الاصداراتالدراسات الاستراتيجية

حرب أثيوبيا في إقليم تيغراي أبعد من أزمة داخلية؟

مقدمة

أمرَ رئيس الوزراء الأثيوبي أبي أحمد _في 4-تشرين الثاني/ نوفمبر 2020_ قوات الدفاع الوطني الأثيوبية بشنِّ هجومٍ عسكريٍّ ضد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي الحاكمة في شمال البلاد، جاء ذلك على خلفية ادعاء أديس أبابا بأنَّ الجبهة استهدفت قاعدة عسكرية في أراضيها، واستولت على مُعدات وأسلحة وقتلت العديد من الجنود الأثيوبيين، في حين رفضت الجبهة تلك المزاعم وقالت إنَّ حكومة أبي أحمد تريد احتكار السلطة، وأنَّ القوات في القيادة الشمالية انشقَّت وانضمّت إليها.[1]

ومنذ ذلك الحين ووسط تبادل الاتهامات استمرَّ طرفا النزاع في تحشيد عسكري في عدة محاور تركزت في غرب وشمال الإقليم على مقربة من الحدود الشرقية السودانية والشمالية مع إريتريا، بالإضافة إلى احتدام المعارك في الجنوب على طول الشريط الحدودي الصومالي.

الصراع الحالي سلَّط الضوء على أزمات كامل منطقة القرن الإفريقي والتي شهدت نزاعات حدودية تاريخية، كما كشفت الحرب الراهنة عن أزمات أثيوبيا، كونها تأتي في وقت تُواجه فيه حكومة أديس أبابا تحديات خطيرة في مجالات الاقتصاد والصحة، إلى جانب تنامي النزعات العرقية القومية، المصحوبة بمشاعر استياء من بعض الأقليات تجاه حكومة أبي أحمد.

وهناك مخاوف من أن يقود الصراع الحالي إلى فتح المجال أمام نزاعات داخلية أخرى بين الأقليات المتنازعة، فمن شأن ذلك أن يهدد مستقبل أثيوبيا لا سيما أنها لم تتعافى حتى الآن من الاشتباكات التي اندلعت في 29-حزيران/ يونيو-2020، بعد اغتيال مغني الأورومو “هاتشالو هونديسا”.[2]

وعلى صعيد دولي توجد مخاوف من تداعيات الحرب على دول الجوار، كالسودان – والصومال- وأريتريا- خاصةً بعد تواتر التقارير التي تحدثت عن موجات نزوح كبيرة، كما أنَّ تلك الدول تشترك مع أثيوبيا بجملة من المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية، ولعل ملف سد النهضة المشترك بين (السودان – أثيوبيا- مصر) أحد أهم الملفات التي من الممكن أن تتأثر من جراء الحرب الدائرة، لا سيما أن جولة مفاوضات قد سبقت إعلان الهجوم العسكري وباءت بالفشل بسبب عدم التوافق في الرؤى وتضارب في الأجندات.[3]

وعلى الرغم من كل ذلك يبقى الجدل مستمرًا حول ماهية ودوافع الحرب التي تشنها أثيوبيا في إقليم تيغراي، ودلالات توقيتها سيما أنًّ البلاد تمر في أوضاع سيئة بعد تفشي كوفيد-19، فضلًا عن التداعيات على دول الجوار.

جذور الأزمة

تعود الأزمة في أثيوبيا لعقود من الزمن، لكن يمكن اعتبار عام 1994 مدخلًا مهمًا لفهم طبيعة الأزمة التي عاشتها البلاد، حيث سقط في ذلك العام حكم آخر أباطرة أثيوبيا هيلا سيلاسي، بعد ثورة شعبية، آل الحكم بعده إلى مجموعة من الضباط كانت لهم ميول شيوعية عُرفوا باسم الدرج- أو الدرغ- بقيادة العقيد منجيستو هايلي مريم، وفي عام 1977 أعلن العقيد أنَّ جميع الحركات المتمرّدة في البلاد معادية للثورة، وأمر بحملات ضخمة لتحييد من أطلقَ عليهم المتمردين في إريتريا التي كانت آنذاك جزءًا من أثيوبيا.[4] لكن الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا تصدّت لحملات الدرغ، بعدما اتحدت مع جبهة تحرير تيغراي واستطاعت بعد معارك طويلة من طرد القوات الأثيوبية من جميع المدن الرئيسية بما فيها العاصمة الحالية أسمرة، وفي عام 1993 تمًّ الإعلان رسميًا عن استقلال إريتريا عن أثيوبيا أي بعد عامين من الإطاحة بحكم منجيستو في 1991 . في غضون ذلك دخلت البلاد بمرحلة جديدة تحت قيادة ميليس زيناوي والذي حكم أثيوبيا من خلال ائتلاف حاكم كان يضم نظريًا كل القوميات والعرقيات التي تُقدر بـ بأكثر من 75 قومية، ورغم كثرتها إلا أنه تمَّ الاجماع على 13 عرق يمثلون 19% من سكان أثيوبيا، كان أكبر هذه الأعراق ( أورومو- أمهرة – صومالي- تيغراي – سيداما) لكن عمليًا من كان يُسيطر على مفاصل الدولة هي أقلية تيغراي التي تُشكل من 6 – 7 % ولديهم نفوذٌ كبيرٌ في كل مستويات الحياة، وظل الأمر مستقرًا لغاية موت زيناوي في العام 2012، تلا ذلك دخول أثيوبيا في مرحلة انتقالية جديدة اتسمت بالاضطرابات والعنف المسلّح والنزاع العرقي الذي تصاعد في 2015 بموجب احتجاجات قادتها أقلية الأورومو والأمهرة على خلفية ادعاءات الشعور بالمظالم، استمرت الاحتجاجات لغاية 2018 والذي شهد صعود أبي أحمد للسلطة وعلى إثر ذلك دخلت البلاد في مرحلة جديدة مختلفة عن كل المراحل السابقة.[5]

دوافع الحرب على إقليم تيغراي

استطاعت القوات الأثيوبية منذ تاريخ إطلاق عملياتها العسكرية على الإقليم وحتى 20-/ تشرين الثاني/ نوفمبر-2020، من السيطرة على المنطقة الغربية من الإقليم (بادم- حميرا- دانشا) بمساندة القوات الإريترية، وفي الجنوب سيطرت على مدينة ألاماتا وأصبحت على مقربة من مدينة ميكيلي، وفي الشمال ووسط الإقليم سيطرت القوات الأثيوبية على مدينة شير واكسوم وعدوة باتجاه الشرق، وبذلك أصبحت تسيطر على ما يُقارب 80% من مناطق الإقليم.

المصدر: خرائط حروب الشرق الأوسط.[6]

تسارع العمليات العسكرية كشفت عن بعض أسباب ودوافع الحرب التي يقودها أبي أحمد ضد جبهة تحرير شعب تيغراي ومنها ما هو معلن وغير معلن.

الدوافع المُعلنة

توجد العديد من الأسباب الداخلية التي آلت بشكل منطقي إلى حالة الانفجار، فالخلافات وحالة التأزم السياسي بين حكومة أديس أبابا وإقليم التيغراي بدأت منذ وصول الأخير إلى السلطة في 2018، حيث أجرى عدة إجراءات داخلية بهدف إيقاف الاضطرابات وإنهاء النزاعات العرقية والتي يُعتقد أنها كانت سببًا في تشتيت وحدة أثيوبيا، لكنه سرعان ما اصطدم مع أقلية التيغراي في شمال البلاد بسبب إقالته لعدد من الضباط واعتقاله عددًا آخر غالبيتهم كانوا محسوبين على التيغرانيين،[7] كما عمل أبي أحمد على إجراء هيكلة شاملة في قيادات الجيش الأثيوبي، وأجرى تغييرات في الأجهزة الأمنية والاستخبارات والوزارة الداخلية بهدف تقوية مركزية السلطة في البلاد على حساب تهميش النظام الفدرالي المعول عليه بموجب دستور 1994.[8] اللافت أنَّ هذه الإجراءات سبقتها محاولته كسب شرعية داخل المكونات العرقية في البلاد، ولأنَّ الأعراق على غير سوية واحدة وتشوبهم خلافات تاريخية ونزاعات على الثروات وامتيازات البلاد، استطاع أبي أحمد اللعب على المتناقضات فاستمال لصفه جزءًا من أقلية الأورومو التي ينتمي لها، إلى جانب تدشينه أواصر العلاقات مع أقلية الأمهرة والتي لديها عداء تاريخي قديم مع أقلية التيغراي.

ساهمت هذه الإجراءات في ظهور شرارة التوتر الأولى مع جبهة التحرير الشعبية لإقليم تيغراي، حيث رأوا أنَّ سياسات أبي أحمد تسعى إلى تهميشهم واستهدافهم بشكل مباشر تجلّى ذلك حسب زعمهم في محاولته الانقلاب عليهم، من خلال القرار الذي أصدره لحل الجبهة الثورية الشعبية –الحزب الحاكم سابقًا- وإطلاق حزب الازدهار، لكن جبهة تحرير شعب تيغراي رفضت الانضمام إليه ورأت أنَّه يُمثل خرقًا دستوريًا مخالفًا لـإرادة الأثيوبيين.[9]

تصاعد الخلاف أكثر في أيار/ مايو-2020، عندما أعلنت حكومة أديس أبابا تأجيل الانتخابات التشريعية في البلاد بذريعة تفشي وباء كوفيد-19، وهو الأمر الذي رفضته الجبهة لذرائع قانونية، وأقدمت على تنفيذها بشكل أحادي في أيلول/ سبتمبر-2020، مما دفع حكومة أبي أحمد للرد بالمثل فرفض الاعتراف بنتائج الانتخابات، واستصدر قرارًا برلمانيًا في 7 – تشرين الثاني/ نوفمبر-2020، يقضي بحل الحكومة التيغرانية وتشكيل حكومة مؤقتة للإقليم ريثما يتم تنفيذ انتخابات جديدة. كما أعلن عن إيقاف تمويل السلطة التنفيذية لإقليم تيغراي وتوجيهه بدلًا من ذلك إلى الإدارات المحلية مباشرةً.[10]

كانت تلك الإجراءات وردود الفعل العكسية وتبادل الاتهامات كفيلة في تفجير الوضع الداخلي ودخول الطرفين في عمليات عسكرية مسلحة، وبات الوضع القائم أشبه بأحداث عام 1988، حيث عاد التشرذم الإثني من خلال محاولة طرفي النزاع إلى القيام بتحشيد وإنشاء تحالفات مع مكونات أثيوبيا المتعددة، فعلى سبيل الذكر تتحالف جبهة تحرير شعب تيغراي مع تيار قومي من أقلية الأورومو ضد حكومة أبي أحمد وذلك لاعتبارين اثنين:

  • يعتقد أنصار هذا التيار أن أبي أحمد انقلب على أبناء أقلية الأورومو التي ينتمي إليها بسبب سعيه لتحقيق مشروعه السياسي الهادف إلى تقوية مركزية سلطوية على غرار الحكومات المركزية السابقة والتي اتسمت بالعنف والإخضاع الممنهج لشعب الأورومو.
  • رغم أن أبي أحمد ينحدر من منظمة شعب الأورومو الديمقراطية سابقًا، إلا أنَّ فئة كبيرة من أوساطها لم تعد تنظر إليه الآن على أنه ممثلٌ سياسيٌ موثوقٌ به يمكن أن يحقق طموحاتهم، وذلك بسبب تبنّيه مقاربةً جديدةً بعيدةً عن تعزيز مبادئ الفيدرالية والتي تعني الكثير لدى الأورومو في مسائل اللغة وتحقيق الاستقلال الذاتي.

 مقابل ذلك تلاقت أهداف أبي أحمد مع تيار من أوساط شعب الأمهرة والذين انتقدوا كثيرًا نظام الفيدرالية، وقسم كبير منهم اليوم يقف مع حكومة أديس أبابا في حربها ضد جبهة تحرير شعب تيغراي والذي يجمعها مع الأمهرة حالة عداء تاريخية بسبب الصراع على السلطة.[11]

دوافع غير مُعلنة

مع مجيء أبي أحمد للحكم كان الإقليم الحيوي لإثيوبيا يدخل في مرحلة تبدّل وإعادة تموضع جيوسياسي، حيث طرأت عدة متغيرات على دول السودان – والصومال- وإريتريا- بالإضافة إلى مصر- وليبيا- وبعض دول الساحل الإفريقي، وهو ما دفع أبي أحمد إلى تبنّي مشروعه السياسي الهادف إلى جعل أثيوبيا دولة أولى في المنطقة كونها تمثل محورًا هامًا لدول القرن الإفريقي، وشريكًا قويًا للولايات المتحدة الأمريكية ومحل جذب لاستثمارات الخليج كدول الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.

انتهج أبي أحمد مقاربة خارجية عنوانها تحقيق صفر مشاكل مع دول الجوار وإنهاء النزاعات الحدودية، وتعزيز العلاقات الاستراتيجية مع الدول الخارجية التي لديها مصالح كبيرة في كامل الإقليم،[12]فكان أول ما قام به إسهامه في تحقيق وحدة الصومال عبر محاولة جمع الفرقاء لتقريب وجهات النظر، كذلك بذل جهودًا في مباحثات السودان مع جنوبه بهدف إنهاء حالة التشظي في البلاد، ومن خلال إنجازه اتفاق سلام مع إريتريا في 2018 استطاع طي صفحة تاريخية من حالة العداء واستبدلها بتحالف مشترك في حربه الراهنة ضد جبهة تحرير شعب تيغراي، ووفق مصدر خاص لبرق الاستشاري  فإنَّ إريتريا تدعم حكومة أديس أبابا في حربها ضد جبهة تحرير تيغراي من خلال مؤسسة الجيش وأجهزة الاستخبارات الإريترية، وتطمح من خلال هذا الدعم إلى إضعاف المعارضة الإريترية التي تقاتل إلى جانب جبهة تحرير شعب تيغراي، بالإضافة إلى طموح إريتريتا في الاستحواذ على بعض المناطق المتداخلة مع الإقليم.[13]

بالنسبة للدول الكبرى من المعروف أنَّ الصين وأمريكا لديهم مصالح في كامل المنطقة، وتعد أثيوبيا ركنًا أساسيًا في الحفاظ على المصالح الغربية، بسبب أهميتها الجيوسياسية، يحاول أبي أحمد تحقيق معادلة توازن بين اللاعبين الكبار والاستفادة منهم لصالح النهوض بدولة أثيوبيا إقليميًا خاصة أنَّ سياساته تُعد تتمّة وترجمة للمشروع الدولي الرامي إلى إعادة التموضع في المنطقة انطلاقًا من دولة السودان، ويمكن الحديث عن هذا المشروع من خلال مصادر خاصة لبرق الاستشاري كما يلي:

على خلفيّة الانقلاب في السودان الذي أطاح بالرئيس السوداني عمر البشير، حدثت عدة أمور طارئة سبقت أهمية الحدث وهي لقاءات جرت في أواسط شباط/ فبراير مِـن العام 2019 عقدها رئيس المخابرات السودانية صلاح كوش أثناء مؤتمر ميونخ للأمن مع يوسي كوهين المدير الحالي لوكالة الاستخبارات الإسرائيلية، حيث كان اللقاء شبه العلني الأوّل بين الطرفين، والذي تحدّث فيه الإسرائيليون عن رغبتهم بتغير وجه السودان، وإشراكه في ما يُعرف بِـعمليّة الاستثمار في السلام التي ستنطلق في المنطقة قريبًا، ولفهم أهمية المشروع لا بدّ من التنويه لحدثين مهمين يمكن من خلالهما فهم طبيعة المتغيرات الحالية ليس فقط في أثيوبيا بل على صعيد كامل الإقليم.

أولاً: من خلال العملية الإسرائيليّة موسى التي تمّت في عام 1984 بمساعدة الرئيس السوداني آنذاك جعفر النميري، حيث استطاع الإسرائيليون تجميع الآلاف من يهود الفلاشا في إقليم تيغراي شمال أثيوبيا ثمّ نقلهم عبر جسر جوّي مِـن الخرطوم إلى تل أبيب، ومنها إلى القدس الغربيّة.

ثانيًّا: من خلال عمليّة غروب الشمس العسكريّة “BADME” بين أثيوبيا وإرتيريا في الفترة الزمنية 1998_2000 والتي استمرّت لسنوات دون الإفصاح عن سبب التنازع على القرية الصغيرة بادمي الاستراتيجية بين البلدين فهي تُشكل امتدادًا لِإقليم تيغراي، وكذلك تمركزها كزاوية هرميّة في مثلث يصل عمق الحدود السياديّة لثلاث دول هي أثيوبيا، وأرتيريا والسودان.

علاقة العمليات الثلاث ببعضها “موسى_ غروب الشمس_ انقلاب السودان”: رغم تباعد الفترات الزمنية بينهم، إلا أنَّ الرابط بينها يُفصح عن تموضع جيوستراتيجي جديد في العمق الإفريقي يشكل جزءًا مما تروّج له إدارة البيت الأبيض مع حلفائها في الشرق الأوسط تحت مسمّى صفقة القرن وفق الآتي:

أولاً: إيجاد نظام مرن في السودان يكمّل مثلث الأنظمة في أثيوبيا وإرتيريا لإقامة منطقة مفتوحة في إقليم تيغراي بهدف احتواء جزء من عمليات الترحيل لفلسطينيّي الضفّة والأردن الذين ستقدّم لهم إغراءات مقابل قبولهم بالانتقال إلى العمق الإفريقي الجديد، مقابل العمق الآخر البديل لجزء من سكان غزّة في شمال شرق سيناء.

ثانيًا: تأمين عمق للأنظمة العسكريّة الهشة في مصر وليبيا، وفرض قيادة جديدة في القارّة الإفريقيّة تدير ملفات المياه والثروات السياديّة التي تتحضّر إسرائيل والسعودية والإمارات لتدويرها والاستفادة منها في توسيع مشروع نيوم الذي سيقوم على الموارد الخام، الموانئ المحرّكة لطرق التجارة الدولية، والتي ستقضي على البروتوكولات الدوليّة السابقة في منظمة التجارة، والمراقبة الأمميّة للطرق، ومخرجاتها.

ثالثا: إنهاء ملفات عالقة في دارفور، وجنوب السودان، بهدف تغيير خارطة النفوذ والسيطرة في المناطق الفاصلة بين الوسط والشمال الأفريقي.[14]

انطلاقًا من هذا المشروع وبالأخص في الجزء المتعلق بمنطقة بادمي، وتحويل تيغراي لمنطقة مفتوحة يتضح أنَّ الهدف الاستراتيجي من حرب أثيوبيا الراهنة تتعلق بإنهاء العائق التيغراني جغرافيًا عبر إخضاع الإقليم لمركزية قوية، وديمغرافيًا عبر إقصاء جبهة تحرير شعب تيغراي، وتفريغ الإقليم من ساكنيه، وفي حال تحققَ ذلك سيُتيح  داخليًا أمام أبي أحمد تمكين قبضته على بقية المكونات على اعتبار أنَّ أقلية التيغراي تُعد المحرك الرئيسي والمؤثر الأبرز على بقية المكونات، لكن هذا لا يعني عدم وجود تحديات وعوائق أمام جهود أبي أحمد والتي قد تقود إلى خروج الأمور عن السيطرة فالبلد لديها إرث حرب أهلية لا يمكن نسيانه، وخارجيًا سيُسهم في تعزيز مكانة أبي أحمد على الساحة الدولية كرجلٍ قادرٍ على فرض الاستقرار والحفاظ على المصالح الخارجية، ومع منطقة دول القرن الإفريقي كقائد المرحلة الحالية، لا سيما أنَّ معظم الدول لم تعترض على حملته العسكرية ضد جبهة تحرير شعب تيغراي واكتفت بلعب دور وسيط عبر الاتحاد الإفريقي. [15]

التداعيات على دول الجوار

السودان – مصر

الموقف المصري والسوداني ورغم اختلافهما مع أثيوبيا في ملف سد النهضة ومحاولتهما تحسين مواقفهما التفاوضية من خلال الضغط على أثيوبيا، إلا أنّهما لم يبديا أي رغبة في تحقيق انفصال إقليم تيغراي عن أثيوبيا ويعود ذلك لسببين رئيسيّين:

  • ما يحدث في تيغراي يتعلق في جزءٍ كبيرٍ منه بمصلحة الأمن القومي الإسرائيلي، فكما تمَّ ذِكره أن الإقليم كان مركز تجميع ليهود الفلاشا ونقلهم إلى إسرائيل، بالتالي الدول المذكورة وخاصة السودان التي أجرت اتفاق تطبيع علاقات مع إسرائيل لا ترغب في أن تُعارض الموقف الإسرائيلي تجاه نظرتها للإقليم.
  • أي تأييد من مصر والسودان تجاه انفصال إقليم تيغراي عن أثيوبيا، سيقود إلى تحريك النزاعات الانفصالية داخل بلدانهم، مثل الإقليم الجديد في وادي مصر، ودارفور في السودان.

لكن كل ذلك لا يمنع من وجود مخاوف سودانية من تداعيات الحرب الأثيوبية -التيغرانية فالسودان الذي وصل إليه آلاف المهجرين لا يزال يُعاني من هشاشة الاستقرار الأمني خاصةً في الشريط الحدودي مع أثيوبيا وبالتحديد في ويلاتي كسلا والقضارف المتاخمتين لإقليم تيغراي، واللذين شهدا في الشهور الماضية صدامات بين المجموعات السكانية أخذت أبعادًا قبلية وإثنية.[16]

كذلك هناك مخاوف في منطقة الفشقة السودانية والتي تحوي نشاطًا لجماعات متمرّدة تنتمي إلى مجموعات عرقية أثيوبية وهو ما قد يزيد من مسألة الاضطرابات في حال تخطت أزمة إقليم تيغراي خارج حدود العمليات الحالية.[17]اللافت في هذه المسألة أنّ بعض الجماعات الأثيوبية لديها أطماع للتمدد داخل السودان وهو موقف تعلم به جيدًا حكومة أديس أبابا، لأجل ذلك يمكن وصف الموقف السوداني بأنه موقف حذر، فهو من جهة يرغب في إقامة علاقات متناغمة مع حكومة أديس أبابا والتي يرى فيها لاعبًا موازيًا مهمًا للسودان مع دول الجوار، وبنفس الوقت يخشى السودان من أن يقود نجاح أبي أحمد في معركته ضد أقلية التيغراي إلى زيادة تدخله وتوغله في أراضي السودان لا سيما في المناطق الحدودية المتنازع عليها ، لذلك قام رئيس مجلس السيادي الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان بإجراء زيارة في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 والتقى فيها مع رئيس الوزراء الأثيوبي أبي أحمد وتمّ في المباحثات التي استمرت ليومين نقاش قضية الحدود بين البلدين، ورغم أنَّ البرهان أعرب عن رغبته في تحقيق استقرار أثيوبيا، إلا أنَّ المخاوف كانت ظاهرة من خلال تركيزه على مسائل الحدود المشتركة.[18]

كذلك لا تغيب المخاوف السودانية على مشروع سد النهضة ففي حال استطاع أبي أحمد فرض سيادته على إقليم تيغراي فمن شأن ذلك أن يساهم في تعزيز موقفه التفاوضي في مباحثات سد النهضة والتي شهدت في جولتها الأخيرة تعثرًا، مما دفع السودان إلى إجراء خطوة استباقية من خلال التقارب المحدود مع مصر كعامل تناسب مستقبلي تجاه أثيوبيا، قاد هذا التقارب إلى إجراء البلدين مناورات عسكرية هدفت إلى توجيه رسائل ضغط سياسية لـأثيوبيا.[19]

إريتريا

قد تكون إريتريا من أكثر المستفيدين من جراء النزاع الدائر فهي ترى أنّ الفرصة باتت مواتية للظهور كلاعب حيوي في المنطقة، ودعمها لحكومة أديس أبابا في حرب تيغراي يمكن النظر فيه من خلال الآتي:

على الرغم من نيلها استقلالها 1993، إلى جانب توقيع اتفاق سلام مع أثيوبيا في 2018، إلا أنها لا تزال ترى ضرورة في إعادة النظر ببعض المسائل المتعلقة باستعادة السيادة على بعض الأراضي التي لم يتم استرجاعها منذ حرب 1950 مع أثيوبيا،[20]وهذه الرغبة نابعة من سياسة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي والذي يحمل مشروع منافس لرئيس الوزراء الأثيوبي أبي أحمد فكلاهما يطمح أن تكون بلده الأولى في المنطقة، وربما التقارب الأخير بينهما قد لا يطول كثيرًا فما يجمعها الآن عدو مشترك هي جبهة تحرير شعب تيغراي المتحالفة مع جبهة تحرير إريتريا، وفي حال استطاعت أثيوبيا حسم المعركة لصالحها قد يعود التنافس من جديد على زعامة المنطقة، وقد تعود الخلافات حول مصير الأراضي المتنازع عليها، وبحسب مصدر خاص تواصل معه برق الاستشاري فإنّ مآلات المستقبل بين أثيوبيا وإريتريا تكمن في قضاء أحد الأطراف على مشروع الآخر بمعنى، إما أن تنضم إريتريا إلى مشروع أثيوبيا أو يكون العكس.[21]

بالمقابل توجد وجهة نظر أخرى تحمل طابعًا إيجابيًا ويرى أنصار هذا الطرح ضرورة تمكين أواصر العلاقة بين البلدين على اعتبار أنهما بحاجة لبعضهما البعض، وفي حال استمرت العلاقة في طور التحسن بعد الانتهاء من حرب تيغراي فمن شأن ذلك أن يفتح صفحة جديدة لمستقبل العلاقات والتعاون الاقتصادي، فميناء عصب الإريتري يستطيع أن يُغذّي اقتصاد أثيوبيا التي تملك استثمارات ضخمة في الموانئ الإريترية، كما أنَّ أسمرة ستعزز خط التجارة مع أثيوبيا وتستفيد من الإيرادات الضخمة في تنفيذ عدة مشاريع.

ومن خلال فهم طبيعة العلاقات الحذرة بين البلدين يمكن تفسير موقف إريتريا الحالي في وقوفها إلى جانب حكومة أبي أحمد، فهي من جهة تحاول الاستفادة من النزاع الحالي في إضعاف جبهة المعارضة لتحرير إريتريا التي تساند جبهة تحرير تيغراي، ويناصب أسياس أفورقي العداء الصريح لقادة الجبهة على خلفية الصراع التاريخي الذي دار بين البلدين في 1988- 2000،[22] ومن ناحية أخرى دعمها لحكومة أديس أبابا قد يسمح لها مستقبلًا في التأثير عليها على هامش الحلول التي ستُطرح في قضية إقليم تيغراي، بشكل قد يخدم تطلعاتها الإقليمية في المنطقة.

الصومال

إطالة أمد الصراع الحالي من الممكن أن يؤثر سلبًا على الصومال الذي يُعاني من انقسام داخلي وعبء ثقيل من إرث حرب أهلية منذ 1991، وكانت أثيوبيا خلال صراعها الحدودي مع الصومال أحد المساهمين في تعميق أزمات البلاد، لكن مؤخرًا وفي عهد أبي أحمد انتقلت العلاقات لمستوى إيجابي، حيث كانت أثيوبيا من بين الدول التي استضافت اجتماعات مصالحة بين الفرقاء الصوماليين، كذلك تُشارك حكومة أديس أبابا من خلال قواتها في عمليات حفظ السلام الصومالي،[23]لكنها وبعد يومين من إعلان حربها على جبهة تحرير شعب تيغراي سحبت جزءًا كبيرًا من قواتها التي تساند الحكومة الصومالية في مواجهة حركة تمرد الشباب بهدف المساهمة في الهجوم على إقليم تيغراي،[24] الأمر الذي أثار مخاوف من وجود فراغ أمني قد تستغله الجماعات المتطرفة وتعيد انتشارها في المنطقة، مع ذلك في حال استطاع أبي أحمد بسط سيطرته على إقليم تيغراي فمن شأن ذلك أن يساعد في دفع الوحدة الصومالية إلى الأمام عبر جهوده المشتركة مع الصومال.

خاتمة

بناءً على ما ورد تخلص الورقة لما يلي:

  • لم تأتِ جولة الصراع التي قادتها حكومة أديس أبابا ضد جبهة تحرير تيغراي في 4-تشرين الثاني/ نوفمبر-2020 بشكلٍ مفاجئ بل تتويجًا لسلسلة خلافات متواصلة منذ وصول أبي أحمد إلى السلطة 2018، وتبنّيه مشروعًا سياسيًا على الصعيد الداخلي والخارجي.
  • يوجد رابط جوهري بين سياسات أبي أحمد الخارجية مع الداخل الأثيوبي، حيث سعى إلى إعادة الاعتبار لمكانة أثيوبيا على صعيد كامل الإقليم من خلال نهج عُرف بتصفير المشاكل والخلافات مع جوار أثيوبيا الحيوي، وداخليًا توجّه إلى تقوية المركز على حساب الأطراف، مما أدى إلى بروز حالة اصطدام مع إقليم التيغراي في شمال البلاد والذي يرتبط حدوديًا مع السودان وإريتريا والصومال.
  • الدافع من وراء تقوية مركزية حكومة أديس أبابا على حساب تقليل نظام الاتحاد الفيدرالي، نابع من رؤية أبي أحمد لدور أثيوبيا المستقبلي في المنطقة، فعند مجيئه إلى السلطة كان الإقليم الحيوي لإثيوبيا يدخل في مرحلة تبدّل وإعادة تموضع جيوسياسي، حيث طرأت عدة متغيرات على دول السودان – والصومال- وإريتريا- بالإضافة إلى مصر- وليبيا- وبعض دول الساحل الإفريقي، وهو ما دفع أبي أحمد إلى تبنّي مشروعه السياسي الهادف إلى جعل أثيوبيا دولة أولى في المنطقة كونها تمثل محورًا هامًا لدول القرن الإفريقي.
  • للحرب الدائرة دوافع غير معلنة أهمها وجود تموضع جيوستراتيجي جديد في العمق الإفريقي يشكل جزءًا مما تروّج له إدارة البيت الأبيض مع حلفائها في الشرق الأوسط تحت مسمّى صفقة القرن.
  • مشروع أبي أحمد الخاص بأثيوبيا يتعارض جوهريًا مع بعض المكونات العرقية، أهمها أقلية التيغراي والتي رأت في سياسات الأخير محاولة لإقصائها من المشهد السياسي الأثيوبي بعد تنفيذه حزمة من الإجراءات المتعلقة بها.
  • في حال استطاعت حكومة أديس أبابا فرض سيطرتها العسكرية على إقليم تيغراي، فقد تدخل البلاد في مرحلة جديدة، لكن ليست بالضرورة أن تكون إيجابية، حيث توجد عدة تحديات ستكون حاضرة أمام أبي أحمد أبرزها حالة الانقسام داخل المكونات والتي تُنذر بحركات تمرّد قد تُرهق جهود أبي أحمد وتضعف عجلة الاقتصاد.
  • التحولات داخل أثيوبيا ستطال جواره الحيوي، انطلاقًا من إريتريا والسودان وصولًا إلى مصر وليبيا وكامل دول القرن الإفريقي، علمًا أنًّ نتائج هذه التحولات ستكون مرتبطة بنتيجة النزاع الحالي القابع بين خيارين لا ثالث لهما، إما العودة إلى مرحلة الهدوء والاستقرار، أو انجرار أثيوبيا إلى نزاعات داخلية عرقية طويلة الأمد مع امتدادها إلى دول الجوار والتي تشترك مع أثيوبيا في نزاعات حدودية لا زالت مفاعيلها حاضرة.

[1] https://bit.ly/3m1trRe

ALGAZEERA Eritrea, Tigray and Ethiopia’s brewing civil war 8 Nov 2020

[2] https://bbc.in/3m3Waov

BBC، مقتل هاشالو هونديسا: الاحتجاجات على اغتيال المغني الشهير أسفرت عن 166 قتيلا، ن- 5- يوليو- 2020.

[3] https://bit.ly/377mqYG

ROTY NEWS Sudan announces the failure of a new round of negotiations on the Renaissance Dam 2020-11-05.

[4] https://bit.ly/2J6L3N5

DALIE NEWS Conflict in Ethiopia’s Tigray risks escalating out of control and threatening regional stability November 16, 2020

[5] https://bit.ly/361IPHB

Youtube، اثيوبيا معارك تيغراي، ن- 4- نوفمبر، 2020.

[6] https://bit.ly/3m4AecD

الحساب الرسمي “تويتر” خرائط حروب الشرق الأوسط.

[7] https://nyti.ms/3m2wnNp

THE NEWS HORK GIMES Why Is Ethiopia at War With Itself. Nov. 18, 2020.

[8] https://bit.ly/379DKME

المستقبل للدراسات، ثلاث رؤى لمستقبل الصراع داخل إثيوبيا، ن- 10- نوفمبر- 2020.

[9] https://bit.ly/39kmgzM

DW. The dangers behind Ethiopia’s Tigray conflict. 6.11.2020.

[10] https://bit.ly/363d1C0

INTERNATIONAL. Steering Ethiopia’s Tigray Crisis Away from Conflict. 30 October 2020.

[11] https://bit.ly/3l5MsjY

مركز الجزيرة للدراسات، إثيوبيا: من الانتقال الديمقراطي إلى الانسداد السياسي، ن- 9- نوفمبر-2020.

[12] https://bit.ly/39enxbM

مركز مقديشو للبحوث والدراسات، إثيوبيا في عهد أبي أحمد الفرص والعقبات، ن- 3- سبتمبر- 2019.

[13] مقابلة خاصة مع متخصص في الشأن الأثيوبي.

[14] مصادر خاصة لبرق الاستشاري.

[15] https://bit.ly/399icCB

DW، إثيوبيا ترفض وساطة الاتحاد الأفريقي لحل الصراع في تيغراي، ن- 21- 11- 2020.

[16] https://bit.ly/3nUuyCF

الشرق الأوسط، مخاوف سودانية من تداعيات الحرب في شمال إثيوبيا، ن- 6- نوفمبر- 2020.

[17] https://bit.ly/376dCCn

باج نيوز، انعكاسات الصراع الإثيوبي على السودان مخاوف تُحاصر الحدود، ن- 9- نوفمبر- 2020.

[18] https://bit.ly/3fvTKfF

ENA، رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني يصل إثيوبيا، ن- 10 نوفمبر- 2020.

[19] https://bit.ly/2UVUxNt

ALMONITOR. Egypt, Sudan conduct joint military drills. Nov 20, 2020.

[20] https://bit.ly/3nUpbmS

INSTITUTE FOR POLICY STUDIES The War Between Ethiopia and Eritrea. October 11, 2005

[21] مقابلة خاصة مع متخصص في الشأن الأثيوبي.

[22] https://bit.ly/3m2fuSR

AFRICA. Old Problems in New Conflicts: Some Observations on Eritrea and its Relations with Tigray, from Liberation Struggle to Inter-State War. August 2003.

[23] https://bit.ly/37kTmgH

الشرق الأوسط، 5 دول تتأثر بتداعيات الحرب في إثيوبيا، ن- 17- نوفمبر- 2020.

[24] https://bit.ly/3fCzj0L

مصراوي، إثيوبيا تسحب الآلاف من قواتها العاملة في الصومال، ن- 13- نوفمبر- 2020.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى