الاصداراتدراسات

مفهوم الإنفاق بالقرآن الكريم

00

” يمكننا أن نقول، في هذا المجال، أنه ستتولد على المدى الطويل تناقضات حادة في مستويات الدخل والمعيشة، مالم يكن هناك برنامج مناسب مصمم كأداة للتخلص من الفقر، وقبل أن تضيع القيم الإسلامية التي تعالج الفقر والتنمية والتي يمكن أن تسبب قلقًا كبيرًا، يجب أن تكون هناك محاولات مدروسة تشجع البلدان والشعوب الإسلامية على تعبئة مواردهم المتاحة، وإدارتها للتخلص من الفقر في كلٍ من الريف والمدينة، وهذا هو دور الرؤية الاجتماعية التي يجب أن يتحلى بها قادة العالم الإسلامي المعاصر”[1].

نظرية التوزيع هي التي تعطي الاقتصاد طابعه المميز؛ لأنها ترسم نطاق توزيع الثروات قبل الإنتاج، أي أنها تشارك في تحديد هدف الإنتاج، وترسم نطاق توزيع الثروات بعد الإنتاج، أي أنها تشارك في رسم توجهات الاستهلاك، إنها حلقة الوصل بين المنتجين والمستهلكين، بين المُلَّاك وغير المُلَّاك، وحركة التفاعل في هذه الحلقة هو ما نستطيع أن نسميه الحركة الاقتصادية.

عندما نحدد الهدف الذي يلبيه الإنتاج (خطوة أولى في فلسفة التنمية)، نكون قد حددنا المذهب الذي سنتبعه في التوزيع، فإذا كان هدف الإنتاج هو زيادة الثراء المالي فإننا سنتوجه إلى وجهة خاصة بذلك، وستكون كل مشروعاتنا خاضعة لقدراتنا المالية وحدها، ولو كانت شعاراتنا غير ذلك، أما إذا كان هدف الإنتاج إسعاد الإنسان، كل إنسان، فإننا سنتوجه إلى تلبية الحاجات الحقيقية، بعدالة، ودون الخضوع لشروط الملكية الفردية وتحكُّماتها.

ولتحقيق هذا يجب أن نحدد شروط حركتنا الاقتصادية بمُسلَّمَتين اثنتين، الأولى: لقمة العيش حق لكل إنسان، والثانية: العمل واجب عليه، هاتان المسلمتان يجب ألا نحيد عنهما، مع الانتباه إلى أن النظرية تنحرف عند التطبيق، ولهذا توجد كوابح وضوابط يجب ألا تُهمَل في المنهج، وأهم كابح هو الوعي المطلوب من جميع أبناء الأمة، والعقيدة الفاعلة المُحرِّكة.

المُسَلَّمة الأولى: لقمة العيش حق، مثلها مثل كل الحقوق التي يجب أن تكون ضمن العقد الاجتماعي لأي شعب، وخصوصًا لشعب أراد التخلص من تخلُّفه، أما المُسَلَّمة الثانية: فهي ليست خيارًا يختاره، بل ضرورة تفرضها المُسَلَّمة الأولى، وهي التوافق بين الإنتاج والاستهلاك، حيث لا استهلاك دون إنتاج، ولا إنتاج دون استهلاك.

وهذا التوافق بين الإنتاج والاستهلاك لن ينجح آليًا بمجرد عمل الاثنين، بل لا بد من عملهما معًا وفي آنٍ واحد، وفق شروط نفسية روحية تدعم إرادة المُنتِج بأن يلتزم تجاه أبناء مجتمعه، وتدعم إرادة المستهلك بأن يبتعد عن الإسراف في استهلاكه والإهمال في عمله.

وبالإضافة إلى الشروط النفسية والروحية، هناك شروط فنية للتوفيق بين الإنتاج والاستهلاك على أساس المُسَلَّمتين، فإذا لم نستوعب الشروط النفسية والتقنية الضرورية كافة، لتحقيق عملية الانطلاق أو الإقلاع الاقتصادي، في بلاد تعاني منذ أمد من كساد طاقاتها الاجتماعية (التخلف)، فإن التخبط ثم الفشل سيكون حليفنا، فيجب على من يخطط لإطلاق هذه الطاقات الكاسدة، أن يكون مقتنعًا بضرورة إطلاقها ضمن الشروط سالفة الذكر، ومن دون شروط إضافية (مستوردة)، خارجة عن الفكرة التي تحملها المُسَلَّمتان السابقتان.

في مواجهة المُسَلَّمة الأولى (لقمة العيش حق لكل إنسان)، يُطرح اعتراض قوي مفاده أن البلاد فقيرة ولا تستطيع توفير هذه اللقمة للجميع …، وهذا الانتقاد من أسوأ الأفكار المطروحة في ساحتنا الثقافية وأكثرها وهمًا وخداعًا، والسبب في ذلك أن الواقع يقول إن الجميع يحصل على القوت، طبعًا إذا استثنينا نوعية الغذاء ودرجة تحقيقه للإشباع وطريقة الحصول عليه أشرعية قانونية هي أم غير شرعية ولا قانونية؟ أتحفظ كرامتهم وإنسانيتهم أم لا؟

والواقع يخبرنا أيضًا أن المُسَلَّمة الثانية (العمل واجب على الجميع)، غير مُطبَّقة في مجتمعاتنا المتخلفة، وتلك حال أسوأ مما سبق، وعلى هذا فالمجتمع يتحمل عبء المُسَلَّمة الأولى ولا ينتفع من المسلمة الثانية، وبالتالي هناك مصاريف دون منافع، وهذا هو التخلف في أهم أشكاله، ومن هنا نستنتج أن مشكلتنا ليست مشكلة ضعف إمكانات بقدر ما هي مشكلة قصور في السياسة والتخطيط، يسبقها نقص في الوعي والإدراك.

إنّ إقرارنا بفكرة (القوت حق لكل إنسان) ليس لمجرد اعتباراتٍ أخلاقية، بل باعتبارها نقطة انطلاق فنية كذلك، تحقق لنا مكتسبات اقتصادية واجتماعية على السواء، فعدالة التوزيع تخلق جواً اجتماعيًا تنمو وتتحرك فيه كل الطاقات مجتمعة متشاركة، تؤدي إلى تغيير عميق في نفس الفرد، وبالتالي تغيير جذري في سلوكه.

والنتيجة أنه بضمان العيش الكريم للإنسان، تزول عن المجتمع الكثير من الأعباء، ومن أهمها العبء الأمني الذي سيخف كثيرًا؛ بسبب زوال التوتر الاجتماعي المصاحب للتحضر البشري المعاصر الموسوم بسوء توزيع الثروة.

ولنقارن ذلك مع المناهج الدولية للتنمية التي تقول إن المشكلة الأولى التي يجب مواجهتها هي تكبير قطعة الحلوى ومن ثم الحديث عن كيفية اقتسامها، والحقيقة أن قطعة الحلوى لن تكبر إلا بتوظيف الطاقات المعطلة في المجتمع كافة، وبأسلوب نفسي واعٍ يخلق إرادة النهوض عند الجميع، وكل جهد يصب في غير هذا المنحى سيفشل عند عتبة الجوع الكأداء.

إننا نرى أن أفضل حل لهذه المعضلة، أن نسترشد بالمفهوم الذي يتضمنه القرآن الكريم عن الإنفاق وعدالة توزيع الثروة، ذلك المفهوم الذي غاب عن أذهان الكثيرين لا لسبب إلا لأنه اعتُبر مجرد إرشادات وعظية فُسِّرت عواقبها تفسيرًا أُخرويًا، فلم يترك أثرًا سلوكيًا في حياة المسلم المعاصر، ولم ينتفع به من أجل تحقيق تنميته الاقتصادية ونهضته الحضارية.

هذا المفهوم، كما سنحاول التبيين والبرهنة، له صلة وثيقة بتنشيط الحركة الاقتصادية وبالتالي إنجاح عملية التنمية الاقتصادية برمَّتها (قيمة فنية عملية)، ثم إن هذا المفهوم له صلة وثيقة بالمفاهيم الاجتماعية والإنسانية (قيمة جمالية)، لذا فإننا نعتقد بأنه سيعيننا في نهضتنا الحضارية الشاملة وليس في التنمية الاقتصادية فحسب، فالشروط الاجتماعية للإنفاق، شرطٌ لإحداث تأثيراته الاقتصادية.

قبل التعرض للأفكار المُتَضَمَّنة فيما نستطيع أن نسميه بنظرية الإنفاق في القرآن الكريم، يُستحسن بداية أن نتعرض للمشكلة التي تحاول هذه النظرية حلها، فالنظرية مهما كان نوعها، لا تعني شيئًا بذاتها، ولا يمكن فهمها، إلا إذا عرفنا المشكلة أو التساؤلات التي تخصصت النظرية في مواجهتها، ومحاولة إيجاد حلول لها.

فكم من أفكار مهمة لم تجد رواجًا بين الناس، لسبب واحد هو أنهم لم يعرفوا ماذا يريد صاحب الأفكار من وراء أفكاره، وبالتالي لم يستطيعوا الاستفادة منها في حل مشاكلهم وإزالة معاناتهم أو التخفيف منها، وهذا ما نعتقد أنه قد حدث بالنسبة لكثير من المفاهيم المُتضمَّنة في القرآن الكريم والتي تتعلق بالإنفاق، أو ما نسميه اليوم بمصطلحاتنا الاقتصادية عدالة توزيع الثروة.

وقبل البدء باستعراض المشاكل والتساؤلات التي طَرح القرآن الكريم حلولًا لها في نظرته للإنفاق، نحب أن نؤكد ملاحظة مهمة: وهي أن القرآن حين تحدث عن الشؤون الاقتصادية، تحدث بإسهاب عن مشكلة سوء توزيع الثروة، بل إن أغلب الآيات التي عالجت الأمور الاقتصادية كانت تخص هذه المشكلة، حتى ليخيَّل للقارئ أنها ليست المشكلة الأهم فحسب، بل تكاد تكون السبب الرئيس أو الوحيد الذي يعزو القرآن إليه مسؤولية آلام الناس وأسباب فشلهم في بناء مجتمع السعادة الدنيوية (الهدف الأوَّلي للإيمان)، تمهيدًا للفوز في الحياة الآخرة (الهدف الأخير والأسمى للإيمان بالله)، ولا غرابة، فنظرية التوزيع هي التي تحدد طبيعة الاقتصاد وتوجهه.

إن جميع المشاكل التي يطرحها القرآن الكريم هي مشاكل واقعية ولا شيء يبعدها عن ذلك، ونقصد بواقعية هذه المشاكل ارتباطها بالإنسان بعلاقاته ثلاثية الأبعاد، أولًا: علاقته مع نفسه، أي طبيعة النفس البشرية (أو ما بأنفسهم، وفق تعبير القرآن ذاته)، وثانيًا: علاقته مع أخيه الإنسان، أي طبيعة الاجتماع البشري عبر أشكال التنظيمات كافة، وأخيرًا: علاقته مع النظام الكوني، والذي يقوم أساسًا على أنه مُسخَّرٌ للإنسان بشروط التسخير الواردة في القرآن الكريم.

وعليه فإن المشكلة التي جسدها القرآن في هذا الخصوص هي ما نجده في أرض الواقع لا أكثر، ولنتخيل الآن: ما الذي يمكن أن يحدث في مجتمع تسوده درجةٌ عالية من سوء توزيع الثروة؟

إن ما يحدث بالضبط هو أن الأموال ستتركز في أيدي فئة من الناس (الأقلية)، وهي الفئة التي تُمثل فئة أرباب الأعمال (صناعة – زراعة – خدمات)، أما باقي الناس فإنهم يعانون من قلة الأموال التي في أيديهم (هذه فئة المستهلكين)، وبالتالي فإنهم سيعانون كبتًا شديدًا لطلبهم على السلع والخدمات، أي أنهم لن يستطيعوا تلبية غالبية طلباتهم وإشباع تطلعاتهم، وهنا تبدأ مشكلة خطيرة في الاقتصاد تستحق بجدارة اسم المرض الخبيث، ألا وهي الكساد.

الكساد بتعطيله لكل مفاصل الاقتصاد، لا يكتفي بتضييع الإنفاق الاستثماري، بل إن له آثارًا اقتصادية تراكمية منظورة وغير منظورة “… ونكتب ما قدَّموا وآثارهم، وكلَّ شيءٍ أحصيناه في إمام مبين” (36 / 12، ومن أهم هذه الآثار تخفيض الأجور وارتفاع معدل البطالة، مما سيزيد من درجة الكساد؛ لنقص السيولة النقدية عند الناس، وازدياد الكساد سيؤدي كأثرٍ ارتداديِّ ثانٍ إلى خفضٍ آخر في الأجور، وارتفاع ثانٍ في معدل البطالة كرد فعل من المنتجين الذين ضعفت قدراتهم الإنتاجية بسبب ضعف قدراتهم التسويقية، وهكذا ستستمر الآثار الارتدادية، حتى يستحكم الأمر وتتعطل معظم الآليات الاقتصادية تعطلًا يتناسب طردًا مع درجة سوء توزيع الثروة.

هل سيقف الأمر عند هذا الحد؟ أبدًا فالآثار الارتدادية في مجال الاقتصاد سرعان ما تنتقل إلى الاجتماع وإلى الأمن، ثم إلى السياسة، فالفئات المحرومة من الإشباع الكلي أو الجزئي، لن تقف مكتوفة الأيدي، بل ستعمل ولو سرًا، على الانتقام ممن تعتقد أنهم ظَلَمَتُها.

هذا الانتقام سيتخذ أشكالًا عدة، من أهمها إهمال العمل، وتخريب وسائل الإنتاج، وأخطرها التعرض المباشر لمحتكري الأموال، مما يضطر الدولة إلى زيادة الإنفاق على الأمن والقضاء، وهذا بدوره سيعمق الكراهية والتمزُّق الاجتماعي وانعدام الثقة، إلى درجة تتناسب كذلك طردًا مع درجة سوء توزيع الثروة.

وأخيرًا يُصَبُّ اللوم، كل اللومِ على جهاز الدولة، فتنقطع الصلة بين الفرد وحكومته ويرفض الاستجابة الطوعية لتوجيهاتها، فتتحول توجيهاتها إلى أوامرَ تحتاج إلى سلطات إلزامية لتنفيذها وهذه تحتاج بدورها إلى مزيد من الأعباء المالية، تُستقطع من الموازنة المخصصة أساسًا لتخفيف معاناة الناس وحل مشاكلهم، وهذا كله إنما يجري ضمن حلقة مفرغة (فخ قاتل) تشمل مقدمات ونتائج، بدأت أساسًا من عدم الاستجابة للحاجات الفطرية للإنسان.

ولهذا جاء القرآن بأفكار ومفاهيم لتصحيح الوضع الناشئ عن ظلم الإنسان وجهله، وليس عن القلة في الموارد كما تقول النظرية الاقتصادية الغربية، ” وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تَعُدُّوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار” (14 / 34).

كيف عالج القرآن هذه المسألة؟ هنا تتأتى الفائدة من طرح العلاج بعد أن عرفنا المشكلة التي يجب علينا مواجهتها، وقد عُولجت في القرآن على النحو التالي*:

 

  1. الإنفاق تشريعُ بِناء، وليس تشريع حفظ وصيانة فقط:

نستطيع تقسيم التشريعات الدينية إلى تشريعات بِناء وتشريعات صيانة، ونقصد بتشريع البناء كل تشريع يعمل على بناء المجتمع المنشود من درجة الصفر أو من الدرجة التي وصل إليها المجتمع إلى درجة الكمال البشري الممكن، ومن هذه التشريعات الإيمان والعبادات والترابط الاجتماعي، وقد بدأ التكليف بهذه التشريعات في المرحلة المكية، أي قبل تَشكُّل المجتمع.

ونقصد بتشريع الصيانة، كل تشريع يحافظ على المجتمع بعد بنائه، ويصونه من التَفسُّخ والانحراف، ومن أمثلة ذلك التشريعات التي تدخل ضمن قانون العقوبات كافة، والتي لم تتنزل آياتها إلا في المرحلة المدنية، بعد تَشكُّل المجتمع*.

وعند دراستنا لآيات الإنفاق لاحظنا أنها كتشريع، لم تقتصر على المرحلة المدنية فقط، بل وجدنا أن آيات الإنفاق بدأت بالنزول منذ المرحلة المكية، وجاءت في إحدى المرات مقترنة بأحد أهم التشريعات وهي الصلاة …. ومن أمثلة ذلك:

 “قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانيةً من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال” (14/31).

أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا، ويدرؤون بالحسنة السيئة، ومما رزقناهم ينفقون” (28 / 54).

ومن هذا الأمر استخلصنا أن فكرة الإنفاق وحسن توزيع الثروة بين الناس، ليست فكرةً تحفظ المجتمع الإنساني السليم وترعاه فحسب، بل إنها كذلك فكرة تعمل على تأسيسه ورفع أبنيته أيضًا، ففي المرحلة المكِّية لم يكن هناك مجتمع إسلامي بعد، كان هناك أفراد مسلمون، ومع ذلك فقد جاء التشريع بالإنفاق من أجل المساعدة على بناء هذا المجتمع.

بل إن الله ذَكَرَ في القرآن (في سورة الحديد المدنية)، أن مَن أنفق قبل الفتح له أجر أكبر ومنزلة أعلى من الذين أنفقوا بعد الفتح، وما ذلك إلا لأن الإنفاق قبل الفتح يحمل مخاطر أكبر وله منافع أكثر، فالحاجة إليه أعظم بكثير مما هي بعد الفتح؛ لأن الأمور تكون قد استقرت وبدأ تحصيل المنافع من الإنفاق، أما هذه الآية فهي:

لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وكلًا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير” (57 / 10).

ونحن هنا نحب أن نقارن بين كلمة الفتح وكلمة الإقلاع والنهضة، ونعتبر أن الذين سينفقون (أنواع الإنفاق كافة) قبل مرحلة النهضة والإقلاع أو في بدايتها هم أفضل من الذين سينتظرون النجاح في النهضة ثم ينفقون، والفرق واضح؛ لأن الذين سينفقون قبل النهضة أو معها هم الذين سيؤسِّسون هذه النهضة.

  1. أنواع الإنفاق في القرآن الكريم:

إن تحديد الإنفاق الوارد في القرآن الكريم بالإنفاق الخيري فحسب، كما ورد في التفاسير القديمة وكما ساد في اعتقاد المسلمين، من أكبر الأخطاء التي وقع فيها الفكر الإسلامي، مما أدى إلى قتل مفهوم الإنفاق وتضييع الثمار المرجوة منه في الحياة الدنيا.

وبديلًا عن ذلك فإننا نعتقد بأن آيات الإنفاق الواردة في القرآن الكريم تخص ثلاثة أنواع منه وهي: الإنفاق الخيري، والإنفاق الاستهلاكي، والإنفاق الاستثماري، ولذلك أدلة نعتقد أنها واضحة إذا حاولنا فهم الآيات فهمًا آخر أوسع وأشمل ومن وجهة نظرٍ اقتصادية.

وسنقتصر نحن في هذا المجال على تقديم الأدلة على الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، ولا نرى داعيًا للتدليل على الإنفاق الخيري فغالبية الآيات تعني ذلك.

أما ما يتعلق بالإنفاق الاستهلاكي فلنا في الآيتين التاليتين الواردتين في سورة الطلاق حجة ودليل، فهما تتحدثان عن الإنفاق على الأسرة ولو بعد التفكك:

وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن …” (65 / 6).

لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدِرَ عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا” (65 / 7).

ويؤكد ما ذُكر قوله عليه الصلاة والسلام: “إنك لن تنفق نفقة إلا أُجِرتَ بها حتى اللُّقمة ترفعها إلى فيِّ امرأتك”[2].

أما ما يتعلق بالإنفاق الاستثماري فهناك بضع آيات هي في اعتقادنا الدالة عليه، ومنها قوله تعالى في سورة الكهف عند الحديث عن صاحب المزرعة الذي أشرك بربه وظن واهمًا أنه لا حساب بعد الموت وأنه غير ملزم بأوامر الله: وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا (18 / 42).

 ولعل من أهم ما يؤكد معنى الإنفاق الاستثماري قوله تعالى في سورة التوبة وهي مدنيَّة:

” ….. والذين يَكْنِزُون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم” (9/34).

وإننا لنلحظ في هذه الآية فكرة جديدة تخالف ما ألفناه في آيات الإنفاق، فهي تطالب هذه المرة بإنفاق كل المال وليس جزءًا منه كما هو المألوف، فالله في أكثر من آية لم يطالبنا بإنفاق كل أموالنا في الأعمال الخيرية، بل طالبنا بإنفاق الجزء فحسب “ومما رزقناهم ينفقون” (2 / 3)، والتي تكررت في سياقات مختلفة منها “ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو” (2 / 219).

فالإنفاق هو إنفاق الجزء أو البعض، فـ “من” في اللغة للتبعيض، لكن الإنفاق في الآية التاسعة من سورة التوبة هو إنفاق الكل (ولا ينفقونها في سبيل الله) فما السر في ذلك القول؟

السر يكمن في أول الآية، فأولها يتحدث عن الاكتناز (الادخار السلبي)، والذي هو من أكبر الأخطار التي تواجه أي اقتصاد، فما بالك باقتصادٍ في مرحلة الإقلاع.

ولما كان الاستثمار هو المقابل للاكتناز شكلًا ومضمونًا، لذا وجب أن يكون الأمر مَعنيًا بإخراج الأموال المكنوزة كافة من حيز الادخار السلبي إلى حيز الاستثمار، ولذلك قال الله تعالى ينفقونها ولم يقل ينفقون منها أو جزءًا منها أو بعضها.

وهكذا نرى أن المراد بالإنفاق هنا هو الإنفاق الاستثماري، واستنادًا إلى هذا الفهم نستنتج أن أوامر الإنفاق الواردة في القرآن لا تعني الإنفاق الخيري فحسب، كما عنى ذلك المفسرون كافة، بل تعني كذلك الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، حيث إن الإنفاق الخيري والاستهلاكي هو جزء من الثروة المملوكة، أما الإنفاق الاستثماري فهو كل الثروة (تحريم الاكتناز)، وفي ذلك تنشيط كبير للحركة الاقتصادية في المجتمع، وفي ذلك وردت في القرآن آيات أخرى تحدثت عن إنفاق كل الأموال:

  • مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم” (2 / 261).
  • ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله، وتثبيتًا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ….” (2 / 265).
  • الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (2 / 274).

  1. الإنفاق وقانون المضاعفة (المضاعف الاستثماري):

ورد في القرآن الكريم في سورة البقرة، الحديثُ عن ربط الإنفاق بمضاعفة الأموال أضعافًا مضاعفة محددة وغير محددة، وذلك كما في الآية من سورة البقرة:

مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم” (2 / 261).

والمُلاحَظ في هذه الآية أنها تحدثت عن إنفاق كل الأموال لا إنفاق بعضها، فالإنفاق هنا إنفاق استثماري، كما بيَّنا من قبل، كما يُلاحظ كذلك أن القرآن قد ربط مضاعفة الأموال الناتجة عن الإنفاق الاستثماري بأن يكون هذا الإنفاق في سبيل الله، أي ابتغاء مرضاة الله، فيكون معنى (في سبيل الله) معنًى واسعًا تركه القرآن مفتوحًا لتغيُّر الظروف الزمانية والمكانية، ولو أراد الله أن يبيِّنه لما عجز عن ذلك، ولكن جريًا مع عادة القرآن، تَرك بعض المفاهيم من دون تخصيص من أجل أن تستوعب التغيرات كافة.

إن درجة المضاعفة باعتقادنا، تكون حسب درجة تحقيق الإنفاق لشرط “في سبيل الله”، وذلك ما سنوضحه بعد قليل عند الحديث عن المضاعفة غير المحددة، وهنا يجب أن نتذكر الآية في سورة الأنفال التي تقول “إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة، ثم يغلبون …….. (8 / 36).

ويجب أن نلاحظ أن الآية (261) من سورة البقرة، نزلت في المدينة أي بعد تَشَكُّلِ المجتمع، أي أن المضاعفة الكبيرة قد لا تتحقق إلا في المجتمع السليم وذلك لتوافر شروطها المادية والمعنوية، أما قبل تشكُّل المجتمع فلم يعدم هذا المعنى نهائيًا، حيث وجدنا أمرًا بالإنفاق خشية حدوث الكساد في سورة ابراهيم المكية:

قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال” (14 / 31).

ووجدنا في سورة فاطر المكيَّة آية تتحدث عن اعتبار الإنفاق تجارة لن تبور*:

إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور” (35 / 29).

وفي سورة سبأ المكيَّة وجدنا الآية:

وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين” (34 / 39).

كما أننا نلاحظ أن الآية (261) من سورة البقرة تحدثت عن المضاعفة المحددة لغاية سبعمائة مرة “مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم” (2 / 261)، ونلاحظ كذلك من الآية ذاتها، أنها بعد أن تحدثت عن المضاعفة سبعمائة مرة، تحدثت عن مضاعفة غير محددة وعد الله بها بعد المضاعفة المحددة، حيث أضاف الله وعدًا آخر بقوله “…. والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم“، وفي هذا سؤال مهم يجب أن يتولد آليًا وهو: هل هذه المضاعفة عشوائية أم أنها تحدث وفق قانون واقعي يقبله العقل ويستطيع استثماره؟

وفقًا لأسلوب القرآن المتسق دومًا مع نفسه، فإن النتائج لا تأتي عشوائية أبدًا، بل دومًا يجب أن تسبقها مقدمات منطقية تؤدي إلى ما أدت إليه، ومن هنا نقول إن المضاعفة غير المحددة ليست عشوائية…، وبما أنها ليست كذلك فكيف تتحقق؟

أثبت علم الاقتصاد أن هناك علاقة قوية بين نوعية الاستثمار وموقعه وزمنه وكمَّه وآثاره الارتدادية المباشرة وغير المباشرة، وهذا ما يسمى “مضاعف الاستثمار” الذي إن استطاعت إحدى الدول الحصول عليه فإنها تكون قد حققت أحد أهم شروط استثمار كامل المنفعة، المخبوءة في كل وحدة نقدية مستثمرة أو طاقة مدخلة في عجلة الحياة الاقتصادية.

لذا فإننا نرى أن المضاعفة غير المحددة التي وعد بها الله تكون (نوعًا وكمًا) بحسب جودة الإنفاق وحسن الاستثمار في الزمان والمكان والكيف والكم، أي أن الإنفاق الاستثماري الذي يخلق فرص عمل لمحتاجين مضطرين، ويقدم منتجًا يلبي حاجة حقيقية وليست وهمية كمالية، هذا النوع من الإنفاق هو الذي يخلق عوائد مضاعفة عن الحد المتوقع*.

وترتبط كمية هذه العوائد ونوعيتها بجودة الإنفاق وحسنه، وعلاقته بمدى تحسين نوعية الحياة للإنسان وتحقيق رغباته المادية والمعنوية، ولهذا اعتبرنا الإنفاق (بكل أنواعه) خطوة تأسيسية يستطيع بها الإنسان أن يعمل من أجل النهضة والتنمية، فهو الذي سيُؤمِّن له الجو المناسب للإبداع وتحمل المسؤوليات التاريخية التي ستُلقى عليه لحظة الإقلاع.

ويبقى أن نؤكد أن تحسين نوعية الإنفاق ورفع جودته، تمهيدٌ للحصول على الوعد الإلهي بالمضاعفة من عمل البشر، فمثل هذه الأمور متروكة للإنسان، ليُخرج اللهُ ما عند هذا الإنسان من طاقات فكرية ونفسية، وليستثمر عقله في استخلاص أفضل الحِكَم من تجاربه اليومية ليصل إلى مبتغاه في تحسين جودة الإنفاق وبالتالي تحسين نوعية الحياة بشكل عام.

ويبقى في هذا المجال أن نطرح السؤال التالي: ألا يخلق الإنفاق الخيري والاستهلاكي أثرَ مضاعفِ الاستثمار كذلك، مثلما اعتقدنا بأن الإنفاق الاستثماري (إن حَسُنَتْ إدارته وتوزيعه) يفعل ذلك؟

نعم إن الإنفاق الخيري والاستهلاكي يشاركان بشكل فعَّال في القضاء على حالة الكساد، وفي ذلك نجاة من الخسارة وتحقيق للربح ومضاعفة للأموال، وكما في الإنفاق الاستثماري، فكمية العوائد ونوعيتها مرتبطة بكمية الإنفاق ونوعيته، وقد وضع القرآن الكريم شرطًا لجودة جميع أنواع الإنفاق، وهو أن يكون في سبيل الله: “وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين” (2 / 195)، ولنلاحظ أن الآية قالت أنفقوا وأنقذوا أنفسكم من التهلكة، وهذه التهلكة هي نتيجة منطقية لما جنته أيدكم من عدم الإنفاق.

  1. أصل مفهوم الإنفاق، ومصدر الالتزام به:

غالبية من يقرؤون القرآن قراءة سطحية دون تأمُّل وتدبر وفهم، يجدون فيه صفة غريبة لا يستطيعون تمييزها، وهذه الصفة هي عدم الترابط بين المواضيع التي تتحدث عنها السورة الواحدة، فتارة يتحدث السياق عن الإيمان، فإذا به فجأة ينتقل إلى الحديث عن الشؤون الاجتماعية، وتارة يتحدث عن الصلاة أو أي نوع من أنواع العبادات، وإذا به فجأة ينتقل من دون مقدمات إلى الحديث عن معاملة الآخرين من مسلمين وغير مسلمين، وقد يكونون من الأعداء والمخالفين.

ومن أمثلة ما يسمى بعدم الترابط في الموضوعات في السورة القرآنية الواحدة، ما نجده بوضوح يثير الدهشة في آيات الإنفاق نفسها، هذا إذا اعتمدنا قراءة السرد السريع الذي لا تدبر فيه ولا تساؤل.

ففي سورة البقرة مثلًا (من الآية 257 وحتى الآية 274) يتحدث السياق عن قدرة الله على تسيير الكون وفق قوانين ثابتة، ومن ذلك إحياء الموتى، وذَكَرَ لذلك ثلاث قصص، ثم انتقل فجأة إلى الحديث عن الإنفاق عبر آيات متعددة أخذت حَيِّز ثلاث صفحات تقريبًا، بِدأً بالآية التي تقول “مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم” (2 / 261).

فما تفسير هذا الانتقال المفاجئ في سياق القرآن، وما هو وجه الترابط بين إثبات قدرة الله على إحياء الموتى والإنفاق؟

مما يجب أن نؤكده منذ البداية أنه لا عشوائية في سياقات الحديث في الموضوعات القرآنية كافة، بل الآيات الكريمة مترابطة كل الترابط، وما على القارئ إلا أن يتدبَّر ويتفكَّر من أجل اكتشاف الصلة الرابطة بين فكرتين متتاليتين وإن بدتا في الظاهر غير متصلتين فكرةً ومعنًى.

ونحن هنا، فيما يخص الإنفاق، نعتقد بأننا اكتشفنا الرابط بين الموضوعين، وهو رابط يُقوِّي مفهوم الإنفاق بأنواعه ويخلق في نفس الإنسان رغبة ذاتية في الالتزام به وتنفيذه، إذا لا بد من التزام ذاتي وقناعة وجدانية أو إلزام فوقي يُعين على تنفيذ الأوامر القانونية، خصوصًا تلك التي تحتاج إلى جهد أو تضحية.

ولشرح فكرة الترابط بين الآيات التي تتحدث عن قدرة الله على إحياء الموتى وبين آيات الإنفاق، بحثنا أولاً في معاجم اللغة العربية[3] عن معنى كلمة “الإنفاق” فوجدناها في مادة “نَفَقَ” وهي تحمل المعاني التالية:

نَفَقَ الشيء: نفد وفَنِيَ وقلَّ – ونفق البيع: راج ورُغِبَ فيه – نَفَقَتْ السوق: قامت وراجت تجارتها – نفقت السلعة: رُغِبَ فيها وراجت.

النَّفَقَة: وجمعها نفقات ونِفَاقْ وأنْفَاق، اسم من الإنفاق وهو ما تنفقه من الدراهم.

نَفَقَت الدابة: ماتت – نَفَقَت الروح: خرجت.

أنْفَقَ فلان: افتقر وذهب مالُه – أنْفَقَ التاجر: راجت تجارته – أنْفَقَ المال: أنفده وأفناه.

الإنفاق: الفقر والإملاق، وفي ذلك تقول الآية “قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم خشية الإنفاق، وكان الإنسان قتورا” (17 / 100).

ومن تمعننا في هذه المعاني نجدها تدور حول معنيين اثنين، الأول: هو الرواج والربح، والآخر: هو الموت، وكِلا المعنيين مرتبطين ببعضهما في عملية الإنفاق، فالإنفاق بداية يكون ببذل المال وهذا يحمل معنى الموت، لكن هذا البذل هو رغبة في الحصول على ربح من المال المُنفَق وهذا يحمل معنى الرواج والنماء.

وهذا ما وجدناه في كل آيات القرآن التي تتحدث عن الإنفاق، ففيها يطالبنا الله بالإنفاق، ويعدنا بالتعويض والمضاعفة، وينبهنا إلى أن عملية الإنفاق لن تنتهي عند بذل المال وحسب، بل إن لها أيضًا حلقة تكميلية تتمثل في المردود الذي لن يكون مساويًا للمال المبذول، بل سيتضاعف بقدر جودة الإنفاق وحسنه.

إن هذا ومثله مما يؤكد سعة اللغة العربية، وغناها بالمفردات، وقدرتها على التعبير بأساليب متنوعة، فالكلمة الواحدة تحمل المعنيين المتضادين معًا، وهكذا يفعل القرآن فهو باستخدام هذه المفردة اللغوية (نفق) يعبر عن معنى الفناء والنماء في آن واحد.

لقد آن بعد هذا التفصيل اللغوي أن نعرف العلاقة بين الحديث عن قدرة الله على إحياء الموتى، والحديث عن الإنفاق في سياق واحد يبدو للوهلة الأولى غير متسق.

إن العلاقة بين قدرة الله على إحياء الموتى والإنفاق تكمن في عملية الإماتة والإحياء، والتي لا يقدر عليها إلا الله المحيي المميت، وهذه العملية تخضع لها كل المخلوقات من جهة، ويخضع لها المال أيضًا باعتباره عصبًا من أعصاب الحياة.

إن الله يريد أن يخبرنا عبر السياق القرآني (في سورة البقرة) غير المترابط ظاهريًا، أنه قادر على إماتة الإنسان والحيوان، ومن ثم هو قادر على إحيائه، وبالتالي فإنه يريد أن يُطمئن الإنسان الذي قد يتردد في الإنفاق خشية نفاد المال وزواله (موته)، أن الله قادر على أن يَرُدَّ إليه ماله (إحيائه) ويضاعفه له أضعافًا كثيرة إذا هو استجاب لأمر الله ولم يحبس الأموال ويحرم منها الفقير والمحتاج.

وبالعكس يريد الله أن يخبرنا أنه إذا لم يقتنع الإنسان بقدرة الله على إحياء الموتى، ولم يستجب لأمره بالإنفاق، فإنه يعرض نفسه لا لفقدان ماله وتعريض نفسه للهلاك فحسب، بل لخسارة مكانته واستبداله بآخر أكثر جدارة منه بفهم حقائق الكون وقوانين الحياة والموت، ومنها حقائق الاقتصاد وقوانينه.

وفي ذلك يقول القرآن الكريم في سورة محمد: “ها أنتم هؤلاء تُدْعون لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم” (47 / 38).

إن الله يضرب الأمثال للناس من الواقع الحي الذي لا يمكن نقضه وتكذيبه، فَمَنْ غيره يستطيع الخلق والموت، ثم الخلق بعد الموت؟ لذا فإن هذه الأمثلة عندما تُقَدَّم للإنسان، تقنعه ليس بقدرة الله فحسب، بل وتقنعه كذلك بالأمر المرتبط بقوة الله والمذكور في الأمثال التي يضربها الله للناس، ومن هنا تأتي سلطة الالتزام والإلزام التي يحتاج إليها كل قانون من أجل أن يصبح واقعًا حيًا في الحياة اليومية.

فتلك السلطة نبعت من الإيمان بالله وبقدرته اللامحدودة، هذا الإيمان الذي يتولد في نفس المؤمن ليعبر عن رغبة ذاتية في تنفيذ جميع أوامر الله القوي القادر، وهذا هو الالتزام الذاتي الذي يعطي القوانين فرصة تنفيذها بتكاليف قليلة لا تحتاج إلى تدخل من قبل السلطة الحاكمة لكي تلزم الإنسان بالتنفيذ، والتي إن نجحت فبتكاليف كبيرة، من دون شك، مما يقلل من فوائد تطبيق الأمر.

ووفق منطق القرآن، إذا لم يستجب الإنسان لأمر الله في الإنفاق وفي غيره، فإن سلطة الإلزام هي العاقبة التي ستقع على عواتق المخالفين المعاندين، وفي ذلك يقول القرآن الكريم في أكثر من موضع:

أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خُلةٌ ولا شفاعةٌ …” (2/ 254)

وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة …” (2 / 195).

… وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم” (47 / 38).

ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكًا …” (20 / 124).

وتبقى مشكلة جهل الإنسان واستكباره وعناده، فهذه قد لا ينفع فيها حتى الأمثلة التي يضربها الله للناس في الكتاب، وفي ذلك يقول القرآن: “وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالِمون” (29 / 43).

وإذا أصر الإنسان على عناده واستكباره، ولم يقتنع بالفكرة التي يطرحها القرآن، فإن القرآن لم يجد بدًا من طرح البديل الذي سيقنع الإنسان المستكبر وهو الألم، وفي ذلك يقول:

“… فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم” (10 / 88).

إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آية حتى يروا العذاب الأليم” (10 / 96 -97).

لهذا وجدنا اللورد كينز، بعد أزمة الكساد الشهيرة في أواخر العشرينات من القرن العشرين قد طرح تعديلًا جوهريًا، ليس في الفكر الرأسمالي، بل في أسلوب تطبيقه، وما كان ذلك التعديل إلا نتيجة المصاعب التي عاناها الاقتصاد البريطاني الذي أصبح مهددًا بالخطر، بل إن الرأسمالية نفسها أصبحت مهددة هي الأخرى، فقد كادت الأحزاب الشيوعية أن تفوز بغالبية مقاعد البرلمانات الأوربية بشكل عام، والبريطانية بشكل خاص.

لذا دعا “كينز” عبر نظريته الشهيرة “النظرية العامة في العمالة والفائدة والنقود”، دعا إلى تنشيط الاقتصاد والقضاء على الكساد بضخ سيولة نقدية (التمويل بالعجز) في السوق، من أجل تنشيط عملية البيع وتحريك عجلة الإنتاج والقضاء على البطالة، ثم القيام بعملية سحب للأموال التي تم ضخها، عن طريق الضرائب، لئلا تُحدث تضخمًا يضر بالاقتصاد ويشل حركته مرة أخرى.

كينز لم يلحظ أي إمكان لإعادة توزيع الأموال التي عند المقتدرين، خصوصًا وأنه حمَّلهم مسؤولية احتكار الأموال عند حدوث الأزمات والامتناع حتى عن إقراضها للمستثمرين بدافع الخوف من إفلاسهم، لذا اقترح فكرة طباعة نقود إضافية ولو من دون رصيد على أن يتم سحبها لاحقًا.

الخطورة التي تكمن في نظرية كينز أنه قد لا يُسهِّل على الحكومة سحب هذه الأموال الإضافية في الوقت المناسب وبالكمية المناسبة، وبالتالي فإن خطر التضخم سيلوح في الأفق القريب، خصوصًا في الاقتصاديات التي لا تتمتع بالانفتاح اللازم والمرونة اللازمة في جهازها الإنتاجي، وهذان من أهم الشروط التي حذر منها “كينز” نفسه عند تطبيق هذه الوصفة.

 وهذا ما سبب ارتفاع معدلات التضخم للدول المتخلفة التي قامت بتطبيق وصفته؛ لأنها لم تمتلك اقتصادًا مفتوحًا (ذا علاقات أمامية وخلفية بدرجة كافية)، ولا تمتلك أي مرونة في جهازها الإنتاجي بحيث يستجيب هذا الجهاز فورًا لأي حقنة إنعاش فيعمل بكفاءة قبل أن تفعل النقود المطروحة (الممولة بالعجز) فعلها كآثار تضخمية ارتدادية لا يمكن حساب مداها.

إننا نرى أن تطبيق مفهوم الإنفاق في القرآن الكريم (الخيري والاستهلاكي والاستثماري)، يضمن لنا توفر السيولة في السوق، والتخلص من الكساد، وتحقيق الرواج، والتخلص من البطالة، من دون أي أخطار تضخمية من التي تحدثنا عنها بالنسبة لنظرية الاقتصادِيِّ البريطاني “كينز”، وذلك لأن الاقتصاد لن يحصل على حقنة إنعاش من الخارج، وإنما سيحصل على تحريك لطاقته الحيوية من داخله[4]، مما يؤدي إلى تفاعلها مع الإنسان والثروات الدفينة في الأرض*، مما سيؤدي إلى زيادة هذه الطاقة.

وكما في علاج المرضى، فإن من أفضل الوسائل في العلاج تقوية جهاز المناعة عند الإنسان ذاته، من أجل أن يقوم بالدور الأساسي في صد المرض والتخلُّص منه (الشفاء الذاتي).

  1. الإنفاق كحلٍ لمشكلة الكساد وتنشيط الاقتصاد:

كما قلنا في بداية الحديث عن مفهوم الإنفاق في القرآن، إن الفائدة الأهم العائدة من تطبيقه، هي تفادي خطر الكساد حتى قبل وقوعه، هذا الخطر الذي يشكل الكابوس المرعب لكل اقتصادٍ مهما بلغت عظمته واتساعه.

ومن أجل التخلص من هذه المشكلة، طرح القرآن الكريم الأمر التالي:

يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلةٌ ولا شفاعةٌ، والكافرون هم الظالمون” (2 / 254).

عند دراسة هذه الآية وتحليلها نعاني -كما في كثير غيرها من آيات الإنفاق- من مشكلة كبيرة تتمثل في الأفهام السابقة والتي حصرت فَهْمَ “يومٌ لا بيعٌ فيه” بيوم القيامة فقط، وذلك كما قلنا تأثرًا بالاعتقاد الذي ساد في الفكر والثقافة منذ قرون بأن عوائد الإيمان وعقوبات مخالفته هي في يوم القيامة فحسب، وأن الدنيا هي دار الاختبار وليست دار النتائج.

مع أن الله قد قال في كتابه الكريم عمن يستجيب له ويعمل الصالحات:

وعد الله الذين آمنوا منكم، وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض، كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا، يعبدونني لا يشركون بي شيئًا …” (24 / 55).

وقال سبحانه فيمن خالف أوامره:

لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم” (2 / 114).

فالاستخلاف والتمكين والأمن من جهة، والخزي من جهة أخرى في الآيتين السابقتين، إنما هي أمور دنيوية لا أخروية فحسب.

أما عن اعتقادنا بأن “يومٌ لا بيعٌ فيه” يشمل الدنيا وليس خاصًا بيوم القيامة، فذلك من تحليلنا لنتائج الإنفاق أو عدمه، والذي ذكرناه في بداية الحديث عن مفهوم الإنفاق في القرآن، ثم من تحليلنا اللُغوي لهذه العبارة ثانيًا.

أما عن نتائج تحليل الإنفاق، فإننا بالعودة لتذكر آثار سوء توزيع الثروة، نجد أن عدالة توزيعها ستوفر السيولة النقدية في أيدي الناس، وهؤلاء سيقومون بتلبية طلبهم المكبوت، وبالتالي تبدأ مرحلة الرواج وتصريف السلع والخدمات الكاسدة، وهذا يحقق الأرباح للمُنتجين، فيسارعون إلى إعادة تشغيل وسائل إنتاجهم بطاقتها القصوى، وهذا يحتاج إلى توظيف عمالة جديدة (فرص عمل)، وهذا له أثر ارتدادي على السيولة، خصوصًا إذا كانت الأجور المدفوعة مجزية وعادلة، وبالتالي تؤدي إلى مزيد من الرواج، وهكذا…

وفي النهاية يستمر الرواج كحلقة ارتدادية، ولكن هذه المرة حلقة النجاح وليس فخ الكساد، وتكون نسبة الرواج وتحقيق المنافع متفقة مع درجة الإنفاق ونوعيته وتوقيته كذلك، وفي ذلك آيات كثيرة تؤكد هذه الحقيقة، وفي ذلك يصب قول رسول الله عليه الصلاة والسلام (ما نقص مال عبد من صدقة)[5].

ولا ننسى أن نوعية الإنفاق (خيري – استهلاكي – استثماري)، وحسن اختيار توقيته وموقعه وكميته، له علاقة كبيرة بنوعية الآثار الارتدادية وحجمها التي يخلِّفها وراءه، والقرآن الكريم شدّد على أنَّ الآثار الارتدادية الاجتماعية الإيجابية للإنفاق مرتبطة بالأسلوب الذي يقدم به هذا الإنفاق “يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى” (2 / 264) – “ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، واعلموا أن الله غني حميد” (2 / 267).

أما بالنسبة للتحليل اللغوي للعبارة، فإننا وجدنا فيها أن كلمة بيع مرفوعة وليست منصوبة، وبالتالي فإن “لا” ليست نافية للجنس، ولو كانت كذلك لأصبحت الآية “يومٌ لا بيعَ فيه”، أي أن الآية لا تقصد التكلم على انتفاء جنس البيع، بل المقصود هو قلة البيع، ويوم القيامة كما نعرف وكما يصوره القرآن، ليس فيه أي شيء مما يخص المعاملات البشرية الدنيوية، حيث ينشغل كل امرئ بنفسه من هول ذلك اليوم، وفي هذا يقول القرآن الكريم في عدة مواضع:

يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكنَّ عذاب الله شديد” (22 / 2).

يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، …” (80 / 34-37).

ولأخذ المزيد من الفائدة من الآية “يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلةٌ ولا شفاعةٌ، والكافرون هم الظالمون” (2 / 245)، نستمر في تحليل مكوناتها فنجد أنها تخبرنا عن أن عدم إنفاق الأموال سَيُذْهِبُ ليس بالبيع فحسب، بل كذلك بالمحبة والتعاون بين الناس (ولا خلةٌ ولا شفاعةٌ)، وهذه هي الآثار الاجتماعية لسوء توزيع الثروة، وهي كالآثار الاقتصادية، ارتدادية سلبًا وإيجابًا، ولها كبير علاقة وارتباط بنوعية الإنفاق ومكانه وزمانه.

ومن معرفة هذه الآثار (اقتصادية – اجتماعية) نتفهم لماذا أمرنا الله بعدم إلقاء النفس في التهلكة، وسبق هذا الأمر بالإنفاق، حيث قال “وأنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين” (2 / 195)، فعدم الإنفاق هو إلقاء للنفس في التهلكة، حيث إن سوء توزيع الثروة، وفق المفهوم القرآني، هو تضييع لها ولصاحبها وذلك بالتفصيل الذي شرحناه سابقًا.

  1. الإنفاق والزكاة تشريعان مختلفان:

اعتقد غالبية المسلمين بأن مفهوم الإنفاق الوارد في القرآن الكريم لا يختلف عن مفهوم الزكاة الوارد في القرآن كذلك، واعتقدوا بأن أوامر الإنفاق هي للحض على أداء الزكاة وتكميلٌ لها، ولهذا فإن مفهوم الإنفاق في القرآن الكريم -باعتقادنا- قد ضاع بسبب غلبة تشريع الزكاة والذي هو أحد أركان الإسلام.

والذي نراه، أن الزكاة تشريع قرآني مستقل لا علاقة له بالإنفاق، حيث إن مفهوم الزكاة يتجسد في إعطاء الفقير حقه في المال الذي وُضِعَ في يد الغني، أي أنَّ الغني عندما يُعطي الزكاة فهو لا يفعل سوى رد الحق إلى صاحبه “والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم” (70 / 24 – 25).

أما في تشريع الإنفاق فإن الإنسان يجب عليه أن ينفق بعض ماله إنفاقًا خيريًا أو استهلاكيًا “قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيعٌ فيه ولا خلال” (14 / 31)، أو ينفق كل ماله، أي يضعه في خدمة المجتمع “الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (2 / 274)، وهذا ما أسميناه بالإنفاق الاستثماري.

أما دليلنا من القرآن الكريم على الفرق بين الإنفاق والزكاة، فهو الآية الكريمة من سورة البقرة والتي تحدثت عن إيتاء المال وإيتاء الزكاة وفرَّقت بينهما بواو العطف التي تقتضي في العربية الاشتراك والمغايرة، حيث قال الله عز وجل:

ليس البرَّ أن تُوَلُّوا وجوهكم قِبَلَ المشرق والمغرب، ولكن البرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتَى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتَى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون” (2 / 177).

  1. الجانب الجمالي في مفهوم الإنفاق وأثره في الاجتماع والاقتصاد:

في دراستنا للآيات التي تحدثت عن الإنفاق، وجدنا أنها لم تتناول الآثار الاقتصادية فحسب، بل تناولت الآثار الاجتماعية والنفسية للإنفاق كذلك، ولضمان آثارٍ حسنة مفيدة قابلة للمضاعفة (آثار إيجابية ارتدادية) عمل القرآن على وضع شروط للإنفاق، شملت شروطًا لعملية الإنفاق ذاتها، وشروطًا للمُنفِق، وشروطًا للمُنفَق عليه، وشروطًا للمال المُنفَق منه أو كله (كمًا ونوعًا).

 ونحن نحب أن نسمي هذه الشروط “الجانب الجمالي للإنفاق”، والتي نعتقد أنها تعطيه مزيدًا من الفاعلية، حيث يتحقق بالالتزام بهذه الشروط، ليس الجانبَ الفني العملي فحسب، بل والجانب الجمالي كذلك والمتمثل بخُلُقِ الإنفاق -خيريًا كان أم استهلاكيًا أم استثماريًا- وأسلوبه، وفي ذلك حفاظ على تماسك المجتمع من التمزق الفئوي والحقد الطبقي، وفيه صيانة لوحدته وجماله الداخلي والخارجي.

  • أ‌- شروط القرآن في عملية الإنفاق ذاتها:

وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” (2 / 195).

اشترط القرآن لكي تكون عملية الإنفاق فاعلة وناجحة وذات آثار ارتدادية إيجابية، أن تكون في سبيل الله، فمهما كان نوع الإنفاق (خيريًا – استهلاكيًا – استثماريًا) فإن مجمل آيات القرآن تأمر بأن يكون في سبيل الله لا في سبيل غرض آخر، فإذا كان الإنفاق الخيري من أجل التفاخر والاستعلاء فهو ليس في سبيل الله؛ لأنه يؤدي إلى نشر الأحقاد وتفسخ العلاقات الاجتماعية، وإذا كان الإنفاق الاستهلاكي يركز على الكماليات والمستوردات مما يثير حفيظة الفقير (استهلاك استفزازي) فهو ليس في سبيل الله، وإذا كان الإنفاق الاستثماري يَنصَبُّ على إقامة مشروعات تخدم الأغنياء وحدهم أو تخدم عملية الإنتاج في الدول الغنية (ورشة خلفية للدول الصناعية)، أو كان المستثمر لا يعطي العاملين عنده أجورًا تتناسب والحياة الكريمة، فإنه ليس في سبيل الله … وهلمَّ جرا، فالأمثلة كثيرة.

وعلى العكس من ذلك فإننا نجد القرآن يحكم على أي إنفاق في غير سبيل الله بأنه إنفاق زائل ومآله إلى الفشل، كما في الآية الكريمة “إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون” (8 / 36).

  • ب‌- شروط القرآن في المُنفِق:

“الذين ينفقون في السرَّاء والضرَّاء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين” (3 / 134).

وهنا نجد ملاحظة مهمة وهي أن الله وصف المؤمنين بأنهم لا يكتفون بالإنفاق في حالة السراء فحسب، بل كذلك في حالة الضراء التي غالبًا ما يأخذ فيها الإنسان احتياطات شديدة، منها التوقف عن مساعدة الآخرين، وكما ذكرنا سابقًا أن الإنفاق كان وسيلة لتأسيس وبناء المجتمع السليم، وهو كذلك وسيلة لخروجه من حالة الضراء التي قد تطول دون تفاني المقتدرين في خدمة الآخرين، وحالة السراء والضراء هنا لا تعني الوفرة أو القلة في المال فحسب، بل تعني أيضًا الظرف الذي يحيط بالمنفِق، والآية التالية تبين ذلك بوضوح “لينفق ذو سَعَةٍ من سَعَتِهِ ومن قُدِرَ عليه رِزقُه فلينفق مما آتاه الله، لا يُكلفُ الله نفسًا إلا ما آتاها ، سيجعل الله بعد عسرٍ يُسرا” (7 / 65).

كذلك من الشروط التي وضعها الله على المنفقين ألا يقرنوا كرمهم بالمن والتفاخر، لما في ذلك من إثارة أحقاد وضغائن الفقراء الذين سيشعرون بأنهم في مرتبة غير لائقة ليس فقط ماليًا، بل واجتماعيًا وإنسانيًا، وفي هذا باب كبير لتمزيق المجتمع وتضييع الفرص التي سيجنيها من عملية الإنفاق، وعلى هذا دلت الآية التالية:

يا أيها الذين أمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين” (2 / 264).

كذلك وضع الله شرطًا هامًا للمُنفقين، وهو الاعتدال في الإنفاق لاسيما في الإنفاق الاستهلاكي، فالإسراف سيضيع المنبع الذي يقوم عليه الإنفاق وبالتالي ستتوقف عملية الإنفاق ذاتها، والآية تبين هذا الأمر:

والذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يَقتروا، وكان بين ذلك قواما” (25 / 67).

  • ت‌- شروط القرآن في المُنفَق عليه:

جرت العادة أن يقوم الأغنياء بمساعدة الفقراء الذين يستجدونهم، وهذا أمر حسن وطبيعي، ولكن الأغنياء غالبًا ما يغفلون عن ملاحظة أمر مهم وهو مساعدة الفقراء الذين لا يبين عليهم الفقر؛ لتعففهم وترفُّعهم عن المطالبة، لاسيما إذا كانوا ممن تفرغوا لأمر من أمور المجتمع الهامة العلمية أو الإنسانية أو غير ذلك من الأمور السامية التي لا يتصدى لها إلا ذوو الهمم العالية والنفوس الزكية، وأمثال هؤلاء الذين سماهم القرآن (أحصروا في سبيل الله)، هم الذين وضع الله لهم شرطًا مهمًا لعدم إغفالهم وبالتالي تضييعهم… والنتيجة، التفريط بمهامهم ذات العوائد الجليلة على المجتمع، والآية تقول في ذلك:

“للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربًا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، تعرفهم بسيماهم، لا يسألون الناس إلحافا، وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم” (2 / 273).

  • ث‌- شروط القرآن في المال الُمنفَق منه:

كذلك وضع الله شرطًا في المال المنفق منه، وهو أن يكون مالًا طيبًا مما تحبه النفس البشرية وتشتهيه، لا مما تعافه وتتقزَّز منه، وتكمن أهمية هذا الشرط في أنه يضمن الترابط النفسي والتحابب بين المُنفِق والمُنفَق عليه، والفكرة أساسًا كما قلنا سابقًا، لا تقوم على مجرد هدف مالي بحت، بل تهدف أيضًا للترابط الاجتماعي الذي يُعتبر الحصن الحصين للنهضة والتنمية، والآيتان التاليتان توضحان ذلك:

يا أيها الذين أمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، ولستم بآخذيه إلا أن تُغْمِضُوا فيه، واعلموا أن الله غني حميد” (2 / 267)، “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم (3 / 92).

هذا بعض ما اعتقدنا بأنه من القيم الجمالية التي وضعها الله لضمان حسن عملية الإنفاق ورفع جودتها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، والتي بمجملها تضمن زيادة الآثار الإيجابية الارتدادية لعملية الإنفاق وحسن توزيع الثروة.

[1] M. A. Mnnan. 1989 – Economic development and social peace in Islam – TA. HA. Publishers LTD. London. P 124.

*  استخدمت في القرآن كلمة نَفَقَ ومشتقاتها (ينفقون – أنفقوا – ينفق – أنفقتم – تنفقوا – المنفقين – أنفقت – ينفقونا – نفقاتهم – نفقة – الإنفاق – أنفق – الخ) في / 57 / آية، وشملت / 72 / تكرارًا لهذه المشتقات، وقد كان عدد الآيات المكية منها إحدى عشرة آية، والباقي نزل في المرحلة المدنية.

* نحب أن نذكِّر بأن بعض التشريعات هي للبناء والصيانة في آن واحد، ومنها العبادات بأنواعها.

[2]  رواه أبو داوود في سننه، الحديث رقم / 2480 / موسوعة الحديث الشريف (الكتب التسعة) نسخة CD، مرجع سبق ذكره.

*  إن تخصيص معنى “تجارة لن تبور” بالأجر يوم القيامة فقط، هو تخصيص نتج عن قراءة القرآن بنظرة أخروية، حيث اعتَبرت هذه القراءة أن عوائد الإيمان والاستجابة لأوامر الله هي في الآخرة فحسب، وأن عقوبات التخلي عن الإيمان وعدم الاستجابة لأوامر الله هي في الآخرة أيضًا دون الدنيا، وهذا من أهم العوامل التي أضاعت علينا الأثر الحضاري النهضوي للقرآن.

*  يجب أن نؤكد هنا أن العوائد التي نتحدث عنها هنا لا تتأتى، كهبة من الله، بشكل خارق للعادة كالمعجزة، بل هي تحدث وفق قوانين عقلانية علمية يمكن دراستها واستثمارها وتكرارها دومًا بمجرد استخلاص قانونها من التجارب، فالله، وفق المفهوم القرآني، خلق الكون (الطبيعة والاجتماع) وفق قوانين لا تقبل النقض ولا تقبل محاباة أحد لمجرد أنه متدين أو أنه من عرق معين، بل هي قوانين حيادية تنتج أثرها لكل من يحسن فهمها وتطبيقها.

[3]  راجع مادة “نفق” في كلٍ من المعاجم التالية: لسان العرب – المعجم الوسيط – معجم متن اللغة العربية – مختار الصحاح.

[4]  لمزيد من الاطلاع على هذه الفكرة يرجى مراجعة:

Ahmed, A. 1987 – Income determination in an Islamic Economy – King Abdulaziz University, Scientific publishing center, Jeddah, KSA, P 77-83.

*  إن حركة انتقال المال من يد إلى يد، لا تتوقف على حركة النقود فحسب، بل تتعداها إلى تحريك الكثير من الطاقات العاطلة وتفعيلها والتي كانت تنتظر الطاقة اللازمة لكي تثور وتتحول إلى مادة قابلة لخدمة الإنسان والمجتمع كالأموال بالضبط، فالمال هو الذي سيحرك اليد العاملة العاطلة عن العمل، وهو الذي سيحرك الثروات الدفينة في الأرض، وهاتان الثروتان لم تحرم منها أية أمة على الإطلاق، فالمشكلة تنحصر إذًا في سوء توزيع الثروة النقدية (أو ما شابهها كالأراضي الجيدة مثلًا) فهو الذي يجمد باقي الثروات، ومن هنا إذا حصل الإنفاق، تأتي مضاعفة الثروات التي وعد الله بها المجتمع الذي يستجيب لأمره.

[5]  رواه الترمذي في سننه ، الحديث رقم / 2247 / موسوعة الحديث الشريف ( الكتب التسعة ) نسخة CD ، مرجع سبق ذكره .

للتحميل من هنا

 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات ©2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى