إجراءات عزل الرئيس الأمريكي ودلالاتها
عقب إعلان مجلس النواب الأمريكي مؤخرًًا عن فتح تحقيق رسمي بهدف عزل الرئيس دونالد ترمب لاتهامه بانتهاك الدستور عبر السعي للحصول على مساعدة دولة أجنبية هي أوكرانيا لإلحاق الضرر بخصمه الديمقراطي جو بايدن([1]). واتهامه بفعل أشياء مشينة للقسم الرئاسي والأمن القومي. عادت الأوساط السياسية لنقاش ملف عزل ترمب الذي تم فتحه عام 2018 عندما صدرت تقارير استخباراتية أمريكية تتهم روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2016 بهدف دعم ترمب للوصول إلى السلطة، وهو ما دفع الكونغرس لطلب التحقيق في الأمر وإثارة قضية عزل الرئيس من منصبه، وتم تعيين محقق خاص للبحث في القضية، وتم حينها توظيف 19 محاميًا لإجراء التحقيق والمقابلات، بالإضافة إلى فريق مكون من 40 عميلًا فيدراليًا. وتم إصدار 2800 مذكرة إحضار إلى المحكمة، ونحو 500 أمر بالتفتيش، وتم استجواب نحو 500 شاهد خلال التحقيق. لكن نتائجه أظهرت عدم اعتبار الرئيس الأمريكي مذنبًًا ليُقفَل بذلك ملف عزله([2]).
لكن بالعودة لملف بدء تحقيقات جديدة في مجلس النواب ضد ترمب، يُثار التساؤل حول إمكانية تطبيق إجراءات العزل لأنها معقدة وتحتاج إلى تدابير ينصُّ عليها دستور الولايات المتحدة الأمريكية قبل الدخول في سباق الرئاسة عام 2020، كما يسود اعتقاد أن تصاعد تباين المواقف بين البيت الأبيض والكونغرس الأمريكي سيؤدي إلى عرقلة تطبيق قرارات دونالد ترمب المثيرة للجدل خصوصًا لدى الحزب الديمقراطي الذي يحاول بشكل مستمر تقييد صلاحيات الرئيس، ولذلك جاءت خطوة تحريك ملف العزل من الكونغرس الذي يشكل الديمقراطيون الأغلبية في مقاعده.
تفاصيل القضية الموجهة ضد الرئيس الأمريكي
قام أحد المسؤولين في الاستخبارات الأمريكية، بالتبليغ عن محضر مكالمة هاتفية مصنفة على أنها سرية بين ترمب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لإقناعه بالتحقيق مع جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي السابق ومنافس ترمب، بهدف تعزيز حظوظ الأخير في السباق الرئاسي عام 2020.
ووفقًا للبلاغ، تم تصنيف محضر المكالمة في بداية الأمر على أنها مكالمة سرية، وفي وقت لاحق على أنها سرية للغاية، ما يعني أن “الأشخاص الذين لديهم أعلى التصاريح الأمنية هم وحدهم القادرون على الاطلاع عليها، وكان هذا بمثابة علامة خطر، حيث أظهر ذلك أن مسؤولي البيت الأبيض لم يكونوا على دراية بالطبيعة السياسية الشائكة للمكالمة فحسب، بل كانوا يحاولون إخفاء هذه المعلومات عن الآخرين في الحكومة الأمريكية”.
أما عن كيفية الكشف عن هذه المكالمة من المسؤول الأمريكي، فبحسب آلية عمل البيت الأبيض بما يتعلق بمكالمات الرئيس الهاتفية يقدم مسؤولون من مجلس الأمن القومي الأمريكي إحاطة للرئيس، قبل إجراء مكالمة مع رئيس دولة أجنبي. ثم يجلس هؤلاء في المكتب البيضاوي مع الرئيس، بينما يتحدث مع الرئيس الآخر، ويحضر عضوان على الأقل من مجلس الأمن القومي خلال المكالمة، وهناك أيضًا مسؤولون يجلسون في غرفة آمنة، في جزء آخر من البيت الأبيض، يستمعون إلى مكالمة الرئيس ويقومون بتسجيل ملاحظات ضمن مذكرة محادثة هاتفية. كما يتم نسخ تسجيل مكالمات الرئيس مع القادة الأجانب بواسطة أجهزة كمبيوتر. بعد ذلك يقارن مدونو الملاحظات انطباعاتهم بالنسخ الإلكترونية من المكالمة، ويتم دمج الملاحظات من المسؤولين ومن النسخ المسجلة في وثيقة واحدة.
من جهة أخرى يقوم المسؤولون الذين يعملون في مكتب السكرتير التنفيذي لمجلس الأمن القومي الأمريكي بإقرار مستوى تصنيف محضر المكالمة، حيث إذا كانت المكالمة تحتوي على معلومات، يمكن أن تعرض الأمن القومي الأمريكي أو حياة الأفراد للخطر، يتم تصنيف المحضر على أنه سري للغاية، ويتم حفظه في مكان محمي، ويعني هذا أن الأفراد، الذين يتمتعون بأعلى مستوى من التصريح الأمني في حكومة الولايات المتحدة، يمكنهم فقط رؤية المحتوى. أما إذا كانت محتويات المكالمة الهاتفية أقل أهمية فإنه يتم تصنيفها على أنها “سرية” ما يعني أنه يمكن للمسؤولين مناقشة محتويات مكالمة الرئيس بسهولة أكبر، مع الأشخاص الآخرين الذين يعملون في الحكومة.
وبالعودة لمكالمة ترمب مع الرئيس الأوكراني فقد كان هناك نحو عشرة أشخاص يستمعون إلى المحادثة، وكانت مصنفة على أنها سرية، وتم تسريبها بسبب إساءة استخدام الرئيس الأمريكي للسلطة الرئاسية، بحسب من قام بتقديم البلاغ([3]). وعليه بدأ الديمقراطيون تحقيقًا في قضية مساءلة الرئيس، وركزوا على المزاعم التي تم الإبلاغ عنها في هذه الشكوى.
إجراءات العزل وفق الدستور الأمريكي
بحسب الدستور الأمريكي فإن الرئيس “قد يعزل من المنصب في حالة اتهامه بالخيانة أو الرشوة أو غيرها من الجرائم والجنح الخطيرة”. وحدد الدستور آليات صارمة لتحقيق ذلك عبر ثلاث مراحل وفق ما يأتي([4]):
- يقوم مجلس النواب (الكونغرس) “بإجراء تحقيقات وجلسات استماع للتأكد من جدية الاتهام والتأكد من توافر الأدلة المطلوبة من اللجنة القضائية بمجلس النواب التي تتكون من 41 عضوًا، وبعد التأكد من الاتهام يتم إحالة الأمر لعرضه من أجل التصويت على عملية العزل داخل مجلس النواب، وتتطلب الإدانة موافقة الأغلبية البسيطة (50%+1)، وبعدها يتم الانتقال للمرحلة الثانية. وفي قضية ترمب صوت مجلس النواب على إحالة القضية إلى مجلس الشيوخ وتمكن الديمقراطيون من الوصول إلى الأغلبية المطلوبة لتمرير القضية لأنهم يمثلون الأغلبية ضمن المجلس.
- تنتقل القضية إلى مجلس الشيوخ الأمريكي ويقوم بعقد محاكمة للرئيس يمثل فيها المجلس هيئة المحلفين، بينما يمثل مجلس النواب هيئة الادعاء، ويرأس المحكمة رئيس قضاة المحكمة الدستورية العليا. ويجري التصويت داخل مجلس الشيوخ على اتهام الرئيس، بعد الاستماع للشهود ومرافعات الادعاء ومحامي الرئيس، ويشترط لإدانة الرئيس تصويت ثلثي أعضاء المجلس على القرار. وتتطلب إدانة الرئيس وعزله 67 صوتًًا، وحاليًا يمثل الحزب الجمهوري الغالبية داخل مجلس الشيوخ بـ53 مقعدًًًا بينما يمثل الديمقراطيون الأقلية بـ45 مقعدًا، ومقعدين لعضوين مستقلين. وهذا يعني أنه حتى تتخذ إجراءات عزل ترمب فينبغي أن يصوت عشرون جمهوريًا على الأقل وجميع الديمقراطيين ضده، بالإضافة إلى العضوين المستقلين.
- إذا حققت قضية عزل الرئيس في مجلس الشيوخ عدد الأصوات المطلوب، تقرر المحكمة عزل الرئيس، وتنص المادة الثانية من الدستور الأمريكي على تنظيم مسألة الحكم بعد عزل الرئيس، حيث إنه “في حال عزل الرئيس من منصبه أو وفاته أو تقديم استقالته، أو كان لديه عجز يمنعه من القيام بواجبات منصبه، في هذه الحالة يتولى نائب الرئيس منصب الرئاسة”.
مستقبل القضية وآثارها
لم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية أن تمَّ الإقرار بعزل رئيس أمريكي، لكن تم محاكمة ثلاثة رؤساء في مجلس الشيوخ لكنها لم تقض بعزلهم، وهم: “أندرو جونسون (1808-1875): بسبب اتهامه بمخالفة القانون على خلفية إزاحته وزير الحرب الأميركي من منصبه، وهو القرار الذي لم يكن يحق للرئيس أن يتخذه في أعقاب الحرب الأهلية. والرئيس ريتشارد نيكسون (1969-1974) بسبب فضيحة ووتر غيت. والثالث بيل كلينتون لاتهامه بالكذب في الحلف وعرقلة سير القانون على خلفية علاقته الجنسية بمونيكا لوينسكي المتدربة في البيت الأبيض”([5]).
وعليه فإن المرجح عدم تمكن الديمقراطيين من عزل الرئيس ترمب، للغالبية الجمهورية الممثلة بمجلس الشيوخ والتي ستعيق أي قرار يقضي بعزل الرئيس، لكن تحريك هذا الملف من قبل الديمقراطيين جاء في توقيت حساس يسبق الانتخابات الرئاسية للعام 2020، ما يعني أن هدفهم الحقيقي وراء تحريك قضية العزل هو التقليل من حظوظ ترمب بالفوز في ولاية ثانية، وإعاقة بعض السياسات التي يقوم أو سيقوم ترمب باتخاذها خلال فترة ولايته المتبقية ومنها الإعلان عن تفاصيل صفقة القرن وسياسة البيت الأبيض تجاه ممارسات إيران وغيرها من القضايا، بالإضافة إلى رفع حظوظ منافسه الأبرز في الانتخابات الرئاسية جو بايدن الذي ستزيد هذه القضية من شعبيته لدى الناخب الأمريكي بسبب المكالمة الهاتفية التي أجراها ترمب مع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي لفتح تحقيق بملفات فساد ضد بايدن. لكن بالرغم من ذلك فإن الجمهوريين إلى الآن قادرين على تمرير سياسات ترمب في دوائر صنع القرار الأمريكية، والسؤال الأهم إلى أين سيصل حجم الاستقطاب بين الجمهوريين والديمقراطيين؟ وهل ستحدث إعادة اصطفاف جديدة في كوادر الحزبين وأجهزتهما تؤدي إلى حدوث اتفاق ضرورة بينهما يقضي بعزل الرئيس ترمب؟
([1]) “الولايات المتحدة: الديمقراطيون يعلنون فتح تحقيق رسمي بهدف عزل دونالد ترامب”. فرانس24، 25-9-2019. https://bit.ly/2VayEcC
([2]) “تحقيق مولر بشأن ترامب وروسيا والانتخابات الأمريكية.. هذه أبرز النتائج”. سيي إن إن، 25-3-2019. https://cnn.it/352P23w
([3]) ” Trump’s call to Ukraine’s president broke with established protocol, including making it super-secret”. USA Today, 2-10-2019. https://bit.ly/31ObeME
“Trump’s Ukraine call: How are records kept for the president’s conversations with world leaders?”. USA Today, 25-9-2019. https://bit.ly/2liHojq
“من يستمع إلى مكالمات الرئيس الأمريكي ومن يقرر مدى سريتها؟”. بي بي سي، 28-9-2019. https://bbc.in/30LTn7Y
([4]) “بدء عزل ترامب.. كل ما قد تحتاج لمعرفته عن الإجراءات”. سي إن إن، 25-9-2019. https://cnn.it/2mB9WVP
“كيف يمكن عزل الرئيس في أمريكا؟”. بي بي سي، 25-9-2019. https://bbc.in/2oRNVTw
“ترامب | بين العزل والبقاء”. مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، 3-9-2018. https://bit.ly/2oe6RMu
“بين مفترق السياسة والقانون.. هذه إجراءات عزل ترامب”. مركز الروابطـ 25-9-2019. https://bit.ly/30KAUbR
([5]) “بين مفترق السياسة والقانون.. هذه إجراءات عزل ترامب”. مركز الروابطـ 25-9-2019. https://bit.ly/30KAUbR