الاصداراتمتفرقات 1

الأحزاب السياسية وصراعاتها في الدول المغاربية

8471
 

 

 

 

 تقديم عام:

تعتبر الظاهرة الحزبية أحد أهم وأبرز الظواهر التي أفرزتها الديمقراطية في عصرنا الحديث، حيث هناك من يربط نمو وازدهار الظاهرة الحزبية بتطور البرلمانات والكتل البرلمانية، كما فعل “ماكس فيبر” الذي ربط تطور هذه الظاهرة بتطور البرلمان والتحول الذي طرأ على الكتل البرلمانية في ما أسماه بتحول “الأتباع الخالصين للأرستقراطية” إلى “أحزاب الأعيان” إلى ظهور “الديمقراطية الشعبية”. وأكد “موريس ديفرجيه” وجهة النظر السابقة حيث ربط بين نمو الأحزاب وتطور البرلمانات القومية ونمو حجم الناخبين، وقد افترض أن نمو الأحزاب مر أولا بتكوين أجنحة برلمانية، ثم تنظيم لجان انتخابية، وأخيرا إنشاء روابط دائمة بين هذين العنصرين. وقسم “ديفرجيه” بين نوعين من الأحزاب أولها تأسس داخل الهيئة البرلمانية وأحزاب تأسست خارجها.[1]

فالتطور الذي عرفته الظاهرة الحزبية والظروف السياسية التي هيأت لوجودها في الغرب، ليست شبيهة بظروف نشأتها في دول العالم الثالث حيث كان للتقسيم الذي أفرزه الاستعمار للدول، الذي سيعرف فيما بعد بمبدأ “الحدود الموروثة عن الاستعمار”[2] والتي دافعت عنها الدول التي اكتسبت مساحة أكبر مما كانت عليها قبل الاستعمار، حيث تشكلت الدولة الواحدة من مجموعات مختلفة عرقيا ودينيا وقبليا، ودور ذلك في إفراز كيانات صغيرة داخل الدولة الواحدة من أجل الدفاع عن مصالح تلك الأقليات التي كانت تعيش في إطار خارج الدولة قبل الاستعمار الامبريالي، حيث ستتحول تلك الكيانات من حركات مسلحة إلى أحزاب سياسية لا خيار لها سوى العيش تحت سقف دولة واحدة.

بالنسبة للعالم العربي بصفة عامة والدول المغاربية بصفة خاصة لا يمكن الحديث عن التجربة الحزبية إلا بعد المرحلة التي تلت الاستعمار، رغم قرب المنطقة من أوروبا ومرورها بمراحل من النهضة الفكرية والسياسية إلا أنها ظلت وفية لنظام الدولة المركزية وحكم خليفة المسلمين أو السلطان الذي تتركز كل السلطات في يده الدينية والسياسية والعسكرية. مع دخول الاستعمار الفرنسي في المنطقة وظهور طبقة من النخبة المثقفة والبعثات الثقافية ورجال المقاومة أصبحت تتشكل نخب سياسية في دول المغرب العربي أو “المغرب الكبير”. حيث كانت البداية بالعمل السري في فترة الاستعمار، والتكتل على شكل حركات جهوية، ثم بعد ذلك تحولت إلى أحزاب سياسية وطنية. سنتطرق في هذا التقرير إلى مختلف الصراعات في الدول المغاربية بين الأحزاب والتيارات السياسية.

المغرب:

منذ بداية ستينيات القرن الماضي دخل المغرب غمار التجربة الحزبية والتمثيل السياسي، حيث عرفت الساحة السياسية صراعا منذ البداية بين مختلف مكونات الحقل السياسي. حيث كان الصراع واضحا بين المؤسسة الملكية وأحزاب الحركة الوطنية، فكانت المحطات الانتخابية مناسبة لملامسة واقع الصراع بين تلك الأطراف، بالنظر للتأييد الشعبي الذي كانت تحظى به المؤسسة الملكية من جهة، وتأثر بعض النخب السياسية في تلك الفترة بأفكار تحررية وثورية. وقد انعكس الصراع السياسي على البناء الديمقراطي للمغرب حيث عوض إيجاد أرضية سياسية مشتركة من أجل البناء، تركز الصراع حول السلطة.

إن الصراع السياسي في المغرب ظل يسوده جو من التوتر بين مكونات الطبقة السياسية، فانتقل الصراع من مواجهة الأحزاب السياسية للمؤسسة الملكية، والتي كان يقودها أحزاب محسوبة على اليسار بقيادة الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتقدم والاشتراكية وأحزاب اشتراكية أخرى منشقة، إلى صراع سياسي بين الأحزاب السياسية نفسها باختلاف توجهاتها ومرجعياتها الفكرية والإيديولوجية. فأصبح المشهد السياسي المغربي ينقسم إلى تكتلات سياسية مكونة من أحزاب كان يطلق عليها أحزاب الكتلة التي خلقت تحالف بينها يجمع كل من أحزاب “الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” و”حزب الاستقلال” المحافظ وحزب “التقدم والاشتراكية” وبعض الأحزاب الصغيرة، وأحزاب الوفاق بزعامة حزبي “الحركة الشعبية” و”الإتحاد الدستوري” وأحزاب صغيرة أخرى، وأحزاب الوسط بزعامة “التجمع الوطني للأحرار”، والأحزاب الإسلامية التي يبقى أبرزهاالعدالة والتنمية”.

بعد دستور 2011 بالمملكة المغربية الذي أعطى صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة الذي كان في الدساتير السابقة يطلق عليه “الوزير الأول”، دخلت الأحزاب المغربية مرحلة جديدة من المنافسة السياسية حيث أصبحت الانتخابات هي الفاصل بين تلك الأحزاب، خصوصا بعد إقرار كل الأحزاب بنزاهة الانتخابات بعد أن كانت تكيل الاتهامات لوزارة الداخلية في التحكم في نتائجها. حيث أصبحت الخريطة السياسية في المغرب تعرف تكتلات وتحالفات جديدة، وفي بعض الأحيان تكون غير منطقية من حيث المرجعية الإيديولوجية للأحزاب، فأصبحنا نشهد تحالف بين أحزاب إسلامية وأحزاب اشتراكية كانت لها مرجعية شيوعية، وأحزاب الوسط التي لم تكن لها مشكلة في التحالف مع أي حزب لحرصها على اتخاذ مسافات متقاربة مع جميع الأحزاب بمختلف مرجعياتها، حيث انتقل الصراع من صراع سياسي إيديولوجي إلى صراع حول الحقائب الوزارية والقطاعات التي يريد كل حزب تسييرها.

لقد احتل حزب “العدالة والتنمية” ذي المرجعية الإسلامية المركز الأول في الانتخابات التشريعية (2011) والمحلية (2015) الأخيرة، كما حافظ منافسه وخصمه في المعارضة حزب “الأصالة والمعاصرة” الحديث النشأة على مركز قريب باحتلاله المركز الثاني، ثم أحزاب “الاستقلال” و”التجمع الوطني للأحرار” والحركة الشعبية” و”الإتحاد الدستوري” و”الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” و”التقدم والاشتراكية”، وهي الأحزاب المشكلة للأغلبية والمعارضة والمسيطرة على غالبية مقاعد البرلمان المغربي.

 كما لم تعد للتوجهات السياسة اعتبار رئيسي من أجل التحالف وتشكيل حكومة في المغرب، والدليل على ذلك هو الحكومة الحالية بقيادة “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي الذي استطاع التحالف مع أحزاب كان يعارضها في السابق ويستبعد أي تحالف معها، إلا أنه فعل ذلك وتحالف مع حزب “الاستقلال” الذي يبقى الأقرب إليه سياسيا وإيديولوجيا وأحزاب أخرى منها الاشتراكية التوجه والليبرالية، وفي النسخة الثانية لحكومة “العدالة والتنمية” بعد فك التحالف مع حزب “الاستقلال” استطاع الحزب التحالف مع أحزاب أخرى كان في القريب يعتبر التحالف معها مستحيلا.

بعد المؤتمر الأخير (2016) لأكبر حزب في المعارضة وهو حزب “الأصالة والمعاصرة” الحديث النشأة، صرح أمينه العام كون الهدف الأول هو التصدي للإسلاميين في إشارة لحزب “العدالة والتنمية”، لتتضح معالم الصراع السياسي الحالي بالمغرب بين القطبين السياسيين “العدالة والتنمية” و”الأصالة والمعاصرة” الحداثي[3]. مع هذا الصراع السياسي لا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه المؤسسة الملكية في التحكيم بين الفرقاء السياسيين بموجب الدستور، كما تظل الملفات السياسية الكبرى والمجال الديني حكرا على المؤسسة الملكية التي هي في نفس الوقت إمارة المؤمنين، حيث سلمت الأحزاب السياسية بهذه القاعدة، التي جنبت المغرب التخندق وراء أحزاب مذهبية أو عرقية.

يبقى التحدي الأكبر لدى الأحزاب السياسية في المغرب هو مدى قدرتها على التأطير السياسي للطبقة الناخبة، وإقناع المواطنين بالمشاركة السياسية أمام الحرية السياسية الكبيرة بالمقارنة مع باقي الدول العربية، والصلاحيات الواسعة التي أصبح يتمتع بها رئيس الحكومة الذي أصبح بمقدوره تعيين الموظفين السامين في المناصب العليا، فشرعية الأحزاب تستمد من القاعدة و عدد الناخبين، وكسب ثقة الشعب الذي تقاطع نسبة كبيرة منه الانتخابات لعدم اقتناعه بالمشاريع الحزبية والبدائل التي تقدمها.

رغم تطور التجربة الحزبية في المغرب التي بدأت مع سنوات الاستقلال، وانتقالها من حزبية فردية متعلقة برموز الحركة الوطنية، إلى مرحلة الصراع الإيديولوجي، ثم مرحلة التكتلات ثم مرحلة النضج السياسي والارتكاز على التحالفات السياسية، لا تزال الطريق طويلة أمام الأحزاب السياسية في المغرب لإثبات قدرتها على التسيير و التأطير وتنمية المغرب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، غير أنها تبقى تجربة رائدة في العالم العربي باعتبار أن المغرب يمنع دستوريا سياسة الحزب الوحيد التي طبعت معظم الدول العربية.

الجزائر:

عرفت الجزائر ظهور الأحزاب السياسية إبان فترة الاستعمار، حيث تشكلت الأحزاب السياسية بالموازاة مع حركات المقاومة المسلحة، فأنشأ رموز الكفاح الجزائري من أجل الاستقلال حركة سياسية أصبحت فيما بعد حزب “جبهة التحرير الوطني” الجناح السياسي لجيش التحرير الوطني سنة 1954، حيث قام الحزب بتأطير الشعب الجزائري  وتوعيته والحفاظ على وحدته حتى نيل الاستقلال، بالفعل قامت الجبهة بتحريك الشعب الجزائري وتأجيجه ضد الاستعمار، وقامت بإنزال الشعب إلى الشارع في مسيرات كبيرة ولم تنفع مسلسلات التصفية الجسدية والاعتقالات لرموز الحزب في ثنيه عن مقاومة الاستعمار. حيث قام الحزب بتأسيس حكومة في المنفى والتعريف بالقضية الجزائرية دوليا حتى نالت استقلالها.

بعد نيل الجزائر استقلالها سنة 1962 وتعطش الشعب الجزائري للحرية ونبد كل أشكال التحكم، وعكس توقعات الشعب الذي كان يطمح إلى رؤية جزائر ديمقراطية وبناء دولة المؤسسات قام رموز حزب “جبهة التحرير الوطني” الذي يعرف اختصارا ب “FLN”، بتكريس منطق الحزب الواحد وأخذ الشرعية من باقي التيارات السياسية في الجزائر، على اعتبار أنه الحزب الذي أخرج الاستعمار وهو الممثل الوحيد للشعب الجزائري وكل من يريد العمل السياسي عليه أن يمارسه من داخل الجبهة. وذلك في تحول من مبادئ الحزب الإسلامية الثورية إلى حزب بمبادئ اشتراكية قومية، فتحول مطمح النخبة الجزائرية من صراع مع المستعمر الفرنسي إلى صراع حول السلطة واحتكارها.

إن التجربة السياسية الجزائرية تعتبر حديثة العهد وتاريخها بدأ مع استقلال البلاد، حيث استمرت بالحزب الواحد مع شن حملة اعتقالات والتضييق على كل المنافسين السياسيين خصوصا من أنصار الحركة الإسلامية، فالإشكال الذي عانت منه الجزائر بعد الاستعمار وساعد على استئثار الجبهة بالحقل السياسي في الدولة هو غياب رموز سياسية وسلطة موحدة ومؤسساتية قبل الاستعمار، غير أن رحيل الرئيس السابق “الهواري بومدين” سيغير من الواقع السياسي الجزائري، بعد صراع عن السلطة ومن يخلف الرئيس تم الاتفاق على الرئيس السابق “الشادلي بن جديد” الذي بدأ يظهر بعض الانفراج في فترته الرئاسية وخروج الحركات الإسلامية إلى العمل الجمعوي والخيري، إلى أن سمح دستور  1989 في مادته 40 بالتعددية الحزبية في آخر ولاية “بن جديد”، بعد الأحداث التي شهدتها الجزائر سنة 1988 وخروج الشعب الجزائري من أجل الحرية وإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية .

لن ينسى الشعب الجزائري انتخابات 1991 التي فاز فيها حزب “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” وحصل على أغلبية مقاعد البرلمان، حيث ألغيت الانتخابات التي هزم فيها الحزب الحاكم “جبهة التحرير الوطني”، ودخل الجيش على الخط وبدأت أحداث الشغب التي صنفها البعض على أنها “حرب أهلية” فيما عرف بالعشرية السوداء. لقد كانت هذه المرحلة بمثابة الدخول المباشر للجيش في الشأن السياسي الجزائري حيث، مع مجيء الرئيس “عبد العزيز بوتفليقة” للحكم وإعلانه سياسة “الوئام المدني” التي وضعت على إثرها الجماعات الإسلامية السلاح.

لا يزال الكثير من المحللين السياسيين في الجزائر يتهمون الجيش بالتدخل في السياسة، وذلك بخلق أحزاب موالية له من أجل أن تكون أداته السياسية، حيث تشهد الساحة الجزائرية في السنوات الأخيرة صراعا بين المؤسسة العسكرية ومؤسسة الرئاسة التي يقودها حلفاء الرئيس “بوتفليقة”. وقد أخذ الصراع يشتد للبحث عن بديل الرئيس الحالي، حيث قام الرئيس “بوتفليقة” بحملات من أجل دعم مؤسسة الرئاسة  كإحالة بعض رموز الدولة الذين كانوا في القريب يسيطرون على دواليب الحكم على التقاعد، أبرز هذه القرارات إحالة الجنرال “محمد مدين” المعروف ب”الجنرال توفيق” “قائد إدارة الأمن والاستعلامات” الذي عايش أربعة رؤساء دولة على التقاعد، وهناك من يقول أن هذا الصراع هو أصلا صراع في المؤسسة العسكرية بين من يدعم الرئيس ومن يدعم جهات أخرى، بالنظر للحالة الصحية للرئيس التي قد تمنعه من اتخاذ قرارات مصيرية بهذا الشكل.[4]

الساحة السياسية في الجزائر تتمتع بتعددية حزبية بالمقارنة مع السنوات الأولى بعد الاستقلال، حيث يتزعم المشهد السياسي اليوم أحزاب سياسية منبثقة من الحزب الأم “جبهة التحرير الوطني” كحزب “التجمع الوطني الديمقراطي”، و بعض الأحزاب الأخرى كحزب “حركة مجتمع السلم” ذات التوجه الإسلامي، و”جبهة القوى الاشتراكية”. كما أن الصراع لا زال مستمرا لتوجس السياسيين والعسكريين في الجزائر من الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية، والخوف من تكرار تجربة العشرية السوداء، وكذلك بداية ظهور صراع بين السياسيين والعسكريين، مما يفسر اتهام المعارضة بالخارج والداخل السلطات “الجيش” بالتزوير وتغيير نتائج الانتخابات وما يتوافق مع توجهاتها الإستراتيجية والسياسية.

تونس:

لقد عرفت تونس الحزبية في عشرينيات القرن الماضي مع الحزب “الحر الدستوري”، الذي تفرع عنه حزب آخر هو حزب “الدستور الجديد” حيث ارتبط الحزبين بمرحلة التحرير التي عاشتها تونس إبان فترة الاستعمار، بعد استقلال تونس أعلن حزب “الدستور الجديد” الجمهورية التونسية واستقلالها عن الاستعمار الفرنسي، حيث  ترأس “الحبيب بورقيبة” الجمهورية بعد خلع الملك “الأمين باي” وأسس لنظامها الجمهوري، حيث اتخذ الرئيس بورقيبة قرارات عديدة ومثيرة من أجل نهضة تونس وأسس لنظام جمهوري علماني فيها، وغير اسم الحزب الحاكم من “الدستور الجديد” إلى حزب “الاشتراكي الدستوري” الذي كان يفوز بجميع المحطات الانتخابية. كما قام بتنصيب نفسه كرئيس لتونس مدى الحياة في تعارض مع خطاباته الحداثية والداعية إلى تأسيس ديمقراطية حقيقية في تونس وذلك عند تعديل الدستور في 27 سبتمبر 1974[5].

بعد استبداد الرئيس بورقيبة وسيطرته على دواليب الحكم بتونس، اشتعلت ثورات واحتجاجات شعبية منددّة بالأوضاع المعيشية المزرية، إلى أن انقلب عليه الوزير الأول “زين العابدين بن علي” سنة 1987، ووضعه في الإقامة الجبرية إلى أن وافته المنية سنة 2000. قام الرئيس المنقلب الجديد ببسط سيطرته على جميع المؤسسات السياسية والعسكرية في تونس بواسطة الحزب نفسه الذي غير اسمه إلى حزب “التجمع الدستوري الديمقراطي”، في فترة عرفت بمرحلة 99.99% حيث كان الرئيس والحزب يفوزان بهذه النسبة في جميع الاستحقاقات الانتخابية البرلمانية والحزبية، وكانت لوزارة الداخلية اليد الطولة في جميع الميادين من السياسة إلى الاقتصاد إلى الرياضة، رغم تواجد بعض الأحزاب لتزيين المشهد الحزبي التونسي، إلى أن جاءت الثورة التونسية في 14 يناير 2011.

لقد طبع المشهد السياسي التونسي قبل الثورة استفراد حزب السلطة الوحيد بمؤسسات الدولة، ومنها البرلمان الذي كان جميع نوابه من الحزب “التجمع الدستوري الديمقراطي”، حيث أن المعارضة الحقيقية التي تمثلت في التيار الإسلامي ظلت محاصرة طوال فترة حكم الرئيسين بورقيبة وزين العابدين. غير أن الثورة التونسية جاءت لإتاحة الفرصة لجميع التيارات السياسية من أجل المشاركة السياسية وبناء جمهورية تونس على أساس ديمقراطي تشاركي، وساعد على ذلك وعي الشعب التونسي الذي صمم على الحفاظ على ثورته وعدم احتكارها من طرف أي حزب أو قائد سياسي، فأبان الشعب التونسي عن وعي سياسي كبير، كما تم حل الحزب السلطوي السابق وعدم السماح له بالاستمرار في الحقل السياسي التونسي.

بعد ثورة يناير 2011 تعددت الأحزاب السياسية في تونس لتصل إلى 200 حزب، شارك 120 منها في الإنتخابات التشريعية لسنة 2014، وذلك حسب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، حيث وصل عشرة منها فقط لقبة البرلمان[6]، في تعددية حزبية متقدمة بالنسبة للكثير من الدول العربية وفي قطع مع نظام الحزب الوحيد الذي طبع الساحة السياسية في تونس منذ الاستقلال. وقد أفرزت الانتخابات الحرة الأولى من نوعها في تونس عن بروز تيار الإسلام السياسي، حيث برزت “حركة النهضة” التي كانت محظورة أيام الرئيس السابق بزعامة “راشد الغنوشي” الذي كان مبعدا في الخارج، كما عاد المعارض الرئيسي للرئيس بن علي “منصف المرزوقي” الذي ترأس تونس في مرحلة انتقالية وأسس حزبه “المؤتمر من أجل الديمقراطية”، كما ظهر حزب “حركة نداء تونس” كقوة سياسية في تونس، في فسيفساء حزبية جديدة ضخت دماء جديدة وحيوية في الوسط السياسي التونسي، رغم التشنجات التي عرفتها الساحة كادت أن تعصف بالثورة التونسية وتعود بها سنوات إلى الوراء.

لقد فازت حركة النهضة الإسلامية بالانتخابات الأولى في تونس بعد الثورة، غير أنها لم تنجح في إنقاذ تونس والقضاء على أسباب الثورة نظرا لعدم تجربتها في الحكم، كما أن سبب نجاحها الكاسح في الانتخابات كان نتاج لعدم ثقة الناخب التونسي بباقي الأحزاب ورغبته في تجريب التيار الإسلامي الذي ظل محروما من الحكم منذ تأسيس الجمهورية، كما لا يمكن إنكار القاعدة الشعبية التي يتوفر عليها والمتعاطفين معه، إلا أن الأوضاع في مصر وسقوط حكم الإخوان المسلمين فيها، أثر سلبا على الحركة التي تعاملت بذكاء مع الوضع وأفسحت المجال لباقي التيارات السياسية لتقاسم الحكم. فالمشهد السياسي التونسي اليوم يعرف منافسة قوية بين “حركة النهضة” الإسلامية و”نداء تونس” الذي يتهمه البعض بأنه امتداد النظام السابق لتواجد بعض عناصر الحرس القديم للحزب “التجمع الدستوري الديمقراطي”، دون إغفال بعض الأحزاب التي حازت على نسبة من المقاعد البرلمانية “الإتحاد الوطني الحر” و”الجبهة الشعبية”.

لقد نجح الشعب التونسي في إشعال الشارع العربي والآن هو يقود ثورته الإصلاحية في هدوء، في ثورة هي الأقل عنفا ودموية في دول الربيع العربي. حيث تتعايش كل التيارات السياسية من أجل بناء دولة ديمقراطية، فالطريق لا يزال طويلا أمام الأحزاب السياسية من أجل التأطير السياسي والنمو الاقتصادي والاجتماعي، إلا أن ذلك لا يمنع من القول بأن تونس تمشي في الطريق الصحيح دون إغفال انعدام الدعم الخارجي للثورة التونسية من أجل التنمية، بل على العكس فتونس قد تلقت ضربات موجعة من خلال الهجمات الدموية التي أثرت بشكل كبير على السياحة، القطاع الحيوي والمساهم الأول في الاقتصاد التونسي.

ليبيا:        

 “من تحزب خان” نستحضر هذه المقولة الشهيرة للراحل “العقيد معمر القذافي” كلما أريد الحديث عن الأحزاب السياسية في ليبيا، حيث منذ مجيء القذافي على إثر انقلاب عسكري على الملك “إدريس” سنة 1969. ألغى العقيد الدستور والقوانين وألف كتابه المعروف “الكتاب الأخضر”، فأصبح هو دستور ليبيا وقانونها و”قرآنها”، قال بأنه لن يحكم بل هو فقط مشرف وقائد رمزي للجنة الشعبية العامة، حيث ألغى الوزارات وأصبح يسيّر الدولة بمنطق اللجان الشعبية في إشارة أن الشعب هو الذي يحكم في ليبيا. لكن واقع الأمر يقول أن العقيد كان الدكتاتور الذي يحتكر كل شيء من السياسة إلى الدين إلى الرياضة، كرس منطق القبيلة في الحكم وألغى جميع المؤسسات حيث كانت ليبيا تتوفر على القذافي وعائلته والمخابرات والجيش، مدعوما من قبيلته والقبائل المتحالفة معها.

لقد أثر الوضع الذي كانت تعيشه ليبيا إبان حكم “العقيد” على الوضعية السياسية بعد الإطاحة به، حيث شاركت جميع شرائح الشعب بالإطاحة بنظام القذافي لكن تفرقت بعد ذلك إلى قبائل ومليشيات تحارب بعضها البعض، فالجيش الليبي لم يكن جيشا نظاميا وطنيا بالمفهوم الصحيح لجيش الدولة، بل كان كثير التسليح قليل التنظيم، مما ساعد على تشتته بعد الثورة وانهياره. كما أن غياب المؤسسات ساعد على تشتت الأطراف الليبية في إعادة للتنافس شرق غرب، حيث يحكم ليبيا الآن برلمانين واحد في “طبرق” وآخر في “طرابلس” أو ما يطلق عليه ب”المؤتمر الوطني العام بطرابلس”، كما يظهر عدم التناغم في بعض الأحيان بين المليشيات المسلحة والكيانات السياسية التي تمثلها، حيث يقتسم ليبيا اليوم مليشيات ك”فجر ليبيا” وقوات “خليفة حفتر”.

الحديث عن أحزاب سياسية في ليبيا لا يزال بعيدا إلى حين تأسيس الدولة الليبية، دولة موحدة قائمة على المؤسسات لا على منطق القبيلة والانتماء العشائري، فاليوم كل طرف يدعي أن له شرعية التمثيل السياسي لليبيين. لكن يجب انتظار ما ستسفر عنه المشاورات بين أطراف الصراع في ليبيا، من أجل تشكيل حكومة وفاق وطني كما تم الاتفاق عليه في مدينة الصخيرات المغربية، وإعلان دستور جديد للبلاد يتم من خلاله التأسيس لدولة المؤسسات، وخوض حرب مع التنظيمات المتطرفة التي قد تعيق أي اتفاق من أجل وحدة ليبيا.

  • موريتانيا:

منذ استقلال الجمهورية الموريتانية سنة 1960 وهي تعيش على وقع عدم الاستقرار السياسي، فبعد الاستقلال اختير “المختار ولد داداه” رئيسا لموريتانيا، حيث حاول بناء دولة المؤسسات والسماح بالتعددية الحزبية والحفاظ على الهوية الإسلامية التي تتماشى والشعب الموريتاني المحافظ، واستكمال وحدة التراب الموريتاني الذي كان عبارة عن قبائل وأقاليم مترامية. بعد ذلك دخلت موريتانيا في مرحلة عدم الاستقرار السياسي، حيث توالت الانقلابات العسكرية في خضم صراعات إقليمية كانت ساحتها موريتانيا، بعد ذلك استولى الرئيس “معاوية ولد سيدي احمد الطايع”  على الحكم في انقلاب عسكري سنة 1984، حيث تم تهميش الأحزاب السياسية والاستئثار بالسلطة أزيد من عقدين من الزمن.

بعد إعلان الدستور الجديد لموريتانيا سنة 1991، ثم إعلان دولة موريتانية مدنية بتعددية حزبية، حيث تم السماح بتأسيس الأحزاب والعمل السياسي وفاق عدد الأحزاب 16، فتأمل الشعب الموريتاني خيرا بهذه الإجراءات. غير أن سيطرت الحزب الحاكم الذي ترأسه “معاوية ولد سيد أحمد الطايع” وهو “الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي”، الذي أصبح يفوز بجميع الاستحقاقات الانتخابية لتحّل بعد ذلك الأحزاب نفسها وتتكتل في حزب واحد، وهناك من انضم إلى الحزب الحاكم، حيث ظل حظر الأحزاب الإسلامية قائما في ظل حكم “الحزب الجمهوري الديمقراطي” الذي كان بمثابة الذراع السياسي للمجلس العسكري الذي كان يحكم موريتانيا فعليا، حاول حزب “اتحاد القوى الديمقراطية” خلق معارضة قوية بعد أن ضم مجموعة من الكوادر المعارضة لحكم “الطايع” إلا أن مصيرها كان الاعتقال أو الاعتزال أو الانضمام إلى الحزب الحاكم، في فترة حكم 99.99% التي عرف بها نجاح الرؤساء العرب من بينهم رئيس موريتانيا.

في أواخر التسعينات ومطلع الألفية الثالثة، بدأت تظهر بعض الأحزاب المعارضة من قبيل حزب “الجبهة الشعبية” وحزب “الليبراليين الديمقراطيين الموريتانيين”، وحزب “اتحاد قوى التقدم” الذي أسس من طرف أعضاء حزب “اتحاد القوى الديمقراطية”، ظهرت التعددية الحزبية من جديد في موريتانيا غير أنها فرضت نفسها في هذه الفترة وسط احتقان اجتماعي وسياسي الذي ضاق ذرعا من حكم “معاوية ولد الطايع”، الذي رغم كل هذا واصل التضييق على أحزاب المعارضة، وتم اعتقال عدد من رموزها وكذلك حل العديد من الأحزاب السياسية، مما أدى إلى رجوع المحاولات الانقلابية التي باءت بالفشل.

صمد نظام “ولد الطايع” إلى غاية سنة 2005، حيث قام بعض العسكريين الغاضبين بالانقلاب عليه وتنصيب “العقيد ولد محمد فال” رئيسا للبلاد، الذي شكل مجلسا عسكريا للحكم سيتم من خلاله التمهيد لإصلاح الدستور وتسليم الحكم للمدنيين. حيث نظمت الانتخابات البلدية والتشريعية، وكذلك تم انتخاب رئيس مدني “سيدي ولد الشيخ” كأول رئيس منتخب في موريتانيا، كما وعد المجلس العسكري الذي اتهمه الكثير خصوصا المعارضة بدعمه لخصومها السياسيين، حيث سيتم الانقلاب عليه والعودة إلى نقطة الصفر، من طرف قائد الانقلاب الذي سيصبح رئيس موريتانيا “محمد ولد عبد العزيز”، رغم احتجاج المعارضة على نجاحه بداعي تزوير الانتخابات.

    خلاصة:

رغم كل الصراعات السياسية والتوجهات الإيديولوجية المختلفة للأحزاب المغاربية، إلا أن هذه الحركية في المشهد السياسي المغاربي تبقى صحية في العالم العربي، مع بروز وعي سياسي لدى شعوب المنطقة والاقتناع بضرورة الاشتغال من داخل مؤسسات الدولة للوصول إلى ديمقراطية حقيقية، بالرغم من عدم سهولة الطريق بالنظر لما تعيشه دول المنطقة من اضطرابات سياسية وعسكرية في تونس وليبيا، وكذلك ما تعيشه المنطقة العربية برمتها من عدم استقرار في عملية تأثير وتأثر. كما تبقى المنطقة المغاربية تعيش صراعين متوازيين: الأول سياسي أيديولوجي بين ما أصبح يعرف بالإسلام السياسي في مواجهة تيار علماني حداثي، وصراع آخر هوياتي يتضح من خلال مناداة التيار الأمازيغي بالمزيد من الحقوق والاعتراف مقابل التيار العروبي الوطني. حيث تبقى كل دولة وطريقة تعاملها مع هذه الصراعات بين من تمنح المزيد من الحريات، ومن تواجه تلك المطالب بالمزيد من القمع والتضييق.

لائحة المراجع:

  • د.أسامة الغزالي حرب. “الأحزاب السياسية في العالم الثالث.”              سلسلة كتب عالم المعرفة. عدد 117 الكويت    سبتمبر 1987 .
  • توفيق المديني. “صراع الرئاسة والمخابرات في الجزائر.      مقال منشور في جريدة السفير 18/09/2015  assafir.com.
  • المشهد الحزبي في تونس بعد 5سنوات من الثورة تحكمه المصالح وتشقه الصراعات ويفرز توازنا هشا ينبئ باختلال قادم. مقال صحفي على موقع  وكالة تونس إفريقيا للأنباء. http://www.tap.info.tn/ar.
  • https://ar.wikipedia.org/wiki/

[1] – د.أسامة الغزالي حرب.        “الأحزاب السياسية في العالم الثالث.”              سلسلة كتب عالم المعرفة. عدد 117 الكويت    سبتمبر 1987  ص 75.

[2]مبدأ الحدود الموروثة عن الاستعمار أو مبدأ Uti Possidetis Juris: هو مبدأ ظهر مع تصفية الاستعمار وظهور دول جديدة مستقلة حيث كانت الدول المستعمرة تقسم مستعمراتها إلى مناطق إدارية، ومع خروج الاستعمار تم الاحتفاظ بتلك الحدود الإدارية على أساس أنها حدود للدولة وهو الأمر الذي أخذت به دول أمريكا اللاتينية ومنظمة الوحدة الإفريقية وكذلك الدول المستقلة عن الإتحاد السوفياتي…  وقد أدي هذا المبدأ إلى إشعال نزاعات عديدة حول الحدود. أنظر ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية التي تبنت المبدأ.

[3] – الحداثة “Modernité” كلمة مشتقة من الحديث أصلها لاتيني “Modernus” والحداثة يعنى بها في السياسة التقدم والابتعاد عن كل ما هو قديم من الدين إلى التقاليد والاهتمام بالحقوق الإنسانية وحكم القانون والاعتماد على العقل ويقصد فيها غالبا في خطاب الأحزاب السياسية الابتعاد عن الخطاب الديني في السياسة، وهو مصطلح ترتبط به مجالات عديدة. وقد كتب في الموضوع عدة كتاب من بينهم المفكر عبد الوهاب المسيري “الحداثة وما بعد الحداثة” والمفكر المغربي محمد سبيلا.

[4] – توفيق المديني.    “صراع الرئاسة والمخابرات في الجزائر.      مقال منشور في جريدة السفير 18/09/2015 ص 17 www.assafir.com.

[5] – نبذة عن شخص الرئيس الحبيب بورقيبة.  https://ar.wikipedia.org/wiki/

[6]المشهد الحزبي في تونس بعد 5سنوات من الثورة تحكمه المصالح وتشقه الصراعات ويفرز توازنا هشا ينبئ باختلال قادم.    مقال صحفي على موقع  وكالة تونس إفريقيا للأنباء. http://www.tap.info.tn/ar.

للتحميل من هنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى