مقدمة:
يشهد العالم تحولات متسارعة على الساحتين الدولية والإقليمية قادت في العقد الأخير إلى ظهور دول نامية بدأت تفرض نفسها في ميزان النظام العالمي وتُهدد مرتكزاته القائمة على هيمنة القطبية الأحادية، ويبدو أن الصين ومن خلال تطبيقها استراتيجيات توسعية متكاملة استطاعت النفاذ إلى قارات العالم ومنافسة الدول الكبرى في مناطق نفوذها التقليدية كالقارة الإفريقية والتي تعد منطقة استقطاب تاريخي منذ حقبة الحرب البادرة، حيث غدت إفريقيا في صلب السياسة الخارجية الصينية الجديدة لما تمتلكه من موارد طبيعية وثروات ومواد خام أصبحت ضرورية في نظر الصين لتحقيق تكامل اقتصادي داخلي وخارجي، خاصة بعدما حققت خلال عقدين ماضيين نموذج اقتصادي استثنائي بات محل أنظار صناع القرار في الدول الفقيرة التي باتت تبحث عن شريك اقتصادي يُراعي تطلعاتها السياسية والاجتماعية والثقافية وتساهم في تحقيق تنمية اقتصادية تزيل عنها أعباء حقبة الاستعمار الغربي، وقد رأت الدول الإفريقية في النموذج الصيني خيارًا مناسبًا لأن الصين ليس لديها إرث استعماري، و اعتمدت على مبادئ ومحددات شكلت عوامل جذب أهمها تبنيها عدم التدخل في الشأن السياسي الداخلي للدول والالتزام بوثيقة العيش السلمي المشترك والاحترام المتبادل والمنفعة التشاركية.
وقد تعددّت الأهداف لدى بكين في دائرة اهتمامها للقارة الإفريقية فرغم أنَّ الهدف الأول يبقى مركّز على الاقتصاد كهدف طبيعي لدولة صاعدة تبحث عن موارد الطاقة الجديدة، إلا أن الأبعاد السياسية والعسكرية الأمنية أصبحت حاضرة في أجنداتها التوسعية الخارجية، وبداعي حماية إنجازاتها الاقتصادية وتأمين ممرات التجارة البحرية بشكل يتناغم مع مشروعها التاريخي الحزام والطريق، أنشأت قاعدتها الأولى في جيبوتي في العام 2017، وقد شكلت هذه الخطوة الأولى من نوعها في تاريخ الصين المعاصر أول حركة استفزازية لدول الغرب والاتحاد الأوربي كون جيبوتي تعتبر منطقة نفوذ تقليدية وتحوي سلسلة قواعد عسكرية، ما يفسر أن دخول الصين على خط التسلح العسكري قد يعيد جذور الحرب الباردة من جديد لكن بأدوات مغايرة، وقد تكون بكين طرف رئيسي فيها إلى جانب روسيا الاتحادية.
تستعرض الدراسة مرتكزات السياسة الخارجية الصينية والمحددات والأهداف الاستراتيجية تجاه إفريقيا.
مرتكزات السياسة الخارجية الصينية
يتّفق العديد من الخبراء أنَّ المبادئ العامة للعيش المشترك التي تم وضعها في وثائق رسمية لتبادل العلاقات الدبلوماسية بين الصين وأكثر من مئة دولة، هي الأساس والقاعدة الصلّبة التي تنطلق منها الصين في التعامل مع الدول خارج نطاقها الحيوي [1]، وإن مبادئ الصين تمثل القاعدة السياسية الأولى التي انطلقت منها لدعم الدول الأخرى في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وصولًا إلى تمكين الدول من أساليب التنمية المستدامة. وبالاستناد إلى هذه المبادئ يمكن توضيح بعض المعالم العامة الرئيسية التي تنطلق منها الصين في سياستها الخارجية وفق ما يأتي:
_ الجغرافيا والتنمية الديموغرافية
تُعد مساحة الصين وسكانها أحد أهم العوامل التي تحدد توجهات السياسة الخارجية، خاصًة إذا كان الحيز الجغرافي يشغل مواقعًا استراتيجيًا مهمًا، كما أن القوة البشرية الهائلة تساهم في تعزيز استراتيجيات الدولة من حيث المشاركة في تحقيق أهداف تنموية تطبقها الحكومة سواء في القطاعات العامة أو الخاصة أو في المؤسسات الأمنية والعسكرية، ويتجلى ذلك من خلال تطبيق النخبة الحاكمة لبرامج خاصة في تأهيل الكوادر التي تسخرها في خدمة تطلعاتها الداخلية والخارجية وإرفاد اليد العاملة للعمل مع الشركات المستثمرة في الخارج .
الصين هي أكبر دول العالم من حيث المساحة، وتتميز بموقع استراتيجي في منطقة شرق آسيا، وترتبط حدودها مع 14 دولة، كالهند وباكستان وروسيا وكوريا الشمالية، وتشرف على العديد من الطرق البرية كطريق الحرير، وبحرية كالمحيط الهادي وبحر الصين الجنوبي والشرقي، والبحر الأصفر، كما يمثل العنصر البشري لديها عامًلا مميزًا في جانبه الإيجابي المساهم ببناء قوة الدولة بتعداد يصل لأكثر من مليار و13 مليون نسمة، والذي يتنوع بعرقيات وقوميات تصل إلى 56.[2] أما الجانب السلبي يتّرتب في ارتفاع أعباء تزايد السكان بمعدل سنوي يصل إلى 3.2% وهو ما يفسر زيادة الطلب على الغذاء الذي يدفع بالدولة الصينية لوضع قضية التنمية الديمغرافية ضمن توجهاتها الخارجية [3].
_ الدبلوماسية الاقتصادية
تعتمد بكين على الدبلوماسية الاقتصادية كأداة تمكين للتنمية الشاملة وذلك منذ أن تبنّت برنامجًا إصلاحيًا في أواخر السبعيّنات، ومنذ ذلك الوقت تنطلق الصين نحو المزيد من الصعود لقوتها الاقتصادية حتى أصبحت صاحبه أسرع نمو اقتصادي في العالم، وأكبر احتياطي نقدي أجنبي، إضافة لكونها أكبر منتج للفحم والفولاذ والإسمنت، وثاني أكبر مستهلك للطاقة، وثالث أكبر مستورد للنفط فمن إفريقيا فقط تستهلك 30% من واردتها النفطية [4]، ومن المُرجح أن يصل ناتجها المحلي حتى عام 2020 لأكثر من 4000 بليون دولار أمريكي [5]، وانطلاقًا من هذه الأرقام أصبحت الصين تبحث عن أسواق اقتصادية خارجية، وتستحوذ على مناطق تجارية بهدف تأمين استمرارية عمليه التنمية في الداخل على اعتبار أن هذه الاستمرارية ستقود إلى تأمين الاستقرار وتعزز من دورها الإقليمي. ومن هذه النتيجة يتضح بأن الصين سعت إلى تطوير مفهوم الدبلوماسية الاقتصادية كأداة تقليدية قديمة في خدمة الأيديولوجية إلى مفهوم واسع براغماتي يخدم تطلعاتها في إدارة العلاقات الاقتصادية و الدولية عن طريق المساهمة في دفع اقتصاديات الدول والصعود بها إلى مستوى الاكتفاء الذاتي، لذا الصين ومنذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية وقعّت على العديد من اتفاقيات التعاون الاقتصادي والتجاري أهمها اتفاقية التجارة الحرة. ويرجع السبب وراء نجاحات الدبلوماسية الاقتصادية الصينية إلى التنمية الاقتصادية السريعة، والنمو الاقتصادي المتواصل حيث استخدمت في سبيل تحقيق ذلك مبدأ تعزيز العلاقات الدولية بدفع الاقتصاد الذي ساعد عدة دول في بناء مشاريع بنية تحتية، وحتى نهاية عام 2010 ساعدت الصين دول نامية وأقل نموًا في بناء 632 مشروعًا [6].
الدبلوماسية السياسية
منذ حقبة الستيّنات والسبعيّنات تنتهج بكين دبلوماسية سياسية بهدف تحسين وضعها دوليًا عبر تبنيها سياسة نسج وتطوير العلاقات مع كل الدول سواء الدول الكبرى كأمريكا وبريطانيا وفرنسا أو الفقيرة كدول القارة الإفريقية وتجلّى ذلك من خلال التبادلات التجارية وزيادة الاستثمارات، ولعبها دور في قضايا خلافية كبرى كقضية دارفور في السودان وأزمة ساحل العاج.
وفي العقدين الأخيرين أدركت الصين أهمية طرح وجهة نظرها للعالم الخارجي من أجل تحسين صورتها بين الدول وطبقاً لذلك بدأت في منتصف التسعينيات في إصدار الأوراق البيضاء الحكومية المتعلقة بالموضوعات الجدلية للسياسة الخارجية من أجل التعزيز والدفاع عن آرائها. ومن هذا المنطلق فقد أصدرت الصين أكثر من ثلاثين وثيقة تتناول مجموعة متنوعة من القضايا منها متعلق بتنظيم عدد السكان وحقوق الإنسان إلى جانب قضية تايوان والتيبت.
أما مؤخرًا وبعد أن بدأت تصدّر نموذجها الاقتصادي نحو الخارجي وتنافس موسكو وواشنطن[7] في مناطق نفوذهم التقليدية أصبحت بكين وعبر مقعد عضويتها في مجلس الأمن تفرض نفسها كلاعب إقليمي وتسعى لتحقيق نوع من التوازن بين مصالحها الخاصة من جهة وبين مصالح حلفاؤها الجدد من جهة أخرى، سيما بما يتعلق بمشروع طريق الحرير والتي تسعى من خلاله لإنشاء حلقة وصل برية وبحرية بين آسيا وإفريقيا و أوربا [8].
الدبلوماسية العسكرية والأمنية
تنظر بكين لهذه الدبلوماسية على أنها نهج متطور تهدف من خلاله إلى دعم وتطوير مؤسستها العسكرية ودرء كامل الأخطار عن أمنها القومي، ومن المعروف أن الصين تتبنى منذ عقود سياسات دفاعية وتمتلك مقدرات هائلة في تسليح الجيوش وتدريبهم جعلها تشغل المرتبة الثالثة من حيث المقدرة النووية بامتلاكها أكثر من 250 رأس نووي [9].
وقبل الألفية الثالثة لم تعتمد بكين على التوسع عسكريًا وأمنيًا خارج نطاقها الحيوي، وكانت طيلة عقود ماضية تلتزم سياسة الانعزال عن العالم وتهتم بتعزيز السيطرة على أراضيها وضم مساحات من جوارها الإقليمي، وهذا ما يفسر دخولها في نزاعات حدودية مع جيرانها، لكن بعد نجاحها في دبلوماسيتها الاقتصادية والتنمية الشاملة بدأت في 2008 التوجه نحو الخارج وشاركت ببعض الوحدات البحرية في عمليات مكافحة الإرهاب وأرسلت قوات صينية خاصة كقوات حفظ سلام في جنوب السودان في 2014م [10]، وأعقبت هذه المحاولة بناء سلسلة من القواعد في المياه المتنازع عليها مع عدة دول آسيوية في بحر الصين الجنوبي، وبنت عدة جزر صناعية ومدارج طيران وأرصفة سفن. وفي 2017 أنشأت أول قاعدة بحرية باتفاق مع جيبوتي لمدة عشر سنوات وتُصر الصين أن هذه القاعدة ستقتصر على الخدمات اللوجستية لسفنها المدنية والحربية العابرة للمنطقة وستحوي على ورشات لصيانة السفن و المروحيات، إلا أنها ترمي لتحقيق أبعد من ذلك فمن خلال النظر إلى أهمية جيبوتي فهي تعتبر مدخل القارة الإفريقية القريبة من شبه الجزيرة العربية التي تستورد منها الصين نصف نفطها الخام، إضافة أن موقعها على خريطة الموانئ التي قامت الصين بالاستثمار فيها، وقد تم تشييد سلسلة من الموانئ في كل من تركيا شمالاً، مروراً باليونان وإسرائيل ومصر وأريتريا، وصولاً إلى كينيا وتنزانيا وموزمبيق في جنوب القارة الإفريقية، إضافة إلى موانئ أخرى في كل من باكستان وسريلانكا وبنغلادش وميانمار. ويشكل مضيق باب المندب ممراً لـ20% من حجم التجارة العالمية، وللصين النصيب الأكبر منها، إضافةً إلى أن 50% من واردات النفط إلى الصين تصلها من المملكة العربية السعودية والعراق وجنوب السودان، الأمر الذي يجعل للممر أهمية استراتيجية مضاعفة بالنسبة لبكين. وبالتالي فإن هدف بكين يكمن في تأمين طرق الملاحة، فضلًا عن تأمين سلامة الجنود الصينيين المساهمين في قوات حفظ السلام بدول أفريقية عدة [11].
الصين وإفريقيا مسيرة علاقات صاعدة
إن تاريخ العلاقات الصينية الإفريقية يعود لعقود من الزمن ومرَّ بمراحل متفاوتة بين صعود وركود بشكل يتناسب مع المتغيرات الإقليمية، وقد كانت توجهات الصين تجاه إفريقيا تختلف وفق تطلعاتها الداخلية ففي نهاية الخمسينات وبداية الستينات اتسمت الدبلوماسية الصينية على خدمة الأيديولوجيا في وقت كانت فيه تسعى لكسر عزلتها الدولية المحكومة بين قوتين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، حيث عملت على دعم حركات التحرر في القارة الإفريقية بهدف الحصول على دعمها، وكانت تقدم نفسها للقارة السمراء كبديل اشتراكي ناجح مقارنة مع قوة الهيمنة السوفييتية، وفي أواخر السبعينات غدت إفريقيا ساحة صراع بين بكين وتايوان فمنذ 1949 كانت تايوان تشغل المقعد الدائم للصين في الأمم المتحدة وكانت الدول الإفريقية تشجع هذا الاعتراف حتى تاريخ 1971، الذي شكل نقطة تحول في تاريخ تطبيع العلاقات الأمريكية الصينية ما دفع بكين إلى كسب رأي غالبية الدول الأوربية في تأييدها الصين الشعبية في الأمم المتحدة بدلاً من تايوان، التي انحصر الاعتراف بها بأربع دول أفريقية في العام 2009 وهو ما اعتبرته الصين انتصارًا دبلوماسيًا لها في أفريقيا. وفي أواخر التسعينات عززت بكين توجهاتها نحو القارة الإفريقية وأصبحت المنافس والشريك الذي يلي الولايات المتحدة وفرنسا في القارة الإفريقية، لما تتمتع به من قوة اقتصادية هائلة جعلتها تقوم بهذا الدور بفاعلية، وفي أكتوبر 2000 بادرت الصين إلى إنشاء منتدى التعاون الصيني الإفريقي بضم 45 دول إفريقية لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بين الطرفين في قطاعات متعددة، وهو ما أسهم بتنامي الدور الصيني في إفريقيا، حيث وصلت التجارة الثنائية بينهما من 10.6 مليار دولار في عام 2000، إلى 222 مليار دولار في عام 2014، ومن المنتظر أن تناهز 400 مليار دولار بحلول 2020[12].
ويعتبر العام 2006 عامًا مميزًا في مسيرة العلاقات الصينية الإفريقية بسبب سلسلة الزيارات الموسعة التي قام بها بعض القادة الصينيون إلى كل من ليبيا مالي السنغال ونيجيريا وآثيوبيا، ولعل أبرز الزيارات التي أعطت مؤشر مهم على اهتمام الصين في القارة هي جولة رئيس الوزراء الصيني، لي كه تشيانغ، لإفريقيا في 2014 التي اعتبرها المراقبون أنها تعكس مدى النفوذ الصيني ودوره في المنطقة[13].
محددات السياسة الخارجية في إفريقيا
تَتَمتَّع قارة إفريقيا بموقع جغرافي هام فموقعها في جنوب أوروبا يجعل منها نافذة للدول الراغبة في بسط السيطرة على الطرق البرية والبحرية التي تمر منها الناقلات النفطية، كما أن إطلالتها على البحر المتوسط من الشمال والمحيط الأطلسي من الغرب والمحيط الهندي والبحر الأحمر من الشرق يؤدى لسهوله انتقال البضاع التجارية إليها، كذلك تتميز بوجود مناطق استراتيجية مهمة وممرات تتحكم في حركة النقل البحري الدولي، منها ممر قناة السويس وممر باب المندب، فضلاً عن قرب مناطق النفط في إفريقيا من الصين أيضًا، وهذه الممرات تضمن للصين النفاذ والوصول إلى الأسواق العالمية. علاوًة على ذلك تحوي القارة عنصر بشري كبير بتعداد سكاني يصل إلى أكثر من مليار نسمة، ما يفسر أنها واجهة ضخمة للبضائع الصينية المميزة بأسعار رخيصة.
العامل الاقتصادي
تعتبر القارة الأفريقية من أكثر القارات العالم الغنية بالثروات الطبيعية ومناجم الذهب والألماس والنفط، فهي تملك حوالي 124 مليار برميل من احتياطي النفط، أي ما يشكل حوالي 12% من الاحتياطي العالمي، وتتركز الثروة النفطية في دول عدة كنيجيريا والجزائر ومصر وأنجولا وليبيا والسودان وجنوب أفريقيا. و يبلغ احتياطها من الغاز الطبيعي حوالي 10% من إجمالي الاحتياطي العالمي، حيث تملك حوالي 500 تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز الطبيعي، و تحوي على موارد طبيعية وأولية، حيث تنتج حوالي 90% من البلاتين المنتج في العالم، و40% من إنتاج الألماس، وتحوز 50 % من احتياطي الذهب، و30 % من اليورانيوم الهام في الصناعات النووية، وتنتج 27% من إجمالي كمية الكوبالت المنتجة، أما خام الحديد فتقوم القارة بإنتاج ما نسبته 9% من إجمالي إنتاجه حول العالم[14].
لذا مثّلت الصين ثالث أكبر شريك تجاري في إفريقيا بعد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، وكان ذلك بسبب ارتفاع أسعار النفط العالمية والمواد الخام، إضافًة إلى زيادة طلب الصين على المنتجات الإفريقية، وتعد أنغولا أكبر مورد إفريقي للصين متقدمة على كل من جنوب إفريقيا والسودان وجمهورية الكونغو، في حين تمثل جنوب إفريقيا ونيجيريا والسودان ثالث أسواق الصادرات الصينية إلى القارة، ومنذ 2014 تضاعف حجم التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا ليصل إلى حوالي 222 مليار دولار، وفي الربع الأول من العام 2018 ازدادت قيمة صادرات الصين إلى القارة الإفريقية بمقدار 50.37 مليار دولار في الستة أشهر الأولى بزيادة بلغت 8.1%، [15] بينما بلغت قيمة وارداتها من إفريقيا 48.47 مليار دولار بزيادة تبلغ 28.6% على أساس سنوي مما يُوضِّح ضخامة التبادل التجاري بين الجانبين . والجدير ذكره أنه في 2012، قدَّمت الصين قرابة 30 مليار دولار كقروض تفضيلية لعدد من البلدان الإفريقية، لدعم نمو المشاريع ذات الأولوية فيها، شملت مجالات متعدِّدة أبرزها البنى التحتية والزراعة، ومشروعات للطاقة. كما أنشأت بين عامي 2001 و2009، صندوق التنمية الصيني الإفريقي، بقيمة 605 مليارات دولار، وألغت ديون 35 بلدًا إفريقيًّا من بين الأكثر استدانة تجاوزت قيمتها الكلية 3 مليارات دولار. كما تمتلك الصين حوالى 1043 مشروعًا في إفريقيا، وأكثر من ألفين وخمسمائة شركة في أكثر من خمسين بلدًا ومنطقة، إضافة إلى أنها قامت ببناء 2233كم من الخطوط الحديدية و3530 كم من الطرقات، بينها خط حديدي في كينيا للربط بين بلدان شرق إفريقيا، تحديدًا أوغندا وكينيا[16].
وفي الشكل التالي يبرز حجم وتوزع الانتشار للاستثمارات الصينية في إفريقيا [17]:
المصدر: الموسوعة الجزائرية للدراسات نقلًا عن معهد المؤسسات الأمريكي.
العامل السياسي
تنظر الصين إلى إفريقيا على أنها جزء من استراتيجية شاملة تسعى من خلالها إلى منافسة الجهود الأمريكية الرامية لتطويقها، وقد جاء بأحد بنود الكتاب الأبيض، بأن بكين تعمل على إنتاج نوع جديد من الشراكة الاستراتيجية مع إفريقيا، تقوم على مبدأ المساواة، والثقة المتبادلة، والربح المتبادل على المستوى الاقتصادي[18]، وتعد الدول الإفريقية عاملًا مؤثر في السياسة الخارجية الصينية منذ أن ساهمت في التصويت لصالح الصين ضد تايوان، ونتيجة للتغيرات الدولية تحولت علاقاتها بأفريقيا للاعتماد على علاقات أكثر براغماتية، تستند إلى المصالح والمنافع المتبادلة، كما تعول الصين بشكل دائم على الكتلة التصويتية لدول القارة الأفريقية للمطالبة بتعديل عدة اتفاقيات دولية، كذلك تعد الدول الأفريقية ضرورية للمصالح الصينية التي تسعى إلى تطبيق سياسة الصين الواحدة، وتعديل الميزان الدولي لمصلحتها في مقابل الهيمنة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في مجال العلاقات الدولية ولا سيَّما في ما يخص حقوق الإنسان. وتهدف الصين، في إطار تطوير علاقاتها مع دول القارة الأفريقية، إلى مواجهة محاولة انضمام اليابان والهند إلى العضوية الدائمة في مجلس الأمن، في ظل تزايد طرح مسألة إصلاح العديد من المؤسسات الدولية، وترحيب الولايات المتحدة بهذا الانضمام الذي تسعى من خلاله إلى منع ظهور مراكز قوى عالمية منافسة، وهذا ما يفسر محاولة الولايات المتحدة الأمريكية حث اليابان على إعادة التسلح لتوظيفها ضد الصين في شرق آسيا [19].
الأهداف الاستراتيجية في إفريقيا
تسعى الصين لتحقيق عدة أهداف في إفريقيا وتدخل ضمن استراتيجية متكاملة تسعى لتحقيقها عبر استخدامها عدة أساليب وأدوات ناعمة وصلبة لما بات يُعرف بالقوة الذكية، لذا فمن الضيق القول إن الأهداف الصينية في إفريقيا مقتصرة على تحقيق أهداف اقتصادية، بل هي تتسع لتشمل أهداف استراتيجية وجيوسياسية وعسكرية،. ويمكن القول إن أدواتها الثقافية والعسكرية والإعلامية وبنك المساعدة المالية الغير مشروط سياسيًا وصفقات المشاريع والاستثمارات والتبادلات التجارية جميعها تدخل في حزمة واحدة لتحقيق معادلة التوازن التكاملي والذي يقتضي باقتران دبلوماسية الاقتصاد بالسياسة والعسكرة والأمن من داخل الصين إلى مناطق توسعها الحيوي.
ومنه يمكن ذكر بعض الأهداف الاستراتيجية الصينية في إفريقيا كالآتي:
_ تشجيع الشركات الصينية على الاستثمار الدائم في افريقيا و تقديم المساعدات لها لتعزيز عملية التكامل الاقتصادي .
_ استمرار كسب دعم الدول الإفريقية لتوظيفها في القضايا الصينية الخلافية كحقوق الإنسان وأزمة تايوان.
_ تأمين مصادر إمدادات نفطية دائمة ومضمونة في إفريقيا مقابل تقليل الاعتماد عليه في دول الشرق الأوسط والخليج العربي بسبب ارتفاع النزعات.
_ فرض نفسها كبديل قادم لشركاء إفريقيا التقليديين أوروبيين وأميركيين.
_ تهميش تايوان دبلوماسيا في إفريقيا.
_ سعي الصين لخلق نظام دولي متعدد الأقطاب عبر الاستمرار في تطبيق مشروع الحزام والطريق.
_ فرض نفسها كلاعب متطور في قضية التسليح من خلال التوسع في بناء قواعدها العسكرية خارج الحدود.
خاتمة:
لقد مثَّل إعلان الصين عن منتدى التعاون المشترك الإفريقي 2000 وتشييد مقر اتحاد إفريقيا في أديس بابا أحد أهم التحولات التي ساهمت في تعزيز العلاقة بين الطرفين، ومهدت الطريق لدخول الصين بكامل طاقاتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية لجعل إفريقيا حجر أساس في التوجه نحو العالم، لا سيما أن بكين نجحت مرة أخرى بكسب الدول الإفريقية في عملية التوظيف السياسي داخل مجلس الأمن، على غرار ما فعلته سابقًا في مسألة الحصول على دعم 49 دولية إفريقية ضد قضية تايوان، وبات الطرفان يدركان أهمية ومستوى العلاقة القائمة على الاحترام المتبادل والتعاون والمنفعة المشتركة بميثاق التعايش السلمي والذي يخلو من أي نفس استعماري جديد حسب زعمها، وعليه أصبحت إفريقيا بالنسبة للصين المصدر الأهم لحاجات بكين الاقتصادية المتمثلة في تأمين مستدام لمصادر الطاقة والموارد الطبيعية، وإفريقيا بدورها غدت تنظر للصين الشريك التجاري والاقتصادي الأول كون أن العديد من الدول الإفريقية أبدوا إعجابهم بالتجربة والنموذج الصيني أهمها ملف المساعدات والمنح المالية غير المشروطة بمحددات سياسية والتي ساهمت لحد كبير في تقليص فجوة الفقر في البلاد عبر إنشاء مئات المشروعات على كافة مستويات السياسية والاقتصادية والصحية والتعليم والصحة والإعلام والثقافة التي شكلت أحد أهم أدوات القوة الناعمة الصينية بنشر معاهد كونفوشيوس [20] لنشر الثقافة الصينية في القارة وتكريس نموذج الصين كبديل إيجابي عن النماذج الغربية الأوربية التي تنظر للسلوك الصيني في إفريقيا على أنه شكل من أشكال الاستعمار الجديد، وبغض النظر عن الوجهة الغربية تجاه الصين فإن أحد التساؤلات المطروحة هل فعلًا الصين من خلال سياساتها التوسعية لا تسعى للسيطرة على موارد القارة وتلتزم بالحياد في مسائل الدول الداخلية، أم أن كل ما تستخدمه من أداوت القوة الناعمة والصلبة هي في سبيل تحقيق أهداف أبعد من الجانب الاقتصادي، لا سيما أن قاعدتها الأولى في جيبوتي تعكس عن مدى اهتمام الصين في تعزيز عقيدتها الأمنية والعسكرية على طول الطريق الواصل للموانئ التجارية والبحرية، وقد شكلت هذه الخطوة ردات فعل متباينة أوربية وغربية رافضة للتمدد العسكري الصيني، قادت مؤخرًا لرفع حدة التوتر في ملفات الصراع التجاري الأمريكي الصيني في عهد الرئيس دونالد ترامب، والذي أصبح يولي الكثير من الاهتمام للصعود الصيني في آسيا الوسطى وإفريقيا ودول الشرق الأوسط، ما دعا إلى تغيير في التوجهات العامة الأمريكية بعد ظهور دلائل عن نية الإدارة الأمريكية في تحقيق انكماش مرحلي في الشرق الأوسط مقابل الاهتمام في المناطق التي تشهد صعود صيني كبحر الصين الجنوبي والشرقي وإفريقيا.
وعلى صعيد استدامة النموذج الإيجابي الصيني داخل إفريقيا فهو يبقى محل جدل صاعد على وقع ازدياد النزاعات التي تشهدها القارة كالجزء الشمالي منها الجزائر والسودان وتونس، فهناك خشية من أن تلقي هذه التوترات بثقلها السلبي على مصالح الصين، يُضاف لها أن بعض الدول الإفريقية بدأت تشكو من موضوع العمالة الصينية التي بدأت تزاحم أبناء المنطقة، فهجمة العمالة الصينية التي دخلت عبر الشركات بالآلاف أصبحت تهدد العمالة الإفريقية خاصة أنها تتميز بالكفاءة، فمثلا الجزائر بدأت تضغط على الحكومة في الحراك الراهن لاتخاذ اجراءات جديدة تضبط من خلاله تنظيم العمالة الصينية التي تشرف على مشروعات ضخمة.
على الصعيد السياسي يُشكل دعم بكين لبعض الأنظمة الحالية في إفريقيا خاصة دبلوماسيًا تحديًا فعليًا فقد طرح هذا الدعم انتقادات وشكوك كبيرة، حول الأهداف الحقيقية للصين، وراء هذا الدعم، فهناك من يعتبر أنه يهدف إلى تثبيت هذه النظم في السلطة، والتي بدورها تتيح للصين فرصة الاستثمار والتجارة معها، ولا يقتصر الأمر على قارة إفريقيا بل يتخطى الأمر لدى دول الشرق الأوسط التي اتبعت الصين معهم سياسات خاصة تلائم توجهاتها الخارجية القائمة على عدم استفزاز الحلفاء كروسيا، فضلًا عن رغبتها في التخلص من العرقيات المسلمة الصينية المنتشرة خارج حدودها.
وتبعًا لمسيرة استقراء سلوكيات الصين في إفريقيا لا يمكن الجزم بأن ما حققته قائم على أساس احترامها الفعلي لسيادة الدول، فرغم كل الشعارات التي تنادي بها إلا أنها حققت من ورائها بعض الأهداف الجيوسياسية بشكل متسق مع استراتيجيتها الشاملة التوسعية في قارات العالم الثلاث بهدف سعيها تقديم نموذج عالمي جديد كبديل عن النظام المتآكل الراهن.
[1] https://on.china.cn/33xtScJ
الصين بالعربي، المبادئ الخمسة للتعايش السلمي، شوهد بـ 8- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
مركز المسبار، الإسلام والمسلمين في الصين، ن- بـ 9- سبتمبر/ 2015، شوهد بـ 8- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
الموسوعة، الأهمية الاستراتيجية للصين، شوهد، بـ 8- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
قراءات إفريقية، التوغُّل الصينيّ في القارة السمراء المجالات – الدوافع – سيناريوهات مستقبلية)، شوهد بـ 8- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
مركز الجزيرة للدراسات، أبعاد الاهتمام الصيني بشرق إفريقيا: الفرص والعقبات، ن- بـ 11- يناير، 2017، شوهد بـ 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
[6] http://bit.ly/2NWyWAB ، مركز دراسات الصين وإفريقيا، السياسة الخارجية الصينية تجاه إفريقيا، شوهد بـ 9- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
المركز الديمقراطي العربي، التنافس الدولي على الموارد الطبيعية في افريقيا بعد الحرب العالمية الثانية، ن- بـ 13- سبتمبر/ 2016، شوهد بـ 9- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
مركز دراسات الوحدة العربية، استراتيجية الوجود الصيني في أفريقيا: الديناميات والانعكاسات، شوهد بـ 9- نوفمبر، تشرين الثاني 2019.
المركز الديمقراطي العربي، الاستراتيجية الصينية في أفريقيا : دراسة حالة أثيوبيا، ن- بـ 18- أكتوبر/ 2017، شوهد بـ 10- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
مايكل مرسوم عزمي، موقع مؤرخين، القواعد الصينية في إفريقيا، شوهد بـ 10- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
الأناضول، لماذا تبني الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي، ن- بـ 26-9-2016، شوهد بـ 10- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
سبوتنيك، ما سر اهتمام الصين في إفريقيا، ن- بـ 17-4- 2019، شوهد بـ 7- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
الجزيرة، رئيس وزراء الصين يبدأ جولة أفريقية، ن- بـ 4-5- 2014. شوهد بـ 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
الصين بالعربي، مركز دراسات الصين وإفريقيا، شوهد بـ 10، نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
مركز دراسات إفريقيا، التوغُّل الصينيّ في القارة السمراء المجالات – الدوافع – سيناريوهات مستقبلية، شوهد بـ 10- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
سياسات عربية، استراتيجية الوجود الصيني في أفريقيا، شوهد بـ 10- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
الموسوعة الجزائرية للدراسات، شوهد، بـ 10- نوفمبر/ تشرين الثاني/ 2019.
الكتاب الأبيض حول التنمية السلمية في الصين ، شوهد بـ 10- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
المؤسسة العربية والإفريقية للدراسات، التنافس الأمريكي- الصيني من أجل الزعامة و الريادة الإقليمية والعالمية، شوهد بـ 10- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
قراءة في الاستراتيجية الصينية في افريقيا: القوة الناعمة، ن- بـ 13- 6- 2018، شوهد بـ 11- نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.