الاصدارات

صعود النظريات الشعبوية السياسية عالميًا وعلاقتها بتفكك النظام الدولي

المقدمة:

الشعبوية Populism تيار سياسي يقوم على تقديس الطبقات الشعبية، ويتبنى خطابًا سياسيًا قائمًا على معاداة مؤسسات النظام السياسي القائم ونخبته المجتمعية. تعود نشأة ظاهرة الشعبوية إلى الفترة الواقعة بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، حين بدأت نزعتها في كل من روسيا القيصرية والولايات المتحدة. وكانت في الأصل تُطلق على حركة زراعية ذات ميول اشتراكية سعت لتحرير الفلاحين الروس حوالي عام 1870، وتزامنت مع تنظيم احتجاجات في الريف الأميركي موجهة ضد المصارف وشركات السكك الحديدية، للتنديد بسياسات النخبة، ورأت الحركات الاشتراكية أنَّ على هذه النخبة أن تتعلم مبادئها الرئيسة من القاعدة الشعبيَّة. وبحلول منتصف القرن العشرين أخذ هذا المصطلح صبغة وطنية واجتماعية حررته من الارتباط بالتوجه الاشتراكي؛ خاصة في منطقة أمريكا اللاتينية، ولا سيما الأرجنتين.

تزامنت ظاهرة الشعبوية في الحياة السياسية مع اتساع احتجاجات الطبقة العاملة على أصحاب المؤسّسات والشركات الرأسمالية في الولايات المتحدة الأمريكيّة آنذاك، والتي جسدت المواجهة الأيديولوجية بين الطبقة البروليتارية وأصحاب رؤوس الأموال. الشعبويَّة بمعنى آخر، ظاهرة سوسيولوجيَّة وسيكولوجية سياسيَّة، تنحاز للأيديولوجي على حساب المعرفي، وللكمّي على حساب النّوعي والكيفي. هي باختصار: نزعة للتعصّب الأيديولوجي الذي يتفاعل مع الوعي والحس الجماهيري [1]. ولا يوجد تفسير أو أساس علمي لفهم الظاهرة الشعبويَّة؛ لأنها – كما تبدو – مجموعة من الأفكار والميول العامَّة تنتظم في أيديولوجية إقصائية، عنصرية أو دينية ومذهبية.

وبرغم أن خبراء في العلوم السياسية والاجتماع يقولون إنه من الصعب تحديد المراد بتعبير: الشعبوية؛ لأنه لفظ محمل بمدلولات مختلفة، بل متناقضة أحيانا؛ فإن آخرين يرون أنه يشمل كل خطاب سياسي موجه إلى الطبقات الشعبية في بلد ما، وقائم على انتقاد نظامه السياسي ومؤسساته القائمة ونخبه المجتمعية ووسائل إعلامه. وهم بذلك يوصفون بأنهم ذوو نزعة في التفكير السياسي رافضة لفكرة التنوع المجتمعي ومؤمنة بالتعارض بين الشعب والنخب، وجانحة للغوغائية والفوضوية المؤمنة بمحورية دور الجماهير والقائمة على التوظيف السياسي لمشاعر الغضب عند عامة الناس؛ خاصة في أوقات الكوارث والأزمات الاقتصادية والاضطرابات السياسية. وفي هذا السياق كتب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في نيسان /أبريل 2016 مقالة في صحيفة وول ستريت جورنال قال فيها: إن “الترياق الوحيد لعقود من الحكم المدمر من قبل حفنة صغيرة من النخب، هو فرض الإرادة الشعبية في كل قضية رئيسة تؤثر على هذا البلد.. إن الناس على حق والنخبة الحاكمة على خطأ”.

جغرافية الاتجاهات والمضامين الشعبوية:

إذا كانت الحالة الشعبوية تبدأ بفكرة وخطاب، فإن الجمهور هو الركن الثاني لهذه الحالة، ولذا فإن التطرق إلى قابلية الجمهور للانقياد وراء جاذبية الفكرة وكاريزما القائد، يدخل في نطاق إدراك الشعبوية وكيفية عملها. وفي هذا السياق، وعلى الرغم من الانتقادات التي طالت كتاب غوستاف لوبون: “سيكولوجية الجماهير “Psychologie des Foules، فإنه يظل عملًا كلاسيكيًا رائدًا في علم النفس الاجتماعي. وينتمي لوبون إلى التيارات الفكرية الناقدة لدور الجماهير في الحراك السياسي عقب ما شهدته الثورة الفرنسية (1789-1799) من اضطراب وعنف دموي. ومع أن مفهوم العقل الجماعي رُفض على نطاق واسع بوصفه تجريدًا ميتافيزيقيًا، لكن ثمة اتفاقًا منتشرًا بين علماء النفس الاجتماعي على أن الجماعات تنطوي على دينامية داخلية، حيث تظهر خصائص فريدة كنتاج لشبكة العلاقات بين الأفراد داخلها. وهكذا، يمكن القول إن الشعبوية، وكذلك الديماغوجية، هي ظاهرة اجتماعية معقدة ومتعددة الأبعاد والأركان، وهي عصية على التحديد الأكاديمي، لذلك تختلف المقاربات وتتنوع المناهج والرؤى في سبر أغوارها واستشراف اتجاهاتها، لكنها من العوامل التغييرية في عالم السياسة  .[2]

لقد عرف مصطلح الشعبويةPopulism  زَخْما كبيرًا بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة؛ خصوصًا بعدما حذر البابا فرانسيس في جريدة دي زايت الألمانية في آذار /مارس 2017 من خطر تصاعد المد الشعبوي عبر العالم. يقول ويندي نيكولز بجامعة كامبريدج: “إن ما يميز كلمة الشعبوية عن غيرها هو أنها تمثل ظاهرة محلية وكونية حقيقية في الوقت ذاته، في زمن يتصارع فيه القادة والشعوب عبر العالم مع قضايا الهجرة والتجارة، مع تنامي النزعة القومية، والاستياء من الوضعية الاقتصادية المتردية”. الشعبويَّة هي في العموم: تيّار من الفكر السطحي؛ تيّار له توجّه أيديولوجي تعبوي، فكر يستغل الضعف المعرفي والهشاشة النفسيَّة، فكر له قدرة على الانتشار؛ لأنَّه لا يتطلب مجهودًا عقليًّا أو عناء معرفيًّا، سلاح فعّال في المعارك السياسيَّة والخصومات الأيديولوجيَّة، وله قدرة على تفكيك الوحدة الاجتماعيَّة وزعزعة العمل السياسي الفاعل.[3]

إن وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض، كان محوريًا، وفتح الطريق أمام العديد من القادة اليمينيين عبر العالم للإفصاح علانية عن أفكارهم الشعبوية. لقد كان دونالد ترامب صريحًا جدًا في معاداته القوية للهجرة وللعولمة والتبادل الحر وإعادة توطين الشركات وانتقال التكنولوجيا، وفي عدائه لفلسفة التنوع الاجتماعي والثقافي. لقد وجدت هذه الأفكار دعاة لها في كثير من دول العالم، كما اتسعت شعبية التيارات القومية اليمينية في الدول الأوروبية، بعد أن أفضت الانتخابات التشريعية الإيطالية إلى صعود حركة خمسة النجوم اليسارية وحركة الليكا اليمينية المتطرفة التي تتبنى أفكارًا معادية لمؤسسات الدولة والهجرة والنخبة السياسية التقليدية الإيطالية والأوروبية، مما جعلهما يتحالفان لتكوين الحكومة القومية المتطرفة، بجانب صعود التيارات اليمينية الشعبوية في البلدان الأوروبية كحزب الاستقلال البريطاني، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسي، وحزب البديل الألماني، وحزب بوديموس الإسباني، وحزب الحرية النمساوي.[4]

ونظرًا للطابع العالمي للظاهرة، تنتشر التيارات الشعبوية في بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا والدول الأفريقية أيضًا؛ بسبب فشل الأحزاب السياسية، والفجوة العميقة بين السياسيين والجماهير الشعبية، وتراجع قدرات الأنظمة على الاستجابة للمطالب الشعبية، وعدم القدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية، وفشل سياسات الإصلاح الاقتصادي، مما يتسبب في ارتفاع معدلات التضخم والديون والفقر والبطالة والتخلف، وهو ما يشجع على انتشار الأفكار الشعبوية التي تعمل على تعميق الفجوة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، واتساع المعارضة الشعبية للمؤسسات والسلطات التشريعية والتنفيذية؛ مثل الأحزاب والمجالس التشريعية، وتفكيك المؤسسات الدولية، وإضعاف دورها، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، ونشر ثقافة التمييز الديني والعرقي العنصري ضد المهاجرين تحت ذريعة حماية الهوية الوطنية،  وتبني السياسات التجارية الحمائية لمواجهة الأزمات الاقتصادية، وخفض معدلات البطالة. وتتسع الأمثلة على تنامي الخطاب الشعبوي في الدول الأوروبية؛ مثل: النمسا، والدنمارك وفرنسا وهولندا، وسلوفاكيا والسويد، التي هي من الدول الأكثر تقدمية في التعامل مع قضايا الهجرة وحقوق الإنسان والعولمة.

لقد تبنت التيارات الأيديولوجية اليسارية في أمريكا اللاتينية سياسات لتجديد الخطاب الشعبوي بعد أن دشن هيوغو تشافيز منذ تسلمه الرئاسة الفنزويلية في عام 1999م وحتى موته في 5  من آذار /مارس 2013 لعصر جديد من البوليفارية الاشتراكية؛ يعتمد على معاداة الكارتيلات الاحتكارية في المركب الاقتصادي الصناعي لإنتاج البترول، وضرب الطبقة المتوسطة المساندة للأحزاب الليبرالية، وتغذية العداء ضد أمريكا، ومساندة الجماعات المسلحة في دول الجوار، وخلق البديل البوليفاري في الأمريكتين، بجانب شعبوية فيدل كاسترو وموراليس وغيرهما، لتنمية الخطاب المساند للطبقات الشعبية الفقيرة. لكن عقدين من البوليفارية الاشتراكية حولت فنزويلا في عام 2018 إلى بلد الفقر والبؤس؛ بسبب النقص الحاد في الغذاء والأدوية والخدمات، وتنامي الجريمة، وتدهور الناتج الداخلي، وارتفاع التضخم، مما وضع البلاد على حافة الانهيار بعد عقدين من الشعبوية النيوبوليفارية[5].

وإلى جانب الشعبوية البوليفارية الاشتراكية، اعتمد إيفو موراليس في بوليفيا منذ عام 2006 على سياسة إثنو-شعبوية مبنية على الدفاع عن حقوق الأغلبية التي تمثل السكان الأصليين، ومعاداة الشركات الرأسمالية الكبرى، وتطبيق سياسة التأميم على الشركات، ووضع حد للنفوذ السياسي والاقتصادي الأمريكي. وبرغم نجاح إيفو موراليس في تقليص الفقر والأمية، فإن ميله نحو الاستبداد وعنصرية مواقفه تجاه البيض ذوي الأصل الأوروبي، قد أثار الجدل والشكوك حول خطابه السياسي اليساري الشعبوي. وفي نفس الاتجاه، عمل الرئيس روبيرت موغابي في زيمبابوي على إذكاء النعرات الإثنية وأحقية السود في امتلاك المزارع ولو بالقوة. ويبدو أن التقلبات والتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تعرفها الدول الأوروبية والآسيوية والأفريقية والأمريكتين هي المساعد الأول على هذا. وهناك من يثير القلق لتحول الأيديولوجيات الشعبوية نحو شرعنة العنصرية والاستبداد، ومن يرى فيها فرصة لتجديد النخب السياسية وإعطاء الحقوق للفئات المهمشة للتعبير عن مصالحها، في حين يرى طرف ثالث أن اتساع التيارات الشعبوية هي نتيجة حتمية للعولمة والتغيرات المناخية والهجرة والانتقال إلى العصر الآلي للإنتاج؛ لذا لا يمكن تجاوز أزمة ومشكلات الشعبوية دون إيجاد حلول للأسباب والعوامل المولدة للشعبوية.

هجمات على قيم حقوق الإنسان حول العالم:

وُجدت حقوق الإنسان لحماية المجتمعات من انتهاكات الحكومات وإهمالها، حيث تقيّد حقوق الإنسان فرص الاستبداد والتمييز الديني والعرقي، وتؤكد على احترام الحريات والمساواة بين البشر. لكن الجيل الجديد من الشعبويين يدّعون أنهم يتحدّثون باسم الشعب، ويرون في حقوق الأقليات والأجانب عائقًا أمام تحقيق إرادة الأغلبية. وبدل تقبّل حقوق الإنسان باعتبارها مبادئ لحماية الجميع، يُعطون الأفضلية لمصالح الأغلبية المعلنة، مشجعين الناس على تبني معتقد خطير: أنهم لن يحتاجوا أبدًا إلى الدفاع عن حقوقهم ضد حكومة متسلطة تدّعي العمل باسمهم. بهذه الطريقة ينشأ تناقض عميق بين التيارات الشعبوية والقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان[6].

وقد اتسعت شعبية الحركات العنصرية مع تزايد الاحتجاجات الاجتماعية في الغرب؛ بسبب التغيرات التكنولوجية وعولمة الاقتصاد وتزايد الفوارق الاجتماعية. كما تسهم ظاهرة الإرهاب المريعة في اتساع الخوف والقلق بين الشعوب؛ بسبب تنوع المجتمعات من الناحية العرقية والدينية، وتعمق التباين الثقافي لفشل سياسات الاندماج بعد اتساع نطاق الهجرة بفعل انتشار الحروب والعنف والفقر والجوع ومشكلات البيئة في عالم الجنوب.

وتعتبر الاتفاقية الدولية لحماية حقوق العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، التي اعتُمدت بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة  (رقم 45/158) في 18 من كانون الأول/ديسمبر 1990، أهمَّ اتفاقية دولية تعترف بحقوق العمال المهاجرين دون تمييز، وتنص المادة 5 من هذه الاتفاقية على اعتبار العمال المهاجرين وعوائلهم، هم: الحائزين على الوثائق اللازمة، أو في وضع نظامي يسمح لهم بالدخول أو الإقامة ومزاولة نشاط مقابل أجر، في دولة، بموجب قانون تلك الدولة، وبموجب التزام الدولة بالاتفاقيات الدولية الموقِّعة عليها، كما شمل  نطاق الاتفاقية  العمال المهاجرين غير الحائزين على الوثائق اللازمة، أو من يكونون في وضع غير نظامي، ولا يمتلكون الوثائق اللازمة للإقامة والعمل.

وبسبب الأزمات الاقتصادية وانتشار عنصرية الثقافة واتساع الظاهرة الإرهابية، تعمقت الاحتجاجات، وازدهر الخطاب السياسي الشعبوي في الهجوم على مبادئ وقيم حقوق الإنسان والقانون الدولي، واتسعت شعبية بعض السياسيين اليمينيين، وتمسكهم بفرضيات تعتبر أن حقوق الإنسان والقوانين الليبرالية مما يساعد طالبي اللجوء السياسي والإنساني على العيش في المجتمعات الأوروبية والتمتع بالحقوق على حساب الأمن والرفاه الاقتصادي والتفضيلات الثقافية للأغلبية المفترضة.

وهكذا يتحول اللاجئون والمهاجرون والأقليات إلى ضحايا العنف والتمييز العنصري القومي والديني، وتتعمق ثقافة العداء للأجانب ومعاداة الإسلام، وهكذا تهدد الثقافةُ العنصرية للشعبوية بهدم إنجازات التيارات الديمقراطية وحقوق الإنسان المعاصرة، التي جابهت الفظاعات التي ارتُكبت بسبب الحروب أو تحت هيمنة أنظمة الاستبداد الشمولية، كما شجعت الحكومات والدول على تبني سلسلة من المعاهدات التي تضمن حقوق الإنسان والحريات للحد من الانتهاكات وردعها؛ لأن احترام حقوق الإنسان يشكل الأساس المادي للمجتمعات حيث الحرية والأمن والرفاه الاقتصادي.

أهمية التأكيد على قيم حقوق الإنسان والديمقراطية:

ما نحتاج إليه لمواجهة هذا الهجوم على حقوق الإنسان حول العالم، هو إعادة التأكيد على القيم الأساسية التي ترتكز عليها هذه الحقوق، والدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبإمكان منظمات المجتمع المدني العمل في إطار تبني برامج للدفاع عن حقوق الإنسان وحماية الفضاءات المدنية، وبناء تحالفات اجتماعية بين مختلف الفئات؛ لضمان المصالح المشتركة في الدفاع عن حقوق الإنسان، وجَسر الهوة بين بلدان الشمال الصناعي وبلدان الجنوب التي تعاني من تحديات التنمية الاجتماعية والسياسية والتخلف الاقتصادي، والاستمرار في دعم الشعوب لمواجهة أنظمة الاستبداد والأيديولوجيات الشمولية.

على الحكومات والدول التي تعلن التزامها بالدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية أن تدافع باستمرار عن المبادئ الأساسية لتلك الحقوق. وتبقى المسؤولية الجوهرية لانتشار الثقافة الديمقراطية هي مسؤولية الشعوب، لمواجهة التيارات الديماغوجية ومن يتاجرون بالتفسيرات والتأويلات الخاطئة لجذور المشكلات والتحديات التي تواجه الشعوب. ويبقى أفضل حل هو مطالبة الشعوب بسياسة مبنية على الحقائق والقيم الديمقراطية التي تحترم حقوق الإنسان والحريات العامة، وتضمن العدالة الاجتماعية. وتستطيع منظمات المجتمع المدني استخدام وتوظيف جميع الوسائل المتاحة – كالأحزاب السياسية وتقنيات الاتصال والمنظمات الاجتماعية – للدفاع عن القيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان وحق الشعوب في اختيار أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

أحد أبسط تعريفات الشعبوية كظاهرة سياسية هي: معاداة النُّخَب مطلقًا، بعد أن فقدت المجتمعات الثقة بها وبالأحزاب السياسية الليبرالية التقليدية. كما يكشف الكاتب جان فيرنر مولر Jan-Werner Müller عن بُعد آخر لتعريف الشعبوية، وهو: معاداة التعددية، أي معاداة جوهر الفلسفة الليبرالية المؤسسة على التعددية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وادعاء الخطاب السياسي للتيارات الشعبوية بأنها تمثل قيم ومصالح وهوية الشعب، واستمرار المواجهة ضد النخب السياسية الليبرالية أو النخب الثقافية والمالية، وقد تتجه المواجهة ضد الأقليات الثقافية والدينية أو المهاجرين. إن الشعبوية بهذا المعنى: تتبنى فرضية وجود شعب موحد متماسك، لا فروقات أو اختلافات بينية داخله، ضد الآخرين اللذين لا ينتمون إلى هذا الشعب.[7]

يتّفق عزمي بشارة مع جان فيرنر مولر Jan-Werner Müller  في تعريف الشعبوية بأنها: “تتّسم بسمتين جوهريَّتين: نزوع عدائي مستحكم ضدّ النزعة التعدّديَّة؛ وعداء مستفحل ضدّ النزعة الديمقراطيَّة”، لكن ثمة إضافة مهمة لبشارة، وهي أن العداء للتعددية الثقافية والسياسية والاقتصادية ترتّب عليه عداء الشعبوية لكل أشكال البنى المؤسسية داخل النظام الديمقراطي، والمؤسسات البرلمانية والقضائية، ومنظمات المجتمع المدني والمحاكم الدستورية، وحتى المنظمات الدولية والإقليمية، حيث تميل الشعبوية – لكي تشعر بالتجانس – إلى شكل من أشكال الديمقراطية الشعبية المباشرة. ويرى الشعبويون في تلك المؤسسات الدستورية في الديمقراطيات الليبرالية ضروبا من التزوير للإرادة الشعبية؛ لذا يتصوّرون أن العلاقة بين الشعب وممثليه هي: علاقة مباشرة دون أي وسيط سياسي مؤسسي أو دستوري، مما يتطلّب بناء علاقة بين الشعب والقائد من خلال المؤتمرات الجماهيرية[8].

ويُفصِّل عزمي بشارة هذه المسألة أكثر موضحا أن الديمقراطية التي تعني “حكم الشعب”، أو للدقة “حكم الأغلبية” من الشعب، تُقيَّد ليبراليًا ومؤسسيًا بعدة قيود دستورية ومؤسسية، فمن ناحية ينص الدستور الليبرالي على قداسة الحرية الفردية، وحماية الأقليات من إرادة الأغلبية، وعدم دستورية أي قانون تقترحه الأغلبية يمس الحريات والأقليات والملكية الخاصة أو حرية الإعلام والرأي، ومركزية مؤسسات غير منتخبة وغير تمثيلية في صنع القرار السياسي والقانوني؛ مثل المحكمة الدستورية والهيئات القضائية العليا ولجان الأمن القومي. ومن ناحية أخرى تُمارَس السياسة عبر مؤسسات وسيطة؛ كالأحزاب والمجالس النيابية، وعبر سياسيين محترفين، مما يسمح بنشوء طبقة سياسية تكون بمنزلة الوسيط بين الشعب ورأس السلطة السياسية.[9]

هذه التوترات في حد ذاتها، كما يوضح عزمي بشارة: “لا تؤدي تلقائيًّا وبالضرورة إلى غضب قطاعات اجتماعية واسعة من النظام، أو نشوء خطاب شعبوي، فنادرًا ما يفكر عوام الناس في مثل هذه الأمور، لكن تلك التوترات تبدأ في الظهور على السطح مع ظهور صراعات تتعلق باختلال أحد ركني النظام على حساب الآخر، أي الركن الديمقراطي القائم على المساواة والركن الليبرالي القائم على الحرية، مع ظهور التفاوتات الاجتماعية الكبيرة وفجوات توزيع الثروة والدخل، وازدياد النفوذ السياسي لفئات أو طبقات بعينها، أو ازدياد الشعور عند قطاعات واسعة من الأغلبية بالاغتراب وبالتهديد على مستوى الهوية والرموز والحقوق الجماعية المادية والرمزية، فضلًا عن تزايد استقلال الطبقة السياسية عن شرائح المجتمع؛ تلك الطبقة السياسية التي من المفترض تمثيلها في أجهزة الدولة المختلفة. تؤدي تلك الاختلالات في النظام إلى تعميم حالة من الاغتراب السياسي عند قطاع واسع من المجتمع، فيُعَدُّ شعار دونالد ترامب “Make America great again” شعارًا بسيطًا، لكنه في السياق السياسي الأمريكي يحمل دلالات متعددة؛ كلها تخاطب شرائح اجتماعية تشعر بالتهميش والاغتراب[10].

قاد دانيال كوبلِر، الأستاذ في العلوم السياسية بجامعة زيورخ، مشروع بحث كبير متعدد التخصصات لدراسة التحديات التي ستواجه الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين عن كثب، في سياق تحليل ظاهرة الشعبوية وتنامي تيارات اليمين المتطرف والعولمة، حيث تزداد أهمية دور الإعلام شيئًا فشيئًا. ولضمان الأداء الديمقراطي السليم، يجب ألا يُنظر للشعب على أنه كتلة متجانسة، وإنما يشتمل على العديد من وجهات النظر المُتباينة. كما يُثير تصاعد الدعم للسياسيين المتسلطين في شتى أنحاء العالم توجّس خبراء الديمقراطية. لكن الأخصائي السويسري دانيال كوبلِر يُبدي تفاؤلًا حذرًا، وشعورًا بالقلق تجاه الديمقراطيات في العالم الغربي؛ فمنذ أقل من 30 سنة، في الوقت الذي وصلنا فيه إلى قمة الموجة الثالثة من الديمقراطية، وبعد سقوط جدار برلين، كان من المقبول عمومًا القول بأن الديمقراطية الليبرالية الغربية قد انتصرت، وكان بعض الخبراء – ومنهم فرانسيس فوكوياما – قد تحدثوا عن: نهاية التاريخ.[11]

تبقى دواعي القلق أقل لو نظرنا إلى عدد الديمقراطيات في العالم، كما يشير دانيال كوبلِر: على الأقل إذا عرَّفنا الديمقراطية على أنها نظام سياسي يتم من خلاله توفير مؤسسات حكومية رئيسة عبر تنظيم انتخابات تعتمد على مبدأ الاقتراع العام. تتكون الشعبوية من ثلاثة عناصر، بحسب ما صنَّفها الباحثون؛ أولًا: انتقاد النخبة، ثانيًا: مفهوم رومانسي للشعب الذي يعتبر جيّدًا في جوهره. ولا يُمثل هذان العنصران – وفق اعتقاد دانيال كوبلِر – خطرًا على الديمقراطية؛ لأنه من المفترض أن يُسمَحَ بانتقاد السلطة في النظام الديمقراطي، فليس هناك ما يمنع الشعب من أن يقول كلمته عن الطريقة التي يرغب في أن يُحكم بها بلده. غير أن ما يشكل خطرًا على الديمقراطية هو «التفكير ككتلة» – وهو العنصر الثالث -أي فرض وحدة زائفة على الشعب والنخبة، وهو ما يعادل تجاهل اختلافات الآراء وتنوعها داخل مجموعة.

ويريد الشعبويون استبعاد مواقف الأقليات؛ بحجة أنها لا تُشكّل جزءًا من «الشعب»؛ فعلى سبيل المثال، ينظر شعبويو اليمين إلى المُهاجرين على أنهم ليسوا جزءًا من الشعب. ولكن لا وجود لمجموعة متجانسة من الأشخاص الذين يريدون جميعهم نفس الشيء. وفي هذا السياق يقول أندرياس آوير مدير ومؤسس مركز الديمقراطية: «الفكرة هي أن مصطلح “الشعب” هو ضرب من الخيال». لذا يُمكن إنشاء حماية محتملة ضد الشعبوية من خلال دعم المؤسسات الديمقراطية الليبرالية، بالإضافة إلى ضمان حق التعبير في مجتمع متنوع، وتعزيز أفكاره عن طريق الحوار السياسي. ويُظهر مثال الولايات المتحدة لمواجهة الشعبوية الترامبية أن أحد المبادئ الأساسية في هذا هو الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. ويجب وضع نظام مراقبة للحد من المحاولات السياسية لكبح التعددية. عموما، يجب على المواطنين الدفاع عن القيم الأساسية للديمقراطية ضد تهديد الشعبويين.[12]

وتحتاج المجتمعات إلى نشر قيم الاختلاف والتعددية، وقيم التسامح والحوار، وقيم التبادل والنقاش من أجل أن نرمي عرض الحائط بالشعبوية التي هي جزء من التعصب والتطرف وثقافة الإقصاء. لا بدَّ من أن نتعلم الإيمان بالعلم وبالمبادئ وبالقيم الرفيعة؛ من أجل أن نحارب نزعة التعميم السطحيَّة، والميل نحو الانتصار للفكر السائد. الشعبويَّة في معناها العام هي ثقافة القطيع؛ لذا تحتاج المجتمعات والدول إلى الديمقراطيَّة واحترام حقوق الإنسان والمرأة والطفل، كما تتسع الحاجة نحو الثقافة والمعارف والعلوم وتمتع المجتمعات بالرصانة الفكريَّة الواقعية؛ لأنَّ الشعبويَّة تأبى كلّ ذلك، وتنسج خيوطها بالآراء الشائعة والقبليّات الخادعة. وربَّما يكون الألماني فيرنر مولر أشهر من بيّن كيف تمثل الشعبويَّة النقيض الحقيقي للديمقراطيَّة، والمؤسِّس للفكر والثقافة الشمولية والاستبداية.

المواجهة بين الشعبوية والنظام الدولي:

خلال خطابه أمام الأمم المتحدة، أعلن الرئيس الجزائري هواري بومدين، في المؤتمر الخاص بالمواد الأولية والطاقة، المنعقد في 10 من أبريل 1974، أن النظام الاقتصادي الدولي الراهن: “غير عادل وباطل كالنظام الاستعماري”؛ لأنه يمتد بأصوله وبأسباب بقائه لهذا النظام؛ “ولأنه تعزز وتماسك وازدهر بناء على ديناميكية لا تتوقف، تُفقر الفقراء، وتُغني الأغنياء. هذا النظام الاقتصادي، يُشكل عقبة أساسية أمام أي فرصة للتنمية وللتقدم بالنسبة لجميع بُلدان العالم الثالث”. إن جميع المحاولات لتغيير نظام العلاقات الاقتصادية الدولية، اتسمت بالغموض، فالنزاع والخلاف بين الدول ما زال قائمًا حول مفهوم النظام الدولي الجديد، والتناقض قائم بين محاولة الإبقاء على الوضع الراهنStatu quo  ، أو بناء توازن دولي جديد يتسم بالهشاشة.

لقد تعرضت المُقترحات والمفاهيم الخاصة ببناء نظام اقتصادي دولي جديد لانتقادات واسعة، وعلى نفس المستوى تعرضت الأفكار المتعلقة ببناء نظام سياسي دولي جديد لانتقادات متعددة الجوانب، وبصورة خاصة في الجانب الاجتماعي، فمن المعروف أن: مليارًا من البشر، على الأقل، يعانون من سوء التغذية ومن فقر مدقع (دخل الفرد منهم أقل من دولار واحد يوميًا)، و2.5 مليار نسمة من سكان العالم يعيش بأقل من دولارين يوميا، ويشكلون 40% من سكان الكرة الأرضية، و1200 طفل يموتون كل ساعة بسبب الفقر، و300 مليار دولار تكفي لرفع مليار نسمة فوق خط الفقر المدقع. لكن المُشكلة تمثلت ببقاء معدلات الإنتاج العالمي من الغذاء لا تتناسب مع اتساع ظاهرة الفقر والجوع، لرفض مالكي فائض الإنتاج القبولَ بمشاركة الآخرين، مع ذلك استمرت البلدان المُعرَّضة للمجاعة في طرح مُشكلاتها على صعيد المجتمع الدولي، لكن استجابة الدول الغنية كانت محدودة جدًا[13].

بعد مُشكلة التغذية، تظهر مُشكلة الإسكان، فالعالم الثالث يعاني من الانفجار السكاني على صعيد المدن، وشهد عام 2000 ارتفاع نسبة سكان المدن قياسًا لسكان الريف، حيث يعيش 3.5 مليار من البشر بمئات الآلاف في مجمعات عشوائية لا تستوعب أكثر من 20 ألف ساكن. ولقد اهتم العديد من مؤتمرات البيئة منذ العام 1975 بمشكلة السكن، وتم إقرار برنامج من 9 نقاط يستهدف تحقيق التعاون الدولي في مجال الإسكان الإنساني، في إطار الاعتقاد بأن تحسين حياة الأفراد يجب أن يصبح من الأهداف الأكثر أهمية في كل سياسة تتعلق بتوفير سكن بحيث يكون لائقًا بالبشر، ولم يتحقق في هذا الصدد على صعيد الواقع شيء يُذكر، سوى طلب قُدم للأمين العام للأمم ألمُتحدة للتحقق من ظروف حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.[14]

وبهدف محاربة الفقر، وغياب العدل الاجتماعي، وانتشار ظاهرة البطالة، شارك 121 وفدًا في أعمال مؤتمر جنيف الدولي في 4-17 من حزيران/يونيو 1976، لمناقشة قضايا التوظيف، والمُشاركة في الدخل، والتقدم الاجتماعي، وتقسيم العمل الدولي، وإقرار الوثيقة النهائية المُتعلقة ببناء نظام اقتصادي دولي جديد يُمكنه أن يوفر فرصة لكل دولة لاختيار نمط الإنتاج الملائم لطبيعة ثرواتها وقدراتها، كما تشكل معالجة الفقر الهدف الأول من سياسات التنمية؛ لكي تتمكن الدول من إشباع الحاجات الأساسية للشعوب الأكثر فقرًا، إضافة لتمتع بلدان العالم الثالث بحق الوصول لتوازن عادل بين الأيدي العاملة في مجال التقنية ورأس المال المُستثمر؛ أي التوازن بين قوى العمل ورأس المال .[15]

أما على صعيد أزمة المياه في العالم، فلم يطرأ أي تحسن، فإذا كان الماء يغطي 7 أعشار الكرة الأرضية، فإن أقل من 1% من المياه صالح للشرب، حيث تسبب المياه الملوثة وفاة 4000 شخص يوميًا، علمًا بأن حاجة البلدان النامية لمعالجة تلوث المياه وتوفير المياه الصالحة للشرب لا تزيد عن 30 مليار دولار، فالمتضرر الكبير من ظاهرة أزمة وتلوث المياه هي البلدان النامية، حيث تتعرض المجتمعات لانتشار الأمراض والأوبئة بسبب تلوث المياه، ويطرح حاجة 57 دولة فقيرة لطاقم طبي مكون من 4 ملاين شخص، لمواجهة المشكلات الصحية؛ لذا يجب على المجتمع الدولي اعتبار قضية المياه من القضايا الأساسية التي تتطلب تعاونًا دوليًا لمعالجتها.[16]

كما تبرز ظاهرة التصحرDésertification ، باعتبارها واحدة من القضايا الخطيرة التي تواجه العالم الثالث، فالصحارى اليوم تحتل ثلث مساحة الكرة الأرضية؛ بسبب نشاطات الإنسان الصناعية والزراعية التي أدت إلى تحويل مساحات واسعة – تقارب مساحة الصين – إلى مناطق صحراوية، والضحية الأولى لهذه الظاهرة بلدان العالم الثالث، ولم تستطع مقاصد النظام الدولي الجديد من تحقيق تقدم ونجاح ملموس لمعالجة هذه التحديات الخطيرة.

إن النظام الدولي الجديد لا يقدم سوى معالجات مادية وقواعد أيديولوجية، فحركة عدم الانحياز أقرت مجموعة من الأفكار والمقترحات لبناء نظام دولي جديد، لكن دول الحركة ذات خصائص متباينة، ولا يؤمن العديد منها بالعدالة، ولا يرفض مبدأ استغلال الإنسان للإنسان. لقد نص الإعلان العالمي لحقوق الشعوب على: أن “الإمبريالية بأدواتها القمعية وبالتواطؤ مع الحكومات، تستمر في الهيمنة على جانب من هذا العالم، من خلال التدخل المباشر وغير المباشر، وعبر الشركات المُتعددة الجنسية، وباستخدام سياسات محلية تآمرية، وبدعم نظم عسكرية مبنية على القمع البوليسي والتعذيب والإبادة الجسدية للمعارضة، وهذا ما يشكل بمجموعه، من الناحية التطبيقية، ما يمكن تسميته بـ “الاستعمار الجديد”، فالإمبريالية بذلك توسع من هيمنتها على شعوب عديدة.[17]

من المؤكد أن حركة عدم الانحياز كان بمقدورها التحول إلى أداة فعالة لبناء نظام دولي جديد، شرط قيامها بوضع حدود لأفكارها. إن مفهوم النظام الدولي الجديد يعكس في المجال الأول خطابًا أيديولوجيًا، ثم يكون وبالتتابع حالة من علاقات القوة على صعيد العلاقات الدولية، وسلاحًا للكفاح من أجل تغيير الواقع الراهن للعلاقات الدولية. إن الشعوب والأمم تعتبر بحق أن التحرر السياسي يبقى ناقصًا إذا لم يرافقه التحرر الاقتصادي، وهذا ما دفع نحو البحث عن إجراء تعديلات جوهرية لقواعد القانون الدولي، والعمل من أجل بناء نظام عالمي قانوني جديد بمقدوره حل مُشكلات الدول النامية.

وتثير الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تجتاح عالمنا المعاصر العديد من المخاوف والاضطرابات، مما يعزز دور التيارات اليمينية وحضورها في البيئة السياسية الدولية. وبجانب التحديات الصحية التي أثارها انتشار وباء كوفيد ١٩، بدأت تتكشف معالم أزمة عميقة تتعلق بالاقتصاد العالمي، قد تكون أشد وطأة من الأزمة الصحية التي نعيشها الآن؛ لذلك علينا أن نكون حذرين عندما نستمع إلى خطابات أولئك الذين يناهضون العولمة، فالترابط العالمي والاعتمادية المتبادلة هي قاعدة مؤسسة لهذا النظام العالمي الذي نعيش فيه، ولا ينبغي أن نتوقع أن تتلاشى هذه القاعدة في المستقبل المنظور، لذلك فإن سرعة انتشار الجوائح والأزمات ستشمل الجميع، مما يجعل التعاون الدولي في مكافحتها ضرورة. وكما تقول كارمن م. رينهارت، عالمة الاقتصاد من هارفارد: “فإن جائحة فيروس كورونا المستجد هي أول أزمة منذ ثلاثينيات القرن الماضي تجتاح الاقتصادات المتقدمة والنامية على حدّ سواء”[18].

وتتحول هذه الأزمات المترابطة الآن إلى ظاهرة سياسية آخذة في الصعود منذ عدة سنوات، وتحديدًا منذ الأزمة المالية عام 2008 التي تتعلق بصعود التيارات القومية أو تيارات اليمين الشعبوي  Populism، حيث ستعمل هذه التيارات على تعزيز حضورها في المشهد السياسي الدولي، وذلك اعتمادًا على استراتيجيتها الفعالة في المراهنة على الخوف والانقسامات بين الناس بناءً على الهوية والانتماء العرقي.

إن دعاة التيارات القومية والشعبوية سوف يراهنون على الأزمة المالية الناتجة عن الجائحة؛ للدفع بأجندتهم إلى الأمام، والترويج لضرورة تقييد التجارة وتدفقات رأس المال وحركة البشر، وهي من أبرز معالم الأجندة السياسية لدى هذه التيارات. فالخلل في بنية النظام الاقتصادي العالمي، بجانب الفجوة بين الذين يملكون والذين لا يملكون في اتساع مستمرّ، وقد دُفعت الطبقة الوسطى إلى مستوى الفقر نتيجة السياسات النيوليبرالية الجشعة.

كما تعرضت فكرة التعاون الدولي أو الاعتمادية المتبادلة، وهي أحد المبادئ المؤسسة للنظام الدولي، لاهتزاز عميق في تجربة الاتحاد الأوروبي المبنية على التضامن أصلًا؛ فمثلًا عندما ضرب الفيروس إيطاليا، التي جوبهت بإحجام دول الاتحاد الأوربي نفسه عن المساعدة، بل وإغلاق الحدود، ومنع إرسال بعض الموادّ الطبية الحساسة، كل هذا بعث برسالة صادمة إلى الإيطاليين الذي عبّروا عن ذلك بإحراق علم الاتحاد الأوروبي.

ومما لا شكّ فيه، أن العولمة والنظام النيوليبرالي الحالي يعاني من ثغرات كبيرة، ولكن يجب أن لا يكون البديل نظامًا تسود فيه النزعات القومية أو الدينية المتطرفة؛ لذا يجب أن نعزز التعاون والتضامن والعلاقات التفاعلية التبادلية الدولية، من خلال إصلاح الثغرات في النظام الدولي الذي يتسم بانعدام العدالة وازدواجية المعايير، من خلال تبني مقاربة تحاول التوفيق بين العولمة ونظام الاعتماد على الذات، والعمل من أجل نظام اقتصادي دولي جديد يستهدف تضييق الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة، عبر تطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية؛ لضمان أمن تدفق المعلومات والتكنولوجيا وحرية الحركة لرأس المال والبضائع والبشر بين الحدود.

الخاتمة:

أثارت موجة الصعود السياسي للحركات الشعبوية مخاوف عديدة بين المتمسكين بالديمقراطية ودولة القانون والرافضين لكل سياسة مبنية على أسس تمييزية عرقية أو دينية، ورأوا فيها ظاهرة سياسية يمكن أن تهدد مستقبل الديمقراطيات الليبرالية في مختلف النظم السياسية على الصعيد العالمي. وتشير التوقعات، بفعل استمرار الأزمات الاقتصادية ومشكلات الهجرة وفشل سياسات الاندماج، وتحديات البيئة والطاقة والأوبئة والجريمة المنظمة والإرهاب، إلى احتمال اتساع دور ونشاطات الحركات الشعبوية لتهدد القاعدة السياسية للديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق المفتوح، مما يعرض العالم المعاصر للانزلاق في مساوئ الكراهية والتحيز؛ بسبب تحمل جماعات غوغائية مسؤولية رسم سياسات ومعالجة مشاكل تواجهها كافة طبقات المجتمع.

ويرى الباحثون أن المشتركات بين الحركات الشعبوية عديدة ومتنوعة، لكن تأتي في مقدمتها مناهضة قضايا من قبيل: العولمة، والهجرة واللجوء، وسياسات التقشف المالي التي تُضعف الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، إضافة إلى شيوع النزعة القومية والدفاع عن الهوية الوطنية، والتركيز القوي على سياسات الدفاع، والسخرية من حقوق الإنسان.

ويرى الاقتصاديون أن الارتفاع الحالي للتيارات الشعبوية، يعود، كما أشرنا، إلى الإفراط في العولمة منذ تسعينيات القرن العشرين، مع تحرير التدفقات المالية الدولية، وإنشاء منظمة التجارة العالمية، وتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، وتفاقم عدم المساواة في الدخل والثروة، وانعدام الأمن الاقتصادي، وتزايد موجات الهجرة العالمية.

“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2021

مصادر إضافية للتوسع حول مفهوم الشعبوية للكاتب Jan-Werner Müller

Jan-Werner Müller, Qu’est ce que le populisme ? Définir enfin la menace, Premier Parallèle, 2016.

Jan-Werner Müller, What is Populism? University of Pennsylvania Press, 2016.


[1] التزايد الخطير في النزعة الشعبوية: هجمات على قيم حقوق الإنسان حول العالم، كينيث روث، كارلو أليغري،2016 م.

[2] سيكولوجية الجماهير، غوستاف لوبون، ترجمة: هاشم صالح، لندن، دار الساقي، 1991م.

[3] الشعبوية.. تيار سياسي يرسم ملامح مستقبل الغرب، دراسة منشورة في موقع الجزيرة، في 6 ديسمبر2016م.

[4] الشعبوية ستمتلك الزمام: هل تتحول أوروبا لعصر الكوابيس؟، شريف مراد، دراسة منشورة على موقع الجزيرة، 9 يوليو 2020م.

[5] الشعبويَّة غزارة الاستعمال وندرة الضبط، محمد بن محمد الخراط، في: مجلة يتفكرون، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والبحوث، عدد 13، 25 مايو 2019م.

[6] الشّعبوية في سياقاتها التاريخية، هشام عليوان، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والبحوث، 15 يوليو 2021م.

[7] الشعبويَّة: مرض الديمقراطيَّة المزمن، محمد الشيخ، في: مجلة يتفكرون، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والبحوث، العدد 13، 5  أبريل 2019م.

[8] الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية، عزمي بشارة، في: مجلة سياسات عربية، العدد 40، أيلول 2019م.

[9] نفس المصدر

[10] نفس المصدر

[11] الشعبويّون ليسوا مخطئين بالضرورة، أورس غايزر، حوار مع دانيال كوبلِر، الأستاذ في العلوم السياسية بجامعة زيورخ نشر في: swissinfo-ch، 06 سبتمبر 2017م.

[12] صعود موجة جديدة من الشعبوية عبر العالم، رغدة البهي، في: مجلة دراسات المستقبل، العدد 5، فبراير 2019م.

[13] Edmond Jouve, Relations internationales du Tiers Monde et droit des peuples, Paris, Berger-Levrault, 1979.

[14] Ibid.

[15] Ibid.

[16] Ibid.

[17] موجة الشعبوية عبر العالم خطر عابر أم موت بطيء للديمقراطية؟ دراسة منشورة في موقع الأيام 24، في 9 أكتوبر 2018م.

[18] هل نحن أمام موجة جديدة من الشعبوية أكثر تطرفًا؟ دراسة منشورة في موقع فضائية TRT عربي،20   أبريل 2020م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى