الاصداراتمتفرقات 1

حكم الله … ورطة الفقهاء في الأزمة الخليجية

حكم الله ورطة الفقهاء في الأزمة الخليجية
هل يجوز شرعا إعلان الحرب على دولة من الدول الإسلامية؟ وهل يجوز استخدام وسائل تجويع وتخويف شعب من الشعوب المسلمة من طرف مجموعة أو دولة من الدول الإسلامية ضد أخرى؟ وهل يجوز تنفيذ عقوبات اقتصادية واجتماعية وأخلاقية بالتحالف والتعاون مع قوي ودول غير مسلمة؟ وهل يجوز اتهام علماء وشيوخ مشهود لهم بالعلم؛ بتهم (الإرهاب)- وهي التهمة الموصوفة في الأدبيات الفقهية بتهمة (الحرابة)- التي توجب لها الأدبيات الفقهية الإسلامية عقوبات صارمة ومؤلمة؟ وهل يجوز إعلان الحرب على من يقاتل ويناضل من أجل القضايا العادلة والشرعية للأمة (قضية فلسطين)؟ وهل يجوز تجريم (فقهيا) المؤسسات والشخصيات، التي تقدم خدمات الإغاثة والتطبيب والتعليم، وغيرها من الخدمات؟
قليل أسئلة، من حزمة طويلة من التساؤلات، التي فرضتها ما يعرف بالأزمة القطرية، في مستواها الفقهي، على العقل الفقهي الإسلامي، الذي سارعت المجامع والمؤسسات والشخصيات الفقهية، إلى الانخراط في أتون الأزمة، في مزاحمة للنخب السياسية والدبلوماسية، حتى أن الخطاب الفقهي، بدأ يعلو سقفه على بقية الخطابات الأخرى، من خلال الطبيعة العاطفية والطاقة الشعورية، التي يجدها هذا الخطاب (في الأمة) ، مستعينا بجبروت وسائط التواصل الاجتماعي، إلا أن الخطاب الفقهي، يجد نفسه في مواجهة أزمة داخلية معقدة، تتمثل في تناقض أطرافه، وتصادمها في تقديم (حكم الله)، في هذه الأزمة، وتوفير الإجابة المناسبة (الفتوى الشرعية)، للسلوكيات والقرارات المتخذة في هذه تفاصيلها وتداعياتها.
المشكلة السنِّية
الأزمة القطرية – في مستواها الفقهي- تعني مباشرة المؤسسة الدينية الوهابية (الحنبيلة)، التي وجدت نفسها في مواجهة أكبر تحد يواجهها، منذ تأسيسها، وهي الأزمة التي تأتي في سياق معاناة المؤسسة الدينية الوهابية، منذ اندلاع ما أطلق عليه (الثورات العربية)، إلا أن الأزمة القطرية، حشرت المؤسسة الوهابية في الزاوية الضيقة، ودفعتها إلى التشتت والتشرذم، وفضل شيوخها الانتشار في فضاءات التواصل الاجتماعي، للتعاطي مع المراهقين، دون أن يكون لهم من علامات ومعايير يتفقون عليها، فجاءت فتاواهم على مقاس المسافة، بين كل واحد منهم، وبين مصادر صناعة القرار، فقد أفتى الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي:( بأن الإجراءات التي اتخذتها السعودية والإمارات ضد قطر بـالسديدة، وأن تصنيف عدد من الجماعات والمؤسسات إرهابية هو قرار سديد. داعيا العاملين في الإدارات السعودية كافة للالتزام بالتوجيهات التي أصدرتها المملكة وعدد من الدول العربية الشقيق)، ولكن الغريب أن أغلب دعاة وعلماء المملكة العربية السعودية اكتفوا بالتأييد المطلق لولي الأمر والدعوة له بالتوفيق والسداد في موافقة واضحة وضمنية لقرارات حصار دول قطر. فالداعية عائض القرني قال: (‫اللهم وفق مليكنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده وولي ولي عهده لما تحب وترضى، واحفظ مملكتنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن) والداعية محمد العريفي قال: (اللهم أسبغ علينا نعمتك ظاهرة وباطنة وارزقنا وولاة أمرنا التوفيق لكل خير، ووحد قلوبنا على ما يرضيك عنا وزدنا أمنا وأمانا، وخيرا وإيمانا)، إلا أن المدد والإسعاف، جاء من أكبر مؤسسة فقهية سنية هي (الأزهر)، الذي سارع إلى حسم أمره، وأعلن الحرب (الفقهية) ، على السنة في دولة قطر وجزء من رجاله ومن الفلسطينيين، وقد سبق للأزهر أن رفض إعلان نفس الحرب على (داعش) ، وعلى الشيعة (إيران) ، ليدخل الأزهر في حرب فقهية، ضد أتباع مذهبه من السنة.
ودون أن يمر طويل وقت، حتى جاء الرد الفقهي (السني)، على الحرب الفقهية السنية الأزهرية، فجاءت فتاوى أخرى معاكسة تماما، من طرف هيئات ومجامع فقهية سنية، لها شرعيتها الفقهية ومكانتها العلمية وشعبيتها القوية، فقد أفتى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بأن (الوحدة بين الأشقاء فريضة شرعية وضرورة واقعية وأن لصلح واجب وأن القطيعة محرمة في الشريعة الإسلامية) وأوضح موقفه في أن ( إيذاء المسلم للمسلم حرام، وقد تعددت وتنوعت طرق الإيذاء بين النفسية والجسدية والاجتماعية، التي تتجسد في قطع الأرحام)، وهي الحرب الفقهية السنية الداخلية، التي حملت قوة ردعية، وكشفت على استماتة عنيفة، واستعداد رصين في خوض معركة فقهية سنية طويلة الأمد، دون الاكتراث بالتكاليف المتوقعة فقد ذهب الفقيه أحمد الريسوني إلى أبعد من ذلك في الفتوى التي أصدرها بدعوة (العقلاء، وقادة الرأي، وأهل الغيرة على أمتهم، تمزيق هذه الوثيقة – وثيقة الحصار على قطر- كما سعـى الشرفاء من قريش وهم على جاهليتهم! لتمزيـق وثيقة حصار بني هاشم وذلك ببيان الحق، وإظهاره، والسعي بالسبل المتاحة لإنهاء الحصـار، لإنقاذ أهل قطر مما سيلم بهم من المصاب الجلل، وكذا الأمة مما سيصيبها من مزيد الفرقة والوهن أمام أعدائها).
إن إسعاف الأزهر للمؤسسة الوهابية، التي احتمت به، قابله توجس وصمت مريب من المؤسسة المذهبية السنية (المالكية)، في شمال إفريقيا، بالرغم من مسارعة دولة موريتانيا، إلى الانخراط في الأزمة وقطع علاقاتها بدولة قطر، وهو القرار السياسي الذي لم يجد ما يسعفه من مساندة أو دعم، من الصوت الفقهي المغاربي الذي حرص على الاحتماء بالصمت، وهو الصمت الذي يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، الرفض الصارم، وعدم الرضا على الحرب الفقهية السنية الأزهرية، ضد السنة في قطر وفلسطين، وهو الموقف الذي من شأنه أن يزيد من تعميق الهوة الفقهية، بين المؤسسات الفقهية السنية، ويفتح عليها أبواب التشرذم مستقبلا، ويفقدها مصداقيتها الشعبية، ويقدح في شرعيتها الأخلاقية، فقد أوضحت فتوى مئة عالم من علماء رابطة علماء السنة بأن الحصار الذي قامت به بعض الدول العربية، على رأسها السعودية والإمارات، لدولة شقيقة وشعب مسلم هو حصار محرم شرعا، يزيد إثمه في شهر الرحمات والبركات وأن البيانات التي أيدت الحصار والقطيعةَ الصادرة عن الأزهرِ، ورابطة العالم الإسلامي، ومنتدى تعزيز السلم، وغيرِها، لا تمت إلى الفقه والشريعة بصلة، بل هي بيانات سياسية تخالف أدنى قواعد الشريعة ولغة الفقه والأخلاقِ، ومبنية على دعاوى ظالمة، ولم تقم على دليل أو برهان.
 
  الانحياز الفقهي
لقد دفعت الأزمة القطرية، العقل الفقهي السني، إلى خوض الحروب الفقهية ضد نفسه، وأفقدته أهم مقوماته، فالعقل الفقهي السني تقوم شرعيته على الانحياز إلى مطالب الرأي العام (الحق العام للأمة)، في مقابل قرارات ولي الأمر (السلطان)، وهو الانحياز الذي تراكم عبر القرون، من تلك المواقف والسلوكيات، التي قامت بها المؤسسة الدينية الفقهية السنية، وكسبت بها شرعيتها، وأسست لسلطتها في المخيال الشعبي المتجاوز للقرون فقد أفتى الأزهر بجواز مقاطعة دولة قطر وأكد في بيانه بأنه (يشيد بالموقف الذي اتخذه القادة العرب بشأن النظام القطري لضمان وحدة الأمة العربية واستقرارها، وأن تأييده ودعمه للموقف العربي، في قراره بمقاطعة الأنظمة التي تدعم الإرهاب، وتأوي كيانات العنف وجماعات التطرف، وتتدخل بشكل سافر في شؤون الدول المجاورة واستقرارها وأمن شعوبها).
وخلال الأزمة القطرية، فقد العقل الفقهي السني، توازنه نتيجة الضربات المتوالية له، منذ اندلاع ما سمي بـ (الربيع العربي)، الذي قرر العقل الفقهي السني مواجهته، دون أن يمتلك من الأدوات والأساليب، التي تجعل منه يحقق أهدافه ويكسب رهاناته، ولأول مرة، يظهر العقل الفقهي السني، غير قادر على إعادة إحياء تلك التوليفة بين (الفقيه)، وبين (ولي الأمر)، وهي التوليفة التي طالما أمدته بطاقة التوازن والتمثيل العام، وعدم فقدان الشرعية الأخلاقية والسيطرة المخيالية، مما فتح عليه أبواب التنازع الداخلي، وتخريب شرعيته الفقهية فقد أكد مفتي السعودية فى فتوى أصدرها بأن (القرارات الأخيرة التي اتخذتها المملكة، وعدد من الدول ضد قطر أمور إجرائية، فيها مصلحة للمسلمين ومنفعة لمستقبل القطريين أنفسهم، هذه القرارات مبنية على الحكمة والبصيرة، وفيها فائدة للجميع).
إن المشكلة الكبرى، التي تواجه العقل الفقهي السني اليوم، تبرز في تلك المسافة بين حق الأمة (الرأي العام)، وحق ولي الأمر (السلطة السياسية)، وهي المسافة التي تقع فيها المصالح والمستجدات والطوارئ، التي تفرزها ظروف الجماهير، وتتحمل تكاليفها، والتي تتطلب أن تكون قرارات العقل الفقهي (الفتوي)، منسجمة مع التطلعات والرغبات والآفاق، التي تبغي الجماهير الوصول إليها، بعيدا عن حسابات السلطات والدول، لأن قرارات العقل الفقهي في المخيال الجمعي، هي نتيجة لتبصر عميق لتحقيق العدل والحق والحرية، وتقليص أكبر قدر من هوامش الضرر، الذي تتحمله فقط هذه الجماهير، كون (حكم الله) يتضمن حماية القيم، وصون الحقوق، وضمان الكرامة الإنسانية.
 
الحسم الشيعي
التيار الشيعي بكل أطيافه، يكون قد حسم أمره تجاه الأزمة القطرية (فقهيا) ، كونه تمترس وراء استراتيجية مواجهة (الشيطان الأكبر)، والاستكبار العالمي، وقد استند العقل الفقهي الشيعي، على (ولاية الفقيه)، فظهر منسجما على الأقل على مستوى التعاطف الشعبي، ومنسجما مع المزاج العام (الأمة)، الذي ظهرت به الأزمة القطرية، خاصة وأن العقل الفقهي الشيعي، استند على هذا الرصيد المزاجي، في إلحاق ضربات قوية وقاسمة بالعقل الفقهي السني، الذي حصره العقل الفقهي الشيعي، في زاوية حادة، وجعله في موقع التحالف مع الغرب (الصليبي)، والتآمر معه على قضايا الأمة المصيرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، التي ظهر العقل الفقهي السني، متخاصما معها ومعاديا لها، وساعيا إلى تدميرها، ومصرا على الانتصار للصهيونية العالمية.
حتى على المستوى الأخلاقي، فقد خسر العقل الفقهي السني معركته، وألحقت به القمة الإسلامية في الرياض، الضربة القاسمة التي جعلته ينحاز إلى عدم الاكتراث لتلك القيم الأخلاقية، والمفاهيم السلوكية والثوابت الفقهية، والمسلمات الدينية، التي تم التلاعب بها، والدوس عليها في نظر الرأي العام، خاصة وأن هذا الرأي العام (الأمة)، كان ينتظر من العقل الفقهي السني، التحرك نحو قمة الرياض، على الأقل لتهذيب سلوكياتها، والتخفيف من سماجة رسائلها، وهو ما عمل على ترويجه العقل الفقهي الشيعي، المدجج بكثافة الثورة التواصلية الحديثة، فتمكن من تعميق الهوة والقطيعة، بين العقل الفقهي السني، وبين أنصاره، الذين انقلبوا عليه، وشنوا عليه الحروب التواصلية.
 
استرجاع الماضي
تواجه الفتوى الفقهية اليوم مشكلة خطيرة خاصة في الحاضرة السنية، تتمثل في إمكانية تمثل الواقع، وإعادة إنتاج تلك الإجابة المناسبة لمستجدات الحالة الراهنة، ولكن الثمن سيكون باهظا، لأنه يتعلق بتلك التكلفة، التي يفترض على النخب الدينية تقديمها اليوم، عبر الذهاب نحو ممارسة جديدة للاجتهاد، على ضوء المتغيرات المعرفية والعلمية الطارئة، وإحداث تلك القطيعة الضرورية، مع محمولات الماضي ومقولاته ومذاهبه واتجاهاته ومنتوجاته، لأنها منطقيا وجدت لظروفها، واستجابت لتحدياتها وكانت إجابة لأسئلتها.
لقد كشفت الفتاوى، التي أصدرتها المؤسسات والشخصيات الفقهية، في الأزمة القطرية، وما ينتظر أن يتم إنتاجه في قادم الأيام، تظهر تلك السيطرة “الماضوية” الكبيرة، والانعطاف الشديد نحو الخوالي من الأيام، ليكون ذلك الإنتاج خاضع لثقافة الماضي، وقياسا على تلك الأحداث المؤلمة والمشؤومة، التي عرفتها حقب الضعف والترهل السياسي، والانحطاط الأخلاقي في التاريخ الإسلامي، والتي ما تزال ترهن العقل الفقهي، وتجعل منه يمارس سلوكيات القياس التقليدي، وإعادة إنتاج الخطاب الفقهي المشحون بالعواطف والانطباعات، والمحمل بالماسي والخيبات، دون أن يحمل الحلول المنطقية والمخارج الطبيعية للأزمات العنيفة، التي تواجه مفاصل الأمة وتهدد كيانها.
إن الحالة الراهنة اليوم، بمستجدات الأمة، تختلف جذريا عن تلك الحالات المشابهة لها في الماضي، وهي الحالات التي تحمل مواصفات الماضي وليس التاريخ، لأن المناهج العلمية في التعامل مع النص الديني، والتعاطي مع مستجدات الواقع، تتطلب توفر آليات معرفية جديدة، ليست بالضرورة تلك الموروثة عن الحقب الماضية، وهي الحالة التي ستجعل العقل الإسلامي، وبالذات العقل الفقهي، في مواجهة أزمة منهجية ومعرفية خطيرة، تهدد مبررات وجوده، وتلغى حاجة المجتمع إليه في الحاضر، وتزيل شرعية خدماته في المستقبل.
لتحميل المقال من هنا
 
 

“الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2017

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى