الاصداراتمشاهد

مسار المفاوضات بين قوات سورية الديمقراطية والنِّظام السُّوري

تزامنًا مع عمليات عسكرية يشنها نظام الحكم في سورية بدعم من حلفائه سيما روسيا غرب الفرات، تقوم الأخيرة بالعمل على إنشاء ترتيبات جديدة في شرق سورية عبر تفعيل مفاوضات بين قوات سورية  الديمقراطية ونظام الحكم في سورية، عن طريق دور وساطة لتذليل العقبات وتقريب وجهات النظر بين الجانبين، ورسم مستقبل جديد أمام مصير قوات سورية الديمقراطية.

في حين يتعلق أي مشروع تفاوضي قادم حول شرق الفرات، بسياق حسابات دولية متداخلة ضمن تلك المنطقة الاستراتيجية التي تشكِّلُ عمقًا استراتيجيًا لتأمين منطقة جنوب الأناضول بالنسبة لتركيا، وكذلك عمقًا هامًا بالنسبة لروسيا لتأمين نفوذها غرب صدع العاصي ومنطقة جنوب غرب الفرات الأقصى، بالإضافة إلى إيران التي ترى شرق الفرات حاجزًا أمنيًا لحماية أنشطة الميليشيات الطائفية والتي تتركز في مدينة البوكمال ودير الزور والشريط الحدودي العراقي السوري.

ولا تقتصر أهمية هذه المنطقة على حسابات الدول الضامنة للوضع في سورية، بل إن أمريكا اعتبرها نقطة انطلاق لعملياتها العسكرية والأمنية والرقابية في حربها ضد تنظيم الدولة داعش وأقامت بها قواعد عسكرية، ولا يزال هناك في الوقت الحالي ما يقارب من 50 جنديًا أمريكيًا متمركزين في نقطة قرب معمل لافارج إلى جانب قوات فرنسية ([1]). وعليه فإنَّ التركيز الروسي على هذه المنطقة يُعتَبر أولوية لديها من أجل أن تمتلك عوامل ضغط على بقية الدول الفاعلة في الملف السوري وفرض رؤيتها أو على الأقل التفاوض عليها فيما يخص حل القضية السورية.

من جانب آخر وبحسب مراقبين لم تكن عملية نبع السلام التي استهدفت قوات سورية الديمقراطية([2]) من المعارضة بدعم تركيا، هدفها الرئيسي إنهاء وجود قسد في الشرق بل كانت ضمن مسار تم التوافق عليه بين الدول الضامنة لرسم مسار تفاوضي اضطراري لقسد مع النظام السوري كملاذ أخير لها أمام التهديدات الوجودية التي تواجهها من تركيا، التي بدورها تسعى إلى تأمين الشريط الحدودي التركي السوري، إلى جانب العمل على مكافحة نشاط قسد انطلاقًا من شرق الفرات وصولًا إلى مدينة المالكية الحدودية مع العراق بطول يبلغ حوالي 480 كم([3]).

تقاسم النفوذ العسكري والإداري بين النظام وقسد

تبدأ مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية من شرق نهر الفرات في مدينة منبج ثم جنوبًا باتجاه مدينتيْ الطبقة والرقة ثم شرقًا باتِّجاه محافظة الحسكة إلى المالكية قرب الحدود العراقية ثم جنوبًا مدينة البوكمال ومعبر القائم الحدودي مع العراق. وتوجد في هذه المنطقة خطوط اشتباك ومواجهة مع المعارضة المسلحة من جهة منبج وجهة الجيب الذي سيطرت عليه المعارضة في عملية نبع السلام الممتد من رأس العين إلى تل أبيض.

كما تمتلك قوات سورية الديمقراطية جيبًا عسكريًا في غرب الفرات في مدينة تل رفعت وما حولها. وتتداخل مناطق سيطرتها أيضًا مع جيوب إدارية مشتركة بين الإدارة الذاتية التابعة لقسد وحكومة النظام السوري في مدينة الحسكة والقامشلي والعريمة.

وتُعتبر منطقة سيطرة قسد جيب عسكري شبه معزول فمن الشمال مستهدف من قبل تركيا ومن الجنوب محاط بمناطق سيطرة النظام الممتدة من الحدود العراقية والبادية وصولًا إلى حلب، ومن الغرب يقع هذا الجيب ضمن مرمَى أهداف قوات المعارضة في شرق الفرات وغربه، أي أن الجيب العسكري الذي تسيطر عليه قسد محاط بتهديدات وأعداء محتملين لذلك فإن موقف قسد في أي عمليات تفاوضية لن يكون قويًا؛ على اعتبار أن المفاوضات ترتبط بنطاق السيطرة على الأرض.

 لذلك فإن قيادة قسد سارعت إلى إعلان قبولها بإجراء مفاوضات على عدة ملفات مع النظام عندما قررت تركيا البدء بعملية نبع السلام لأنها تدرك أن الدخول التركي إلى مناطق سيهدد بشكل أكبر بقية مناطق نفوذها لكن النظام اختار مماطلة الوقت ومناقشة القضايا الملحَّة مع قسد والتي أدت إلى استقرار خطوط المواجهة الجديدة في شرق الفرات، ودخول قوات النظام إلى مناطق سيطرة قسد بداعي حمايتها من هجوم تركي([4])، وحينها تمكن النظام من تحقيق اختراق عسكري لمناطق نفوذ قسد عبر اتفاق سياسي بطبيعة الأمر الواقع لتشكيل حاجز ردع ضد المعارضة وداعمتها تركيا يمنع امتداد الهجوم خارج منطقة تل أبيض ورأس العين.  

الأهداف الروسية من بناء المفاوضات

كان الموقف الروسي في دعمه لقوات سورية الديمقراطية دبلوماسيًا أكثر منه عمليًا، واتضح ذلك من موقف روسيا من عملية نبع السلام عندما أعلن الكرملين بأنه يتفهم حقَّ أنقرة في حماية حدودها بدون أن تتأثر وحدة الأراضي السورية وجهود العملية السياسية([5])، ويشير هذا الموقف إلى وجود تأييد ضمني روسي أيضًا لعملية نبع السلام؛ فهي ترى أن سعي أنقرة إلى إضعاف وإنهاك قوات سورية الديمقراطية سيدفع الأخيرة إلى تقديم تنازلات في أي مفاوضات محتملة مع النظام حليف روسيا حول مستقبل الأكراد في سورية، أي إن إضعاف قوات سورية الديمقراطية سيؤدي إلى خفض سقف تطلعاتها بالمطالبة بإدارة ذاتية غير مركزية للمناطق التي تسيطر عليها في دستور سورية الجديد الذي ستتم صياغته عن طريق اللجنة الدستورية السورية التي شُكلت مؤخرًا([6]). وبالفعل دعا وزير الخارجية سيرغي لافروف بعد انطلاق نبع السلام إلى “عقد حوار بين النظام والإدارة الذاتية” الكردية لحل المشاكل في سورية بين السلطة المركزية في دمشق وممثلين عن الأكراد”([7]). ثم قامت مؤخرًا بإيفاد مبعوث لها إلى منطقة شرق الفرات وقام بعدة لقاءات منها مع مسؤولين من الإدارة الذاتية في مناطق سيطرة قسد ولقاءات أخرى في قاعدة حميميم([8]).

ولا يتوقف الأمر على التحركات السياسية الروسية بخصوص ملف الأكراد فقط، إنما أيضًا تعمل القوات الروسية _ بحسب مصادر إعلامية_ على تأسيس وحدات عسكرية محلية تابعة لها، ومهمتها ستكون مبدئيًا حماية القواعد والنقاط العسكرية الروسية، ومرافقتها خلال التجول في المنطقة، وقد بدأت ذلك بالفعل في مدينتي عامودا وتل تمر التابعتين لمحافظة الحسكة، واللَّتان تضمَّان نقطتان عسكريتان روسيَّتان، حيث ستتضمن تجنيد 400 شاب، على أن تتولى قوات سورية الديمقراطية تدريبهم على مختلف أنواع الأسلحة بإشراف روسي، تتبع إدارتهم لقاعدة حميميم([9]).

وتأتي هذه الخطوة الروسية بهدف تجنيد أكبر عدد من شبان المنطقة للعمل على استغلال الفشل المتراكم في إدارة المناطق الشرقية لتجنيد أبناء المنطقة ليساعدوها في فرض نفوذها ضمن استراتيجية تهدف لإعادة هيكلة قوات سورية الديمقراطية عبر المواءمة مع طبيعة المناطق جغرافيًا وديموغرافيًا بما يتوافق مع مصالح موسكو التي تريد أيضًا تأمين قوة محلية قادرة على إنشاء حاجز ردع لنقطتيها العسكريتين في تل تمر وعامودا. ويرى مراقبون أن ذلك يأتي ضمن خطة مشابهة لما قامت به موسكو من دعم تشكيل الفيلق الخامس في مناطق درعا وريف دمشق وريف حمص.

عدا عن أن روسيا تسعى إلى بناء ثقل عسكري في شرق سورية مماثل أو يفوق النفوذ الإيراني هناك حيث عملت طهران على تأسيس مليشيات تابعة لها في سورية إلى جانب استقدام مليشيات ومقاتلين من خارج سورية وجعلت ثقلها الرئيسي يتموضع في دير الزور وتحديدًا مدينة البوكمال بالقرب من الحدود السورية العراقية([10]).

الدَّور السِّياسي لقسد في مسار التسوية السُّوريَّة

أثار استبعاد الجناح السياسي لقوات سورية الديمقراطية من مباحثات اللجنة الدستورية، توترًا في مسار علاقاتها مع موسكو، التي أغرقتها عبر سلسلة من المفاوضات في قاعدة حميميم بوعود عن دورها السِّياسي، ومع مطلع العام 2020 كثّفت موسكو جهودها في ملف الوساطة بين قسد والنظام، وأجرت عدة لقاءات في قاعدة حميميم، وعلى أثرها نجحت موسكو في إعادة جسور الثقة مع الأكراد وضمنت التحكم في خياراتها السياسية بعد ضبط دورهم العسكري في المناطق الخارجية عن حدود عملية نبع السلام. وقد لاقت الجهود الروسية صدى داخل الأوساط الرسمية للجناح السياسي لقسد والتي أعلنت في أوائل فبراير 2020 عن قبول دمشق بالبدء بمفاوضات سياسية، لمناقشة ملف الإدارة الذاتية المحلية للمناطق التي تسيطر عليها في شمال شرق سورية.

وبعد وضوح كل الأهداف البراغماتية التي تسعى موسكو لتحقيقها من وراء رعايتها للمفاوضات تبدو قوات سورية الديمقراطية في موقف حرج ولا تملك الكثير من الخيارات للعب مناورات سياسية، فبعد إعادة ترتيب اللاعبين تسعى في هندسة الوضع العام لشرق الفرات وتوزيع حدود السيطرة التي نتجت بعد تنفيذ تركيا عمليتها الأخيرة نبع السلام، أدركت قسد أنها فقدت أهم ورقة لديها كانت تستخدمها في الضغط على الحلفاء وهي الورقة العسكرية، لذا لم يبقَ لها إلا الرهان على نزع مكاسب على الصعيد السياسي ولا يوجد أمامها إلا اللاحق بتوجهات إدارة الكرملين، لكن سقف الطموحات تبقى منخفضة مع حملها عوامل تفكيكها.

وتأمل قوات سورية الديمقراطية في نجاح مباحثاتها مع النظام السوري، بعدما فشلت خلال العامين الماضيين عبر تعطيلها من الولايات المتحدة، لكن بعد أن نفذ ترامب إعادة انتشاره حول حقول النفط في الشمال الشرقي، يتضح أن محددات العلاقة الأمريكية معها اقتصرت على اتفاقيَّات أمنية، الأمر الذي دفع موسكو إلى إعادة تفعيل المفاوضات ورعايتها بين قسد والنظام بهدف التوصل لاتفاقيات شبه نهائية بين الطرفين تعود على موسكو في زيادة دورها في منطقة شرق الفرات والاستفراد بها مستقبلًا على حساب بقية اللاعبين([11]).

بالتالي فإن الحسابات والتوازنات الدولية والإقليمية بالنسبة لمنطقة شرق الفرات لا تزال غير مستقرة فهل سيؤثر ذلك على تحقيق الأهداف الكاملة الروسية؟ هل سيؤدي حجم التباينات أيضًا إلى عرقلة مسار الحل السياسي في سورية الذي شهد دفعًا للأمام بتشكيل اللجنة الدستورية؟


([1]) “القوات الأميركية بسورية.. هذه أهدافها ومواقعها”. الجزيرة نت، 24-4-2018. https://bit.ly/2Vqjkc0   

     “القوات الفرنسية في سورية غير قادرة على حماية إرهابيي “ي ب ك”. الأناضول، 26-12-2018. https://bit.ly/2rTe42J

     “الأركان الفرنسية تقر بوجود قوات برية لها في سورية”. الأناضول، 28-12-2018. https://bit.ly/2nt5jh9

([2]) “أردوغان يعلن انطلاق عملية نبع السلام بشمال سورية”. الأناضول، 9-10-2019. https://bit.ly/33leU8W

([3]) “3 في 1.. أهداف العملية التركية المرتقبة شرق الفرات بسورية”. الأناضول، 7-10-2019. https://bit.ly/2nnu7XQ

(4) “النظام السوري يعلن دخول منبج بعد انطلاق عملية للمعارضة والجيش التركي بالمنطقة”. الجزيرة نت، 14-10-2019. https://bit.ly/37t2nlT

([5]) “الكرملين: نتفهم إجراءات تركيا لضمان أمنها ونأمل تمسكها بوحدة التراب السوري”. دايلي صباح، 8-10-2019. https://bit.ly/2q0WfkD

([6]) ” الأمم المتحدة تعلن تشكيل اللجنة الدستورية السورية”. فرانس 24، 23-9-2019. https://bit.ly/2IDsEEb.

([7]) “موسكو تدعو لحوار بين الأكراد ودمشق.. وقسد تدرس الخيارات”. العربية نت، 9-10-2019. https://bit.ly/2M04m9y

(8) “إلهام أحمد: دمشق وافقت على حوار سياسي بضمانة موسكو”. الشرق الأوسط، 9-2-2020. https://bit.ly/2Hm3R6x

(9) “تغيير جذري في الشمال السوري: تأسيس مليشيات روسية!”. المدن، 20-1-2020. https://bit.ly/2SkRJZT

(10) “إيران تعمِّق بصمَتها في دير الزور”. شاتام هاوس، فبراير/ شباط 2018. https://bit.ly/37j4Crz

(11) “قسد” تواجه أسئلة المصير: أوراق القوة والضعف”. العربي الجديد، 26-3-2020. https://bit.ly/2SFsvVd

       “إلهام أحمد: دمشق وافقت على حوار سياسي بضمانة موسكو”. الشرق الأوسط، 9-2-2020. https://bit.ly/2Hm3R6x

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى