الاصدارات

تحديات التجربة الإسلامية في المغرب (دراسة نقدية)

تحديات التجربة الإسلامية في المغرب (1)
 
المقدمة:
لقد استطاع المغرب تجاوز مرحلة الربيع العربي وعبورها بسلام حتى اللحظة؛ وذلك بفضل أسباب كثيرة منها ما يظهر من البناء الديمقراطي والانفتاح السياسي الذي عرفه المغرب منذ اعتلاء الملك “محمد السادس” عرش المملكة، لكن ذلك لم يمنع البلد من تأثرها بريح الربيع ونزول حركات احتجاجية إلى الشارع فيما عرف بحراك “20 فبراير”. غير أن تيار الإسلام السياسي سينقسم خلال هذه المرحلة إلى قسمين: حيث سيفضل القسم الأول الخروج إلى الشارع ودعم الحركة الاحتجاجية مثل جماعة “العدل والإحسان” المعارضة، بينما سيفضل القسم الثاني إتمام مسار المشاركة السياسية التي بدأها من داخل مؤسسات الدولة كحزب “العدالة والتنمية” وكذلك جناحه الدعوي حركة “التوحيد والإصلاح”.
سنقوم في هذه الدراسة بالبحث في مدى اندماج الحركات الإسلامية في العمل السياسي بالمغرب، وكذلك الإضافة التي تقدمها هذه الحركات في الساحة السياسية معتمدة على مرجعيتها الدينية، والتحديات التي يواجهها تيار الإسلام السياسي في مواجهة باقي الحساسيات السياسية في المغرب. حيث سنتطرق من خلال هذا العمل إلى بدايات التيار الإسلامي والمراحل التي مر منها، وتطور السلوك السياسي للإسلاميين من مرحلة السرية والتي تميزت بخطاب ثوري والرغبة في التغيير الشمولي تأثرا بعوامل خارجية كالثورة الإيرانية، وعوامل داخلية كطغيان التيار اليساري على الساحة السياسية والذي كانت ترى فيه التيارات الإسلامية خطرا على الإسلام والمسلمين، وصولا إلى مرحلة العلنية والاندماج في العملية السياسية وتبني خطاب ديني وسياسي معتدل بعد القيام بمراجعات فكرية والقيام بنقد ذاتي.
إن الإشكال المطروح في هذه الدراسة يتمحور حول موقف الحركات الإسلامية في المغرب من المشاركة السياسية في إطار النظام القائم، وهل تمكن تيار المشاركة من ضمان مكان له وسط الفعاليات السياسية في الدولة؟ وكيف استطاعت هذه الحركات تقديم نفسها كممثل للإسلام، وتصادم ذلك مع مؤسسة إمارة المسلمين الممثل الرسمي والشرعي للإسلام في المغرب؟ وماهي التحديات التي تواجهها المشاركة السياسية للإسلاميين، من الناحية الذاتية والموضوعية، وكيف تعاملت مع معادلة الفصل بين الديني والدنيوي واختلاف الخطاب من موقعها في المعارضة حتى وصولها إلى السلطة وأثر ذلك على مستقبلهم السياسي؟
سنتناول تلك الإشكالات بالتحليل والنقد من أجل تقييم المشاركة السياسية للإسلاميين، والإحاطة بذلك برصد الجوانب الإيجابية والسلبية، والظروف والملابسات قبل وبعد اتخاذ قرار المشاركة.

  • الحركات الإسلامية في المغرب من العمل السري إلى العلني:
  • التيار الإسلامي ومرحلة النشأة:

لقد شكل العمل السياسي عند الحركات الإسلامية بالمغرب تحديا كبيرا، وذلك لاعتبارات عديدة أبرزها وأولها أن المجال الديني محفوظ لأمير المؤمنين وأن أي استغلال للدين في السياسة هو أمر محظور. فالإسلام كان حاضرا في الحياة السياسية للمغاربة قبل وبعد الاستقلال، ليس من باب التنظيمات والجماعات الإسلامية لكن بالتكوين الديني لرجالات الدولة من مفكرين وسياسيين ومقاومين، حيث نجد في الرجل الواحد يجتمع الفقيه والمفكر والسياسي والمقاوم والأمثلة على ذلك كثيرة، ك”عبد الله كنون” والعلامة “المختار السوسي” و”علال الفاسي” والقائمة تطول.
غير أن تعاقب الأحداث والاضطرابات السياسية وطنيا ودوليا، ساهم في تشكل تنظيمات وجماعات إسلامية متفرقة رافضة للواقع السياسي في المغرب بداية سبعينيات القرن الماضي، فاتهمت تلك الجماعات السرية بالوقوف وراء مظاهرات شعبية احتجاجا على تدهور المعيشة. وعرفت تلك الحقبة بروز الثورة الإيرانية وصعود الحركات اليسارية الماركسية، مما دفع ببعض الشباب المتدين من نسج علاقات والتكتل في جماعات لمواجهة المد الشيوعي الذي كانوا يعتبرونه خطرا على الإسلام والمسلمين، ورغبة في تشكيل معارضة للنظام الذي يحتكر الحقل الديني في نظرهم ويستغله لحسابه كضمان لاستمرارية السلطة وشرعيتها.
كما سبقت الإشارة فانتشار “الجماعات الإسلامية” السرية والعلنية يرجع إلى أوائل السبعينات. وكانت أول جماعة سيتم الكشف عنها هي جماعة اتهمت بتنفيذ عملية اغتيال المحامي “عمر بن جلون” القيادي بحزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” في 18 ديسمبر 1975، حيث كشفت التحقيقات على أن العملية قامت بها مجموعة داخل “جمعية الشبيبة الإسلامية”، وهي جمعية كانت تمارس نشاطها بشكل قانوني في مدينة الدار البيضاء. وقد كان الحزب الاشتراكي أشد المعارضين للنظام الملكي مستهدفا من طرف جهات متعددة، لتزايد شعبيته وتغلغله الجماهيري معتمدا على قواعده الشابة والنشطة، وهو أمر قد يشكل حاجزا أمام قيام حركات أخرى منافسة ترفع لواء الإسلام كغطاء إيديولوجي[1].
لقد انعكس الوضع الدولي وانقسام العالم إلى معسكر شرقي اشتراكي شيوعي بقيادة “الاتحاد السوفييتي” ومعسكر غربي ليبرالي بقيادة الولايات المتحدة، على الوضع داخل المغرب حيث برزت الحركات الطلابية اليسارية والتي تمادت وتطاولت على الدين وهاجمت رموزه، مما أفضى إلى بروز تيار معاكس تمثل في التيار الإسلامي الحركي الذي حاول مزاحمة التيار اليساري في المدارس والجامعات. كما أن ابتعاد رجال الدين وخاصة خطباء الجمعة عن تناول المواضيع السياسية على المنابر واكتفائهم بالحديث عن أحكام العبادات، عجل ببروز تنظيمات دينية متحمسة للدفاع عن الإسلام خارج إطار الإسلام الرسمي الذي تقدمه الدولة.
يتبين من خلال ما سبق أن عمل الجماعات الإسلامية السرية لم يكن موجها في الأساس ضد الدولة والحكومة، بل كانت معارضة ضد المعارضة المتجذرة التي طرحت نفسها بديلا مستقبليا للنظام، كما أدى تورط جمعية الشبيبة الإسلامية في عملية اغتيال القيادي “عمر بن جلون”، إلى حدوث انقسامات داخل الجمعية، والدخول في حرب بيانات ومنشورات بين “فصائلها” من متبرئ ومؤيد للعملية، لينكشف بعد ذلك الارتباطات الداخلية والخارجية لهذه الجماعات على مستوى التوجه والتمويل[2].

  • مرحلة العلنية والمواجهة:

إن أكبر إشكال عانت منه الحركات الإسلامية في المغرب هو أن النظام الحاكم نفسه يقر بإسلامية الدولة، وذلك من خلال دستور المملكة الذي يقول أن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للدولة أو بعبارة أصح أن “المملكة المغربية دولة إسلامية” والإسلام من مقدساتها وثوابتها، إضافة إلى كون الملك هو أمير المؤمنين وهو السلطة الدينية الأولى في البلاد، فالمجالس الدينية وخطب الجمعة لا تخلوا من استحضار ودعاء لأمير المؤمنين الذي يبايعه المغاربة في مراسيم خاصة، والممارسة الدينية لا تخضع لأية قيود من طرف الدولة. فما الأطروحة التي ستقدمها الحركات الإسلامية وكيف سيتقبلها المجتمع المغربي المحافظ على خصوصيته وتقاليده المختلفة عن المشرق مصدر إلهام تلك الحركات الإسلامية.
شهدت سنة 1974 حدثا تاريخيا في عهد الجماعات الإسلامية في المغرب، تمثل ذلك في رسالة بعثها رجل تعليم يسمى “عبد السلام ياسين” عنونها ب”الإسلام أو الطوفان”، يدعو فيها الملك الراحل “الحسن الثاني” إلى التوبة على غرار الخليفة الأموي “عمر بن عبد العزيز”، وأن يعيد ممتلكاته للأمة، وأن يتخلى عن مستشاريه مقابل الالتفاف حول العلماء، وإقامة علاقة مع المحكومين على أساس المبايعة. حيث لم تخلو الرسالة من خطاب شديد اللهجة وخال من اللياقة وأدب مخاطبة الملك، وهو ما اعتبره الراحل “الحسن الثاني” تطاولا غير مقبول كان جزاء صاحبه إيداعه في مستشفى للأمراض العقلية[3].
بعد حادثة رسالة “الإسلام أو الطوفان” وما ترتب عنها من سجن وسراح وإقامة جبرية لصاحبها الراحل “عبد السلام ياسين”، سينال الرجل شهرة واسعة في أوساط الشباب وبعض المتعاطفين من موظفين وكذلك بعض أتباع الزاوية “البودشيشية” الصوفية، التي كان ينتمي إليها “الشيخ ياسين” كما يلقبه أتباع جماعته التي سيؤسسها فيما بعد تحت اسم جماعة “العدل والإحسان” عام 1986[4]. لقد كان لشيخ الجماعة “ياسين” الفضل الأكبر في أخذ مكانتها وسط الحركات السياسية في المغرب، يرجع ذلك لثقافة مرشدها الذي جمع بين رجل الدين الزاهد والكاتب المفكر العارف بأمور السياسة حيث كانت له مؤلفات عديدة نذكر منها، “La révolution à l’heure de l’islam” و”الإسلام والحداثة” وغيرها من المؤلفات التي يتمثل فيها التوجه العام للجماعة والذي يؤمن بشمولية الإسلام كدين وتشريع.
غير أن الجماعة ظلت معزولة عن باقي الفاعلين من الحركات الإسلامية لأسباب متعددة أولها توجهها الصوفي، وهو الأمر الذي لا تقبله بعض الجماعات ذات التوجه السلفي، وكذلك معزولة من طرف الدولة لمعارضتها المعلنة للملكية والدعوة إلى إقامة دولة الخلافة، على الرغم من نبدها للعنف كوسيلة لتحقيق أهدافها السياسية. أمام امتناع الجماعة عن العمل السياسي داخل النظام القائم، ستتجه إلى الجامعة كفضاء من أجل نشر رسالتها والتحريض على النظام بغية جلب المزيد من المنتمين والمتعاطفين، وكذلك مزاحمة باقي التيارات السياسة الناشطة وسط الجامعات خصوصا التيارات اليسارية.
إن تحكم الدولة في المجال الديني بالمغرب، والتعامل مع المسجد بشكل من القدسية وعدم إقحامه في الميدان السياسي، جعل من الجامعات رهانا ليس فقط بالنسبة للفكر اليساري الذي جعل من الجامعة منبره الثوري، بل حتى بالنسبة للتيارات الإسلامية. فالجامعة هو المكان الأرحب لاختبار مواقف المعارضة طالما اختارت التيارات الإسلامية الاصطفاف إلى جانب القوى السياسية المعارضة لنظام الحكم، هكذا تحولت تلك الحركات من الدور الدعوي إلى نهج خطاب سياسي ثوري، حيث ستبدأ بمعارضة اليسار ومواجهته بشكل مباشر داخل الجامعات عوض الظهور كمعارضة ثورية ضد النظام القائم[5].
خلال سنوات 1977-1980 استطاعت الجماعات الإسلامية البروز بشكل قوي داخل الجامعات والمعاهد العليا، محاولة نزع الاعتراف بها كتيار مهم إلى جانب التيارات التقدمية اليسارية الأمر الذي لم يحصل إلا بعد مرور سنوات طويلة. غير أن هناك من يرى بأن الجماعات الإسلامية عرفت تراجعا في سنوات الثمانينات من القرن الماضي، ليس بسبب التضييق الأمني والاستخباراتي الذي مارسته الدولة عليها فقط، على إثر حادث اغتيال “عمر بن جلون”، لكن كذلك بسبب التفتت والتناحر الذي عانت منه لاختلاف مشاربها (صوفية وسلفية وتنظيمات سرية)، وافتقادها إلى زعامات مقبولة وإلى “مشروع فكري سياسي” قادر على استقطاب مختلف الفئات في المجتمع.[6]
إضافة إلى الأسباب السالفة الذكر والتي كانت سببا في خلافات بين الجماعات الإسلامية في المغرب ومانعا لتوحدها، كان الخلاف كذلك حول العمل السري أو الخروج إلى العلن بين كوادر بعض التنظيمات كتنظيم “الشبيبة الإسلامية”، فباستثناء شيخ جماعة “العدل والإحسان” باقي الجماعات لم تكن لها أدبيات فكرية خاصة بها، بل كانت تستورد أدبيات الجماعات المشرقية خصوصا كتابات شيوخ من مصر العربية –سيد قطب الإمام الغزالي ومتولي الشعراوي- والتي كانت كتاباتهم منتشرة بشكل طبيعي في المغرب.
أدت الاعتقالات التي لحقت بالمنتمين لحركة “الشبيبة الإسلامية” وهروب زعيمها “عبد الكريم مطيع” إلى خارج المغرب، إلى بداية الانقسام والانشقاق في صفوف الحركة التي خرج عنها مجموعة من الكوادر كان أبرزهم “عبد الإله بن كيران” و”محمد يتيم” و”سعد الدين العثماني” و”عبد الله باها” و”الأمين بوخبزة” و”عز الدين التوفيق” أواخر سبعينيات القرن الماضي، اللذين سيؤسسون فيما بعد “الجماعة الإسلامية” التي أجرت مراجعة كاملة لمواقف “الشبيبة الإسلامية”، والتخلي عن العمل السري والاشتغال في إطار قانوني بالتركيز على العمل الثقافي والتربوي والاجتماعي، غير أن حصولها على الترخيص القانوني سيأخذ الكثير من الوقت لتوجس السلطات وحذرها من الخطر الذي قد يشكله أي انفلات لعمل الجمعات الإسلامية بصفة عامة[7].
إن في سرد الأحداث والوقائع التي أسست لوجود الحركات الإسلامية أهمية بالغة للمساعدة في فهم المآلات التي آلت إليها هذه الحركات في أيامنا الراهنة، كذلك لمعرفة تطور الخطاب الديني الذي كانت تنتهجه تلك الحركات سابقا وكيف أصبح هذا الخطاب في وقتنا الحاضر، وكيف تعاملت الدولة مع هذه التحولات في الفكر الحركي الإسلامي. فالدولة كذلك لم تقف مكتوفة الأيدي أمام تكاثر الجمعيات الإسلامية سرية أو علنية، حيث سارعت إلى ضبط المجال الديني وتطوير آلياته، والتخلي عن النمط التقليدي الذي كان يتميز به الحقل الديني والذي لم يعد يجدي أمام التطورات الدولية –الثورة الإيرانية، المد الإخواني، المد الشيوعي- والتطورات الوطنية -تصاعد التيار اليساري في الجامعات، ظهور جماعات إسلامية سرية، محاولتين انقلابيتين-.
أمام موجات المد الحركي الإسلامي والشيوعي وغيرها من الأمور التي سبق ذكرها، تحركت الدولة في شخص الملك الراحل “الحسن الثاني” من أجل صد أي محاولة للخروج عن الإطار العام الذي تسطره الدولة في المجال الديني ومؤسساتها الرسمية. فإلى جانب وزارة العدل التي تعنى بالشأن الديني والاهتمام بالمساجد وضبطها حتى لا تتحول إلى ساحة معركة بين مختلف التوجهات والتيارات الدينية، قام الملك الحسن الثاني بتأسيس المجلس “الأعلى للعلماء” والذي أوكل له مهمة التحدث باسم الدولة في المجال الديني والإفتاء وغير ذلك من الأمور الدينية والدنيوية لقناعته بأن الإسلام دين شامل وفيه يجتمع الديني والدنيوي.
السياسة الدينية للدولة كانت تعبر عنها الخطابات الملكية بشكل واضح حيث جاء في إحدى الخطب سنة 1980، بمناسبة اجتماع الملك “الحسن الثاني” برؤساء وأعضاء المجالس العلمية:
“إنكم حضرات العلماء، ولست أدري ولا أريد أن أدري، من هو المسؤول؟ هل أنتم، أم الإدارة، أم السياسة، أم البرامج؟ أصبحتم غائبين عن الميدان اليومي في المغرب… وهذه الغربة نؤدي ثمنها جميعا، لأنه أصبح الإسلام وتدريس الإسلام في الجامعات أو في المدارس الثانوية لا يعدو على أن يكون دروسا لتعليم نواقض الوضوء ومبطلات الصلاة، فأين هو تحليل النظام الاقتصادي والاجتماعي والاشتراكي المحض الصرف الإسلامي؟ … فلي اليقين، حضرات السادة أنكم ستنفخون بروح جديدة في وطننا العزيز…
إن الفرق بين الدين والدنيا غير موجود، وهذا فضل الإسلام الذي جعلنا نبقى نحن المسلمين دائما متمسكين بوحدتنا الإسلامية بالتضامن الإسلامي، هو أننا بقينا نعيش تحت أو في قميص واحد، فيه الدين وفيه الدنيا. فإذا يجب أن تكون مناقشتكم ليست مناقشة علماء أمام حكومة، فالحكومة علماء، والعلماء حكومة، لأن الدين والدنيا مختلطان، واليوم الذي تفرق دولة إسلامية بين دينها ودنياها، فلنصل عليها الجنازة مسبقا”[8]. هكذا كانت نظرة الملك “الحسن الثاني” للدين وعلماء الدين، والذين طلب منهم ملء الفراغ الذي يسمح بترعرع ونشوء دعاة يحملون أفكار دينية دخيلة على المجتمع المغربي.
إن المخاض العسير الذي مرت به الحركات الإسلامية في المغرب منذ بدايات نشأتها، جعلها مضطرة إلى الدخول في مراجعات ونقذ ذاتي حتى تتمكن من الحصول على مكان داخل المجتمع المغربي. كانت البداية بممارسة العمل الدعوي وتأسيس جمعيات تربوية وخيرية، حتى تنصهر وسط المجتمع وتأسس لقواعد شعبية، كما ستنقسم الجماعات الإسلامية حول المشاركة السياسية وكيفية الوصول إلى التغيير الذي تصبوا إليه، حيث كانت هناك دعوات للتغيير من خارج النظام السياسي لعدم إيمانها بالعمل السياسي على الشاكلة الغربية، فيما ستتخذ جماعات أخرى موقفا إيجابيا من المشاركة السياسية.

  • الحركات الإسلامية بين خياري الدعوة والمشاركة السياسية:
  • مرحلة المراجعة الفكرية:

بعد مرحلة من العنف الفكري والسياسي الذي ظهرت به الحركات الإسلامية بداية سبعينيات القرن الماضي والذي تميز بعقلية ثورية. بدأ التخلي عن ذلك الاتجاه والتفكير في العمل داخل المؤسسات ووفق الإطار القانوني بداية الثمانينيات، تلك السنوات التي ستعرف تحولا جذريا في فكر الحركات الإسلامية في المغرب، حيث ستسلك هذه الحركات طريق الوسطية والاعتدال، من أجل بناء مشروع حضاري سلمي تستطيع من خلاله كسب القبول من طرف مختلف الحساسيات السياسية.
إن المرجعية التي ارتبطت بها أغلب الحركات الإسلامية ترجع إلى جذور واحدة، وبناءها التنظيمي ومنطلقاتها الفكرية ارتبطت بداية ب”جماعة الإخوان المسلمين” ومؤسسها “حسن البنا”، وكذلك الجماعة الإسلامية الباكستانية ومؤسسها “أبي الأعلى المودودي”. وسيكتمل هذان التأثيران بفعل تأثير “سيد قطب” الحركي والفكري، ونجاح الثورة الإيرانية، كل ذلك شكل مرجعية أساسية للحركات الإسلامية في المغرب خصوصا “حركة الشبيبة الإسلامية”. غير أن بعض أعضاء هذه الحركة سينقلبون ويتبرؤون من منهجها “القطبي”، والذي يقوم على خيار الانقلابية والعنف، وسيتبنون منهج السلم والوضوح التنظيمي[9].
قرار المشاركة السياسية للحركات الإسلامية من عدمها ستعبر عنه بشكل صريح مواقف جماعتين إسلاميتين رئيسيتين في المغرب، هما جماعة “العدل والإحسان” لمؤسسها الشيخ “عبد السلام ياسين”، و”حركة التوحيد والإصلاح” التي أسسها المنشقون عن حركة “الشبيبة الإسلامية”، وسينبثق عنها بعد ذلك حزب “العدالة والتنمية” الحاكم اليوم في المغرب لولاية ثانية، رغم المرجعية الإسلامية للحركتين إلا أن كلا منهما  اتخذ طريقا مغايرا ومنهجا خاصا لاختلاف ظروف النشأة وكذلك الأهداف بل حتى المشارب، فالأولى لها مشرب “صوفي” والثانية امتداد للفكر “الإخواني” ويلتقيان في مسألة نبذ العنف والوسطية والاعتدال، كذلك هناك حركة “البديل الحضاري” التي ستتحول إلى حزب سيكون لها مواقف مختلفة من المشاركة السياسية سنأتي على ذكرها لاحقا.
التيارات السلفية ليس لها تأثير كبير في مسألة العمل السياسي أو تأثيرها ليس كالحركات السالفة الذكر، فالسلفية التقليدية تتشبث بالبقاء تحث إمرة ولي الأمر وترى في الخروج عليه معصية وفتنة للمسلمين، وذلك تماشيا ومنهج الحركة السلفية في المشرق العربي أو ما يصطلح عليه بتعبير “الحركة الوهابية”. لكن الجماعات التي ستظهر فيما بعد في إطار ما يعرف “السلفية الجهادية”، والتي تتبنى العنف كوسيلة للتغيير وبناء دولة الخلافة و”تكفير” كل ما هو قائم من نظام سياسي لعدم التزامه بتطبيق الشريعة، ستعرف مواجهة مغايرة من طرف الدولة عكس التعامل مع الحركات الإسلامية المعنية في هذه الدراسة، حيث ستتخذ الدولة إجراءات أمنية ومخابراتية لمواجهتها وقد تطرقنا لذلك في دراسات سابقة.
إن استعمال النظام السياسي في المغرب لوسائل الضبط في المجال الديني والسياسي للسيطرة عليه وتحصينه ضد المتدخلين، نجد مقابله نزوع قوي من طرف الحركات الإسلامية لإيجاد موقع داخل الساحة السياسية، فتعاملها مع الإسلام لم يكن باعتباره موروث ثقافي أو عقيدة تختص في الأحوال الشخصية، بل كان نضال تلك الحركات من أجل إعادة الدور التاريخي والحضاري للإسلام في أفق تحقيق معالم دولة إسلامية. إلا أن الاختلاف بين الحركات الإسلامية سيكون حول ماهية هذه الدولة الإسلامية وطبيعتها وكيف يمكن الوصول إليها في علاقة مع الواقع السياسي، حيث سيبرز موقفين أو اتجاهين في هذا الشأن[10]:

  • الاتجاه الأول: تمثل في ممارسات الإسلام السياسي الاحتجاجي، وهو الذي سلكته كل من حركة الشبيبة الإسلامية وجماعة العدل والإحسان.
  • الاتجاه الثاني: تمثل في ممارسات الإسلام السياسي المندمج والذي ستتبناه كل من حركة “التوحيد والإصلاح” وحركة “البديل الحضاري” قبل أن تتحول الحركة الثانية إلى حزب سياسي.
  • الحركات الإسلامية اختلاف المرجعية والخطاب:

إن حركات الإسلام السياسي في المغرب انقسمت حول الكثير من الأمور التي كانت محددا حاسما حول ممارستها السياسية، فالاختلاف الأول كان حول فهم كل منها للدين الإسلامي فالاختلاف في الفهم سيحيل إلى الاختلاف في التطبيق، والنظرة للإسلام هي التي تعطي فكرة حول الرؤية المستقبلية لكيف ستكون الدولة الإسلامية المنشودة، أي بمعنى آخر أن اختلاف نقطة الانطلاق سيؤدي إلى اختلاف المسار ولو أن نقطة الوصول واحدة وهي الوصول إلى تحقيق الدولة الإسلامية المنشودة. كل تلك الأمور ستضطرنا إلى إلقاء نظرة حول كل جماعة أو حركة من الداخل، ومرجعياتها الفكرية والسياسية وكيف تم المزج بين ما هو إسلامي وسياسي أو التفريق بينهما باعتبار أن الأول أمر رباني خاص بين العبد وربه والثاني دنيوي من حق جميع الأطياف والتيارات المشاركة فيه دون فرض منهج معين.

  • الشبيبة الإسلامية:

لقد كان ظهور “الشبيبة الإسلامية” بمثابة الانطلاقة الأولى التي حررت وجود حركات التيار الإسلامي بالمغرب، حيث كان ذلك الظهور انسجاما مع سياق عربي ودولي برزت فيه العديد من التيارات السياسية، كالتيار “الناصري” الذي زحف نحو العديد من الدول العربية والتيار “اليساري الشيوعي” الذي تأثرت به مجموعة كبيرة من الطبقات المثقفة والتي عانت من ظلم طبقي ومجتمعي من طرف الأنظمة السياسية الحاكمة، حيث أراد مجموعة من الشباب المتشبع بالفكر الإسلامي إيجاد موقع على الساحة السياسية وسط تلك التيارات بل كانت بعض الدول تشجع على ظهور هكذا تيارات من أجل محاربة المد “اليساري الشيوعي”.
تأسست “الشبيبة الإسلامية” سنة 1969 على يد مؤسسها “عبد الكريم مطيع”، كرد فعل طبيعي في مجتمع مسلم يحاول تجديد نفسه كل حين بالرجوع إلى أصالته وعقيدته النابعة من محكم الكتاب ونصوص السنة النبوية الكريمة، حيث تم الترخيص لها بالإعلان الرسمي واتخاذ المراكز، ودعوة الشباب وتربيتهم، واستطاعت جمع الشباب ودعوتهم للالتفاف حولها وتربيتهم على أسس الكتاب والسنة، باستعمال وسائل متعددة كالدروس والمحاضرات الدينية والندوات وكذلك رحلات وأنشطة اجتماعية وثقافية، حيث يقول مرشد الجماعة عن هذه المرحلة أنها كانت تهدف إلى إعادة التربية وتنقية الروح، وأن الحركة نجحت في ذلك المجال وحققت نتائج طيبة، بتراجع كثير من التيارات المنحرفة، والاتجاهات الهدامة، وتناقص حدة هجومها على مقدسات الأمة وقيمها، وبدأت بين الشباب من جميع طبقات الأمة نماذج نظيفة القلب واليد واللسان والسلوك لرفعة الأمة وعزة دينها[11].
ما مكن استنتاجه من خلال الطريق الذي سلكته الجمعية في بدايتها، أن الطريقة المثلى للتموقع وتثبيت الأقدام داخل المجتمع هي الاشتغال أولا وقبل كل شيء على الشق الروحي وملء الفراغ الوجداني الذي كان يشعر به الشباب المغربي في تلك الحقبة، والإجابة على تساؤلاته المشككة في الدين نتيجة انتشار أفكار “شيوعية” لا تؤمن بدين ولا اله، فكان التركيز على الدعوة إلى التربية على العقيدة الصحيحة والرجوع إلى الله وحماية الشباب من سموم المد “الشيوعي”، دون أي خلط أو إثارة لقضايا سياسية قد تشكك في مسعى الجمعية.
لقد كان للحركة موقف سلبي من الحزبية والمشاركة السياسية، لاعتبار أن الإسلام أكبر من أن يحجم في حزب سياسي وهو دين شامل جامع وخاتم، كذلك وضع الإسلام في هيكلة حزب سياسي وله أعضاء يتحدثون باسمه يمكن أن يفضي إلى نظام كهنوتي متعارض مع مبادئ وتعاليم الإسلام. الحركة كذلك كما يقول مؤسسها لم تكن تريد الفتنة بتشكيل حزب سياسي إسلامي، فالدولة هي التي تمثل الإسلام وهي منبره الرسمي والشرعي الذي يحميه ويقوم بأمره، ولا ينبغي أن يكون للإسلام منبران في بلد واحد، وأن الإسلام لجميع المغاربة ولا يجب أن تحتكره جماعة أو فئة معينة[12].
إن هذه الأفكار يمكن أن تعتبر بمثابة مراجعة لخروجها في تصريحات حديثة لمؤسس الحركة “عبد الكبير مطيع”، فالمواقف التي تبنتها الحركة ضد اليسار والنظام، وكذلك الخروج عن الإجماع الوطني حول مغربية الصحراء والذي كانت تتوحد حوله جميع الحساسيات السياسية في المغرب، كل ذلك كان يشير إلى الاتجاه الصدامي والثوري الذي اختارته الحركة، بدليل انشقاق مجموعات من كوادر الحركة وتأسيسها لجمعيات وحركات أخرى تعلن من خلالها التوبة، والعمل في إطار القانون وداخل النظام السياسي للدولة.

  • جماعة العدل والإحسان:

عمل “عبد السلام ياسين” على تأسيس جماعته بمفرده بداية من عام 1974 حتى عام 1981، في مرحلة أسماها ب”جهاد الكلمة والنصح لأئمة المسلمين”، حيث سيقوم في ذلك الإطار بمراسلة الراحل “الحسن الثاني” في الرسالة المعنونة ب”الإسلام أو الطوفان” -التي سبق ذكرها-، حيث سيتجه بعد ذلك إلى محاولة توحيد الجهود بين مختلف مكونات الحركات الإسلامية، غير أن هذه الدعوة لن تلقى صدى لاختلاف الرؤى والمواقف السياسية. فالجماعة تسعى من خلال مؤسسها إلى تأسيس دولة الخلافة، وتؤمن بشمولية الإسلام كدين للدعوة والدولة[13].
إن الحديث عن فكر جماعة العدل والإحسان هو حديث عن فكر مؤسسها ومرشدها “عبد السلام ياسين”، حيث لا يمكن إنكار تأثيره على الجماعة والمنتمين إليها بواسطة كتاباته التي كانت بمثابة دستور للجماعة، والتي كانت غزيرة بالنظر إلى الإقامة الجبرية التي كان يخضع لها داخل المغرب وساعده على ذلك تكونه الأكاديمي كونه كان إطارا بوزارة التربية الوطنية آن ذاك، فهو كان يجمع بين الفكر الماركسي فيما يخص التباين الطبقي داخل المجتمع، والفكر الإسلامي فيما يخص طريقة الحكم وكيف يجب أن يكون أمير المؤمنين.
تعرف الجماعة نفسها بالقول أنها حركة مجتمعية مهمتها “الدعوة إلى الله”، وتسعى أن تكون من “المجددين الذين يبعثهم الله إلى الأمة كل مائة عام”، وأن السياسة لا تشكل إلا بعضا من اهتماماتها، مقابل ذلك تقول أنها تعارض الحاكم لخروجه عن الإسلام وتخريبه للدين وبيع الأمة، إلى غير ذلك من الاتهامات التي تدعي الجماعة أنها تعارض من أجل تغييرها [14]. فالملاحظ أن الجماعة تحاول إضفاء صبغة الدعوة ونبذ العنف على ممارستها وأنشطتها بعيدا عن السياسة أو مع القليل منها، غير أن معارضة رأس النظام السياسي والدعوة إلى تغييره هي لب السياسة وأخطر ما فيها، وبالتالي يمكن استنتاج أن الدعوة إلى الله والعمل بالإحسان وكل الأنشطة التربوية والروحية للجماعة، ما هي إلا مدخل لغرس جذورها في المجتمع والتأسيس لقاعدة تستند عليها من أجل تحقيق مآرب سياسية وغايات معينة.
بعد وفاة زعيم الجماعة أو إمامها المجدد كما يطلق عليه أنصاره بتاريخ 13 ديسمبر 2012 سيخلفه “محمد العبادي” كأمين عام للجماعة، مؤكدا على بقاء التنظيم على نهجه المعارض للنظام ونبذه العنف ومستمرا في البحث عن دولة الخلافة المنشودة، لكن الملاحظ أن “جماعة العدل والإحسان” في السنوات الأخيرة بدأ نجمها ينطفئ فمنذ احتجاجات عام 2011 التي تزامنت مع ثورات “الربيع العربي”، والتي اتهمت فيها الجماعة بتأجيج تلك الاحتجاجات مع باقي مكونات الحراك السياسي آن ذاك والذي تمثل فيما سمي حركة “20 فبراير” المحسوبة على اليسار، أصبح ظهور الجماعة مقتصرا على مساندة الاحتجاجات التي تقوم من الحين للآخر عقب أي حدث سياسي أو اجتماعي يثير الرأي العام المغربي ولو بشكل غير رسمي ومعلن من طرفها، في انتظار دخول الجماعة في المشاركة السياسية القانونية بتأسيسها لحزب سياسي أو التخلي عن السياسة والتفرغ للعمل الدعوي، وهو الأمر الذي ظلت ترفضه باعتبار الفصل بين الدين والسياسة هو فصل بين الدين والدولة وهو “رجوع إلى الجاهلية الأولى”.

  • حركة البديل الحضاري:

تعتبر حركة البديل الحضاري كذلك من الحركات المنبثقة من رحم الشبيبة الإسلامية، حيث يعتبر مؤسسيها من أطر تلك الحركة والمنتمين إليها سابقا قبل أن ينشقوا عن حركة “عبد الكريم مطيع”، وذلك لاختلاف الرؤى والتوجهات حيث اتهم مؤسسي حركة البديل الحضاري وأبرزهم: مصطفى المعتصم، الأمين الركالة، مصطفى المسعودي، زهير البريني، اتهموا بتبني التوجه اليساري الثوري أكثر من التوجه الإسلامي. كما ستكون الحركة السباقة إلى التحول إلى حزب سياسي إسلامي كتحول مباشر، حزب إسلامي منفتح على جميع التيارات السياسية من أجل تحقيق ديموقراطية حقيقية.
لقد ارتبط تأسيس “البديل الحضاري” كحركة إسلامية، بسياق دولي وجهوي ومحلي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حيث تميزت تلك الحقبة بانهيار “الاتحاد السوفياتي” واندلاع حرب الخليج بداية التسعينيات، وكذلك تميزت تلك المرحلة بإجهاض التجربة الإسلامية في تونس 1989 والجزائر 1992، بعد تحقيقهما نتائج متقدمة في مشاركتهما السياسية. كما أن السياق المحلي كان ينذر بالعديد من التشنجات السياسية والاقتصادية، واتساع رقعة الفوارق الاجتماعية نتيجة انهيار سياسة “التقويم الهيكلي” التي كان ينهجها المغرب. تأسست الحركة على مبادئ أهمها[15]:

  • الحركة الإسلامية اجتهاد في دائرة الإسلام.
  • الحركة الإسلامية طليعة الأمة في معركة التغيير.
  • الحركة الإسلامية صاحبة مشروع مجتمعي.

بعد سنوات من العمل داخل حركة البديل الحضاري، سيفكر مؤسسيها في التحول إلى حزب سياسي منفتح، بمرجعية إسلامية تعتبر العملية السياسة قائمة على أمرين: التنوير والتحرير، فالأول قائم على نشر الوعي والمعرفة والارتقاء إلى مكارم الأخلاق، والثاني ينبني على التفعيل العلمي لقيم المواطنة على أرض الواقع. فالسياسة شأن عام لا يجب أن تحتكر من طرف أحد، والسلطة ليست غاية في حد ذاتها بل وسيلة لتحقيق ذلك التنوير والتحرير[16]. غير أن مغامرة الحزب لن تكتمل، بسبب حله من طرف وزارة الداخلية المغربية سنة 2008، طبقا لمقتضيات الفصل 57 من الدستور السابق والمتعلق بالأحزاب السياسية، رغم استرجاع الحزب لقانونية اشتغاله بعد خوض معركة المحاكم الإدارية إلا أن الحديث عن مشاركته السياسية وتأثيره في الحياة السياسية المغربية لم يكن له صدى كبير.

  • حركة التوحيد والإصلاح:

تعرف حركة التوحيد والإصلاح نفسها كما جاء على موقعها الرسمي، على أنها حركة دعوية تربوية على منهاج أهل السنة والجماعة، يرتكز عملها في مجال الدعوة الإسلامية عقيدة وشريعة وقيما وأدبا، من أجل الالتزام بمقتضيات الإسلام وإقامة أركانه وأحكامه على صعيد الأفراد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة. كما تقوم رسالة الحركة على الإسهام في إقامة الدين وتجديد فهمه والعمل به، وبناء نهضة إسلامية رائدة وحضارة إنسانية راشدة، في إطار حركة دعوية تربوية وإصلاحية معتدلة وشورية وديمقراطية، تعمل وفق الكتاب والسنة. تسلك الحركة من أجل تحقيق أهدافها منهاج التدرج والحكمة والموعظة الحسنة، والتدافع السلمي والمشاركة الإيجابية والتعاون مع جميع الهيئات على اختلافها[17].     
تأسست حركة التوحيد والإصلاح سنة 1996م بعد اندماج كل من “حركة التجديد والإصلاح” و”رابطة المستقبل الإسلامي”[18]، وتعد الحركة في نسختها الأخيرة نتاج مجموعة من التحالفات لجمعيات مختلفة كانت تعمل في الحقل الدعوي، منها جمعيات أسسها خريجو المدرسة الأولى “الشبيبة الإسلامية” وأخرى حديثة التكوين. فالحركة التي تشتغل بشكل علني ووفق القوانين المغربية تعد الأكثر تنظيما والمنافس الأول ل”جماعة العدل والإحسان” في مجال الاستقطاب والدعوة، مع اختلاف التوجه والرؤية لكل منهما.
تختلف الحركة في رؤيتها حول بناء الدولة الإسلامية عن باقي الحركات خاصة جماعة “العدل والإحسان”، كون الوصول إلى ذلك الهدف يبدأ ببناء الإنسان المسلم قبل أي شيء، فالحركة قطعت مع زمن “الشبيبة الإسلامية” والفكر الثوري الذي كانت تحمله، عبر مراجعات فكرية مبنية على التدرج في الإصلاح والبدء بالقاعدة وإيلاء أهمية للفرد والأسرة. كما حاولت الحركة الحفاظ على خصوصيتها المغربية وأخذ مسافة مع التيارات الإسلامية الموجودة في العالم العربي، خصوصا من ناحية مطلب “إقامة دولة الخلافة” أو “الدولة الإسلامية”، على اعتبار أن إمارة المؤمنين في المغرب تستمد شرعيتها من البيعة وتلقى إجماعا من المغاربة، وبالتالي فالمشكلة ليست مشكلة نظام سياسي بل هي مشكلة تخليق الحياة العامة، واستحضار الهوية الإسلامية وزرع مبادئها داخل الأسر المغربية.
ج-الحركات الإسلامية بين الدعوة والسياسة:
رغم المراجعات الفكرية للحركات الإسلامية في المغرب والادعاء بكونها حركات دعوية هدفها التهذيب والتربية على القيم والمبادئ الإسلامية، إلا أن السياسة شكلت جزءا هاما من انشغالاتها. فإن كانت جماعة “العدل والإحسان” تقر في أدبياتها بعدم فصل الدين عن السياسة، وأن هدفها هو إقامة الدولة الإسلامية التي لا يمكن تحقيقها في ظل النظام الحالي، مقابل ذلك نجد أن “حركة التوحيد والإصلاح” منفتحة أكثر على جميع القوى الفاعلة في المجتمع.
في مقابلة له مع قناة الجزيرة القطرية، قال الدكتور “أحمد الريسوني” -أحد أبرز قادة حركة “التوحيد والإصلاح” وأـول رئيس منتخب للحركة سنة 1996-، أن أهم ما يميز الحركة هو اندفاعها للانفتاح على كل مكونات المجتمع والبلد، وجميع القوى الفاعلة فيها، للتفاعل وللتفاهم أكثر وللتأثير، حيث لا تخفي الحركة أنها تريد أن يكون لها تأثير على الأحزاب، وعلى الثقافة السياسية، والمسائل الفكرية، يضيف الدكتور “الريسوني” بالقول: “أن هذا الانفتاح على المجتمع يبدو غائبا في جماعة العدل والإحسان التي تعتمد العمل التربوي الداخلي المركزي”. فحركة التوحيد والإصلاح حسب رئيسها السابق تقول أن السياسة والعمل السياسي ليس من أولوياتها، وأن مهمتها الأساسية هي صناعة الإنسان المسلم[19].
إن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها حول عمل الحركات الإسلامية في المغرب هو عدم تمكنها من التفريق بين الدعوة والسياسة، وعدم تمكنها من إيجاد مقاربة ناجعة للتوفيق بين خطابها الديني وخطابها السياسي دون الدخول في حالات التنافي، فجماعة “العدل والإحسان” تعلن صراحة دعوتها إلى قيام دولة الخلافة وعدم إمكانية فصل الدين عن السياسية أو السياسة عن الدين، غير أن حركة “التوحيد والإصلاح” لها لبس مفاهيمي في هذا الشأن أو أنها لا تريد التعبير عنه بصراحة، فإذا قبلنا الادعاء بكون أن الحركة هي تسير على منهج أهل السنة والجماعة فهذا يمكن فهمه من الناحية التربوية والتعبدية، لكن اللبس يبقى في قبول الحركة بالتشريع الوضعي وما يحمله من مجالات شاسعة قد تصطدم بالتشريع الإسلامي. وقد حدثت سابقة في هذا الشأن فيما عرف ب”الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية” عام 1999 والتي كانت تريد تغيير مدونة الأحوال الشخصية من مرجعيتها الإسلامية والتي كانت معتمدة بالكامل على المذهب المالكي في شقه المتعلق بالأحوال الشخصية، إلى اعتماد مقررات “مؤتمر بكين للمرأة” لعام 1995، الأمر الذي عارضته الحركات الإسلامية بقوة وصلت إلى حد تنظيم مسيرات مؤيدة ومعارضة للخطة، كما لا يمكن إخفاء أن الدولة لم تكن متحمسة لتلك الخطة وقد كان أول من عارضها هو وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في ذلك الوقت “د.عبد الكبير المدغري”، حيث عرض الأمر على التحكيم الملكي بصفته أميرا للمؤمنين وعين لجنة استشارية رفعت تقريرها لأمير المؤمنين بعد مشاورات مع جميع الحساسيات السياسية في المغرب، الأمر الذي أفرز لنا “مدونة الأسرة” في شكلها الحالي والتي تتماشى والمذهب المالكي.
إن المثال الذي ذكرنا أعلاه يبين أنه لا اختلاف على الممارسات الدعوية للحركات الإسلامية خصوصا في شقها التعبدي، لكن عند الدخول في الشق السياسي هنا يبدأ الالتباس حول نظرة الحركات للدولة التي لا تعتمد التشريع الإسلامي غير أنها في نفس الوقت هي معلنة للإسلام أنه دين الدولة. فالسؤال المطروح عند التقاء الديني بالسياسي هو: هل الدولة الحديثة بمؤسساتها التشريعية والدستورية والأمنية الحالية تنفي عنها صفة الدولة الإسلامية؟ أم أن تمثل دولة الخلافة عند الحركات الإسلامية يتطلب تغييرا جذريا وقطيعة مع كل أشكال الدولة المدنية الحديثة؟
لقد شكل خيار المشاركة السياسية خلافا سياسيا وإيديولوجيا بين مختلف تيارات الحركة الإسلامية، وذلك من حيث جدوى هذه المشاركة والتوافقات التي ستحددها، كما أحدث أمر المشاركة جدلا فقهيا بين منظري هذه الحركات حول شرعية العمل السياسي، على اعتبار أنها من المسائل العقائدية الثابتة والقطعية في الدين، التي يحرم الاختلاف حولها؟ أم أن خيار المشاركة هو مسألة اجتهادية تقوم على مبدأ الموازنة بين المصالح والمفاسد؟[20]
إن “حركة التوحيد والإصلاح” قبل اختيارها طريق المشاركة السياسية، قامت بمراجعات كبرى للأسس التي استندت عليها من الناحية المذهبية، والسياسية، وذلك حتى تتماهى مع اختيارات النظام وتتعايش مع مختلف مكوناته، ساعد على تبني هذا النهج الإصلاحي “لحركة التوحيد والإصلاح”، اختلاف قياداتها وتنوع مكوناتها، الأمر الذي انعكس على أدبياتها وفكرها بالإيجاب حتى تتمكن من التحلي ب”براغماتية سياسية”. حيث ارتكزت الحركة خلال مراجعاتها على مجموعة من الاجتهادات الفقهية لتبرير مشاركتها السياسية وإبراز مدى شرعيتها، ومن أبرز القواعد التي استند عليها أحد القيادات البارزين في الحركة “سعد الدين العثماني” وهو من دعاة المشاركة السياسية استنباطا من فقه “ابن تيمية” في إطار التعامل السياسي[21]:

  • لا دعوة بدون فقه، ذلك أنه من بديهيات الشرع أن يجعل العلم شرطا لكل عمل صالح.
  • العمل السياسي مجال حكم ومقاصد لا مجال تعبد.
  • العمل السياسي مجال للاجتهاد واختلاف الآراء.
  • العمل السياسي مجال لترجيح الراجح من المصالح ودرء المفاسد.

لقد استطاعت “حركة التوحيد والإصلاح” تدبير أمر مشاركتها السياسية بذكاء كبير، ويمكن الاعتراف أنها أحسنت التعامل مع الوضعيات والربط بين السياقات الداخلية والخارجية في كل خطوة يمكن أن تخطوها، حيث تجاوزت مسألة عدم السماح بتأسيس أحزاب تقوم على أساس ديني ورفض السلطات لتأسيس حزب إسلامي بانضمام أعضاء من الحركة إلى أحزاب سياسية قائمة، لكن ذلك الانضمام كان بصفتهم كأفراد على أساس أنهم مواطنين لهم الحق في الممارسة السياسية بالانتماء لأي حزب يناسب توجهاتهم الإيديولوجية والسياسية فوقع الاختيار على “حزب العدالة والتنمية” الذي كان يتزعمه الراحل الدكتور “عبد الكريم الخطيب”.

  • المشاركة السياسية للإسلاميين في المغرب والوصول إلى السلطة:
  • التيار الإسلامي والبحث عن الحاضنة السياسية:

ستتبلور معالم إنشاء حزب سياسي إسلامي في بداية تسعينيات القرن الماضي، كان ذلك سنة 1992 حيث عبرت وزارة الداخلية عن رفضها القاطع لهذا الأمر. حيث اتجه شباب التنظيمات الإسلامية إلى حزب “الدكتور الخطيب” بعد أن أبانوا عن حس “براغماتي” خصوصا شخص “بنكيران”، الذي كان يتزعم المجموعة الراغبة في الالتحاق وهو الذي كان يتمتع بمرونة وسلاسة ولا يجد عيبا في الانحناء حتى مرور العاصفة. كما أن اختيار الحزب لم يكن اعتباطيا أو بمحض الصدفة، وذلك لما تتمتع به شخصية زعيمه “الخطيب” من رمزية ودلالات، فهو شخصية مقربة من القصر ومتشبث بالعرش والنظام الملكي، كان مقاوما ارتبط اسمه “بنلسن مانديلا”، رجل تقي متدين وترأس أول برلمان مغربي[22]. هكذا سيضمن ثلة من الشباب الإسلامي حاضنة سياسية سيتمكنون من خلالها الدخول غمار العمل الحزبي من بوابة حزب “العدالة والتنمية” الذي أصبح حاليا حزبا سياسيا بنكهة إسلامية.
لقد أصبح حزب “العدالة والتنمية” الحزب الممثل للإسلاميين في المغرب أو على الأقل ممثل لفئة كبيرة منهم، بل أن هناك من يدعي أنه حزب سياسي إسلامي منذ تأسيسه كما صرح الدكتور “أحمد الريسوني” الرئيس السابق ل”حركة التوحيد والإصلاح” في إحدى المقابلات مع قناة الجزيرة القطرية حيث قال : “من خلال شخص مؤسس وزعيم الحزب “الدكتور عبد الكريم الخطيب” يتضح أن الحزب حزب إسلامي، فالدكتور الخطيب معروف بتدينه حتى بمظاهره الإسلامية، معروف بأنه من أكبر مناصرين الجهاد الأفغاني، ومن مناصري المسلمين في “البوسنة والهرسك” … فالطابع الإسلامي لزعيم الحزب وأدبيات الحزب ووثائقه التأسيسية واضحة وكاملة، ولم نحتج إلى تطويرها…”[23].
لقد استطاع كوادر حركة “التوحيد والإصلاح” المنضمون لحزب “العدالة والتنمية” ضخ دماء جديدة في الحزب، الذي سيصطف في صف المعارضة السياسية، حيث سيعرف الحزب في حلته الجديدة مسيرة سياسية متقلبة ومحطات فارقة. فبعد أن ثبّت الحزب أقدامه في المشهد السياسي المغربي وتطبيعه مع السلطات المغربية، بدأ رحلته الانتخابية سنة 1997 حيث حصل على عدد قليل من المقاعد في البرلمان بحكم أنه لم يغطي سوى نسبة قليلة من الدوائر الانتخابية، إلا أن حصول الحزب على 42 مقعدا في انتخابات سنة 2002 وتموقعه في المركز الثالث سيكون بمثابة المفاجأة الكبرى في المشهد السياسي المغربي.
عرفت المرحلة الثانية من المشاركة الانتخابية لحزب “العدالة والتنمية” بعد سنة 2002، حادثة كادت تعصف بالحزب وطموحاته السياسية، تمثلت هذه الواقعة في العمليات الإرهابية التي حدثت يوم 16 مايو 2003، حيث انتقد الحزب واتهم باللعب على الحبلين واحتدت وتيرة الهجومات من قبل وسائل الإعلام المؤثرة وأقلام “استئصالية”، الشيء الذي أشعر الحزب بالخطر الذي يتهدد مستقبله فبادر بالتخلص من العناصر المزعجة فيه. كما حدثت تغييرات جوهرية في هياكل الحزب بخلافة “سعد الدين العثماني” ل”عبد الإله بن كيران” على رأس الحزب، وإقالة “مصطفى الرميد” من رئاسة الفريق البرلماني، ودفع “أحمد الريسوني” إلى الاستقالة من رئاسة حركة “التوحيد والإصلاح”. فكان الدكتور “الخطيب” هو الوحيد الذي واجه هذا التحدي والهجوم على الحزب من قبل من أسماهم ب”الحداثيين والديمقراطيين” المهيمنين على إيديولوجية السلطة، وهو التعبير الذي كان يطلق على آلة الحرب ضد “الإسلاميين المعتدلين” الذين كبحوا جماحهم في انتظار هدوء الأجواء[24].
من خلال ما سبق نستنتج العلاقة الوطيدة التي بنيت بين حزب “العدالة والتنمية” وحركة “التوحيد والإصلاح”، وإلا فما علاقة استقالة رئيس الحركة بالتغيرات التي وقعت في الحزب؟ حيث بدأ يتضح أن الحركة بدأت تشكل الذراع الدعوي للحزب وقاعدته الانتخابية، هذا الأمر أصبح يشكل إحراجا للحزب وعائقا أمامه فيما يخص علاقته بباقي الأحزاب السياسية من حيث التحالفات والعمل الحزبي المشترك، وذلك لاتهام الحزب بالأصولية والتطرف بل تعالت بعض الأصوات إلى حلّ الحزب، وهنا وجب التذكير بالموقف البطولي لحزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” الذي كان معارضا لحلّ حزب “العدالة والتنمية” وسانده سياسيا نصرة للديمقراطية. فتلك الاتهامات التي كيلت للحزب كانت كلها أو جلها مترتبة على مواقف حركة “التوحيد والإصلاح” وتصريحات قادتها.
لقد عرفت تجربة المشاركة السياسية للإسلاميين في المغرب خلال السنوات الثماني التي سبقت الحراك الشعبي تحديات كثيرة، حيث أطر هذه الفترة منطق إضعاف الحزب وتحجيم دوره السياسي مع هاجس ضبط التوازنات الحزبية، غير أن انتخابات عام 2007 ستكون بداية قلب التوازنات الحزبية بالنظر إلى النتائج التي ستسفر عنها، وذلك بتراجع أحزاب عريقة وتقهقرها مقابل احتفاظ حزب “العدالة والتنمية” بعدد المقاعد المحصل عليها في الانتخابات السابقة، مما سينذر الوسط السياسي بالزحف الإسلامي القادم سياسيا وهو ما تحقق في استحقاقات 2011 بعد موجة الحراك الشعبي التي عرفها المغرب، حيث سيقود حزب إسلامي لأول مرة في تاريخ المغرب حكومة البلاد وذلك بتبني شعار الإصلاح والحفاظ على الاستقرار تحت ظل المؤسسة الملكية[25].

  • التيار الإسلامي وتحدي الوصول إلى السلطة:

مرت الولاية الأولى لحزب “العدالة والتنمية” كأول تجربة للإسلاميين في الحكم بعد تفضيلهم الانذماج الكلي سياسيا والتطبيع مع السلطة بشكل كامل عوض الانضمام للشارع ومساندة الحراك الشعبي، وهو أمر اختلف فيه قادة الحزب بين مؤيد لهذا الحراك وتيار آخر يؤمن بالتغيير من الداخل من أجل الحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني للمغرب. على العموم دخلت “العدالة والتنمية” غمار السلطة وترأست الحكومة، وعقد عليها شريحة كبيرة من المجتمع المغربي الأمل في إصلاح ما تم إفساده من الحكومات السابقة وسوء تدبير على اعتبار نظافة يدهم لعدم مشاركتهم في أي حكومة من قبل، كما أن هناك شريحة أخرى رأت في ذلك ركوب على موجة الحراك الشعبي وأنه لولا ذلك لما استطاع الإسلاميون الوصول إلى الحكومة.
حسب الباحث “بلال التليدي” فمسار المشاركة السياسية للإسلاميين في المغرب حكمتها محددات ثلاث[26]:

  • المحدد الأول: يتعلق بالحركية التي أفرزتها مختلف القوى السياسية للتأثير في علاقة الإسلاميين بالمؤسسة الملكية، فحالة التذبذب وعدم الاستقرار في مسار المشاركة السياسية للإسلاميين كانت نتيجة تقاطع خيار التقارب والثقة الذي ينتجه الإسلاميون وبين خيار التوجس الذي تنتجه بعض القوى المؤثرة في محيط القرار، غير أن المؤسسة الملكية تميل غالبا إلى خيار التطبيع السياسي مع الحركة الإسلامية.
  • المحدد الثاني: يتعلق بالمناخ السياسي المحلي والإقليمي، فبعد الانتقال السلس للعرش في المغرب فرضت الظرفية توسيع فضاء المشاركة السياسية للإسلاميين، كذلك ما أفرزه الحراك الشعبي من توجه دولي إلى إشراك الإسلاميين في عملية التحول السياسي في الوطن العربي. استغلال تفجيرات الدار البيضاء لتحجيم دور الإسلاميين والتأثير على مشاركتهم السياسية بدل مراجعة خيار إشراكهم.
  • المحدد الثالث: يتعلق بالسلوك السياسي للإسلاميين ونوع الخطاب الذي تبنوه في المراحل السياسية السابقة، وذلك بتفادي السقوط في أخطاء التجربة اليسارية وتبني خيار المنهج الإصلاحي التراكمي ضمن إطار الاستقرار السياسي، وعدم السقوط في نزاع مع المؤسسة الملكية رغم الخوض في معارك مع الفرقاء السياسيين، غير أن السلوك السياسي للإسلاميين سيتطور مع الانتقال من المعارضة إلى ترأس الحكومة، والتحول من تبني أطروحة النضال الديمقراطي إلى تبني أطروحة الشراكة في البناء الديمقراطي مع المؤسسة الملكية وبقية الفرقاء السياسيين، والنأي عن استغلال الموقع الحكومي من أجل “تحزيب” الإدارة والمؤسسات وذلك بترسيخ الشراكة مع الفاعلين السياسيين.

لقد حاول الأستاذ “بلال التليدي” رسم صورة وردية حول المشاركة السياسية للإسلاميين، وقد جعل منهم ضحية مظلومة من طرف باقي الأحزاب والمكونات السياسية من قبيل محاولة الحيلولة بينهم وبين القصر، حيث يمكن الرد على تلك المحددات في نقاط ثلاث:

  • النقطة الأولى: مسألة الحركية السياسية والتذبذب الذي عرفته مشاركة الإسلاميين السياسية، سبق وأن عاشها التيار اليساري ولسنين طويلة فالتوجس غير مرتبط بتدخل خارجي أكثر من ارتباطه بوضوح البرنامج السياسي وأهدافه ومدى قدرته على القبول بثوابت الدولة.
  • النقطة الثانية: قد نتفق على أن الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب وكذلك أحداث الربيع العربي، لعبت دورا كبيرا في تصدر إسلاميي حزب “العدالة والتنمية” الانتخابات التشريعية وبالتالي ترأس حكومة ما بعد دستور 2011، لكن لا يجب إغفال أن حزب “العدالة والتنمية” كان قد حقق في الانتخابات السابقة لهذه المرحلة تقدما كبيرا -كما سبقت الإشارة- رغم عدم تغطيته لجميع الدوائر وهي من المؤشرات التي كانت توحي بتصدره الانتخابات المقبلة، كما أن استغلال أحداث 16 مايو “الإرهابية” من طرف الأحزاب السياسية لتحجيم دور الإسلاميين، فالأمر لم يكن بهذه القراءة صحيح أن الحزب تعرض لضغوط من أجل التنازل عن العديد من مواقفه المعارضة[27]، لكن وقفت إلى جانب الحزب أحزاب أخرى وآزرته على إثر تلك الحملة رغم الاختلافات الإيديولوجية.
  • النقطة الثالثة: تطور الخطاب السياسي للتيار الإسلامي السياسي وتجنبه لأخطاء اليسار لا يمكن تعميمه، فالمقصود هنا حركة “التوحيد والإصلاح” ومنها حزب “العدالة والتنمية”، لأن تيار الإسلام السياسي في المغرب يضم كذلك جماعة “العدل والإحسان” المعارضة، وهي لم تغير مواقفها من نظام الحكم بالمغرب كما أنها كانت من المساندين الأقوياء للحراك الشعبي الذي خرج إلى الشارع. فالحديث عن تطور السلوك السياسي للإسلاميين وخاصة حزب “العدالة والتنمية”، هو في حقيقة الأمر انقلاب في المواقف أو انبطاح أمام صدمة التواجد في السلطة، فهو حزب إسلامي في الحملة الانتخابية وحزب سياسي كباقي الأحزاب عند الوصول إلى السلطة.

لقد كانت تجربة الإسلاميين في السلطة وقيادتهم للحكومة لأول مرة في تاريخ المغرب، مرحلة لتثبيت التواجد على الخريطة السياسية، وقد استفاد الحزب من ذراعه الدعوي “التوحيد والإصلاح” كثيرا في كسب قاعدة كبيرة من المصوتين والمتعاطفين، كما لا يمكن إنكار قوة الحزب التنظيمية وحنكة قياديه وبساطة الخطاب السياسي الممزوج برسائل دينية، التي ساعدت الحزب على التقدم إلى المركز الأول في ترتيب الأحزاب السياسية بالمغرب حاليا. غير أن تلك الأمور التي ذكرنا لا يجب أن تخفي أسباب أخرى كانت لها دور في حصول حزب الإسلاميين على هذه المراكز المتقدمة، منها ضعف الأحزاب السياسية التقليدية وعدم قدرتها على التجديد، كذلك عزوف الأغلبية من المواطنين عن التصويت فيما أصبح يسمى في المغرب بحزب “المقاطعين”، الأمر الذي يرجح بطريقة مباشرة فوز الحزب المتوفر على قاعدة انتخابية كبيرة، كما أن عدم تحمل حزب “العدالة والتنمية” مسؤولية الحكومة في فترة سابقة ساعد على جلب عدد من المتعاطفين من أجل إعطاءه فرصة التسيير.
إن انتصار حزب “العدالة والتنمية” لا يعني بالضرورة كونه حزبا شعبيا، فهذا انتصار راجع بالأساس إلى قوته التنظيمية، على مستوى الهياكل والأجهزة والأجندات المسطرة. يجب الاعتراف أن الحزب يتجذر أكثر فأكثر داخل المشهد السياسي، عن طريق حسن تفعيله لآليتي الاستقطاب والتعاطف، كذلك العمل على توسيع دائرة قواعده، ومناصريه، وتمتين أواصر الانضباط والطاعة، حيث يمتزج الواجب السياسي بالواجب الديني من أجل نصرة الحزب، الذي أجاد استثمار مرجعيته الإيديولوجية[28].
اجتاز الإسلاميون الولاية الأولى في السلطة بنجاح على المستوى السياسي بعد أن مرّ بتحديات كادت أن تعصف بهذه التجربة، منها انسحاب حزب الاستقلال في منتصف الولاية مما اضطر حزب “العدالة والتنمية” إلى القيام بالبحث عن تحالف جديد مع من كانوا أعداء له بالأمس، لكن واقعية الحزب و”البراغماتية” السياسية التي يتميز بها مكنته من قيادة حكومة ثانية بتحالفات جديدة بغض النظر عن المرجعيات والإيديولوجيات للأحزاب المتحالفة معه الأمر الذي أضر بمصداقية الحزب. على المستوى الشعبي لم تلاقي الإجراءات التقشفية والقوانين الجديدة والتي أضرت بالطبقة المتوسطة صدى طيبا عند عموم الشعب المغربي، وهو ما أثار مخاوف من تحول الحزب إلى أداة في يد السلطة لتمرير قوانين استعصى تمريرها في حكومات سابقة.
     خاتمة:
كخلاصة لهذه الدراسة يمكن القول أن التيار الإسلامي في المغرب استطاع أن يحقق اختراقا سياسيا وأن ينافس أبرز التيارات التي كانت مسيطرة على الساحة وهو التيار اليساري، وذلك بعد القيام بمراجعات فكرية مكنته من قبول قواعد اللعبة السياسية في المغرب التي أصبح من أهم اللاعبين فيها. حيث قامت الحركة الإسلامية بتقسيم الأدوار بين من يمثل الخطاب الديني والدعوي وهو الأمر الذي تكفلت به الجمعيات التي كانت بمثابة القواعد الأساسية للسياسيين، فلم يكن حزب الإسلاميين “العدالة والتنمية” ليحقق ما حققه من نجاحات انتخابية دون المساندة التي تقدمها له حركة “التوحيد والإصلاح”، كما أن الخطاب الديني للإسلاميين تحول من المناداة بإقامة الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة وهو الشعار الذي بدأت به تلك الحركات نضالها السياسي، إلى رفع شعار الحفاظ على الهوية الإسلامية للدولة المغربية وحمايتها من التيار العلماني الداعي إلى فصل الدين عن الدولة.
لقد تمكن الإسلاميون من ربح تذكرة رئاسة الحكومة لولاية ثانية في المغرب، إلا أنهم فشلوا إلى حد الآن من جمع أغلبية لتشكيل هذه الحكومة، أمام تعنت الأحزاب السياسية وعدم رغبتها في خفض سقف مطالبها، وهو ما يؤشر على ولاية ثانية مليئة بالتحديات أكثر من سابقتها. فالتيار الإسلامي ينتظره امتحان صعب لإثبات جدارته بتزعم باقي التيارات السياسية المغربية، وأنه ليس وليد المرحلة سيرحل مع انتفاء الظروف التي جاءت به إلى السلطة، وسيلقى نفس المصير الذي آل إليه التيار اليساري الذي انهار بعد تحمله المسؤولية الحكومية.
 
لائحة المراجع:
الكتب:

  • حسن أوريد. “الإسلام السياسي في الميزان (حالة المغرب)”، مطبعة المعارف الجديدة الرباط 2016.
  • عزيز لزرق. “الدين والسياسة الدعوة والثورة”، سلسلة دفاتر وجهة نظر، الطبعة الأولى 2015.
  • محمد لكموش، “الدين والسياسة في المغرب”، أفريقيا الشرق- المغرب 2013.
  • محمد عابد الجابري، “مواقف إضاءات وشهادات” سلسلة كتب صغيرة شهرية “من ملفات الذاكرة” الكتاب الحادي والأربعون الطبعة الأولى 2005.

الدراسات:

  • البشير المتاقي، “الإسلاميون المغاربة وإشكالية تأصيل خيار المشاركة السياسية: دراسة في المحددات والأسس المرجعية”، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، يونيو 2013.

المقالات:

  • بلال التليدي، “الإسلاميون وتوسيع المشاركة السياسية في المغرب”، مقال منشور على جريدة الشرق الأوسط عدد 12665 بتاريخ الخميس 24 رمضان 1434 ه، 1 غشت 2013 م.
  • نور الدين علوش، “البديل الحضاري ومهمة التنوير الإسلامي: من الحركة إلى الحزب”، مقال منشور على موقع الحوار المتمدن عدد 2664 بتاريخ 1/6/2009. ahewar.org.

 
التقارير:

  • جماعة العدل والإحسان، تقرير منشور على موقع الجزيرة نت، الموسوعة “حركات وأحزاب”، http://www.aljazeera.net/encyclopedia . بتاريخ 6/11/2014.

 
البرامج التلفزية:
 

  • د.أحمد الريسوني، مقابلة على قناة الجزيرة القطرية بتاريخ 15/06/1999، برنامج “ضيف وقضية” عنوان الحلقة “ظروف نشأة الحركات الإسلامية في المغرب”. http://www.aljazeera.net/programs

 
المواقع الإلكترونية:

[1]محمد عابد الجابري، “مواقف إضاءات وشهادات” سلسلة كتب صغيرة شهرية “من ملفات الذاكرة” الكتاب الحادي والأربعون الطبعة الأولى  يوليوز 2005. ص 55 و 56.
[2]محمد عبد الجابري، “مواقف إضاءات وشهادات” مرجع سبق ذكره ص57.
[3]حسن أوريد. “الإسلام السياسي في الميزان (حالة المغرب)”، مطبعة المعارف الجديدة الرباط 2016، ص29.
[4] – للمزيد حول جماعة العدل والإحسان أنظر تقرير منشور على موقع الجزيرة نت الموسوعة “حركات وأحزاب”، http://www.aljazeera.net/encyclopedia.    بتاريخ 6/11/2014.
[5]عزيز لزرق. “الدين والسياسة الدعوة والثورة”، سلسلة دفاتر وجهة نظر، الطبعة الأولى 2015، ص91
[6]محمد عبد الجابري. “مواقف إضاءات وشهادات.”، مرجع سبق ذكره ص 66و67.
[7]– لمعلومات أكثر أنظر دراسة للأستاذ البشير المتاقي، “الإسلاميون المغاربة وإشكالية تأصيل خيار المشاركة السياسية: دراسة في المحددات والأسس المرجعية”، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، يونيو 2013. منشورة على موقع المركز www.mominoun.com.
[8] – مقتطف من خطاب للملك الحسن الثاني بتاريخ فاتح فبراير 1980، في اجتماع رؤساء وأعضاء المجالس العلمية بالمغرب، ورد في كتاب حسن أوريد “الإسلام السياسي في الميزان”. مرجع سبق ذكره. ص32.
[9] – البشير المتقي. “الإسلاميون المغاربة وإشكالية تأصيل خيار المشاركة السياسية: دراسة في المحددات والأسس المرجعية.” مرجع سبق ذكره
[10] – محمد لكموش، “الدين والسياسة في المغرب”، أفريقيا الشرق- المغرب 2013 ص 205.
[11] – حوار مع المرشد العام للحركة الإسلامية المغربية الشيخ “عبد الكريم مطيع الحمداوي”، صحيفة النهار المغربية، بتاريخ 1 أكتوبر 2005، ورد في كتاب، محمد لكموش، “الدين والسياسة في المغرب”، مرجع سبق ذكره ص 210.
[12] – محمد الكموش، مرجع سبق ذكره ص 212.
[13] – حركات وأحزاب، تقرير حول “جماعة العدل والإحسان”، عن موقع الجزيرة الموسوعة، http://www.aljazeera.net/encyclopedia.
[14] – للتعرف أكثر عن الجماعة، راجع موقعها على الأنترنت www.aljamaa.net.
[15] – محمد لكموش، “الدين والسياسة في المغرب”، مرجع سبق ذكره، ص 242و243.
[16] – نور الدين علوش، “البديل الحضاري ومهمة التنوير الإسلامي:  من الحركة إلى الحزب”، مقال منشور على موقع الحوار المتمدن عدد 2664 بتاريخ 1/6/2009. www.ahewar.org.
[17] – تعريف حركة التوحيد والإصلاح، منشور على موقع الحركة www.alislah.ma.
[18] – نفس المرجع السابق على موقع، www.alislah.ma.
[19] – د.أحمد الريسوني، مقابلة على قناة الجزيرة القطرية بتاريخ 15/06/1999، برنامج “ضيف وقضية” عنوان الحلقة “ظروف نشأة الحركات الإسلامية في المغرب”. http://www.aljazeera.net/programs.
[20] – البشير المتاقي. “الإسلاميون المغاربة وإشكالية تأصيل خيار المشاركة السياسية”. مرجع سبق ذكره ص 4.
[21] – سعد الدين العثماني، “المشاركة السياسية في فقه شيخ الإسلام ابن تيمية”، سلسلة الحوار 29، منشورات الفرقان، ص8-12 ورد في، البشير المتاقي. “الإسلاميون المغاربة وإشكالية تأصيل خيار المشاركة السياسية”. مرجع سبق ذكره ص7.
[22] – حسن أوريد، “الإسلام السياسي في الميزان”، مرجع سبق ذكره ص 81.
[23] – أحمد الريسوني، برنامج “ضيف وقضية” مرجع سبق ذكره.
[24] – حسن أوريد. الإسلام السياسي في الميزان، مرجع سبق ذكره، ص96.
[25] – بلال التليدي، “الإسلاميون وتوسيع المشاركة السياسية في المغرب”، مقال منشور على جريدة الشرق الأوسط عدد 12665 بتاريخ الخميس 24 رمضان 1434 ه، 1 غشت 2013 م.
[26] – بلال التليدي، “الإسلاميون وتوسيع المشاركة السياسية في المغرب”، مرجع سبق ذكره.
[27] – معارضة الحزب ل”الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية” و”قانون الإرهاب” 03-03، والتي تمت المصادقة عليهما بعد ذلك في البرلمان المغربي بعد تعديل البعض من فصولها خصوصا “الخطة الوطنية” التي تحولت إلى “مدونة الأسرة”.
[28] – عزيز لزرق. “الدين والسياسة الدعوة والثورة”، مرجع سبق ذكره ص 99.
لتحميل الدراسة من هنا

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2017

“الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى