الاصداراتمقال رأي

تمدد الفكر الشعبوي نحو الشرق الأوسط والتأثير النفسي والديني والاجتماعي على الفكرة الوطنية الجامعة..

الشعوب العربية نموذجًا

قبل التقديم:

قول 1: قال عمر بن الخطاب: “لا تسبوا الغوغاء، فإنهم يطفئون الحريق، ويخرجون الغريق، ويسدون البثوق”.

قول 2:  قال علي بن أبي طالب حين اجتمع العامة على رجل ارتكب جناية: “لا مرحبًا بوجوه لا تُرَى إلا عند كل سوأه”.

تقديم

كلما وقعت انتكاسة في الحقوق وأسباب المعيشة مع وجود فرصة للاعتراض، ظهر تيار يتبنى موقفًا احتجاجيًّا ضد هذا الخلل، ويمكن أن يكون هذا في صورة أيديولوجيا تقدم نفسها بديلًا عن الوضع القائم (الاتجاهات الاشتراكية الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين)، أو صورة حركات شعبية تتمدد بقدر ما تسمح لها الظروف (الثورة الفرنسية).

والقوى الاجتماعية بمختلف فئاتها مستعدة في هذه الحال للفعل والمشاركة في الشأن العام، إلا أن هذا يخضع لشروط تتفاوت من فئة اجتماعية إلى أخرى، كما تتفاوت نوعية المشاركة ودرجتها من فئة إلى أخرى كذلك، وأقل الفئات الاجتماعية استعدادًا للحركة في الشأن العام هم “أغلبية الشعب” أو “عامة الناس” الذين يقابلون عادة النخبة والمثقفين وأصحاب المستويات التعليمية الراقية.

وتتحرك العامة في الشأن العام والسياسي حين تجد المجال متاحًا ومشجعًا ويحقق لها منافع (الانتخابات في الدول الديمقراطية مثلًا)، وحين تجد مكتسباتها مهددة (اليمين الأوربي والأمريكي)، وحين تسعى قوى أذكى أو أقوى منها إلى توظيفها (زعماء الأحزاب اليمينية الغربية والسلطوية العربية).

تعريف الشعبوية

والشعبوية هي ظاهرة سياسية تصعد فيها بعض القوى الشعبية غير المؤدلجة أو ذات الأدلجة المخففة لممارسة الشأن العام والعمل على التأثير فيه، مع ادعاء أنها الممثل الأكثر صدقًا للأمة أو الشعب.

وغالبًا ما تخاصم الشعبوية النخبة، إلا أنها قد تكون ظهيرًا للنخبة ضد منافسيها في بعض الحالات.

جانب منهجي في دراسة الشعبوية:

الشائع في دراسة مسألة الشعبوية هو البحث فيها من جهة البحث السياسي ووفقًا لمناهجه فقط؛ أي باعتبارها مسألة ذات علاقة بالسلطة وتحولاتها والدولة ونظامها السياسي، إلا أن هذا يخفي جانبًا مهمًا من هذه الظاهرة، وهو الجذور الاجتماعية التي تؤدي إلى بروزها، وكثيرًا ما تكون هذه الجذور تفاعلًا طبيعيًا ومنطقيًا مع نوع من الفساد السياسي أو الاقتصادي؛ لذا فإن من اللازم أن نجمع في بحث الشعبوية بين علم الاجتماع السياسي وعلم السياسة؛ حتى تتكامل الصورة، ونضع الظاهرة في سياقها الصحيح.

هل توجد شعبوية عربية؟

لا تكاد توجد شعبوية عربية على سمت الشعبويات الأخرى التي ظهرت في الولايات المتحدة وأوروبا وأمريكا الجنوبية؛ لأن أزمة المسار الديمقراطي في هذه الدول هي التي أدت إلى ظهور الشعبوية فيها، وفي المقابل فإننا نشكو في عالمنا العربي من انعدام الديمقراطية أصلًا! وتكاد تكون حركة النهضة الجزائرية  – كما ذهب بعض الباحثين – هي الحالة الشعبوية العربية الوحيدة المشابهة للشعبويات الغربية من ناحية طبيعة الخطاب والظروف التي أدت إلى ظهورها.

ومع هذا لا بأس بأن نعد طبيعة التكوين الاجتماعي هي الأساس في ظهور لون من الشعبوية العربية، فلا نعد الأصل في الشعبوية هو ظروف نشأتها، ولكن طبيعة تكوينها والمجال الذي برزت فيه، ووفق هذا المقياس يمكن أن نعد تنظيم الدولة وحركة تمرد المصرية من نماذج الشعبوية العربية.

هل الشعبوية ظاهرة سلبية؟

أغلب الدارسين الاجتماعيين والمحللين السياسيين على أن الشعبوية ظاهرة سلبية، وأنها صورة من صور الخلل في الهيئة الاجتماعية والإدارة السياسية للدولة؛ ذلك أن الغوغاء والعامة يتطلعون من خلال الحراك الشعبوي إلى التغيير بصورة ساذجة لا تنم عن فهم للمشكلات التي تواجههم، كما يحتكرون لأنفسهم الحقيقة وتمثيل الأمة، ويخرقون الإجماع الشعبي بقسمة الشعب إلى “نحن” و”هم”، ويمارسون ديكتاتورية الأغلبية. (لعل مما يعزز هذا الموقف: الخشيةَ من أن تأتي الشعبوية بتغييرات دراماتيكية عميقة تقلب الهيئة الاجتماعية والبنى السياسية والاقتصادية القائمة كما حصل مع الثورة الفرنسية؛ خاصة أن أوروبا موعودة بانفجار داخلي كبير كل قرن تقريبًا).

وفي مقابل هذا الرأي، فإن الزعماء الشعبويين وأنصارهم من المثقفين يذهبون إلى تمجيد الشعبوية، معتبرين أنها سعي إلى تصحيح الأوضاع والخلاص من النخبة الفاسدة.

وأرى في ظروفنا العربية أن الشعبوية بالنظر إلى أنها تفاعل من عامة الناس مع الشأن العام وتدخل في الشأن السياسي، قد تكون إيجابية، وقد تكون سلبية، ومناط ذلك هو: الفاعلية المنضبطة، والبعد عن أي توظيف لصالح حكومة مستبدة أو طرف خارجي مستغل، ومخاصمة الفساد في ذاته مهما يكن ممثلوه.

عوامل وجود الشعبوية العربية:

وجود الشعبوية العربية رهن بأحد العوامل التالية:

  1. وجود ولو مساحة من الديمقراطية تسمح بالتعبير الشعبي عن السخط على الأحوال القائمة.
  2. وجود مساحة حركة على هامش القضايا الساخنة.
  3. سعي السلطة إلى التسويق لقرار أو موقف ما داخلي أو خارجي بتوظيف الشعبوية.

توظيف الشعبوية في التأثير على الواقع العربي:

هل الشعبوية مجرد مجموعات اجتماعية غوغائية؟ ليس بالضرورة، لكنها تحتاج إلى عنصرين إيجابيين كي تكون قوة بانية غير هادمة، وهذان العنصران هما: شعورها بقوتها، ووعيها بقضاياها وحقوقها، ومن عناصر وعيها الأساسية: أن تميز من يسرق حقوقها عمن يحمل مشروعات وطنية جديرة بالتقدير. وما نلاحظه هو أن المسموح والممنوع في كل الأقطار العربية تقريبًا ليس حسب القانون والدستور، ولكن تبعًا لمزاج السلطة وتقديراتها.

إلا أن الفرص التي يتيحها الواقع القائم لصناعة شعبوية عربية إيجابية هي فرص ضئيلة، لكن أي تغيير يمكن أن يشهده العالم العربي في المستقبل يُستبعَد أن يكون نخبويًا خالصًا، بل لابد له من بعدٍ شعبوي. وهنا لا أريد الخلط بين الشعبي والشعبوي بقدر ما أركز على التكامل بين وظيفة النخبة الوطنية المخلصة ووظيفة القواعد الشعبية التي هي جزء أساس في التغيير.

تأثير الشعبوية النفسي والديني والاجتماعي على الفكرة الوطنية العربية:

حين قرأ المستشرق الإنجليزي هاملتون جيب مستقبل العالم الإسلامي قبل تسعة عقود، رصد عاملين أساسين يقللان من فرص التقارب بين أقطاره، وهما: تنوع العادات والتقاليد الاجتماعية تنوعًا كبيرًا، وتباين المشكلات من قطر إسلامي إلى آخر بحيث توقّع أن ينكفئ كل قطر منها على مشكلاته الخاصة. وهذا يعني أن هذين العاملين – كما  توقع جيب – سيضعفان الرابطة التي تصل بين أنحاء العالم الإسلامي.

هل يمكن أن نقيس مستقبل الانتماء العربي إلى منظومته القيمية في ضوء الحركات الشعبوية على هذا النموذج الذي قدمه جيب؟ الحقيقة أن بقاء الشعبوية أداة في يد الأنظمة العربية الحاكمة توظفها فقط في خدمة مصالحها، مع ضعف الهامش الديمقراطي المتاح أو تلاشيه تمامًا، مع زيادة حدة الأزمات الاقتصادية؛ من شأن هذا كله أن يزيد من سلبية المواطن الذي غالبًا ما يطوِّع معيشته للضغوط التي تمارَس عليه من الدولة، وهذه السلبية تضعف الانتماء الكلي عادة، أو تحوله إلى غوغائية لا مضمون لها.

“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى