الاصدارات

في الذكرى الحادية والستين لأول الانقلابات العسكرية التركية

انقلاب 1960 العسكري التركي

د. صبحي ناظم توفيق
 عميد ركن متقاعد… دكتوراه في التاريخ
 المستشار بمركز برق للسياسات والاستشارات

تمهيد

في السنوات الأخيرة من بعد استقراري في تركيا، لاحظت أن معظم أفراد المجتمع التركي قد نسوا، أو باتوا لا يهتمّون بتاريخ بلدهم في أواسط القرن العشرين ونصفه الثاني فحسب، بل إن العديد من مثقّفيهم أضحوا على هذه الحال. وأما أصدقائي من العرب وغير الأتراك عمومًا، فإن غالبيتهم لم يسمعوا بهذا التاريخ، ولا يعلمون عنه شيئًا!

ولمّا كانت الانقلابات العسكرية خلال النصف الثاني من القرن المنصرم قد شكّلت معظم الأحداث التي قلبت الموازين السياسية في بلاد الأناضول، فقد رأيت من الأنسب أن أتفق مع مركز برق للسياسات والاستشارات الموقّر على أن أعدّ دراسات متتالية عن كل انقلاب على حدة، لينشرها ويُنوِّر بها المتابعين الكرام خدمةً لتاريخ تركيا المعاصر.

ولـمّا انتبهتُ إلى أن طروحات عدد من المحللين السياسيين العرب بشكل خاص، وكذلك بعض الأتراك، بعيدة عن الوقائع والمواقف التي فرضتها على الساحة السياسية والصراعات الدموية التي تمخّضت عنها، فقد تركتُ المَراجع العربية جانبًا لأعتمد مصادر ومراجع تركية؛ كونها تمتاز بالدقة وذكر الحقائق التي نأت عنها مثيلاتها المنقولات للغة العربية لأسباب أو لأخرى، ناهيك عن ركاكة التعريب، منطلقًا في هذا من إيماني المطلق بأن الحاضر غرس الماضي والمستقبل جَنيُ الحاضر.

المفهوم المتعاكس لمصطلح “انقلاب”

قبل كل شيء وددتُ أن أخصّ القارئ العربي الكريم ببيان مفهوم الانقلاب (iNKiLAP) الذي هو جزء من عنوان هذه الدراسة، وتكرر مرارًا خلال سطورها؛ كونه في الأدبيات التركية يأتي تمامًا عكس مقابله باللغة العربية؛ فمصطلح “انقلاب” في اللغة التركية يشير إلى ثورة إصلاحية، على عكس مفهوم “انقلاب” العربي الذي لا يأتي سوى بحكومة عساكر يتبعون النمط الديكتاتوري في الحكم(1).

أما المقابل التركي الآخر للفظ الانقلاب العربي فهو “DARBE” أو ضربة، الذي يكمن فيه معنى الغدر والخيانة.

        وعلى الرغم من أن الدولة العثمانية الكبرى شهدت ثلاثة انقلابات عسكرية وقعت على التوالي في الأعوام 1808، و1909، و1913(2)، فإنها لا تعنينا في هذه الدراسة للزوال المؤسف لتلك الإمبراطورية الإسلامية الكبيرة، وركّزنا اهتمامنا على الانقلابات التي وقع أوّلها بعد حوالي أربعة عقود من تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، والتي تميّز عَقداها الأوّلَان بحُكم الحزب الواحد  للدولة، وتسيير قائده الأوحد لمقاليد الأمور فيها.

الحزب الواحد ثم التعددية

تشكّـلت الجمهورية التركية على ما بقي من أنقاض الدولة العثمانية الكبرى، فقد أسسها مصطفى كمال أتاتورك بزعامته حزب الشعب الجمهوري المعروف اختصارًا C.H.P(3)، وفُرِضَ حكمه المنفرد لغاية وفاة أتاتورك عام 1938، وظلّ على ذات النهج تحت زعامة خليفته الجنرال عصمت إين ئونو-  İsmet İnön (وليس إينونو)- لغاية أواخر عام 1945، قبل أن يُقدِم محمود جلال بايار، رئيس الوزراء الأسبق في عهد أتاتورك، وإلى جانبه النائب الشاب علي عدنان أرتـَكين مَندَرَس (وليس مَندَريس)، وبصحبتهما رفاق آخرون بعد الحرب العالمية الثانية، على الانشقاق عن حزب C.H.P ليؤسِّسوا حزبًا سياسيًا مرخّصًا هو الرابع في الجمهورية التركية، أسمَوه الحزب الديمقراطي/D.P، الذي عَلا صيتُه إثر طروحات استساغتها قاعدة عريضة من المجتمع التركي، حتى أحرز 62 مقعدًا في انتخابات عام 1946، برغم كونه في أوّل الطريق.(4)

بروز عدنان مندَرَس

وما إن جاءت الانتخابات العامة سنة 1950، حتى اكتسح حزب D.P مقاعد مجلس النواب التركي بواقع 318 مقابل 32 مقعدًا فقط لمنافسه العريق C.H.P، ليرأس عدنان مَندَرَس يوم 22 من أيار/ مايو- 1950 حكومة ذات أغلبية برلمانية كاسحة، أجرى عن طريقها تغييرات جريئة وجوهرية على الواقع الذي فـُرِضَ على تركيا طيلة ثلاثة عقود منصرمة، مما نال استحسان معظم الجماهير، حتى حلت انتخابات عام 1954 ليتعاظم عدد مقاعد D.P إلى 326 مقابل تراجع C.H.P إلى 24 مقعدًا فحسب!

        كانت نظرة عدنان مَندَرَس إلى أحوال تركيا ما بعد إعلان الجمهورية سلبية في عمومها، وأن تركيا يجب أن تعود إلى جذورها الإسلامية، وتُحَسِّن وشائجَها مع جيرانها العرب ودول الإسلام، إلى جانب الحفاظ على مبادئ أتاتورك العلمانية، ومواصلة فصل الدولة عن الدين، شريطة عدم محوه من مشاعر المواطن التركي؛ لذلك أعاد الأذان إلى الجوامع والمساجد باللغة العربية، وسمح بارتداء أي لباس شرقي وسواه من دون الاقتصار على الملابس الغربية، وأجاز تدريس الدين الإسلامي، وتلاوة المصحف الكريم باللغة العربية حتى المرحلة الثانوية، وأمر بعمارة الجوامع والمساجد المُهمَلة وإنشاء المزيد منها، وإعادة القديمة والمُهمَلة منها إلى الحياة، وفتح معاهد لتخريج الوعاظ والخطباء ومعلّمي أمور الدين، وإصدار مجلات وكتب ذات صبغة دينية وتوجيهية، فضلًا عن تقاربه المُضطَرد مع الدول الإسلامية والعربية، وتحقـيق ديمقراطية وتعددية مشهودة كانت مبعث ارتياح الشعب التركي.(5)

التقارب المتوازن مع المنطقة والعالم:

ولم تكن تلكم الخطوات عائقًا لتركيا مندرس عن التعاون مع الغرب الأوروبي والأمريكي؛ إذ شارك الجيش التركي بتشكيلاته الميدانية في أتون حرب كوريا منذ 1951، وقدّمت العشرات من الشهداء والجرحى خلالها، فكانت سببًا رئيسًا لقبول تركيا مطلع عام 1952 عضوًا فاعلًا في حلف شمالي الأطلسي (N.A.T.O)(6)، قبل أن تغدق واشنطن مساعدات عسكرية ضخمة على عموم القوات المسلحة التركية لتغدو صاحبة المرتبة الثانية على مستوى ذلك الحلف الاستراتيجي الأعظم في تاريخ الكرة الأرضية. في حين كانت تركيا قد اعترفت بإسرائيل واقعًا يفرض نفسه منذ 28 من آذار/ مارس- 1949(7)، قبل أن تقدِم على تشكيل الحلف البلقاني عام 1953(8) باعتباره بادرة صداقة ورأبًا للصدع مع عدد من دول البلقان، ومنها اليونان ويوغوسلافيا الاتحادية، التي رضخت للحكم العثماني لقرون عديدة، قبل أن تبرم تركيا ميثاق/حلف بغداد الرباعي عام 1955(9) إلى جانب كل من العراق وإيران وباكستان، بزعامة بريطانيا العظمى ودعم الولايات المتحدة الأمريكية، في حين تزعّمت تركيا مقارعة الشيوعية والمدّ اليساري في الشرق الأوسط.

ولكن مَندَرَس أبدى أيضًا نوعًا من التقارب مع الاتحاد السوفيتي بعد وفاة زعيمه جوزيف ستالين سنة 1953 وبروز الإصلاحات المضادة للدكتاتورية الستالينية التي أطلقتها القيادة الجديدة وزعيمها نيكيتنا خروتشوف، وكان مَندَرَس عازمًا على زيارة موسكو عشية الانقلاب الذي لم يخطر بباله.

عدنان مندَرَس رئيس وزراء تركيا لثلاث ولايات متتالية (1950-1960).

منجزات مندَرَس وردود الأفعال:

كان من أهمّ الإصلاحات التي أقدمت عليها حكومة مَندَرَس – بالإفادة من حصة تركيا من مشروع مارشال الأمريكي – مكننة الزراعة وتربية المواشي والخيول والصناعات التراثية الشعبية اليدوية، وإنشاء السدود والنواظم في عموم البلاد، حتى أمست تركيا خلال فترة قياسية من أعظم أقطار العالم المنتجة للقمح والحبوب عمومًا والقطن والشاي والفواكه والخضروات، إلى جانب اللحوم والمواشي والخيول والدواجن والطيور، وتصدير الفائض منها إلى العديد من البلدان المستهلكة، ناهيك عن التقدّم الملحوظ في صناعات الجلود والأحذية والنسيج والدهون والمنظفات.

إلا أن هذه المنجزات الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية قابلها نفاد الدعم المالي الذي قدمه مشروع مارشال، فضلًا عن النفقات الهائلة على تطوير القوات المسلحة، وتفاقم مشكلة البطالة جراء المكننة في غضون النصف الثاني من الخمسينيات، فاستغلت الأحزاب الأخرى، وفي مقدمتها C.H.P، تلك المعضلات لتوجّه التّهم إلى مَندَرَس وحكومته وحزبه، ومنها ما يتعلق بالابتعاد عن مبادئ أتاتورك المُسَطرة في الدستور التركي، وإقحام الدين في أمور الدولة، والخروج على الثورة الكمالية، فنظمت مظاهرات واعتصامات وإضرابات تسبّبت في تفاقم المشكلات.(10)

مواقف قادة القوات المسلّحة:

        كان قادة القوات المسلحة التركية وضباطها ومراتبها ينظرون إلى أتاتورك والعلمانية بقُدسيّة بالغة، وهم متشبِّعون بشعارات ثورته وإصلاحاته ومبادئه ووصاياه؛ لِما كانوا يتلقونه من محاضرات توجيهية صارمة بهذا الخصوص منذ نعومة أظفارهم، في حين يخوّلهم الدستور التركي وقانون المهمات الداخلية للجيش التركي لعام 1935 القيام بما يلزم للحفاظ على الثورة الكمالية وحماية النظام العلماني والتدخل لاستعادة مسيرته وقتما يرون لذلك ضرورة، وذلك عن طريق رئاسة هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة التي يتحكّم فيها القادة الأقدمون للقوات المسلحة البرية والجوية والبحرية والحدود، الذين كانوا في الواقع ذوي سطوة في عموم الدولة، ليس بالدستور والقانون فحسب، بل بما يمتلكونه من عناصر فرض الرأي بقوة السلاح متى ما تطلب الأمر ذلك!

الشروع في الانقلاب:

ولكن انقلاب عام 1960 لم يعتمد على تلك الهيئة وأولئك القادة، بل كان هناك تنظيم سري شُكِّلَ في صفوف القوات المسلحة التركية، شبيه في العديد من وجوهه بتنظيمات الضباط الأحرار في كل من مصر والعراق وسوريا خلال الأربعينيات والخمسينيات، تحت اسم هيئة الوحدة القومية/Milli Birlik Komitesi”، ومختصره (M.B.K)، ومعظم أعضائه ضباط متوسطو العمر من رتبة عقيد فما دونها، وقد أسّست الهيئة خلاياها، وأعَدَّت للانقلاب، وخطّطت له، وحضّرت لتنفيذه.

ولم يكن من بينهم – بالطبع – رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الجنرال مصطفى رشدي أردَل هون (وليس “روستو إيرديلهون” كما في معظم المراجع العربية) الشاغل لمنصبه منذ عام 1958، وقد رفض بكل إباء عرضًا قُدِّمَ له قبل يوم واحد من التنفيذ ليكون على رأس الانقلاب، معتبِرًا ذلك خيانة لمَن وضعوا ثقتهم بشخصه وقيادته، ونكثًا بالوعد والعهد. فما كان من قادة الانقلاب سوى إرغامه على تسليم نفسه فجر يوم 27 من أيار/ مايو- 1960، وجرّدوه من منصبه.(11)

الجنرال (فريق أول) رشدي أردَل هون رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة التركية للفترة (1958-27/5/1960).

موقف لم يطرأ على بال:

ولكن، لم يلقِ العقيد الركن آلب آرسلان توركَش البيان الأول للانقلاب صبيحة ذلك اليوم، إلا وانبثق موقف خطير في أقصى شمال البلاد لم يدُر ببال أحد؛ فما إن استمع قائد الجيش التركي الثالث الجنرال (فريق أول) راغب كُومُوش بالا إلى البيان حتى أعلن من قيادته في ولاية أرضروم رفضَه القاطع لتسلـّم أية أوامر تصدر إليه من أي ضابط أدنى منه رتبة ومنصبًا ويليه بالقِدَم العسكري ولو بالاسم، مُهدِّدًا بالزحف بمقدمة جيشه نحو أنقرة لوأد الحركة الانقلابية.

الجنرال (فريق أول) راغب كوموش بالا قائد الجيش التركي الثالث في أرضروم.

لم يكن في إمكان قادة تنظيم M.B.K انتظار الأدهى والأمَرّ، حتى هُرعوا في تلك الساعة الحرجة إلى مدينة إزمير، حيث كان قائد القوات البرية الجنرال (الفريق أول) جمال كُورسَل (وليس “كورسيل” كما يُكتب في معظم المراجع) قد ترك منصبه قبل أسابيع إثر تقديمه استقالته الخطية إلى رئيس الجمهورية جلال بايار، لعدم رضاه عن إدارة وحكم البلاد،

الجنرال (فريق أول) جمال كورسَل الذي جاءت به الأقدار ليكون على رأس انقلاب 1960.

متشبثين بشخصه ليتبوّأ فورًا رئاسة تنظيم حركة الوحدة الوطنية M.B.K، التي هي أشبه بمفهوم مجلس قيادة الثورة في الانقلابات العربية، ويُضْحي زعيمًا لسلطات البلاد ومقاليدها.

ولـمّا قبل جمال كورسَل هذا العرض بشروط عديدة رضخ لها الانقلابيون سِراعًا، فقد حُلت معضلة الجنرال راغب كوموش بالا، قبل أن يتم تعيينه رئيسًا لهيئة الأركان العامة خلفًا للجنرال رشدي أردَل هون.(12)

جلال بايار رئيس وزراء تركيا في عهد أتاتورك ورئيس جمهوريتها يوم انقلاب 27/5/1960.

هل كان اتفاقًا ثنائيًا؟!

ويغلب على ظني أن هذا الانقلاب العسكري كان وراءه اتفاقٌ ثنائي بين قادة M.B.K والجنرال عصمت إين ئونو(13) الذي يَعُدُّه حتى الجنرالات الأتراك الأقدمون قائد قادتهم وأستاذ أساتذتهم؛ كونه قد تبوّأ منصب رئيس أركان الجيش التركي عند إعادة هيكلته أثناء حرب الاستقلال قبل أن يغدو رئيسًا للوزراء ويؤلـّف سبع وزارات في غضون 14 سنة، خمس منها في عهد أتاتورك، حتى خلفه إثر وفاته سنة 1938 رئيسًا للجمهورية وقائدًا أعلى للقوات المسلحة التركية لاثنتي عشرة سنة متلاحقة (1938-1950)، وقتما كان جميع هؤلاء القادة المخططين والمنفِّذين للانقلاب إما فتيانًا أو ضباطًا في مقتبل أعمارهم يحملون رتبًا صغيرة ومناصب دنيا، ناظرين إلى عصمت (باشا) إين ئونو بقُدسية وإعجاب وإجلال.

صورة قديمة للجنرال عصمت باشا إين ئونو خلال حرب الاستقلال.

الانقلاب السهل:

ووفقًا لتوجيهات مُسبَقة وتوقيتات وتحريك تشكيلات محددة وحسب خطة مُفصَّلة ومُعَدّة سلفًا، لم يكن إطلاق وحدات المشاة المحمولة على العجلات من معسكراتها فجر 27/5/1960 بصحبة الدبابات والمدرعات وانتشارهم في الشوارع، سوى شبه تمارين خاضوها لعشرات المرات وسط جيش عريق ومنضبط.

لذلك، ومن دون أية مقاومة، أحكموا سيطرتهم على مفارق الطرق، وطوّقوا العديد من مباني القيادات السياسية والتشريعية ودوائر الدولة الحساسة، فيما توجّهت مجموعات مكلفة بمهمات خاصة لتلقي القبض فجرًا على رئيس هيئة الأركان العامة الجنرال رشدي أردَل هون، وبسهولة ويُسر على رئيس الجمهورية جلال بايار، ورئيس الحكومة عدنان مَندَرَس وعدد من الوزراء وكبار المسؤولين، حتى استتبّ كل شيء لصالح الانقلابيين خلال ساعة واحدة أو أكثر قليلًا، وقتما كان العقيد آلب آرسلان توركَـش يلقي على مسامع الشعب بيانًا مُعَدًّا بهذا الخصوص من دار الإذاعة والتلفزيون التابعة للدولة.(14)

العقيد الركن آلب آرسلان توركَش يلقي البيان الأول لانقلاب 27/5/1960.

منظر مؤسِف لعدنان مندَرَس ساعة اعتقاله يوم 27/5/1960.

إعدامات وأحكام بالسجن:

لعل وزير الداخلية نامق كَدِيك كان أشجع المعتقَلين في هذا الانقلاب وأعظمهم اعتزازًا بنفسه، فقد قذف بنفسه من إحدى نوافذ الأكاديمية العسكرية وسط جزيرة ياصي آدا التي كان معتقلًا فيها؛ لأنه لم يرضَ المَهانة والإذلال والازدراء من أفراد شرطته السابقين الذين كانوا يتمنون قبل أيام معدودات مجرد إشارة منه كي ينفِّذوا ما يبتغيه ويرتضيه! فيما مَثـُلَ الآخرون أمام القضاء الذي أصدر حكم الإعدام – بعد محاكمات استغرقت 14 شهرًا – بحق كل من: جلال بايار، وعدنان مَندَرَس، والجنرال رشدي أردَل هون، ووزير الخارجية فَطين رشدي زورلو (وليس “فاتن روستو زورلو” كما في بعض المراجع العربية)، وكذلك وزير المالية حسن بولات قان، ونُفذ الحكم في ثلاثة منهم صبيحة 16 من أيلول/سبتمبر- 1961، في حين استُثني منه الرئيس جلال بايار والجنرال رشدي أردَل هون، واستُبدِلَ حكمهما بالسجن المؤبد قبل أن يصدر رئيس الجمهورية اللاحق الجنرال جمال كورسَل قرارًا رئاسيًا بالعفو عنهما عام 1964.(15)

فطين رشدي زورلو وزير الخارجية قبل انقلاب 1960، الذي أُعدِمَ ظلمًا مع  عدنان مَندَرَس.

حسن بولات قان وزير المالية قبل انقلاب 1960 الذي أُعدِمَ ظلمًا كذلك مع  عدنان مَندَرَس.

أما وزير الصحة الدكتور لطفي عبد الصمد قيردار، وهو ابن مدينة كركوك العراقية العريقة، فإن له قصة محزنة مغايرة؛ إذ وافته المَنيّـة أمام المحكمة جراء جلطة قلبية آنيّة جعلته يترنح قبل أن يهوي على قواطع قفص الاتهام إثر تلقّيه عبارات قاسية وغير لائقة من رئيسها لمجرد استئذانه بالجلوس جراء مُعاناته من ذبحة صدرية موجِعة أَلمّت به أثناء جلسة المحكمة يوم 17 من شباط/فبراير- 1961.(16)

الدكتور لطفي عبد الصمد قِيردار وزير الصحة قبل انقلاب 1960، وقد توفي أثناء محاكمته.

العودة إلى الحياة المدنية… ولكن!

وبعد انقضاء شهر واحد على ذلك الحدث غير المسبوق في تركيا الحديثة، فإن الجنرال جمال كورسَل، الذي أضحى رابع رئيس للجمهورية، مُترَئِّسًا حكومتَين عسكريّتَين متتاليَتَين لإدارة البلاد، تم في غضونهما تعديل الدستور وفقًا لرؤى القادة العسكريين ومَراميهم، معزِّزين دور القوات المسلحة في التدخل لتغيير أمور السلطات المدنية متى رأوا لذلك ضرورة..

وبعد أن أيقن الساسة المدنيون مدى سطوة الجيش في تركيا، وبعد استتباب الأمن في عموم البلاد، فقد أعيدت السلطات إلى المدنيّين، حيث استُدعي عصمت إين ئونو ليشكّل ثلاث وزارات متتابعة (1961-1965)، قبل أن يفوز حزب العدالة الذي تزعمه سليمان دَمِيرَل ليرأس ثلاث وزارات متلاحقة أخرى (27/10/1965-26/3/1971)، في حين أمسى السياسيون يخشون الإقدام على أية تصرفات لا يرتضيها قادة القوات المسلحة، وإلاّ سيكون مصيرهم السياسي والشخصي مشابهًا لمصير عدنان مَندَرَس ورفاقه.

وإذا ما استثنينا تلكم الإعدامات الثلاثة، فإن الانقلاب لم يكن دمويًا، إلاّ أن المئات من الضباط والقضاة والأساتذة والمعلمين والآلاف من مراتب الجيش المُتدَيّنين أُحيلوا إلى التقاعد، أو سُرِّحوا، أو فـُصِلوا جراء حملة تطهير شملت مؤسسات الدولة من الملتزمين بفرائض الإسلام، ولو كان مجرد أداء الصلوات وبعض التسابيح!

منجزات جمال كورسَل:

ويسجّل لجمال كورسَل انتباهه لخطورة إقحام السياسة في صفوف القوات المسلحة بأي عذر وحجة، ولذلك أقدم على خطوات جريئة قبالة كل من أصرّ على استمرار بقاء الحكم بيد العسكريين لأعوام مضافة، واتخذ إجراءات تميّزت بالصلابة تجاه أعضاء M.B.H الذين نصَّبوه على رأس سلطات الدولة، ومنعهم من العمل السياسي داخل القوات المسلحة، وقضى على تنظيمات الضباط الذين خطّطوا لانقلاب 1960 وتنفيذه، حتى أمضى على مرسوم تنفيذ حكم الإعدام بحق العقيد الركن طلعت آي دَمير عام 1964 إثر محاولته الانقلابية الثانية التي لم تَرَ النور(17). ولكون هذا الحدث لا يصح تناوله تناولا عابرًا، فلنؤجل الحديث عنه إلى مقالة قادمة، بعون الله تعالى.

العقيد طلعت آي دَمير رئيس الأكاديمية العسكرية للقوات البرية مُحاطًا بضباطه الأقدمين الذين شاركوه الانقلاب الثاني الفاشل.

“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2021

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)T.C. İNKILAP TARİHİ VE ATATÜRKÇÜLÜK KAZANIM;-

https://www.google.com/search?q=inkilap

tarihi

(2) ملخص كتاب الدولة العثمانية من الخلافة إلى الانقلابات.. الرابط:-  www.engzketab.com//https;

(3) حزب الشعب الجمهوري، الرابط:- https://ar.wikipedia.org/wiki/

(4)Demokrat Parti (1946);- https://www.google.com/search?q=dp+demokrat+parti&oq.

(5)Adnan Menderes kimdir?;-  https://www.sozcu.com.tr/2020/gundem/adnan-menderes-kimdir-iste-adnan-menderesin-hayati-5838708/

(6) صبحي ناظم توفيق، الدكتور:- حلف شمالي الأطلسي (1945-1957)، كتاب وثائقي، ط3، إستانبول، 2017.

(7) صبحي ناظم توفيق، الدكتور:- مواقف تركيا من قضية فلسطين بعيون دبلوماسية عربية، كتاب وثائقي، ط1، مركز شرقيات للبحوث، إستانبول، 2019، ص ص81-82.

(8) صبحي ناظم توفيق، الدكتور:- الحلف البلقاني (1947-1957)، كتاب وثائقي، ط3، إستانبول، 2017.

(9) صبحي ناظم توفيق، الدكتور:- حلف بغداد (1945-1957)، كتاب وثائقي، ط3، إستانبول، 2017.

(10)Adnan Menderes kimdir?;-  https://www.sozcu.com.tr/2020/gundem/adnan-menderes-kimdir-iste-adnan-menderesin-hayati-5838708/

(11) Orgeneral Rüştü Erdelhun:-https://tr.wikipedia.org/wiki/R%C3%BC%C5%9Ft%C3%BC_Erdelhun

(12)Orgeneral Ragıp Gümüşpala;- https://www.google.com/search? GEN.RAGIP+&aqs=chrome.1.69i57j0i22i30.43321j0j4&sourceid=chrome&ie=UTF-8

(13)ismet-inonu-hayati;- https://www.ismetinonu.org.tr/

(14) Türk demokrasi tarihinde kara bir leke: 27 Mayıs 1960;- https://www.google.com/search?q=

(15) المصدر نفسه.

(16) Dr. Lütfi Kırdar, Türk hekim, devlet adamı;- https://www.google.com/search?gs_ssp

=eJwBJQDa

(17) Türk demokrasi tarihinde kara bir leke: 27 Mayıs 1960;- https://www.google.com/search?q=… ويُنظَر كذلك ما يخص العقيد الركن طلعت آي دَمير في:-Talat Aydemir;- https://tr.wikipedia.org/wiki/ 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى