الاصداراتدراساتمتفرقات 1

صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية.. لمؤلفه أرنست فولف.

 

96321

ترجمة: عباس عدنان على.

 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – سلسلة عالم المعرفة.

يحاول (أرنست فولف) من خلال عمله تناول تاريخ الصندوق الدولي وآثاره، لكنه إذ يفعل ذلك لا يهتم بعملية التأريخ ذاتها، بل يحاول استعراض أيدولوجيا الصندوق، وتدخلاته، والمقاومة التي تثور ضده، أو ضد الحكومات التي تتبع برامجه، رغبة منها في الحصول على التمويل.

فكيف يمضي إلى ذلك إذن؟ يتحرك فولف بالتحليل بين تجارب عديد من الدول مع الصندوق لكنه لا يسمح للتفاصيل أن تبتلعه ليقع في فخها، ويحاول أن يخرج برؤية شاملة تسع التفاصيل الكثيرة. فصحيح أنه يسرد العديد من التجارب إلا أنه لا يفوته أن يذكّرنا بدلالاتها المختلفة، وعلى طريقته هذه تراصت الحروف التالية الي جوار بعضها، إذ تتحرك بين تجارب ثلاث: تبدأ بشيلى، مرورًا بجنوب إفريقيا، وانتهاءً باليونان، ولكل تجربة دلالة ترِد محاولة توضيحها في ثنايا الحديث، ونعود إليها في الخاتمة.

في البدء كان التمويل

يبدو القول بأن صندوق النقد الدولي يمارس هيمنة وسياسات للإفقار على أغلب دول العالم، يبدو غير مكتمل أو يفتقر إلى توضيح ما، إذ يقوم الصندوق بتمويل أعضائه، وعليه فليس مفهومًا أن تقوم تلك الدول بإفقار نفسها. فعندما نقول أن الصندوق يمارس هيمنة فنحن نقصد على وجه التحديد (الولايات المتحدة الأمريكية)، وبعض الدول الكبرى أحيانًا من بعدها. حيث مكّنت ظروف نشأة الصندوق الولايات المتحدة من بسط هيمنتها عليه أو لنقل: إن تكوين الصندوق في هذه الظروف كان مقصودا منه: أن تؤول الإدارة والتحكم فيه لمن آلت إليه الأمور.

مثّلت هذه الظروف الفرصة لكي تُملي الولايات المتحدة شروطها حول طريقة عمل ونظام وأجندة المؤسسة الجديدة، لذا فإن عمل الصندوق تم توجيهه في البداية تجاه محاولة تعميم نموذج السوق الحر مهما كلّف الأمر، وذلك من خلال: التسويق للصندوق باعتباره الحل الأمثل للمشكلة الأكثر انتشارًا التي تواجه معظم الحكومات وهي (التمويل)، لكن ذلك لا يأتي دون شروط.  مثلت (شيلي) بداية جيدة لاختبار فاعلية الصندوق وفاعلية أداة التمويل تلك، فبعد الإطاحة بـ (سلفادور الليندي) بتدخل أمريكي وتولى الجنرال (بينوشيه) الحكم احتاجت ميزانية (شيلي) للتمويل فكان الصندوق حاضرًا وبمساعدة من (Ghicago Boys) جري وضع البرنامج الذي سيعرف فيما بعد ببرنامج «العلاج بالصدمة».

حيث جرى تخفيض الإنفاق الحكومي إلى أقصي حد مع التوسع في نظام الخصخصة وشمل ذلك: قطاعي الصحة والتعليم، وكذلك زادت معدلات الضريبة على الأفراد العاملين الذين نالهم تخفيض الإنفاق الحكومي، في حين جرى خفض الضرائب الجمركية، والضرائب المستوفاة من الشركات، فأتت النتائج كما كان متوقعًا ومطلوبًا، حيث ارتفعت البطالة في خلال عامين فقط من 3% إلى 18% وذلك بين الطبقات التي تعيش أصلًا تحت خط الفقر، و في المقابل استحوذ 10% من السكان علي 46% من الدخل القومي، وبالتبعية فإن جزءًا كبيرًا من هذه الفوائد تصب في صالح الشركات متعددة الجنسية التي هي بالصدفة أمريكية،  وقد عني هذا الوضع بلغة تقارير الصندوق أن الناتج القومي قد شهد نموًا دون الحاجة الي ذكر الطريقة التي حقق بها ذلك أو في مصلحة من يصب.

قصة لم تروَ بعد

لا يتوقف أثر أشكال التمييز العرقي – العنصري عند الإهانات المباشرة والرمزية التي تقع علي طرف ما فحسب، بل يمتد هذا التمييز ليعيد هيكلة الحياة من مجمل زواياها، بمعنى أن ما نحن بصدده عند الحديث عن نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا هو لا مساواة وظلم اجتماعي يستند إلى العنصرية كقاعدة انطلاق، وعليه فقد كانت ثلة من البيض يستمتعون بثروات هائلة، ولم يكن العالم الحر والصندوق يكترث لتلك العنصرية وما نتج عنها من احتكار لكلٍ من السلطة والثروة معًا، طالما بقي النظام قادرًا علي الاستمرار وطالما بقيت الحكومة تتبع اقتصاد سوق حر. فبينما كانت قوات الشرطة تحصد أرواح الطلبة الذين تظاهروا في قرية (سويتو) بالقرب من جوهانسبرج في العام (1976م) كان الصندوق يمول الحكومة بملياري دولار.

هذا المركب العنصري الطبقي جعل السخط يتصاعد بوتيرة أسرع نحو تآكل شرعية النظام السياسي وعزّز من احتمالية سقوطه على إثر المقاومة التي تزداد بعنف. وعلى هذا النحو فإن إلغاء نظام الفصل العنصري سيلحق به تغيرات اجتماعية فيما يخص توزيع الثروة، وستتجه السلطة الجديدة المُفترضة نحو سياسات العدالة الاجتماعية، فلم يكن غريبا أن يرد في «ميثاق الحرية» الذي أطلقه المؤتمر الوطني الإفريقي إشارات تطالب بتوجيه الاقتصاد من قبل الدولة وتأميم بعض المشاريع الاحتكارية وكذا المصارف والثروات الطبيعية، فتلك هي الحزمة التي ستأتي مع إلغاء نظام الفصل العنصري إن تم ذلك من أسفل بفعل ثوري.

لهذه الأسباب تحديداً علقت الولايات المتحدة والصندوق القروض المفترض تمويل حكومة جنوب إفريقيا بها ودفعوا باتجاه إجراء حوار بين الحكومة والمؤتمر الوطني، ويمكن أن نلاحظ في مكان عقد أولى اللقاءات بين الحكومة والمعارضة إشارة إلى الأطراف المستفيدة من إدارة الوضع بتلك الطريقة فقد جرى ذلك في فيلا تتبع لشركة «CONSOLIDATED GOLD FIELDS» إحدى الشركات التي تمتلك سجلاً باهرًا في استغلال عمال المناجم! حيث انتهت المفاوضات بالمقايضة التالية: يتنازل المؤتمر عن حقه في استخدام العنف والرغبة في التحول إلى اقتصاد موجه من الدولة، وكذا الاعتراف بشرعية الديون الأجنبية مقابل إلغاء الحظر عن المؤتمر الوطني، وإطلاق سراح مانديلا، وقد قبل المؤتمر بذلك!

عنت هذه المعادلة أن يلعب مانديلا دوره التاريخي في الحفاظ على اقتصاد رأسمالي موجه لصالح قلة من البيض، وإبقاء تبعية البلاد للمؤسسات المالية الدولية، وليس ذلك الدور البطولي في تحرير السود من الاستغلال الاجتماعي وقاعدته العنصرية. فلم يكن ما تنتظره جنوب إفريقيا في أيامها المقبلة هو إبداع جديد بل كالعادة اعتماد برنامج «التكيف الهيكلي» وسياسات النيوليبرالية، حيث قامت حكومة مانديلا بإجراءات خفض كبير للإنفاق الحكومي ورفع معدلات الفائدة بإلغاء القانون المحدد لسقفها بـ 32%، ويضاف إلى ذلك تقليص أجور العاملين لدى الدولة، في المقابل تم إلغاء الضرائب الجمركية وانتعشت الطبقات الغنية – البيض بسبب التسهيلات الضريبية الكبيرة التي وفرتها لهم حكومة مانديلا!

كان لهذه السياسات بالغ الأثر الضار بالفئات المحرومة – السود ففي خلال أعوام قليلة ارتفعت بطالة السود بنسبة 10% وانخفض الدخل بنسبة 19%، وبينما كان يعيش تحت خط الفقر مليون ونصف المليون ارتفع الرقم إلى مليونين في حين ارتفع دخل الشريحة البيضاء بنسبة 23%، غير أن ما يدعو إلى الإحباط أكثر هو تراجع المؤتمر عن أحد أهم أهدافه الخاصة بإعادة توزيع 30% من الملكية الإقطاعية وكي يتوافق ذلك مع سياسة السوق الحر جرت إعادة التوزيع على نسبة 1% فقط!

لم تتوقف الأمور عند هذا الحد بل أدت سياسات التقشف والخصخصة إلى مشكلات اجتماعية بالغة حيث أفضت خصخصة شركات الإسالة إلى ارتفاع أسعار المياه الصالحة للشرب؛ لذا فإن عشرات الآلاف من الأطفال دفعوا لمفارقة الحياة كل عام بسبب ندرة المياه الصالحة للشرب، وذلك لأن مانديلا لم يمثل حلم التحرير بقدر ما مثل طريقًا أمثل للمتربعين أعلى السلم الاجتماعي للحفاظ على أوضاعهم الطبقية، وعلى الجانب الآخر فإن بعض رفقاء الكفاح قد تركوا دربهم ليسلكوا ممرات أخرى كحال (سايريل رامافوزا) الذي تحول من مناضل ومؤسس لنقابة عمال المناجم إلى رأسمالي كبير وصاحب مليارات جعلته واحدًا من أكبر أغنياء جنوب إفريقيا.

وأوروبا أيضاً على المحك

يتركز النقد في أغلب الأدبيات التي تتناول دور المؤسسات المالية كصندوق النقد علي مناطق من العالم تتحرك بين إفريقيا وأمريكا اللاتينية بالأساس بحسبانها مخاض تجارب ودور هذه المؤسسات، في حين أن القليل من الأدبيات ينظر في الدور الذي تلعبه هذه المؤسسات الأوربية الغربية في أوروبا نفسها، وهذا ما لم يغفله أرنست، إذ يخصص جزءًا كبيرًا من نقده لتناول تدخلات الصندوق في أوروبا، ويمكن أن ننظر سريعا في هذا من خلال اليونان باعتبارها المقابل لتجربة شيلي، أو باعتبارها حقل تجارب حزم التقشف التي ستعم أوروبا بعد ذلك، إذ ستدخل إيرلندا، وأيسلندا، وكذا البرتغال، وإيطاليا، ضمن إجراءات برامج التقشف تلك وإن كان بنسب مختلفة، لكن ما يبدو مهمًا هو أن مواطني أوروبا ليسوا بعيدين بعد الآن عن الخطر الذي يرافق برامج الصندوق.

في نهاية أوكتوبر من العام (2009م) أعلنت حكومة اليونان أن عجز ميزانيتها سيبلغ ضعف ما كان متوقعًا. وفي عشية تلك الليلة، فرضت الترويكا (صندوق النقد، المصرف المركزي الأوروبي، والاتحاد الأوروبي) وصايتها على ميزانية الحكومة. أُريدَ لليونان ليلتها أن تكون محل تجربة اجتماعية يفترض منها الإجابة على السؤال التالي: إلى أي مدى يمكن لشعب ما أن يتحمل قسوة الإجراءات التقشفية، وما هو الحد الذي قد تنفجر عنده الثورة؟!

و لكي نجمل البرنامج المُعد لإجراء تلك التجربة والمكون من أربع حزم تقشف يمكننا أن نذكر التالي: جرى تقليص فرص العمل بالقطاع الحكومي بنسبة 80%، وتم تجميد رواتب الموظفين التي تتجاوز حد الـ ((2000 يورو، بالإضافة إلى خصخصة ثروات للحكومة بقيمة 50)) مليار دولار، وأيضًا تم تسريح (170) ألف موظف لدى الحكومة، وأخيرًا تم تقليص نفقات قطاع الصحة بنسبة الثلث.

ويمكننا هنا أن نعدد آثار هذا البرنامج، لكن عوضًا عن ذلك يمكن أن ننظر في أثر النقطة الأخيرة فقط؛ لما لها من تداعيات على الوجود المادي نفسه للمواطنين، فقد عنى ذلك: أن عليك أن تدفع أجر ثلاث شهور نظير الولادة في المستشفى، وأن نصف عدد المستشفيات الموجود قد أغلقت أبوابها تمامًا، وتعين أيضا تسريح 26)) ألف عامل في هذا القطاع، وارتفعت أيضًا نسبة وفاة الأطفال بنحو21% في غضون عامين فقط! وهكذا لم تتمكن الأسر من الحفاظ على مستوى معيشتها فقط، بل أيضًا لم تحافظ على الوجود المادي لأفرادها.

 ولكي تبدو الصورة أكثر وضوحًا يجب أن نذكر أن هذه الإجراءات تمت بصورة غير ديمقراطية وعنيفة أيضًا، إذ تدخلت الترويكا لعزل رئيس الوزراء؛ لعزمة إجراء استفتاء حول الإجراءات التقشفية، كما جرى التعامل بعنف من الأجهزة القمعية تجاه المحتجين في الشوارع وبتأييد من الترويكا.

خاتمة

ما الذي جعل محاولة إرنست فولف مهمة ومختلفة على نحو ما؟ يمكن أن نجد الإجابة في قدرته على الجمع بين عدة أمور قل اجتماعها في كتابات أخرى، فهو لا يركز على إفريقيا وأمريكا اللاتينية فحسب، بل يُركز بالمثل علي أوروبا وطرق الصندوق في التعامل معها ومحاولته فرض شروط تؤدى في النهاية إلى تثبيت التمايز والتفاوت الطبقي إلى حد بعيد.

حينما يفعل أرنست ذلك، فهو يساعد في تغيير الرؤية التي تقول بأن: شعوب العالم الثالث تتعرض للظلم والاستغلال من العالم الغربي، إلى رؤية أعمق تقول بأن حقيقة الصراع ليست ضد منطقة جغرافية تدعى العالم الغربي، فحديثه عن أوروبا يُبيّن مدي مأساوية الوضع الذي يعيشه ملايين الأوروبيين أيضا، لذا فإن الأوجه هو أن «معذبو الأرض» لديهم صراع مع نظام معرفة وأيديولوجيا النيوليبرالية وآلتها الرأسمالية، وهذا هو الجانب الذي تغفله إسهامات أخرى كجون بيركنز في كتابه «الاغتيال الاقتصادي للأمم» وأيضا جون مندلي في« نهب الفقراء» .

ما يسلط أرنست الضوء عليه أيضا هو هيكل/بنية النظام الاقتصادي والتطور العولمي، الذي ضاعف فاعلية المؤسسات الرأسمالية كالشركات متعددة الجنسية ومكّن صندوق النقد من إحكام سيطرته على العالم، في حين أدى نفس العنصر دورًا سلبيًا تجاه الحركات والنقابات العمالية التي انكفأت على حيزها القومي وهي تقاوم شبكة مترابطة عالمية ومتجاوزة للقومية. ويعرض آرنست بإيجاز شكل هذه البنية التي تشرف عليها النخبة الرأسمالية من خلال حديثه عن المؤسسات التعليمية التي تتولى تخريج «الخبراء» الذين يدعمون في النهاية هذه الشبكة التي مولت ودعمت عملية تعليمهم من رأس مالها.  باختصار، ما حاول فولف فعله وما جعل من عمله إسهامًا مختلقًا هو السعي نحو توضيحٍ أفضل لعالم من اللا مساواة يشرف عليه الصندوق ويبنيه بدلًا من الاقتصار على ذكر مجموعة ضخمة من التفاصيل والمعلومات، وهو إذ يفعل ذلك فهو يسعي نحو خلق وعى يعرف كيف يقاوم بدلًا من أن يبكي على معاناته.

للتحميل من هنا

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى