الاصداراتالدراسات الاستراتيجية

اللَّجنة الدستورية، الاستحقاق والتحديات

تمهيد:

وفقَ ترتيبات دولية  لمسار الحل السياسي السوري انبثقت اللجنة الدستورية من مِنبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 74 على لسان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش حيث أعلن في 23- أيلول/ سبتمبر 2019 الانتهاء من تشكيل اللجنة الدستورية بعد موافقة المعارضة والنظام السوري والمجتمع المدني على نسب متساوية لممثلين عن جميع مكونات الشعب السوري، والتي ستعمل على مناقشة مشروع دستور سوري جديد أو الإشراف على إجراء إصلاحات دستورية لإقرارها لاحقًا في استفتاء شعبي وصولًا لإجراء انتخابات رئاسية تضع حدًا للصراع السوري وتنقل البلاد من حالة الفوضى إلى الاستقرار بدولة ديمقراطية تضمن حرية المواطنين وحقوقهم المدنية والسياسية [1].

انبثاق اللجنة رحبت به الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوربي والدول الضامنة لمسار أستانة التي أعلنت تجاوز كامل الخلافات العالقة في تشكيل أعضاء اللجنة الدستورية، في بيان مخرجات القمة التي جمعتهم في أنقرة 17- أيلول/ سبتمبر الماضي، معربين عن أملهم ببدء عمل  اللجنة وفق مرجعيات الأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن 2254 الصادر في 2015، وبيان جنيف 1 2012[2]. كذلك رحبت المعارضة السورية بمخرجات المباحثات التي ترأسها مبعوث الأمم المتحدة “غير بيدرسون” واعتبرت قرار تشكيل اللجنة نصرًا للشعب السوري وبارقة أمل نحو نهاية حقبة الاستبداد والانتقال لدولة المواطنة والقانون.

ورغم الحديث عن انتهاء تشكيل اللجنة والاستعداد لإطلاق عملها من جنيف في جلسة مقررة  في30- تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إلا أنها شكلت جدلًا واسعًا داخل أوساط المعارضة ورفضًا من قبل غالبية السوريين المعارضين للنظام الحاكم في سورية، إذ عكست المواقف الرافضة نوعًا من التشكيك بفعالية هذه اللجنة ومدى قدرتها على تحقيق تطلعات السوريين بعد تضحيات متواصلة لتسع سنوات، سيما أن النظام السوري لم يقدم أي تنازل حقيقي لأبناء شعبه في كامل مسار العملية التفاوضية السياسية، ولم يلتزم بتطبيق القرارات الدولية، بل إن غياب آليات الإلزام سمحت له بالالتفاف على مضامين الوثائق الرسمية المتفق عليها بهدف عدم تقديمه أية استحقاقات جوهرية للسوريين إلى جانب رفضه مشاركتهم بتقرير مستقبل البلاد.

اللافت أن النظام السوري مر بفترات ضعف وانهيار خلال مسار الأزمة ولم تستطع حينها كيانات المعارضة إجباره على تقديم تنازلات، بينما اليوم ومن بوابة الدستور التي جاءت في ظل عودة غالبية الجغرافية السورية إلى سيطرة النظام تراهن بعض أطراف المعارضة على إجباره المثول أمام استحقاقات تشريعية تأمل من خلالها إنهاء الحكم الحالي وتغيير شكل الدولة والقانون بما يضمن تأمين حقوق السوريين المدنية والسياسية[3].

ورغم أن الآمال ليست على درجة واحدة إلا أن السوريين الرافضين لمسار اللجنة الدستورية عبروا عن مخاوفهم من أن تكون اللجنة الدستورية عملية التفاف أخير ووأد كامل لهيئة الحكم الانتقالي التي قد تنهي آخر أمل لتحقيق الانتقال السياسي، وتسمح من جهة أخرى بإعادة إنتاج النظام بوصاية روسية، لا سيما أن موسكو باتت المتحكم الفعلي والرئيسي لمفاصل القرار السوري، كونها صاحبة الفكرة الأساسية في موضوع الدستور الذي أطلقته لأول مرة في مدينة سوتشي عام 2018. لذا ومن خلال مراقبة وتقييم السوريين لأهداف موسكو في سورية فإن المخاوف تكمن في أن تكون اللجنة الدستورية مدفوعة من روسيا كورقة أخيرة تستطيع من خلالها تثبيت الأسد في السلطة بهدف تحويل إنجازاتها العسكرية إلى مكتسبات سياسية واقتصادية، ولعل الرؤى المطروحة مؤخرًا وفقًا لعدة مصادر[4] تشير إلى أن موسكو انتقلت للتحكم في مسار الحلول في شمال سورية بعدما استطاعت تثبيت المواقف المحلية والدولية في كل المناطق التي تم إسقاطها بمسارات عسكرية وسياسية روسية، ما دفعها نحو إنتاج حل سياسي على مقاسها يضمن لها كامل سيطرتها على مفاصل سورية، ولم يبقَ أمامها إلا الدفع بلجنة شكلية مكونة من ائتلاف نظام ومعارضة لتقديمها أمام المجتمع الدولي وحثهم على المشاركة في إعادة الإعمار.

الموقف الراهن هو الذي دفع رافضي اللجنة الدستورية إلى التخوف من عمل اللجنة المقترحة في ظل غياب واضح لآليات العمل والمرجعيات ومسار العمل والجدول الزمني، بالإضافة إلى وجود عدة نقاط خلافية وتحديات ستفرض نفسها لحظة مناقشة اللجنة قضايا مرتبطة بتبدلات الواقع الميداني والسياسي والصلاحيات السيادية لرئيس الجمهورية.

تناقش هذه الورقة، الممكن والمأمول من عمل اللجنة الدستورية في إطار الحل السياسي الشامل والتحديات الماثلة على الصعيدين المحلي السوري والدولي الإقليمي.

إشكالية الدستور

ثمة تصور عام في الأزمة السورية يفضي إلى أن الصراع قد تم اختزاله من مسألة حقوق وحريات إلى إشكالية نص تشريعي يمكن من خلال إعادة النظر ببعض بنوده إعادة جسور الثقة في العلاقة بين الشعب والنظام، ومنه يبرر أصحاب هذا الطرح  أن كل ما حدث في سورية من معاناة سببه حدوث خلل في النص الدستوري، بالمقابل فإن غالبية مكونات الشعب السوري ترى بأن المشكلة ليست في وثيقة نصية محكمة بل في تفسير وتطبيق الدستور بما يتناسب مع أهداف الفئة الحاكمة الشمولية التي انتقلت في إدارة البلاد من سياسة الحزب الواحد إلى سياسة الفرد في إدارة المجتمع والسلطة، ومن هنا يعتقد دعاة هذه النظرية أن معاناة السوريين وكل ما نتج عنها هو نتيجة اصطدام الشعب مع مؤسسات الدولة الأمنية التي لم ترضَ نزع عباءة المرجعية التي تتبنّاها وتدور حولها وتخدم أفكارها.

وتقودنا هذه الرؤى إلى طرح تساؤل جوهري مفاده هل مسألة الدستور جزء من الإشكالية السورية أم أنها أس المشكلة، ومن خلال تتبع مسار الأزمة التي حولت سورية لصراع دولي يمكن التوقف عند بعض الاعتبارات التي تحدد الأطر العامة للإشكالية الرئيسية وفق ما يأتي:

_ الدستور السوري هو جزء من المشكلة بالنظر لنتائج سنوات الصراع التي كشفت عن حقائق لا يمكن تجاهلها ورغم أن البعض يؤمن بدستور 2012 ويعتبره مثالي إلا أنه نتاج تراكمي لعدة دساتير أفضت إلى نفاذ رئيس الجمهورية وجعلته القائد الأوحد كامل الصلاحيات والقابض على مؤسسات الدولة ومجلس الشعب ومالك لقرار الحرب والسلم منذ تعديل الدستور عام 2000 وترقيه دستوريًا لمنصب رئيس الجمهورية [5].

_ شهدت سورية في العصر الحديث إصدار العديد من الدساتير تضمن جميعها الحقوق والحريات المدنية والقانونية والسياسية كما ورد في دستور 1973 بإتاحة التحرر الاقتصادي وانعتاق الحريات وضمان الحقوق العامة لكنها غيبت جميعها ببند قانون الطوارئ والذي استبدل في نص دستور 2012 بقانون مكافحة الإرهاب بعهد الوريث بشار الأسد[6].

_ في وثيقة دستور 2012 يوجد تحديد لصلاحيات كل من مجلس الشعب ورئيس الجمهورية والسلطات والمؤسسات لكن الثغرة الأساسية تكمن في أن هذا التقسيم استمر شكليًا مع وجود آليات تتيح لرئيس الدولة النفاذ والتدخل بكل صلاحيات الكتل الأخرى من مجالس محلية وبرلمانية وشعبية ووزارية وهو ما يعني امتلاكه آليات تعطيل أي قرارات والتحكم بمسارها وفرض أخرى يرغب بتمريره بما فيها الاستفتاء على دستور جديد، إذ تتيح المادة 150 وجوب موافقة الرئيس على اقتراح مقدم من مجلس الشعب لقبوله، علمًا أن طلب التعديل يأتي بعد موافقة ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الشعب[7].

_ ألغى النظام  المادة 8  من دستور 1973 التي تنصّ على أن حزب البعث هو قائد المجتمع والدولة، ولكنه أضاف مواد تتيح له أن يكون قائد المجتمع والدولة، حتى أصبح المسؤول المباشر عن  تسمية رئيس مجلس الوزراء والوزراء ونوابهم، وصانع السياسة العامة للدولة والمشرف على تنفيذها، وهو صاحب الحق في إعلان حالة الطوارئ وإلغائها، وفي اعتماد رؤساء البعثات الدبلوماسية، وقائد الجيش والقوات المسلحة، ويمتلك صلاحية حل مجلس النواب، ووضعت في يده السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومنح نفسه حصانة  بحيث لا يسمح لأحد أن يحاسبه [8].

فكرة لجنة الدستور

لا تعد انطلاقة اللجنة الدستورية قبول النظام السوري وحلفائه والأطراف الدولية تقديم استحقاقات للشعب السوري بل هي نتاج تنازلات طويلة عن طرف سوري رئيسي معارض قبل الانخراط بلعبة دولية كبرى بدأت منذ انحراف العملية التفاوضية عن مسارها الصحيح تحت المظلة الدولية واستبدالها بمسار موازي ( أستانة- سوتشي) ففي نهاية جولة المباحثات الرابعة من مسار جنيف 24- يناير 2017 وبعد عرض ديمستورا مشروع السلال الأربع للحل السياسي السوري تقدمت موسكو بمسودة مشروع دستور جديد لسورية، وادعت أن هدفها تشجيع السوريين على البدء في مناقشة موضوع الدستور، وتضمنت المسودة 85 مادة تطرقت لتقليص صلاحيات الرئيس والبرلمان وتوزيع السلطات، إلا أنه تم رفضها من قبل النظام والمعارضة [9]، وكان تبرير النظام آنذاك أن المشروع يمس سيادة الدولة بتناولها الحديث عن صلاحيات الرئيس، في حين كان رفض المعارضة مبني على أن الدستور يجب أن يكتب بأيدي السوريين وليس من جهات خارجية، ورغم المواقف المضادة لفكرة موسكو لكنها حققت أول اختراق سياسي عبر فرض محاولة تشويش على مسار جنيف وإفراغه من محتواه، وذلك من خلال استمالة جهود المبعوث الأممي ديمستورا للدوران في فلكها وقد اضطر الأخير بعد اصطدامه بتعنت النظام ورفضه مناقشة كامل السلال الأربع بالتوازي (الحكم الانتقالي – الدستور – الانتخابات – مكافحة الإرهاب) اختصار العملية السياسية على مسألة الدستور، وبعد جولة مباحثات دولية استطاع عبر ضغط من موسكو نزع موافقة دمشق على تسمية قائمة وفدها بـ 50 شخص، كما قدمت المعارضة قائمة بأسمائها بنفس العدد أما القائمة الثالثة الخاصة بالمجتمع المدني فبقيت نقطة خلاف رئيسية لأكثر من 18 شهر، وبعد استقالة ديمستورا استكمل المبعوث النرويجي غير بيدرسون نفس المهمة ليصل بعد جولات مباحثات بين دمشق وموسكو والرياض لحل خلاف قيل أنه على 6 أسماء متبقية في قائمة المجتمع المدني، ومن ثم تم الإعلان بشكل رسمي عن اللجنة الدستورية من خلال منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.

واستنادًا لهذا العرض يمكن استخلاص عدة ملاحظات كانت سببًا رئيسيًا في اختزال المشهد السياسي السوري بسلة الدستور.

_ عدم وجود أي رغبة دولية من الأمم المتحدة والمجتمع الغربي في إخراج سورية من دائرة التدمير الممنهج ما دفعها لتبريد مسار جنيف وترك الأمور لموسكو في إخماد الجبهات عبر مسارات ( أستانة- وسوتشي) [10].

_ رغبة موسكو الاستفادة من عامل الوقت لتثبيت أركان النظام بعدما وصل لمرحلة السقوط في 2015 فعطلت مسار جنيف باستخدام 13 فيتو في مجلس الأمن، وحققت إنجازات عسكرية مكنت النظام من استعادة ثلاث مناطق كانت خاضعة لاتفاق خفض التصعيد باستثناء محافظة إدلب.

_وضع النظام السوري وحلفاؤه العراقيل أمام تشكيل اللجنة، ورفض القواعد الإجرائية ونسبة التصويت، واعترض على أسماء موجودة في قائمة المجتمع المدني كان قد اختارها ديمستورا بنفسه، فيما كان هدفه الحقيقي تحقيق مكاسب عسكرية ميدانية على حساب تقليص مساحة المعارضة، ونزع كامل أوراقها التفاوضية وإيصالها لمرحلة الرضوخ والاستسلام [11].

_ لقد كان قبول المعارضة السورية انخراطها في مشروع روسيا الدستوري أول تنازل حقيقي عن عملية الحكم الانتقالي التي نصت عليها ورقة المبادي في بيان جنيف 1 ، كما أنها تخلت عن التمسك بشروط فوق تفاوضية من بنود 12- 13- التي نص عليها قرار مجلس الأمن 2254 ومفادها إيقاف إطلاق نار شامل في سورية وإطلاق سراح المعتقلين وإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة [12].

_ تفسير موقف المعارضة كان دائمًا منصب على دفع الشبهات عنها واتهام النظام وحلفاؤه بفرض أمر واقع عسكري على السوريين، دون أي مراجعة لبرامجها وآليات عملها أو محاولتها إنهاء حالة التشتت في صفوفها، كما أن حالة عدم اليقين مع الشعب السوري كانت دائمًا مصاحبة لها نظرًا لغياب عامل المكاشفة مع الشعب فما زالت سلسلة من الاتفاقيات التي أبرمتها مع الدول الضامنة لا يعلم حقيقتها أحد من السوريين والتي تحمل تكاليفها من قتل وتدمير ونزوح.

_  على صعيد دولي ساهمت جهود المبعوث الدولي السابق استيفان ديمستورا  ومن خلفه غير بيدرسون في تقريب وجهات النظر بين أحلاف دولية متنافسة في الملف السوري، هما الدول الثلاث الضامنة لعملية أستانا، روسيا وإيران تركيا من جهة، ومجموعة الدول المصغرة بقيادة الولايات المتحدة من جهة ثانية، على أمل الوصول إلى أرضية مشتركة توافقية بينهما يستطيع من خلالها الحصول على مباركة من جميع الأطراف لتشكيل اللجنة الدستورية.

مواقف متباينة

رغم إعلان الولايات المتحدة والمجموعة المصغرة ( بريطانيا- فرنسا – ألمانيا- مصر – السعودية- الأردن) ترحيبهما في إعلان تشكيل اللجنة إلا أنه يعد شكليًا مع استمرار تضارب المصالح مع حلف دول أستانة ( تركيا- روسيا –إيران) ووفقًا لآخر اجتماع للمجموعة الدولية مع ممثلي هيئة التفاوض السورية عقد 12 سبتمبر/ أيلول 2019، اعتبرت الدول أنها غير معنية بتعطيل عمل اللجنة، وقدم الفرنسيون على إثرها مقترحًا يدعو للتفاوض حول سلة الانتخابات برعاية أممية وتجاوز مسألة اللجنة الدستورية، وذلك قبل إعلانها من قبل رؤساء الدول الضامنة في قمة أنقرة الأخيرة.كما أن الولايات المتحدة لم تكن تلق أي اهتمام لمسار أستانة  خاصة بعد تركز الحديث على نقاش مسألة الدستور، لكن سرعان ما تغير موقفها وطالبت الإسراع  بتشكيلها، فتوالت على إثرها التهديدات بإمكانية البحث عن مسار بديل [13]، ما دفع الدول الضامنة لتكثيف محادثاتها من أجل التوصل إلى تشكيل اللجنة، خشية من خسارتها كامل مسار أستانة في عملية التسوية السورية.

يشير الموقف الأمريكي والأوربي إلى رغبتهم في دفع مسار الحل السياسي والخروج من حالة الثبات التي استمرت لأعوام، و الحفاظ على مصالحهم في شمال وشرق سورية ولتحقيق ذلك تحتاج الولايات المتحدة لتحقيق نوع من الاستقرار الذاتي في مناطق الشمال السوري، وعلى الصعيد السياسي تعمل على إعادة  إحياء مسار الحل السياسي السوري تحت مظلة الأمم المتحدة بغية عدم ترك زمام الأمور لروسيا، وبموجبه وبعد ترحيبها بتشكيل اللجنة سارعت بالتعاون مع بريطانيا بتحريك  ملف الكيماوي وسلاح العقوبات على نظام الأسد كرسالة وجهتها لحلفاء النظام مفادها أن أمريكا تمتلك إمكانات وأدوات تعطيل عمل اللجنة إذا لم تتوافق مع مصالحها في المنطقة [14].

بالمقابل فإن التوافق بين الدول الضامنة على تشكيل اللجنة يعكس مدى إصرارهم الحفاظ على العلاقات والمصالح المشتركة لا سيما من قبل روسيا التي تصر على إعادة جميع الأراضي السورية لسيطرة النظام الحاكم في سورية، وبالتالي، وجدت موسكو في اللجنة الدستورية فرصة للالتفاف على القرارات الأممية المتعلقة بسوريا، وتهربًا من استحقاقات المرحلة الانتقالية، إضافًة لاعتقادها بإمكانية سيطرتها على قرار اللجنة عبر استقطاب الموالين من قوائم المكونات لكل من المعارضة والمجتمع المدني، ولأجل ذلك ووفقًا لتقارير فإن النظام أجبر بضغط  روسي على الموافقة والدخول بمسار اللجنة الدستورية [15].

بينما أنقرة أصبحت منسجمة مع توجهات موسكو في الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وخروج القوات الأجنبية الأمريكية وتجنبت الحديث عن مصير الأسد مقابل أن يمنحها ذلك تهدئة التصعيد في شمال غربي سورية وتحقيق مشروع المنطقة الآمنة التي أعلنت عن مرحلتها الأولى في 9 أكتوبر 2019. وقد دلت تصريحات الرئيس التركي عقب انتهاء القمة 17 أيلول، على انسجام كامل مع موسكو مقابل نجاحها في عدم وجود أي تمثيل كردي داخل اللجنة الدستورية. ما يعكس مدى قدرة أنقرة التأثير على وفد المعارضة في كامل عملية التسوية السورية.

تحديات مستقبلية

وفقَ إحاطة المبعوث الأممي غير بيدرسون التي قدمها للأمم المتحدة فإن اللجنة المشكلة من 150 شخص ستكون موزعة على ثلاث فئات 50 لكل من  ( معارضة- نظام- المجتمع المدني) تعرف باسم المجموعة الموسعة، ستقوم هذه الفئات باختيار 15 شخص عن كل فئة بمجموع كلي يصل لـ 45 تعرف باسم المجموعة المصغرة المخصصة لصياغة دستوري جديد أو الإشراف على إجراء تعديلات على دستور 2012، وستكون مرجعيتها بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254، وستعتمد آلية تصويت على أي مواد بنسب 75% بمعدل أصوات كلية 113 من جميع الفئات. وأضاف المبعوث أن المفاوضات ستكون بين السوريين دون أي تدخل دولي، وسيقتصر دور الأمم المتحدة على تسيير عملية المفاوضات وتقييم مخرجاتها ولن تتدخل إلا في حال وجود حالة استعصاء لم يتمكن طرفي التفاوض تجاوزه.

كما أشار إلى أن الاتفاق ستحكمه جملة من المبادئ التي تخص الحفاظ على سلامة واستقلال الأراضي السورية واجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، واجراء إصلاحات دستورية تنقل توصياتها إلى النظام القانوني السوري، بالإضافة إلى عدم فرض جداول زمنية مفروضة من الخارج ودون وجود شروط مسبقة، وفي ختام إحاطته حث المجتمع الدول الغربي على ضرورة احترام العملية السياسية السورية من باب عمل اللجنة الدستورية والتي اعتبرها جزء أولي من عملية شاملة، ودعا كامل أطراف الصراع إلى ضرورة إيجاد حل للمشاكل العالقة كي لا تكون عائق أمام مسيرة العمل السياسي من بينها ملف إدلب وملف المعتقلين واللاجئين وانتشار القوات الأجنبية[16].

الاتفاق الراهن والذي شدد غير بيدرسون على اعتباره إنجاز ونقطة تحول جذري حمل في طياته مكامن ضعفه وفشله على عكس ما رأت فيه لجنة المعارضة بالمنفذ الوحيد للخروج  من المأزق الحالي لإنهاء معاناة السوريين، فالاتفاق من جهة كان مثاليًا في كل بنوده وتجاهل الحقائق الواقعية والعقبات التي من شأنها أن تدخل طرفي الصراع لسنوات في مفاوضات عقيمة وفق مايأتي:

_  لا توجد أية ضمانات لاستقلالية عمل اللجنة دون تدخل الأطراف الخارجية المنخرطة بجيوشها في مناطق النفوذ، فهذه الدول تمتلك آليات وإمكانات عرقلة أي قرار لا يتناسب مع مصالحها، ما يفسر أن مجال سير عمل اللجنة لن يخرج عن فلك دائرة التأثير لمحور دول أستانة من جهة والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي من جهة أخرى.

_ رغم أن المبعوث الأممي غير بيدرسون حدد مرجعيات عمل اللجنة بناء على وثيقة المبادئ لبيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254 ، لكنه لم يوضح آليات إلزام النظام بها والذي يصر على أن يكون مجلس الشعب السوري المرجع الوحيد لها، كما أن القرارات ذاتها تم الالتفاف عليها وتحولت من قرارات ملزمة إلى مرجعيات مجمدة.

_ لا تزال آلية عمل اللجنة الدستورية غير واضحة، وهو ما يجعل الحديث عن صياغة دستور جديد أمر ضعيف، فلا وجود لأي عوامل ثقة تجمع النظام والمعارضة ولا يمكن الرهان على وجودها، والأهم أن النظام لم يقبل الدخول بلجنة الدستور إلا لاعتقاده  أن العملية لن تتعدى إجراء بعض التعديلات الشكلية على دستور 2012، وفي حال موافقة المعارضة على اقتصار مراجعتها الدستور الحالي، فإن ذلك يعني تخليها عن البند المتعلق بتشكيل هيئة حكم انتقالي كامل الصلاحيات، وبذلك لن تستطيع المعارضة نزع الشرعية من النظام الذي سيماطل في مناقشة الإصلاح الدستوري مستفيدًا من الشروط التي صرح عنها وزير خارجيته وليد المعلم بعدم وجود شروط وفترة زمنية محددة لإتمام العملية [17]، وإذا ما استطاع النظام حرف العملية الدستورية عن مسارها الصحيح، فإنه سيبقى متمسكًا بنفس العقلية الأمنية والعسكرية لحسم الصراع لصالحه لما تبقى من مناطق خارج سيطرته في محافظة إدلب على وجه التحديد وصولًا لفرض شروطه بالتسوية دون أي تنازل حقيقي لمعارضيه.

_ إشكالية آلية التصويت هي التحدي الأهم أمام المعارضة لأنها بوضعها الحالي تنّم عن استحالة تمرير أي قرار لصالح الشعب السوري وللمعارضة، فقبول أي مادة مقترحة من قبل المعارضة تحتاج نسبة تصويت 75% بمعدل توافقي كلي 113، وإذا ما افترضنا أن المعارضة حصلت على كامل نسب أصوات المجتمع المدني فستبقى بحاجة إلى 13 صوت من قائمة النظام، الأمر الذي يبدو مستحيلًا، بالأخص إذا تطرقت المادة لصلاحيات الرئيس، بالمقابل لا يبدو الأمر مستحيلًا إذا ما أراد النظام تمرير قرار مقترح من طرفه، وذلك لوجود أعضاء من قوائم المجتمع المدني والمعارضة مقربين من النظام. وكل ذلك يُعقِّد اتخاذ القرارات ويجعل التوافق قبل التصويت أمرًا ضروريًا، الأمر الذي لم تؤسس له أرضية مناسبة من الثقة المتبادلة بين الأطراف.

_ إن غياب التوافق التام بين الأطراف المتحاربة على الجغرافية السورية قد ينسف كامل العملية الدستورية، فأي تصعيد عسكري جديد شمال سورية سواء من قبل النظام وروسيا أو من قبل عمليات التحالف الدولي على تنظيمات جهادية من شأنه أن يقوض جهود العملية السياسية كما حدث طيلة الأزمة، وعليه لا يمكن فصل توافقات المسار السياسي عن المسار العسكري، كما أن تجاوز الأطراف لمسائل أساسية قبل تفاوضية ستقود بالجميع إلى طريق مسدود كمسألة تأمين البيئة المحايدة الضرورية لعملية الانتخابات، وملف اللاجئين وتأمين الحدود والتنظيمات الجهادية المصنفة على قوائم الإرهاب.

خاتمة

تدعي المعارضة أن خيار العمل بلجنة الدستور سيحقق انتقال سياسي وينهي حالة الجمود المستعصي منذ سنوات، مضيفين أن بداية تفعيل المفاوضات وفق الطرح الحالي سينتج عنه توافق عام وتحديد المبادئ الرئيسيّة التي سترسم وجه سورية المستقبلي، وأن التوجه الحالي هو أفضل مسار ونتاج لنكسات ومسيرة تنازلات سابقة، وبالتالي فهي تنظر لخيار اللجنة أنها الخيار الوحيد ولا وجود لبديل آخر. لكن الكلام ذاته يعكس هشاشة موقف المعارضة لأن القول بعدم وجود البديل لا يعني أن العملية الدستورية أنها البديل الحقيقي، نظراَ لما تكتنفه من غموض حول طبيعة مسارها وغياب لأي آليات عملية، وفقدان ضمان إلزام النظام بتطبيق مخرجاتها واستكمال تطبيق مراحل جنيف1 وقرار مجلس الأمن 2254، إذ من الصعوبة إعادة النظام للتباحث بمراحل تم اختصارها وتفريغها من محتواها، في وقت لم يلتزم بتنفيذ كامل الاتفاقيات التي كانت تنص على تنفيذ فوري. وعلى افتراض أن النظام تماهى مع الضغوطات الدولية فإن كل المخرجات لا يمكن أن تكون كفيلة بإنهاء معاناة السوريين وتحقيق مرحلة انتقالية، في ظل بقاء وإعادة ترميم للمؤسسات الأمنية السورية والأجهزة القمعية، ما يفسر صعوبة تقبل مؤسسات الدولة تطبيق أو الالتزام بأي قرارات ومن المرجح بقائها حبرًا على ورق.

وعلى صعيد دولي يبدو واضحًا أن إنتاج اللجنة الدستورية هي مسيرة عمل روسي متواصل منذ إقرارها في سوتشي 2018، وهي الغاية النهائية التي يسعى بوتين لجعلها أمر واقع على كل الفاعلين الدوليين بهدف إعادة إنتاج النظام واستجرار أموال إعادة الإعمار من دول أوربا الرافضة حتى اليوم للمشاركة قبل تحقيق عملية انتقال سياسي كامل ينهي أزمة اللاجئين ويحقق استقرار نسبي في سورية، وبناء لما تم ذكره أعلاه في مواقف الفرقاء والأطراف الدولية ثبت أن لا وجود لاتفاق متكامل على إنتاج حل سياسي نظرًا لحالة التنافس والاستقطاب بين أمريكا والمجموعة المصغرة ودول أستانة تركيا وروسيا وإيران، فالتصعيد في المواقف والتجاذبات بعد ترحيب الجميع باللجنة الدستورية يعكس مدى الخلافات وعمقها وهذا يتناقض مع ما يشاع عن تحضير الأجواء لانتخابات برلمانية ورئاسية بموجب نص دستوري مقيد. وبعدما أصبحت اللجنة الدستورية أمر واقع مفروض من قبل الفاعلين الأساسيين، فإن لغة النقد والتراجع والانسحاب أمام المعارضة لم تعد مجدية، بل يتطلب منها المضي قدمًا في معركة الدستور إلى نهايتها، بما يُلزمها تحمل مسؤوليات أكثر من أي وقت مضى، ويجب أن تحاول نزع مكاسب بما يضمن الحقوق المنخفضة للسوريين كي لا يتم نسف كامل تضحياتهم وتدمير مستقبلهم. وقبل الحديث عن الدستور يجب التطرق لجملة من المبادئ فوق دستورية والتمسك بها في مسار عمل اللجنة، والسعي الدائم لتأكيدها وإقرارها ووضع آليات ملزمة لتطبيقها واحترامها، سواء تركزت العملية على الإصلاح الدستوري أو على صياغة دستور جديد. وأهمها أن يضمن  العقد الاجتماعي الإرادة السياسية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية لكل الأفراد والإشارة لمشاركتهم الفعلية في العملية السياسية، والتأكيد على إنهاء شرعية النظام الحالي ومنعه من الترشح للانتخابات القادمة وفق مواثيق القرارات الدولية التي تنص على تحييد كل من ارتكب جرائم حرب وانتهك حقوق الإنسان، والحرص على عدم السماح للدول الفاعلة التدخل بصياغة الدستور وإبقائه بيد السوريين[18].

 

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات © 2019 

 

[1] http://bit.ly/2VxQSVB

اندبندنت عربية، غوتيريش يعلن تشكيل اللجنة الدستورية السورية، ن- بـ 23- سبتمبر 2019، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[2] http://bit.ly/2nCCCi1

الأناضول، البيان الختامي لقمة أنقرة يشدد على وحدة سورية والتمسك بمبادئ الأمم المتحدة، ن- بـ 16- أيلول 2019، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[3] http://bit.ly/2Mx7HMp

عنب بلدي، اللجنة الدستورية.. بوابة للحل أم مماطلة جديدة، ن- بـ  29 – سبتمبر/ 2019، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[4] http://bit.ly/2VALW2z

المرصد الاستراتيجي السوري، كواليس الإصلاح الدستوري، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[5] https://bbc.in/2B5tCoO

BBC بشار الأسد يحكم قبضته على سورية، ن- بـ 18- يوليو 2010، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[6] http://bit.ly/2IJ6xw6

مركز إدراك للدراسات، الدساتير المتعاقبة في سورية.. تحليل ومقارنة، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[7] http://bit.ly/2M7ZL5g

دستوري الجمهورية العربية السورية، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[8] http://bit.ly/2IHNEcX

ميشال شماس سورية ما تزال تُحكم بالمادة 8 من دستور 1973، ن- بـ 20- إبريل 2017، ن- بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[9] http://bit.ly/32b8v0e

الجزيرة، دستور جديد لسوريا بصناعة روسية، ن- بـ 27 يناير 2019، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[10] http://bit.ly/33tOq5z

العربي للأبحاث والدراسات، خفض التصعيد”.. استراتيجية روسيا في حسم الصراع السوري عسكريًّا، ن- بـ 4- يوليو 2018، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[11] http://bit.ly/2p8Bd33

وكالة ستيب، ماهي العراقيل الخمس التي يضعها الأسد أمام اللجنة الدستورية، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[12] http://bit.ly/329YKzb

تلفزيون سوريا الجديد، اللجنة الدستورية.. انقلاب على مسار جنيف والقرار 2254 ، ن- بـ 25- أيلول 2019، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[13] http://bit.ly/326g1JK

عنب بلدي، اللجنة الدستورية.. ضغط أمريكي للبحث عن بدائل، ن- بـ 30- حزيران 2019، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[14] http://bit.ly/2B6b8UW

عكاظ واشنطن تتوعد الأسد.. وزراء خارجية 7 دول: لا تسامح مع استخدام «الكيماوي، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[15] http://bit.ly/2B3bEmH

اندبندنت اللجنة الدستورية السورية إلى الأمام… النظام يلعب أوراقه، ن- بـ 12- يوليو 2019، شوهد بـ 11- أكتوب/ تشرين الأول 2019.

[16] http://bit.ly/2Vzuhbd

بروكار برس، النص الكامل لإحاطة بيدرسون في مجلس الأمن، ن- بـ 30- سبتمبر/ 2019، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[17] https://cnn.it/2pfd4aW

CNN عربية، وليد المعلم: مستعدون للعمل مع “الدول الصديقة” في لجنة الدستور بسوريا، ن- بـ 28- سبتمبر 2019، شوهدةبـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

[18] http://bit.ly/2X54KWG

برق للسياسات والاستشارات، مقاربة في العقد الاجتماعي السوري، ن- بـ 26- سبتمبر/ 2018، شوهد بـ 11- أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى