مشاهد

حرائق الأمازون ومستقبل العلاقات البرازيلية الفرنسية

 يتصاعد التراشق الدبلوماسي بين دولتي البرازيل وفرنسا بسبب حرائق الأمازون الحاصلة في الدولة الأولى، ورفضها للمساعدة الفرنسية التي أبدتها للمساهمة في إخماد الحرائق التي قد تهدد النظام البيئي العالمي، وتؤثر سلبًا في التغيرات المناخية وهو ما توليه الدول الكبرى والمؤثرة عالميًا أولوية لحماية الأمن البيئي، ولذلك أعلنت باريس عن استعدادها إلى جانب الاتحاد الأوروبي للتدخل بشكل مباشر ومعاونة حكومة برازيليا للسيطرة على الحرائق، لكن سرعان ما تحولت النوايا الحسنة إلى تصعيد دبلوماسي على المستوى الرئاسي للبلدين بين الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون.

وعلى الرغم من خطورة الوضع القائم في غابات الأمازون على النظام البيئي إلا أن التراشق بين البلدين أثار التساؤلات حول طبيعة العلاقات بينهما سواءً على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، خصوصًا وأن دولة “غويانا الفرنسية” التي تمتلك حكمًا ذاتيًا لكنها تتبع للدولة الفرنسية وتقع في شمال قارة أمريكا الجنوبية، تمتلك حدودًا مباشرة مع البرازيل، وهو ما يفسر اهتمام فرنسا بشكل خاص عن بقية دول الاتحاد الأوروبي بقضية حرائق غابات الأمازون؛ كون أن غويانا أيضًا تبلغ مساحة الغابات فيها حوالي 96% من مجمل مساحة أراضيها كامتداد لغابات الأمازون البرازيلية وهي أحراش خالية من وجود الإنسان([1]).

من جهة أخرى، في ظل مرحلة الانفتاح والتطور الاقتصادي الذي تشهده البرازيل منذ عدة سنوات والتوقعات التي تستشرف وصولها إلى مصاف الدول الكبرى الصناعية والاقتصادية، إلا أن سياسة الرئيس بولسونارو -المنتخب في تشرين الأول/أكتوبر 2018- اليميني المتطرف الخارجية والتي ظهرت بوادرها مع فرنسا تشير إلى صعوبة الوصول إلى مواءمة بين الانفتاح الاقتصادي البرازيلي وبين التقدم الاقتصادي.

تفاصيل الخلاف بين البلدين

بدأ التوتر الدبلوماسي في بداية شهر آب/أغسطس عندما قام وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بزيارة رسمية إلى البرازيل لبحث العلاقات الثنائية، والاتفاقية التجارية الحرة بين الاتحاد الأوروبي وتكتل دول أمريكا الجنوبية (البرازيل، والأرجنتين، وأورغواي، وباراغواي) المعروف باسم “ميركوسور”- تأسس عام 1991([2])– والقضايا البيئية والتغيرات المناخية. لكن الرئيس البرازيلي ألغى اللقاء قبل دقائق لانشغاله، ونشر فيديو بذات التوقيت وهو يقص شعره، ما اعتبرته الأوساط السياسية الفرنسية اختراقًا للأعراف الدبلوماسية “وتجاهل لسياسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تجاه المناخ والبيئة، الأمر الذي لا يأتي على قائمة أولويات الرئيس بولسونارو”([3]).

من جهة أخرى وعلى خلفية اندلاع حرائق غابات الأمازون، اعتبر الرئيس الفرنسي ماكرون في 23 آب/أغسطس أن الحرائق في الأمازون أزمة دولية وأن الحكومة البرازيلية يجب أن تتدخل بشكل عاجل لإخمادها لأن ذلك سيؤثر على اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي ودول ميركوسور. ودعا إلى مناقشة الأزمة بين أعضاء مجموعة السبع خلال القمة في بياريتس بفرنسا. لكن بدوره اعتبر الرئيس البرازيلي أن هذا الأمر تدخل في الشؤون الداخلية لبلاده وأن ماكرون يقوم “بتحويل قضية داخلية في البرازيل وأربع دول أخرى في الأمازون إلى أداة لتحقيق مكاسب سياسية شخصية بأسلوب مشوق لا يساهم في حل المشكلة، وأن فرنسا لازالت تفكر بعقلية استعمارية”([4]).

كما تصاعد التوتر أكثر عندما اعتبر وزير التعليم العالي البرازيلي أبراهام وينتروب أن “ماكرون ليس على مستوى نقاش قضية الأمازون لأنه انتهازي أبله يسعى للحصول على دعم اللوبي الزراعي الفرنسي”. وكذلك قام الرئيس بولسونارو في وقت لاحق بنشر عبارات مشينة بحق زوجة الرئيس ماكرون”([5]).

في حين قام إدواردو بولسونارو، وهو نجل الرئيس البرازيلي، ونائب ومرشّح لتولي منصب سفير البرازيل في واشنطن بنشر فيديو لأعمال عنف خلال تظاهرات لحركة السترات الصفراء في فرنسا، وقد أرفقه بعنوان “ماكرون غبي”.

أما عن الموقف الفرنسي فقد اقتصر على رد ماكرون على نظيره البرازيلي ووصفه إياه بالـ”وقح للغاية”([6])، وأعلن كل من ماكرون والرئيس التشيلي سيباستيان بينييرا عقب جلسة مخصصة للبيئة خلال قمة مجموعة السبع أن قادة مجموعة السبع تعهّدوا بتقديم مساعدة طارئة قدرها 20 مليون دولار لإرسال طائرات مجهزة بقاذفات مياه لمكافحة حرائق غابة الأمازون([7])، لكن البرازيل رفضتها ورفضت أي مساعدة مقدمة أخرى إلا بشرط أن يتم وضع هذه الأموال تحت تصرف حكومة برازيليا([8]).

مستقبل العلاقات البرازيلية-الفرنسية([9])

في عام 2006 تم إطلاق مشروع الشراكة الاستراتيجية بين البرازيل وفرنسا، خلال زيارة دولة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك للبرازيل، وقام سلفه نيكولا ساركوزي عام 2008 بتطوير هذه الشراكة باعتماد خطة عمل، وتوقيع العديد من الاتفاقيات خلال قمة ريو دي جانيرو التي عقدت بين الاتحاد الأوروبي والبرازيل عام 2008.  وفي العام التالي قام ساركوزي بزيارة رسمية للبرازيل لحضور احتفالات يوم الاستقلال البرازيلي كأول رئيس دولة من خارج أمريكا اللاتينية يحضر كضيف شرف. وتوالت الزيارات الدبلوماسية بين مسؤولي البلدين في المجالات كافة الدفاعية والسياسية والثقافية والاقتصادية وتم تعزيز العلاقات بشكل أكثر فاعلية آنذاك.

في حين شهد الجانب التجاري بين البلدين نموًا ملحوظًا بين عامي 2003-2013 وبلغ حوالي 9.2% منذ عام 2007، ما دفع ما يقارب 900 شركة فرنسية بالحصول على عقود استثمار داخل البرازيل لتصبح خامس أكبر مستثمر أجنبي مباشر داخل البرازيل. ووصل حجم التبادل التجاري بين البلدين 7.1 مليار يورو في عام 2017، بزيادة قدرها 1.2% مقارنة بعام 2016، بسبب الزيادة الكبيرة في الواردات الفرنسية من البرازيل في قطاعي الزراعة والهيدروكربونية وخام الحديد بصفة خاصة. وأصبحت البرازيل بدورها السوق الرئيسية لفرنسا في أمريكا اللاتينية.

وفي مجال التعاون الثقافي تعتبر البرازيل الشريك العلمي الأول لفرنسا في أمريكا اللاتينية، وتعد فرنسا ثالث أكبر شريك علمي للبرازيل بعد الولايات المتحدة. ويتمحور التعاون العلمي حول التدريب الجيد بين الجامعات ومن خلال شراكات رفيعة المستوى بين الهيئات البحثية في كلا البلدين. ويركز هذا التدريب بشكل خاص على الرياضيات الأساسية والتطبيقية وتغير المناخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية. كما يتم العمل على دعم التبادلات الفرنسية والثقافية، حيث يحضر أكثر من 2500 تلميذ ثلاث مدارس فرنسية في ساو باولو وريو دي جانيرو وبرازيليا.

وفيما يتعلق بغويانا الفرنسية شمال أمريكا اللاتينية فقد تم إضفاء الطابع المؤسسي على التعاون اللامركزي بينها وبين فرنسا في مذكرة وقعت في غويانا الفرنسية في عام 2008، ما أعطى الحق لفرنسا بتوجيه سياسات غويانا الخارجية بشكل أكثر مرونة، وتقيم باريس أيضًا عدة مشاريع هامة هناك، حيث يوجد في مدينة كورو مركز استراتيجي للأبحاث الفضائية -لأن دوران الأرض في هذه المنطقة إلى جانب الأعاصير التي تتعرض لها تساعد على إطلاق الصواريخ بقوة دفع أكبر([10])– ولذلك اتجهت باريس إلى تعزيز العلاقات مع البرازيل عبر غويانا التي يبلغ شريطها الحدودي مع البرازيل حوالي 700 كم. واستفادت غويانا من اتفاقيات أبرمتها باريس مع الجانب البرازيلي في مجالات الصحة والتعليم والتنمية المستدامة، والحد من مخاطر الهجرة غير الشرعية والأمن وغسل الذهب غير المشروع والصيد غير المشروع وقضايا الصحة والصحة النباتية. وتنمية وتطوير اقتصاد دول الأمازون الإقليمي.

وعليه فإن الشراكة القائمة بين باريس وبرازيليا تعتبر استراتيجية على المدى البعيد لأنها تتعلق بعدة قضايا خصوصًا الاقتصادي منها لأن البرازيل على مشارف نهضة اقتصادية قادمة قد تجعلها في مصاف الدول المتقدمة اقتصاديًا في قارة أمريكا اللاتينية خصوصًا والدول العالمية عمومًا، وعليه فإن التصعيد الدبلوماسي بين البلدين إذا لم يتم احتواؤه فسيؤثر على مستقبل البرازيل الاقتصادي، ويبدو أن سياسة اليمين المتطرف التي ينتهجها الرئيس البرازيلي بولسونارو وتوجهه نحو تعزيز العلاقات مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل التي كان من أوائل الدول التي وجهت بنقل سفارتها إلى القدس بعد إعلان ضمها إلى إسرائيل مؤخرًا([11])، على حساب دعم العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي وتفعيل اتفاقية التجارة الحرة بين الأخير وبين دول ميركوسور، ستسهم في تعميق الخلاف الفرنسي البرازيلي خصوصًا بعد قضية حرائق الأمازون التي أظهرت عدم إيلاء الحكومة أهمية كافية للتعامل مع قضايا المناخ الاستراتيجية بالنسبة للأوروبيين، ولذلك فإن التساؤل يُطرح، هل ستكون القارة اللاتينية في المستقبل ساحة لسباق النفوذ والمصالح بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؟

([1]) “غويانا الفرنسية الحديقة الخلفية للاتحاد الأوروبي”. صحيفة البيان الإماراتية، 8-6-2010. https://bit.ly/2kzbUFt

([2]) “ماذا تعرف عن”الميركوسور”. الجزيرة نت، 13-3-2017. https://bit.ly/2lC8B09

([3]) “رئيس البرازيل يفضل قص شعره على لقاء وزير الخارجية الفرنسي”. الأناضول، 1-8-2019. https://bit.ly/2kqoCGr

([4]) “بولسونارو مهاجمًا ماكرون: حرائق الأمازون شأن داخلي ونرفض عقلية الاستعمار”. مونتي كارلو الدولية، 23-8-2019. https://bit.ly/2jWzyLG

([5]) “وزير التعليم البرازيلي لماكرون: انتهازي بلا شخصية”. العربية نت، 26-8-2019. https://bit.ly/2lRha7w

([6]) “ماكرون يرد على “سخرية” رئيس البرازيل من زوجته: وقح للغاية”. العربية نت، 27-8-2019. https://bit.ly/2kiKG5Z

([7]) “بالصورة: رئيس البرازيل يؤيد تعليقا يسخر من شكل بريجيت زوجة الرئيس الفرنسي”. مونتي كارلو الدولية، 26-8-2019. https://bit.ly/2m06pA3

([8]) “ما هو شرط بولسونارو لقبول مساعدات خارجية لمكافحة حرائق الأمازون؟”. مونتي كارلو الدولية، 28-8-2019. https://bit.ly/2lBCw8M

([9]) “Brazil”. France Ministry of Foreign Affairs website, URl: https://bit.ly/2lBS78k

       “Linking Brazil to French Guiana, a Bridge for No One”. The New York Times, 7-12-2015. https://nyti.ms/2luje5j

([10]) انظر المرجع رقم (1).

([11]) “العلاقات الإسرائيلية البرازيلية واللحم الحلال”. مونتي كارلو الدولية، 1-4-2019. https://bit.ly/2lBsipe

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى