يكتب عنهم التاريخ أسوأ ما يمكن كتابته، وعلى الحي أن يتعظ بما جرى على من مات من هذه السُّنة الماضية!

“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2021

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى