باكورة طائرات “الشَّبَح” الخفيّة عن الرادارات
تمـهيـد:
قبل ما يقارب أربعة عقود، وفي أواسط عقد الثمانينيات تحديدًا، فوجِئ متابعو أخبار الطّيران والتكنولوجيا العسكريّة بتسليط وسائل الإعلام المختصة بالأمور الاستراتيجية، أضواءَها على بواكير طائرات عجيبة لفتت الأنظار بشكل غير مسبوق، اصطُلِح عليها بـ”طائرات الشَبَح”، فتصدّرت صورها الخيالية وجملة المعلومات المتسارعة عنها معظم وسائل الإعلام العالمية، وأحدثت انقلابًا في مفاهيم المُقاتِلات والقاصِفات، كذلك أربكت منظومات الدفاع الجوي الأرضية والبحرية المقاوِمة للطائرات، كونها خفيّة عن الرادارات!
ولمّا كنتُ، وما زلتُ، متابعًا لأخبار الطيران والطائرات، فقد لفت نظري ما يُنشَر عنها في مواقع الإنترنت العربية منذ ظهرت الشبكة العنكبوتية في بلادنا، فبدا لي أن المعلومات المطروحة عنها قد تُربِك مفاهيم القارئ عن ماهِيّة طائرات “الشبح”، سواء بصورها الفوتوغرافية الخاطِئة، أو المبالغات المنقولة عنها، ابتغاء أغراض سياسية أو تجارية مدحًا لدولة ما وقدحًا في أخرى، ناهيك عن كون بعض الكُتّاب ليسوا ضليعين في علوم الطيران وتاريخ الطائرات، ومتواضعي المعرفة باللغة الإنكليزية التي نَقلوا وعَرَّبوا المعلومات منها.
ولذلك قررت – بالاتفاق مع السادة القائمين على إدارة مركز برق للسياسات والاستشارات الموقّر – التماس معلومات دقيقة عن هذه الطائرات، وأبعادِها وأوزانِها ومَدَياتها وقُدراتها، اعتمادًا على موسوعة MODERN MILITARY AIRCRAFT الصادرة من مؤسسة CHARTWELL ذائعة الصيت، لأسردها على شكل دراسة مختصرة أمام أنظار متابعي الطيران وهواتِه، ونسلِّط بعض الضوء على تساؤلاتهم واستفساراتهم الآتية:
- ما الهدف الأساس من إنتاج هذه الطائرة الأعجوبة؟
- ما البصمات التي أنجزتها في عالم الطيران الحربي؟
- ما الطائرة الشبح البِكر التي أُدخلت في الخدمة؟
- أين جُرِّبت للمرة الأولى ميدانيًّا؟
العدو الأساس للطائرات:
من المعروف أن بريطانيا العظمى سارعت عند بدءِ الحرب العالمية الثانية في تطوير جهاز مُعَقّد قادر على كشف الأجسام الطائرة والعائمة والغاطسة عن بُعد، والتي يصعب رصدها بالعين المجردة أو بالمناظير المكبّرة، وضبط مواقعها واتجاهاتها وقياس سرعتها بدقّة… ذلك الجهاز الذي اصطُلِحَ عليه بـ”الرادار RADAR” الذي أضحى مرتكزًا أهمّ لا بديل عنه، خصّيصى في رصد الطائرات من مسافات بعيدة، وتثبيتها على الشاشة، والإنذار المبكر عنها، وتحديد وجهتها، تمهيدًا لتوجيه المقاتِلات الاعتراضية نحوها، والمقاومات الأرضية للتصدي لها.
وبرغم تطوير الرادار بخُطى متسارعة للاستخدامات الجوية، ثمّ لأغراض القوات البحرية والفضائية، وحتى لكشف الأهداف البرّية، قبل استثمارها للأمور المدنية، فقد ظلّ الرادار الآلة الأساس التي ترتكز عليها الدول في درء الأخطار عن أجوائها، فأضحى في مقدمة الأهداف التي ينبغي تدميرها، أو شلّها في غضون الساعات الأولى من أية حرب، مع عمليات تشويش إلكتروني وتشويش مُضاد على الرادارات، فيما ظلّ الطيارون حائرين في اتباع أساليب سلبية وإيجابية للنأي عن إشعاعه؛ سواء بالتحليق بارتفاعات منخفضة للغاية لا تعدو بضع عشرات من الأمتار فوق سطح اليابسة والمياه، وسلوك طرق ملاحة بين الوديان والجبال، أو بالتشويش الإلكتروني المضاد (COUNTER MEASUER).
حلم الاختفاء عن الرادار:
لذلك بقي خبراء الطيران والتكنولوجيات المختلفة يحلمون، ويعملون ما بوسعهم لاختراع وسيلة ما للتخلّص من هذا الخصم اللدود، حتى تفتّقت عقولهم عن طائرة تُصَنَّع دعائم هيكلها ويُغطّى غلافها والأجزاء الثابتة من محرّكها ومعظم محتوياتها من سبائك غير معدنية، وهي سبائك مُستحدثة من لَدائِن مُقَوّاة، بإمكانها امتصاص الإشعاعات الصادرة عن الرادارات، ولا تعكس تَردُّداتها (ذَبذَباتها) ليتلقّفها الرادار الأرضي الثابت أو المحمول. إضافة إلى ذلك فإن جسد هذه الطائرة معدوم من الزوايا الحادّة والبارزة، وأسلحتها ومقذوفاتها تُحمّل وسط حاويات (CONTAINERS) داخل جوفها، ولا تُعلَّق تحت البدن وأسفل الجناحَين وعلى طرَفَيهما، مثلما هو حال الطائرات الاعتيادية منذ زجّها في المجالات العسكرية أواخر العقد الأول من القرن العشرين، وبذلك تظلّ مخفية ولا تتلقّفها الرادرات.
السباق المضطرد:
كان السباق محمومًا في السِرّ بين الشركات الأمريكية المُنتجة للطائرات، والتي أغدقت على باحثيها وخبرائها الملايين من الدولارات، ومليارات عديدة على تصاميمها الأولية ونماذجها التجريبية، حتى حصلت شركة “لوكهيد مارتن LOCKHEED MARTIN” العملاقة على براءة الاختراع قبل منافسيها في هذا الشأن الذي سيدرّ لها أضعاف ما أنفقت إذا ما كسبت قبول الجهات والدوائر العسكرية، ناهيك عن كسب سمعة أعظم في مجال الطائرات الحربية، وهو ما حصل بالفعل.
ويُذكَر أن هذه الشركة قد أنتجت بُعَيدَ الحرب العالمية الثانية ومنذ النصف الثاني من الأربعينيات والعقود اللاحقة، أفضل الطائرات النفاثة المقاتلة الاعتراضية (INTERCEPTORS)، ولحقتها بالمقاتلات الأسرع من الصوت (SUPRSONIC)، وطائرات الاستطلاع (Reconnaissance) الاختصاصية ذات القدرة على العمل بالارتفاعات الشاهقة، وأخرَيات لمعالجة الغواصات (SUBMARINE WARFARE ANTI) في أعماق البحار، وأبرز طائرات الإنذار المبكّر (EARLY WARNING) المُحَمَّلة بالرادارات ذات الرؤية الجانبية وأجهزة التشويش الإلكتروني والاستراق اللاسلكي، والتي عُرِفَت اختصارًا بالـ”A.W.A.C.S”، فضلًا عن طائرات النقل العسكري العملاقة والمعقّدة ذات الاستخدامات المتنوعة، فنالت صِيتًا واسعًا بإنتاجها طرزًا متنوعة من الطائرات لأداء مهمّات مضافة لصالح القوات المسلّحة الأمريكية والعديد من دول العالم الصديقة.
ولمعلومات القارئ الكريم، أودّ أن أضيف أمام ناظريه عددًا من أبرز تلك الطائرات التي لا يزال بعضها يخدم لدى القوات الجوية الأمريكية وغيرها من الدول، وهي:
- مقاتِلَتا التفوّق الجوي/الهجوم الأرضي “ستار فايتر/F-104″، و”فالكون/F-16”.
- طائرات الدوريات والتشويش الإلكتروني ومقاتلة السفن والغواصات “أورورا/P-4″، و”أوريون/P-3″، و”فايكنك/ES-3”.
- طائرات النقل والإسقاط المظلّي “هيركُلِس/C-130″، و”ستار لِفتَر/C-141″، و”كالاكسي/C-5” التي ما زالت في عداد أضخم طائرات النقل في العالم.
- طائرات الاستطلاع (التجسّس) التعبوي من الارتفاعات الشاهقة “يوتو/U-2” و”TR-1″، والاستطلاع الاستراتيجي “بلاك بيرد/SR-71”.
صور عديدة لنماذج من أشهر الطائرات المتنوعة التي أنتجتها شركة “لوكهيد” الأمريكية
وتحقّق الحلم:
كل تلك المنجزات أدخلت شركة “لوكهيد” تاريخ الطيران من أوسع أبوابه، خصّيصى بما حقّقته في إنتاج أول طائرة مقاتلة خفية على الرادارات، والتي استمرّ العمل في بحوثها وإنجازها 26 عامًا، فحقّقت قفزةً هائلةً في تكنولوجيا الطيران بطائرة مقاتلة هجوم أرضي، صُمّمت للقتال الجوي وتدمير أهداف أرضية، بتقديم أربعة نماذج أوليّة منها أمام أنظار قادة القوات الجوية الأمريكية، ليختاروا واحدًا من بينها، سُمّيت “نايت هوك F-117 NIGHT HAWK”.
حقل تجربة F-117:
لم يتردد القادة الأمريكيون باتخاذ القرار خلال النصف الثاني من عقد الثمانينيّات باقتناء F-117، وسارعوا بامتلاك سرب واحد يضمّ 16 طائرة منها، كانت جاهزة لإقحامها في عمليات جوية ميدانية للمرة الأولى في حرب حقيقية ستشنّها الولايات المتحدة ضد العراق لإخراج جيشه من الكويت عام 1991؛ هذا الجيش العَرَمرَم الذي عُرِفَ بقدراته المشهودة في مجالات قوّته الجوية وإمكانات دفاعاته الأرضية لمقاومة الطائرات في حرب حديثة ضروس، وله تجارب ناجحة استغرقت 8 سنوات قبالة إيران القوية التي خرجت منها خاسرة عسكريًّا.
في الساعات الأولى من فجر يوم 17 كانون الثاني /يناير 1991، وضمن خطة عمليات جوية متقنة، زجّت القوة الجوية الأمريكية طائراتها الشبح F-117 في طيران ليلي، مستهدِفة مواقع الرادارات العراقية وقواطع دفاعه الجوي ومواقع قياداته العليا وأضخم قواعده الجوية المنتشرة على طول البلاد وعرضها، حتى أضحى مجموع العمليات القتالية التي نفّذتها هذا الطراز لوحدها خلال أيام الحرب الجوية التي استغرقت 43 يومًا: 1271 ضربة، معظمها ليلية، وحققت نتائج مُبهِرة.
المقاتلة هجوم أرضي الأمريكية نايت هوك/F-117، وهي طائرة الشبح الأولى في التاريخ، والتي استُخدِمَت على رؤوس العراقيين للمرة الأولى في حرب الخليج الثانية 1991، وكرّر الأمريكيون ذلك لدى غزوهم العراق عام 2003
حقل تجارب ثانٍ:
كان لا بدّ من تشخيص السلبيات خلال التجربة الأمريكية الأولى لهذه الطائرة، ليتمّ تلافيها، إلى جانب إضافة تكنولوجيا أحدث لتحسين أدائها في حروب قادمة.
لم يطل الانتظار سوى 12 عامًا حتى تشنّ الولايات المتحدة حربها الضروس الثانية على العراق لغزوه وتدميره وحرقه واحتلاله، في حين لم تتوفّر لدى الأمريكيين طائرة شبح أحدث ومن طراز أفضل؛ لذا كرّروا استثمارهم للطائرة F-117 في أتون حرب الخليج الثالثة، وبالأسلوب ذاته بحلول مساء يومها الأوّل 19 من آذار /مارس 2003 والأيام اللاحقة، ومن دون أن تتمكن الرادارات العراقية من كشف أيّ واحدة منها؛ لتنذر مواقع الدفاعات الأرضية المُتعَبة لمقاومة الطائرات لتُسقطَها أو تُصيبها ولو بشظيّة، وذلك بعد إعماء شامل شمل كل العراق ووسائل مقاوماته، بفعل التشويش الإلكتروني الأمريكي الذي غطّى الوطن برمّته، أسوة بالذي حدث عام 1991.
دراستنا القادمة:
وفي دراستنا القادمة، سنأتي إن شاء الله إلى الحديث عن الأجيال اللاحقة من طائرات الشبح، سواء أكانت مقاتلة هجوم أرضي أسرع من الصوت، أو قاصفات الشبح العملاقة ذات المديات البعيدة… فانتظرونا بعون الله تعالى.