الاصدارات

مصير الجيش الأفغاني

*مقال للدكتور نبيل الفولي عضو هئية خبراء برق

من القصص المتداولة في القطر الباكستاني أن مفتشي وزارة التعليم ذهبوا إلى منطقة نائية للتفتيش على إحدى المدارس التابعة لهم، ففوجئوا بأنه لا توجد مدرسة ولا طلاب ولا معلمون، وأن المسألة كلها مجرد وهم صنعه بعض الشطار في المنطقة للحصول على رواتب الإدارة والمدرسين المزعومين!

وغير بعيد من هذا جغرافية وأسلوبًا، وتحديدًا لدى الجارة المتاخمة أفغانستان، أُلحق بالشرطة والجيش الأفغاني المدعوم من التحالف الدولي طوال عشرين سنة مضت آلاف الأسماء الوهمية للحصول على رواتبهم السخية نسبيًا في بلد تقل فيه فرص العمل الملائم أمام الشباب والكبار حتى تقترب من حد العدم.

كذلك استطاعت حركة طالبان – بمداورة شبيهة – أن تسرب بعض رجالها إلى الجيش والشرطة الأفغانية بعد أن حلقوا لحاهم، وتشبهوا مظهريًا بخصومهم الألداء؛ حتى يستفيدوا من الخبرات الغربية التدريبية والتسليحية المتاحة. وقد قام بعض هؤلاء بأعمال عسكرية ضد قوات الاحتلال الأجنبي بالفعل، كما كانوا مصدرًا للمعلومات لحركة طالبان.

إلا أن هذا ليس كل القصة، بل هو فقط بعض وجوهها العجيبة التي لا تكف هذه البلاد عن إتحاف التاريخ بها!

القوات الأفغانية العسكرية وشبه العسكرية:

هربت رءوس الدولة الأفغانية الموالية للتحالف الدولي عقب تهديد طالبان للعاصمة كابل، ثم سيطرتها عليها في الخامس عشر من آب /أغسطس 2021، لكن بقي جسم هذه الدولة البشري أو الجزء الأكبر منه في داخل النطاق الجغرافي الأفغاني، ففي حين رحّل الأمريكيون معهم بعض أصحاب الكفايات الأفغانية من رجال المخابرات والقوات العسكرية الخاصة مع أنواع أخرى من الكفايات الفنية الموالية، بقي أغلب قوات الجيش والشرطة في رحاب بلادهم؛ فما مصير هذا الجسم العسكري الشُّرَطي الخطير؟ وكيف يمكن أن يؤثر على مستقبل أفغانستان؟

يصل تعداد قوات المشاة والقوات الجوية التي يشتمل عليها الجيش الأفغاني إلى 182 ألفًا، وقوات الشرطة إلى 118  ألفًا، بما في ذلك الأسماء الخيالية المسجلة بدون أن يكون لأصحابها وجود فعلي. وهي نسبة – مهما تكن – لا تنفي حقيقة أننا أمام قوات عسكرية وشبه عسكرية لدولة كاملة مستقرة، وقد قال الرئيس الأمريكي جو بايدن بنفسه في هذا الشأن: “لقد قمنا بتدريب وتجهيز قوة عسكرية أفغانية قوامها حوالي ثلاثمائة ألف جندي مجهزة بشكل جيد للغاية، وهي قوة أكبر في الحجم من جيوش العديد من حلفائنا في الناتو”!

وأما عن التسليح أو التجهيز العسكري الذي أشار إليه بايدن، وهو يأتي في الأهمية بعد التدريب العسكري العالي بالطبع، فقد تنوع بين طائرات عسكرية وهليكوبتر وشاحنات ومدافع ورشاشات وغيرها، فامتلك الجيش الأفغاني – وفقًا لبعض المواقع الغربية – 8 آلاف شاحنة، و162 ألف جهاز لاسلكي، و16 ألف جهاز جوجل للرؤية الليلية، و358 ألف بندقية هجومية، و126 ألف مسدس قنص، و176 مدفعًا، و22 ألف سيارة همفي، و155 مركبة مضادة للألغام، و169 ناقلة مدرعة، و64 ألف رشاش، إضافة إلى أكثر من 60 طائرة حربية، و100 طائرة هليكوبتر، وغير ذلك.

والإحصاء في ذاته ليس مهمًا بقدر معرفة مصير هذه الأسلحة، وقد ذكرت التايمز أن أسلحة الجیش الأفغاني قد آلت إلى حركة طالبان، ثم عادت وصححت الخبر في الخامس عشر من أيلول /سبتمبر الحالي قائلة: “لا نعرف کم من هذه الأسلحة فی ید طالبان الآن؟!”. والمعقول في مثل هذه الأحوال – بالرغم من تدمير الاحتلال لجانب من هذا السلاح وتهريب جزء آخر – أن تبقى نسبة كبيرة من أسلحة الجيش الأفغاني في يد قواته بصورة أو بأخرى، جماعية أو فردية؛ خاصة في ظروف تضاريسية وقبلية مثل هذه التي تتركب منها الدولة الأفغانية.

ومما يؤكد ضخامة هذه الإعدادات العسكرية أن كل المحللين المختصين تقريبًا لم يخفوا دهشتهم من اضمحلال الجيش الأفغاني وتلاشيه في مواجهة مقاتلي طالبان الذين سيطروا الشهر الماضي على أنحاء الدولة في وقت أقل كثيرًا مما توقعه معظم الخبراء والجهات السياسية الغربية وغير الغربية، ويرجعون سبب هذا إلى أمور غير عسكرية، مثل تخلي القيادة السياسية الأفغانية عن مسئولياتها وهروبها إلى الخارج، وهرولة الأمريكيين في اتجاه الانسحاب بدون حماية أغلب حلفائهم، وغير ذلك.

سيناريوهات:

لا يكتمل فهم الرصد السابق للقوات الأفغانية العسكرية وشبه العسكرية إلا بقراءة مصير ما بقي من تركة الدولة المتعاونة مع الاحتلال؛ وتحديدًا في هذا الجانب العسكري رجالًا وسلاحًا، ولعل الإشارة السابقة إلى مصير السلاح كافية في هذه السطور القليلة، وأما عن مصير القوات العسكرية وشبه العسكرية الأفغانية المتوقع، فلعل أهم السيناريوهات بشأنها تتمثل فيما يلي:

الأول: أن يتلاشى الجيش الأفغاني في جمهور شعبه الذي تجاوز تعداده 40 مليونًا ضمن تركيبة سكانية تسود فيها القبلية، كما حدث للجيش العراقي عقب الغزو الأمريكي في عام 2003، وإن كان قد ساعد على هذا في الحالة العراقية الحس الطائفي العالي الذي حكمها وسيطر على أوصال الدولة، وحرص كل الحرص على محو كل آثار دولة صدام حسين بقطع النظر عن فائدة ذلك أو ضرره على الدولة العراقية الجديدة التي كانت تتشكل حينئذ، فجاءت أكثر تشوهًا مما توقع المتوقعون.

ومع هذا يمكن أن يكون تذويب الجيش الافغاني تكتيكًا أمريكيًا لنشر الفوضى بعد الانسحاب، وجعل الموقف أصعب على دول الطوق الأفغاني في الاستثمار وتمديد طرق التراتزيت التجاري.

الثاني: أن تُدَّخر هذه القوات الأفغانية – ومعها ما بقي من سلاحها – لأي حرب مذهبية أو عرقية قادمة يمكن أن تُشَن على طالبان من هذه الجهة أو تلك، وإذا كان معظم إقليم بنجشير قد سقط في يد طالبان بعد حرب خاطفة، فإن قوات عسكرية أخرى مناوئة لطالبان لجأت بأسلحتها إلى دول الجوار، أو تحصنت في أماكن وعرة بعيدًا عن مراكز الأقاليم والمدن الأفغانية الكبرى. وفي الإحصائية السابقة لأسلحة الجيش الأفغاني يسهل أن نلاحظ الاهتمام بأدوات الاستطلاع والاتصال، وهو أمر ما زال بعيدًا عن اهتمام حركة طالبان، على الرغم من أنه يسهل حركة القوات وتنسيق عملياتها.

السيناريو الثالث: ولعله أقواها احتمالًا، وهو أن نشهد من جديد ظاهرة “العسكريين التائبين” التي رافقت الثورة الجزائرية؛ فقد أعلن عدد من العسكريين الجزائريين المتعاونين مع الاستعمار الفرنسي – مثل خالد نزّار ومحمد مدين والعربي بلخير ومحمد العماري ومحمد تواتي وعبد المالك قنايزيه وغيرهم – حين ترجح نجاح الثورة الجزائرية وجلاء الفرنسيين؛ أعلنوا الانضمام إلى جيش التحرير الوطني الجزائري، والانحياز إلى قضية التحرير بدلًا من المعسكر الفرنسي الاستعماري، ثم كانوا هم الفخ الذي نصبه الاستعمار لإجهاض الاستقلال في مراحل تالية.

وكما أن افتقار الدولة الجزائرية الناشئة عقب رحيل الاستعمار الفرنسي في أوائل الستينيات من القرن الماضي إلى خبرات عسكرية ميدانية مدربة، قد سهّل إدماج هؤلاء “العسكريين التائبين” في جسم الدولة، حتى ابتلعوها في مراحل تالية، فإن فقر الحالة الأفغانية إلى الكفاءات القتالية النظامية، قد يؤدي بصورة تلقائية إلى إدماج هؤلاء في جسم الدولة ليتكرر نفس الدور.

ولعل مما يلفت النظر في هذا الصدد تغريدة على تويتر للجنرال في الجيش الأفغاني بسم الله محمدي كتبها بعد هروب الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني وسيطرة طالبان على أفغانستان، يقول فيها: “قيدوا أيدينا وراء ظهورنا، وباعوا الوطن، اللعنة على “غني” وجماعته”!

ومما يقوي احتمالية هذا السيناريو الأخير أيضًا ما تردد في بعض الصحف الغربية عن وجود بنود سرية في الاتفاق الذي وُقِّع بين الأمريكيين وحركة طالبان؛ إذ ليس من عادة الغزاة الغربيين في عصرنا الحديث الانسحاب من بلد احتلوه كل هذه الفترة، وأنفقوا فيه كل هذه المليارات الطائلة، وضحوا بانسحابهم منه بصورتهم أمام العالم، بدون أن يكون هناك فخ من فخاخهم الجديدة، أو القديمة الناجحة في تجارب سابقة لهم، وليس أنجح في هذه الاستراتيجية من أسر الأوطان من خلال جنرالاتها!

ولا شك أن سيطرة طالبان على حكم أفغانستان في المرة الأولى حاضرة في المقارنة بالوضع الآن، وأنهم لم يلجأوا إلى تكوين جيش نظامي على الطريقة الحديثة، فهل يلجأون إليه هذه المرة؟ والحقيقة أن هذا هو الجديد الذي أتوقعه مقرونًا بما سبق من أدلة، وبما جد على الوضع الأفغاني من وجود قوات عسكرية مستترة مؤقتًا.

ومع هذا، فإن السيناريو الأخير قد يصطدم بتحد كبير، ألا وهو سيطرة تيار حقاني المتصلب على المفاصل الأمنية والعسكرية داخل الحركة وفي الحكومة، حيث يرى هذا التيار أحقيته في قيادة وتوجيه الأمور بحكم كونه المتغلب وصاحب النضال والتضحيات.

“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى