الدراسات الاستراتيجيةغير مصنف

إيران والمستقبل.. محددات علاقاتها مع أمريكا وإسرائيل وروسيا

مقدمة:

في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، أصبحت إيران في موقع الانكشاف والاستنزاف الاستراتيجي، خاصةً في مناطق نفوذها الحيوي (سورية – العراق – لبنان)، حيث رفعت إسرائيل من وتيرة استهداف مليشيات مدعومة من طهران في الحدود العراقية السورية، كذلك مارست إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب قبل مغادرتها أقصى أنواع الضغط على نفوذ إيران، لاسيما في اليمن، حيث أدرجت الولايات المتحدة مليشيا “الحوثي” في قائمة الإرهاب.

وبرغم كل محاولات الضغط الممارس على إيران، فإنها ما تزال تعمل على إثارة توترات كبيرة في المنطقة بهدف تحقيق مكاسب في أكثر من اتجاه، وهو ما سيزيد من الآثار والانعكاسات السلبيّة على المشهد السياسي؛ خصوصًا في الفترة القادمة التي من المتوقّع أن تشهد اختلافًا في طبيعة تعامل الدول المناهضة لإيران معها؛ بسبب قدوم إدارة أمريكية جديدة بعد فوز مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن بالرئاسة.

من جهة أخرى، تعوّل طهران على أذرعها من المليشيات المنتشرة في الجوار العربي لتعزيز قدرتها على تغذية الفوضى التي باتت أساسًا لتحقيق مكاسب آنية غير استراتيجية وغير واضحة المعالم؛ ولذلك فإنها تحاول – بالرغم من الضغوط الدوليّة الممارسة عليها – تأمين دعم مستمر ومتدفّق لحلفائها؛ خصوصًا في العراق وسورية ولبنان؛ أولئك الذين أصبحت طهران تنظر إليهم على أنهم الشريان الرئيسي والمغذّي لأنشطتها العدائية في بقية البلدان.

وبالمقابل فمن المتوقّع أن يعيد مسؤولو نظام إيران النظر في شكل شبكاتهم وطبيعة تحالفاتهم، بناءً على التغيرات الجديدة التي طرأت وستطرأ على الشرق الأوسط والمحيط الدولي، وفي مقدمة الملفات الحاضرة أمامهم خلال سنة 2021: شكل العلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدة وروسيا، على اعتبار أن هذه الدول باتت اللاعب الأقوى في مناطق أطماع إيران التقليدية.

وعليه تُناقش الورقة مُحددات تعامل النظام الإيراني وتفاعلاته مع أهم الدول المؤثرة في المنطقة، مع محاولة استخلاص توقعات ونتائج لسلوك إيران المقبل على صعيد السياسات الخارجية.

العلاقات الإيرانية الأمريكية بين عهد ترامب وسياسات بايدن المقبلة:

  • أ) سمات العلاقات في حقبة دونالد ترامب:

وصلت العلاقات الإيرانية الأمريكية إلى نقطة توترٍ مرتفعة خلال حقبة الرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترامب؛ إذ وضع سياسات وآليات تنفيذية حازمة للتعامل مع النشاطات المشبوهة لنظام إيران في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفغانستان. وأراد ترامب أن يضع استراتيجيته الخاصة لضبط نفوذ إيران، معتبرًا هذه الخطوة إحدى أولويات سياسته الخارجية؛ لذلك أقرّ في هذا السبيل استراتيجية “الضغط الأقصى” على إيران التي ارتكزت على ما يلي:

  • سد كل الطرق التي يمكن أن تؤدّي إلى امتلاك إيران سلاحًا نوويًا، وأهمها بقاء خطة العمل المشتركة.
  • العمل مع الحلفاء على مواجهة أنشطة طهران الإجرامية التي تقوم على تشكيل ودعم مليشياتٍ تأتمرُ بأوامر “الحرس الثوري”؛ وخاصةً في العراق وسورية ولبنان وأفغانستان واليمن.
  • فرض عقوبات إضافية على طهران؛ لمنع تمويلها للإرهاب، وأهمها إقرار عقوبات صارمة على قادة مليشيات ولائية لإيران داخل “الحشد الشعبي” في العراق، وأخرى مُقرّبة من “حزب الله” في لبنان.
  • التصدّي لانتشار الصواريخ والأسلحة الإيرانية التي تُشكّل تهديدات لجيرانها والتجارة العالمية وحرية الملاحة.

وبالنظر إلى ما تمَّ تحقيقه من البنود السابقة، فقد قام الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته بتشديد تعامله مع طهران على كافة الصُعد، فبعد انسحاب إدارته من الاتفاق النووي، تمكّنت في أيلول/ سبتمبر- 2020 من تفعيل آلية (سناب باك) التي أُعيد بموجبها فرض عقوبات أمميّة على إيران وفقًا لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2231، وتشمل هذه العقوبات وزارة الدفاع والجيش ومنظّمة الصناعات الدفاعية الإيرانية([1]).

توازت الضغوط السياسية لإدارة ترامب على إيران خلال ولايته مع استخدام القوة الخشنة ضدها، أو التهديد بها لحماية مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وكان من أبرز الأحداث في هذا الصدد: مقتل قاسم سليماني بضربة جوية أمريكية موجّهة بدون طيار في العراق([2])، بالإضافة إلى تسيير قوات عسكرية بَحرية بقيادة البحرية الأمريكية لحماية الملاحة وحركة السفن في مضيق هرمز من التهديدات الإيرانية([3]).

وبالمقابل صعدّت إيران من لهجتها العدائية تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، وتوعدّت بردّ صارم، لكن الردّ اقتصر على الخطاب الدعائي والشعارات الطائفية، إلى جانب ضلوعها في دعم مليشيات نفذت هجمات على حلفاء الولايات المتحدة، كتهديد مصادر الطاقة في منتصف 2019، وشملت مؤسسة أرامكو السعودية وأنابيب نفطية إماراتية ومحيط السفارة الأمريكية في بغداد والمنطقة الخضراء. وبالنظر إلى هذه الأعمال التي دعمتها إيران، يبدو واضحًا أنَّ سلوكها بعيد كل البعد عن ممارسات الدولة، بل ينطبق عليه وصف شبكات غير منظّمة مدعومة بهياكل مؤسسات حكومية في الظاهر([4]).

وقد وصل تعاطي إدارة ترامب مع أطماع إيران إلى مرحلة الضغط القصوى عليها، حتى شهدت هذه الفترة سياسات تنفيذية أمريكية مغايرة لسلفه أوباما؛ لذلك سيكون هذا الملف بالنسبة للرئيس الحالي جو بايدن معقّدًا ومتشابكًا؛ خصوصًا أنه يسعى لإحداث تغييرات في اتجاه تهدئة العلاقة مع إيران([5]).

  • ب) المحددات المتوقعة للعلاقة مع إيران في عهد بايدن:

على الرغم من تفضيل الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن سلوك نهج أكثر دبلوماسية للتعامل مع طهران، عبر سعيه للعودة إلى خطة العمل المشتركة (1+5)، وإعادة الحوار معها، فإنَّ الرسائل المُعلنة من طهران لم تُظهر إلى الآن مرونة كافية لمواكبة توجّهات بايدن، فبعد إعلان فوز الأخير بالانتخابات الرئاسية، سارعت طهران إلى اتباع تكتيكات ثنائية، كرفضها العودة إلى مسار المفاوضات إلّا بعد رفع كامل العقوبات الاقتصادية، وأخرى تتمحور حول رفضها الكامل لأي صيغة جديدة للاتفاق.

وبطبيعة الحال فإن خامنئي عادةً ما يستخدم لهجة تصعيدية في حديثه عن موقف بلاده من واشنطن، لكن الخطوة التي أكدت أن إيران ترغب في العودة للحوار مع الولايات المتحدة، هو إعلانها البدء بتخصيب اليورانيوم إلى نسبة 20٪، مخالفة بذلك في الظاهر نصّ الاتفاق النووي بألّا تزيد نسبة التخصيب عن 3.67٪؛ وذلك في محاولة منها رفع سقف فرصها في أي مفاوضات محتملة مع الإدارة الأمريكية الجديدة([6]).

وبالعودة إلى المتوقع من سياسات بايدن تجاه إيران، فقد كان من مؤيدي أوباما بقوة حينما مضى قدمًا في توقيع الخطة الشاملة المشتركة لبرنامج إيران النووي. وجادل بايدن خلال حملة ترشحه الأخيرة أن انسحاب واشنطن من الاتفاق أدّى إلى إيقاف إيران تعهداتٍ نووية خلال العامين الماضيين، وهو ما أكّدته الوكالة الدوليّة للطاقة الذرية؛ إذ أصبح مخزون إيران من اليورانيوم أعلى من المتفق عليه في (1+5). ([7])

من جهة أخرى، فإن بايدن لا يعترض على اعتبار إيران دولة مزعزعة للاستقرار في المنطقة، لكنّه يختلف في آليات التعاطي معها عن سلفه ترامب الذي كان يرى أنها لم تكن مجدية في منع إيران من تطوير ترسانتها النووية.([8])  وبالتالي فإنَّ مواقف الرئيس الحالي أظهرت مقارباتٍ جديدة لطريقة تعامل الولايات المتحدة مستقبلًا مع إيران وفق ما يلي:

  • تفعيل دور دول (1+5) لإعادة إحياء خطة العمل المشتركة؛ خصوصًا بالعمل مع حلفاء واشنطن الأوروبيين الذين حاولوا الحفاظ على الاتفاق فعّالًا، وإن تم اختراقه عدّة مرات بعد انسحاب ترامب منه.
  • دفع إيران باتجاه الالتزام مجددًا ببنود الاتفاق، وخفض مستوى التخصيب إلى النسبة المتفق عليها من قبل (3.67%)، ووقف تركيب أجهزة الطرد المركزي، مع تقديم بوادر لبناء الثقة تتمثل في إمكانية تجميد جزئي للعقوبات الأمريكية المفروضة على طهران، خصوصًا وأنَّ الأخيرة بحاجة إلى إسعاف وضعها الاقتصادي المتهالك الناتج عن سياساتها وعن أزمة (كوفيد-19)، وكذلك بعد تفعيل آلية (سناب باك).
  • محاولة احتواء آثار السياسة الجديدة مع إيران على دول المنطقة؛ إذ سيدفع رفع العقوبات وإتاحة وصول موارد جديدة لإيران إلى تكثيفها لأنشطتها التخريبية الداعمة لنفوذها ووكلائها بشكل أكبر؛ خصوصًا في سورية والعراق ولبنان.

وسيكون ما سبق استحقاقًا كبيرًا على بايدن، لاسيما بعد إبداء مراقبين مخاوفهم من إمكانية تكرار الرئيس المنتخب لسياسات أوباما التي لم تظهر التزامًا فعالًا لحماية أمن الحلفاء – كالمملكة العربية السعودية – بعد التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، وقد طالب أوباما حينها بـ”ضرورة تطبيق مبدأ التعايش وتقاسم النفوذ في الشرق الأوسط بين إيران والمملكة العربية السعودية”([9]).

وعلى أي حال، فإنَّ التساؤلات حول الشكل المتوقع للعلاقات الأمريكية القادمة مع إيران أكثر من الإجابات؛ لأنًّ التحول من استراتيجية ترامب (الضغط الأقصى) إلى سياسة بايدن (تنشيط الدبلوماسية)، يحتاج إلى مشاورات مكثّفة داخل أروقة صنع القرار الأمريكية، بما فيها إدارة بايدن والمشرعون في الكونغرس؛ لذلك يصعب التنبؤ بما ستُفضي إليه تلك المناقشات حول إيجاد الآليات التنفيذية الملائمة لسياسات الإدارة القادمة في التعاطي مع طهران؛ خصوصًا إن أفضت الانتخابات الإيرانية الرئاسية المزمع عقدها في حزيران/يونيو – 2021 إلى وصول رئيس من التيار المتشدد يحمل توجّهات معيقة للمسارات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة.

مرتكزات التعامل مع إسرائيل:

خلال السنوات الماضية، ثم بدعمها النظامَ والمليشيات الطائفية في سورية، تمكنت إيران من امتلاك نقاط نفوذ متقدّمة هناك، وقد اعتمدت في إنجاز ذلك على تقنين الاشتباك مع إسرائيل وتقاسم مناطق النفوذ الأسود، وكان عقل هذه التقنيّة ومنفّذها هو قاسم سليماني الذي استطاع قبل مقتله ضبط فوضى مليشياته في محيط إسرائيل.

في واقع الأمر، تغيّرت قواعد اشتباك إسرائيل وإيران منذ عام 2006/2007؛ أي عند دخول المنطقة نطاق الاشتباك المباشر فيما سمّي “حرب تموز”، وهو ما دفع “الحرس الثوري” إلى التفكير في آليات توغّلٍ جديدة تُمكِّنُه من تقاسمِ مكاسب تفكيك المنطقة مع إسرائيل. ([10])

وبالنسبة لإسرائيل، فقد تعاملت مع المتغيّرات الطارئة على معادلة الاشتباك مع طهران لاحتواء نفوذها، ورسم خطوط حمراء لمناطق وجودها، وهي نقطة الخلاف التكتيكية الحالية بين الطرفين. كما اعتبرت إسرائيل أن إيران أصبحت جزءًا من استراتيجيتها الدفاعيّة في مواجهة تهديدات المنظمات الإرهابية؛ مثل: تنظيم “الدولة”، والمليشيات الموالية لطهران، فقامت تل أبيب بتنفيذ طلعات جويّة مكثّفة ومركّزة استهدفت منشآت ونقاط تمركز للتنظيم والمليشيات في كل من سورية والحدود اللبنانية السورية والحدود السورية العراقية، مما يعني أنَّ إسرائيل انتقلت لتنفيذ طلعات هجوميّة بنفسها وبشكل أحادي حين شعرت بالتهديد، وهي استراتيجية إسرائيلية أصبحت علنية في المنطقة.

وفي الوقت الحالي، تعمل تل أبيب بقاعدة تقنين الاشتباك وضبط النفوذ الإيراني، في حين تسعى إيران إلى الاستفادة ما استطاعت مما ستؤول إليه جهود بايدن لإعادة تفعيل الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران، فمن شأن ذلك أن يزيد من وتيرة أنشطتها المشبوهة في المنطقة، إلى جانب تمكنها من إيصال موارد لوجستية ومالية أكبر إلى حلفائها.

ويبدو أنَّ إسرائيل استشعرت مؤخرًا إمكانية حدوث ذلك، فقامت بشن طلعات جوية أوسع ضد إيران في سورية، شملت ثلاثة عشر موقعًا في مدينة دير الزور والبوكمال والميادين، بتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا التي قامت بتزويد إسرائيل بمعلومات حول مواقع الاستهداف([11]).

كما كشفت بعض المصادر مؤخرًا عن “نية تل أبيب تكثيف القصف بمعدل ثلاث غارات كل عشرة أيام، بدلًا من واحدة كل ثلاثة أسابيع. وأعلن الجيش الإسرائيلي في تقريره السنوي لعام 2020 أنه نفذ خمسين غارةً جوية على أهداف في سورية، وأطلق أكثر من خمسمائة قذيفة وصاروخ ذكي خلال العام الماضي؛ وذلك بهدف منع تموضع إيران في سورية”([12]).

ومن جانب آخر، فإنَّ المخاوف الإسرائيلية تشمل أبعادًا جيوسياسية يمكن أن تكتسبها إيران إذا ما رُفعت العقوبات عنها بموجب إعادة إحياء خطة العمل المشتركة، وفق ما يلي:

  • تسعى إيران إلى سد الفراغ الذي أحدثه مقتل سليماني، ولم يستطع خلفه إسماعيل قاآني سدَّه، حيث حصل تفكّك في الروابط بين سلوك وكلاء إيران في كل من العراق وسورية ولبنان، وهو ما يُهدّد النفوذ الإيراني في الدول الثلاث.
  • تتطلّع طهران إلى إعادة ترتيب صفوف حاضنتها الشيعية في مناطق نفوذها بعد أن اندلعت احتجاجات واسعة في إيران والعراق ولبنان طالبت بإيقاف التدخل الإيراني في شؤون جيرانها([13])، وهو ما يُشكّل تهديدًا للعامل الأيديولوجي في الاستراتيجية الإيرانية الذي يرتكز على وجود الحواضن الشيعية لتمرير أطماع طهران.
  • كما أن “اهتزاز الجانب الأيديولوجي عند شرائح في المجتمع الإيراني هو أكثر ما يُعنى به المرشد؛ وهو ما اتضح العمل به في مراسم دفن قاسم سليماني؛ حيث ركزت طهران على إظهار صورة تحاكي موت خميني عبر تحشيد مسيرات ضخمة في بعض محافظات إيران”([14]).

بناءً على ذلك، ستتخذ إسرائيل أقصى درجات التأهب لمواجهة أي من الخيارات السابقة، مع إدراكها أنَّ الولايات المتحدة ستأخذ بعين الاعتبار الالتزام بحماية أمن إسرائيل وفق ما تعهد به الرئيس الحالي، لكنها في ذات الوقت من المحتمل أن تلجأ إلى خطوات خشنة أكثر فاعلية تتضمن توسيع بنك الأهداف على الأرض([15])، والعمل مع الحلفاء الجُدد (الإمارات والبحرين) الذين طبّعوا العلاقات معها، من أجل ضبط أنشطة طهران عبر توسيع نطاق حاجز الردع الأمني الإسرائيلي إلى الخليج العربي. وقد كان ذلك أحد الأهداف الرئيسية من “اتفاقيات إبراهيم”([16]).

وفي واقع الحال، سيستمر التصعيد الإسرائيلي الإيراني، وستتخذ العلاقات بينهما منحى أكثر تعقيدًا على الأرجح، في حال لم يحدث تكامل في استراتيجيات الدول المناهضة للأنشطة الإيرانية بقيادة الولايات المتحدة، التي سيكون أمامها استحقاق إحداث حالة توازن كان الرئيس الأسبق باراك أوباما قد فشل في تحقيقها، ويتمثل في ضبط النفوذ الإيراني، وإبرام اتفاق نووي معها في ذات الوقت.

 طبيعة العلاقات الإيرانية الروسية:

على الرغم من أنَّ العلاقات الروسية الإيرانية متنوعة، وتشمل جوانب متعدّدة؛ أهمها قضايا الدفاع والاقتصاد، ومواقف سياسية مشتركة إزاء عدة ملفات، إلا أنَّ هناك وجهتي نظر أكثر شيوعًا لتوصيف طبيعة هذه العلاقة، وهما:

الأولى: تعتبرها من روابط الضرورة التي خلفتها أزمة إيران مع الولايات المتحدة؛ إذ دفعت الأزمة طهران خلال العقدين الماضيين إلى محاولة الالتفاف على العقوبات بتعزيز علاقاتها مع روسيا؛ أي أنَّ ذلك تم وفق مبدأ الاضطرار. ويستشهد مؤيدو هذه الرؤية بأحد الأمثلة على طبيعة التباعد في الأهداف الاستراتيجية بين البلدين، وهو السلوك المتغاير والمتباين لكل منهما في القضية الأفغانية.([17])

وجهة النظر الثانية: تحاول قراءة مواقف البلدين برؤية أكثر واقعية، وتعتبر أن لدى كل من روسيا وإيران دوافع ملحَّة لبناء علاقات استراتيجية بعيدة المدى قائمة على توسيع شبكة المصالح المشتركة بينهما خارج حدود الدولتين، وأن تتجاوز نطاق التعاون الاقتصادي والأمني والدفاعي إلى حيّز استراتيجي، ومثال ذلك موقف البلدين وتفاعلهما في القضية السورية؛ إذ قامتا بتأمين دعم غير محدود للنظام السوري، وهو ما حال دون سقوطه([18]).

بيد أن هناك رؤية ثالثة ربما تكون أكثر مقاربة لتوصيف طبيعة العلاقة بين إيران وروسيا، وتفيد أنَّ هناك ملفات تتوافق فيها الدولتان على الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى، مقابل وجود ملفات أخرى يكون التوافق فيها مبنيًا على أسس الشراكة المضطربة، وينطلق كلا البلدين وفق هذا من عدة محددات رئيسية؛ منها:

– مواجهة السياسات الأمريكية؛ إذ تنطلق روسيا من منافستها التقليدية لواشنطن من أجل بناء نفوذ عالمي قوي لها، واستعادة دورها باعتبارها دولة كبرى لديها شبكات مصالح استراتيجية واسعة حول العالم. فيما بنت إيران سياساتها بشكل محوري – منذ ظهور نظام خميني – على أساس ما تدّعيه من معاداة الغرب والرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة، ولذلك فإنَّه النهج الذي يُتيح للنظام الإيراني البقاء على رأس السلطة وتثبيت حكم المرشد، وأصبح شعار (الموت لأمريكا) مرتبطًا بمصير ووجود النظام الإيراني.

– المصالح المشتركة في عدة قضايا استراتيجية تؤمّن لكل من روسيا وإيران نفوذًا جيوسياسيًا، وأهمها التوافق في الأهداف الرئيسية ضمن معطيات القضية السورية، والأزمة الآذرية الأرمينية، ودعم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو. وقد عمل مستشارون من “فيلق القدس” جنبًا إلى جنب مع ضباط روس لمساندة النظام السوري، كما جمعت القوات التي تعمل بالوكالة عن إيران وروسيا – بما في ذلك “حزب الله” اللبناني ومرتزقة مجموعة (فاغنر) والمليشيات الشيعية في العراق – طاقاتها لتنسيق العمل في صالح البلدين، عدا أنه تمَّ تكثيف النشاط السياسي والدبلوماسي للحفاظ على نقاط التقاطع بين الدولتين في جنوب القوقاز ووسط وجنوب آسيا.

– الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات في الملفات التي لا تتّفق فيها استراتيجيات البلدين، وأهمها القضية الأفغانية، حيث تزامنت الحرب السوفيتية في أفغانستان مع نهاية انقلاب خميني في إيران وإطاحة حكم الشاه عام 1979، وعليه فقد جعل خميني التعامل مع القضية الأفغانية أحد أولوياته، وكان موقفه يتراوح بين العمل على عدم خسارة علاقاته الجيدة مع الروس، وبين السعي إلى أن لا تنتقل الفوضى من أفغانستان إلى داخل إيران؛ لما يحمله ذلك من مخاطر استراتيجية عليها؛ كونها دولة حدودية مع أفغانستان، بالإضافة إلى دعم أقلية الهزارة الشيعية، بناءً على الدور الأساس للنظام الإيراني، وهو استخدام الشيعة في كافة المناطق لصالحه.

لذلك لم يبد نظام خميني في ذلك الوقت موقفًا معاديًا للسوفييت علنًا، لكنّه سلّح عبر قنوات استخباراتية فئات من الهزارة في أفغانستان؛ للمشاركة بهجمات متفاوتة ضد السوفييت وقت الحاجة لحماية الأطماع الإيرانية في أفغانستان.

وقد حافظت إيران على هذا النهج في أعقاب انسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، ودخول قوات حلف الناتو إليها بقيادة الولايات المتحدة عام 2003؛ بذريعة مكافحة الإرهاب، وصولًا إلى الوقت الحالي، إذ تعمل إيران بمواصلة تدخلها في البلاد على تحقيق توازنات مع باكستان والهند أكثر من تعزيز الروابط مع روسيا؛ لأنها تُدرك أنَّ تأثير الأخيرة في القضية الأفغانية منذ انسحاب السوفييت منها بات أقل من دور بقية الفاعلين، ولأنَّ إنشاء تحالف معها لن يضمن لإيران استمرار نوع علاقاتها التي حاولت إنشاءها خلال العقود الماضية مع حركة طالبان وحكومة كابول([19]).

– التعاون في مجال الطاقة النووية ودعم برنامج إيران النووي بما لا يتعارض مع دور موسكو في خطة العمل المشتركة؛ فقد قامت روسيا بتركيب أول وحدة طاقة نووية روسية الصنع عام 2011 في محطة بوشهر، وفي عام 2014 وقعت روسيا صفقة مع إيران لبناء ما يصل إلى ثمانية مفاعلات نووية أخرى في البلاد، بالإضافة إلى توقيع اتفاقية في عام 2016 نصت على تقديم موسكو قرضًا لتمويل 85% من تكاليف بناء محطة طاقة حرارية بقدرة 1400 ميغاوات في سيريك([20]). وترى موسكو أن العمل بهذه السياسة يؤمن لها أوراق ضغطٍ على الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين من أجل حفظ مصالحها في المنطقة.

لذا فإنه من المتوقع أن يستمر التعاطي الإيراني مع روسيا ضمن حالة توازن في المصالح؛ خصوصًا وأنه بات لدى إيران نقطة انطلاق قوية لكسب أفضلية في روابطها مع موسكو، وهي رفع مستوى العلاقات مع الصين. وحاليًا يقوم مسؤولو النظام الإيراني بمناقشة التوقيع على الاتفاقية التي تعرف باسم “اتفاقية المئة عام” التي عرضتها بكين على طهران في تموز/يوليو الماضي، والمتضمنة مشاريع بقيمة 400 مليار دولار تشمل استثمارات صينية في البنوك الإيرانية والاتصالات والبنية التحتية للنقل، بما في ذلك المطارات والسكك الحديدية ومناطق التجارة الحرة والفضاء السيبراني الإيراني، مقابل حصول الصين على إمدادات منتظمة من النفط الإيراني بأسعار مخفضة على مدى السنوات الخمس والعشرين المقبلة([21]).

الخلاصة:

قراءة السلوك الإيراني المتوقّع مستقبلًا مع الأطراف النافذة في المنطقة ترجح عدم تغير السياسة التخريبيّة التصعيديّة للإيرانيين، وسيبقى النظام الإيراني يبني استراتيجيته الخارجية على أساس العدائية، حتى وإن أفضت الانتخابات الإيرانية الرئاسية القادمة إلى انتخاب رئيس إصلاحي([22])، فإنَّ المتشددين والإصلاحيين لا يختلفون في المنطلقات الأساسية لسياسات النظام الخارجية، لكن يوجد تباين في طرق تعاطيهم مع الآليات التنفيذية لتطبيقها، وبناءً على ذلك يمكن استخلاص ما يلي:

– ستكثّف إيران دعمها لمليشيا “الحشد الشعبي” في العراق؛ لتثبيت سلطتهم الأمنية، ودعم تمثيلهم السياسي في الانتخابات البرلمانية العراقية المزمع عقدها في حزيران/يونيو المقبل([23]). كما سيستمر الدعم الإيراني للنظام السوري، وعلى الأرجح ستقوم طهران بتعزيز وجود وكلائها قرب الحدود السورية العراقية. وبالنسبة لدعم “حزب الله”في لبنان، فستحافظ إيران على إيصال الإمدادات اللوجستية والمالية له؛ خصوصًا في مرحلة عدم الاستقرار الذي تشهده لبنان.

– سيُشكل الاتفاق النووي وطرق تعاطي إيران معه نقطة تجاذب واستقطاب جديدة مع واشنطن وحلفائها، وأهمهم المملكة السعودية، وتمتلك قيادة النّظام الإيراني باطنيّة عاليّة في إدارة توجّهاتها وإخفاء كمّية الشرّ الكبيرَة التي تظهر في تصرّفاتها أكثر من أقوالِها. وقد ظهرت بوادر هذه الباطنية حينما أعلنت عن رفع مستوى التخصيب. وعليه، فإنه على الرغم من أنَّ بايدن سيسعى إلى إعادة فتح الحوار مع إيران، فإن حدة التوتر لن تنخفض، على الأقل في المدى القريب.

– بالنسبة لطبيعة التحالف الروسي الإيراني، فقد بات انخراط الأولى في المنطقة أكثر شمولية وفاعلية؛ سواء في القوقاز أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، وهي تعمل على صياغة دورٍ جديدٍ لها في المنظومة العالمية؛ لذلك قد تطرأ خلال السنوات القادمة تحولات على طبيعة روابطها ومصالحها مع إيران، فتلجأ إلى تخفيف دعمها المستمر لها بناءً على سياسة الانفتاح العالمية التي تسعى موسكو إلى تحقيقها على المدى المتوسط والبعيد.


[1]() “Secretary Michael R. Pompeo And Treasury Secretary Steven Mnuchin, Defense Secretary Mark Esper, Commerce Secretary Wilbur Ross, U.S. Representative to the United Nations Kelly Craft, and National Security Advisor Robert O’Brien At a Press Availability on Iran Snapback Sanctions”, Public Global Affairs US Department of State, 21-9-2020. https://bit.ly/3iwLOwu 

[2]()”بي بي سي، مقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني في ضربة أمريكية ببغداد”.  3-1-2020.

https://bbc.in/2LE8i2D

[3]() “، فرانس24″، تحالف عسكري تقوده الولايات المتحدة يبدأ مهمة حماية الملاحة في الخليج، 7-11-2019.

https://bit.ly/3bTZb8t

[4]() “U.S.-Iran Conflict and Implications for U.S. Policy”, Congressional Research Service, 8-5-2020. https://bit.ly/3o0AKZF  

[5]() “Iran: Maximum Pressure, Minimum Gain”, Foreign Policy, 23-12-2020. https://bit.ly/3bXZG1k 

[6]() “، بي بي سي “البرنامج النووي الإيراني: طهران “بدأت بالفعل” تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة والاتحاد الأوروبي يحذرها، 4-1-2021. https://bbc.in/2XVlna3

[7]() “Biden’s Path Back to Iran Nuclear Deal Won’t Be Easy or Fast”, Bloomberg, 12-11-2020. https://bloom.bg/2J5uxwI

[8]() “Biden: Trump ‘Flat-Out Lied’ About Soleimani Dangers”, US News, 14-1-2020. https://bit.ly/3kW1adj

[9]() بي بي سي، “أوباما: على السعودية وإيران تعلم مبدأ المشاركة في المنطقة”، 10-3-2016.

https://bbc.in/370l5D3

[10]() “Balancing deterrence: Iran-Israel relations in a turbulent Middle East”, Emerald Insight, 14-3-2020. https://bit.ly/35WnBKF

[11]() الجزيرة نت، “وصف بالضربة الكبرى.. مصدر أميركي: استهداف إسرائيل لمواقع إيرانية في سوريا بالتنسيق مع واشنطن”، 13-1-2021. https://bit.ly/3qOsygX

[12]() الشرق الأوسط، “جديد الغارات الإسرائيلية شرق سوريا أكثر من قديمها”، 14-1-2021.

https://bit.ly/35XGz3B

[13]() بي بي سي،”مظاهرات العراق ولبنان: هل هي احتجاجات ضد نفوذ إيران أم موجهة للطائفية؟”، 4-11-2019. https://bbc.in/3p0ktoB

[14]() برق للسياسات والاستشارات دراسة سابقة من إعداد الباحث، “أمريكا وإيران (الحدود الجديدة في قواعد الاشتباك)”، 13-1-2020. https://bit.ly/3bZwYgz

[15]() محمود الإبراهيم، ملخص استشاري “إسرائيل (حدود الوجود والتأثير)”، برق للسياسات والاستشارات، 19-4-2020. https://bit.ly/2Y0OA3n

[16]() للمزيد انظر دراسة سابقة من إعداد الباحث، “اتفاق إبراهيم الدوافع المشتركة والتداعيات على القضية الفلسطينية”، برق للسياسات والاستشارات، 2-10-2020. https://bit.ly/3sI4Uo0

[17]() “Iran-Russia ties: Never better but maybe not forever?”, Middle East Institute, 12-2-2020. https://bit.ly/2M9x4HK

[18]() “Defining The Russia-Iran Relationship”, American Security Project, 24-2-2020. https://bit.ly/39KzEMo 

[19]() “النفوذ الإيراني في أفغانستان الآثار المترتبة على انسحاب الولايات المتحدة”، مؤسسة راند، 2014. https://bit.ly/391uxIw

       “المشهد الأفغاني أبعاد التوغل الإيراني في أفغانستان”، برق للسياسات والاستشارات، 3-2-2020. https://bit.ly/2M6F2Bh

[20]() “The Russia-Iran Relationship in a Sanctions Era”, Utrikesmagasinet, 1-10-2019. https://bit.ly/3sGdkMx

[21]() “Defying U.S., China and Iran Near Trade and Military Partnership”. The New York Times, 11-7-2020. https://nyti.ms/2LxPVMp

[22]() “الانتخابات المقبلة لن تقدم سوى القليل من الأمل للناخب الإيراني اليائس”، معهد دول الخليج العربية في واشنطن، 1-12-2020. https://bit.ly/35Vv0tF

[23]() الشرق الأوسط، “الكاظمي: انتخابات مبكرة في 6 يونيو”، 1-8-2020.

https://bit.ly/3o2HBBI

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى