الاصداراتالدراسات الاستراتيجية

قراءة في التحوُّلات السِّياسة العراقية

(جُذور الأَزمة ومأزق تشكيل الحكومة)

تمهيد:

يشهد العراق تحولات سياسية متسارعة منذ مطلع تشرين أول/ أوكتوبر 2019 على وقع تصاعد الأزمات المتمثّلة بموجة احتجاجات جديدة لجيل صاعد غير مهتم بمبادئ الطائفية والحزبية من طرف، وبين انقسامات السلطة والصراعات بين التيارات والكتل البرلمانية التي تنامت بعد اغتيال قاسم سليماني إلى جانب أزمات الأوبئة الناشئة عن تفشي مرض كورونا[1].

وتشير المعطيات المُعلنة في العراق إلى وجود حالة استعصاء أمام القوى السياسية والكتل البرلمانية في تشكيل حكومة سياسية جديدة تُرضي جميع الأطراف الشيعية والسنِّية والكردية، لا سيما أن الفراغ السياسي الحاصل في السلطة نتج بعد استقالة رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، بذريعة أنه استجاب لمطالب الحراك الرافض لعمل المنظومة السياسية. ورغم محاولته نزع فتيل الأزمة وإعادة جسور الثقة مع المتظاهرين إلا أنّ ذلك قاد إلى أزمة أكثر تعقيدًا على وقع تزايد الانقسامات بين كبرى التحالفات البرلمانية والتي أفضت في نهاية المطاف إلى إفشال المرشح توفيق علاوي في تشكيل حكومة سياسية ودفعته لتقديم اعتذاره عن تشكيل الحكومة في مطلع مارس 2020.[2] وبخطوة علاوي تعود الأزمة للمربع الأول بهدف البحث عن الشخصية المناسبة لاستلام منصب رئاسة الحكومة وتوكيله مهمة تشكيلها من رئيس الجمهورية، بغية إنقاذ البلاد من أزمات متعددة أصبحت تُنذر بفقدان العراق موقعه الحيوي كمفتاح لدول الشرق، خصيصًا بعد تصدّعات السلطة المتأزمة من تأثير الحراك المتواصل، وبين المُهدِّدات الخارجية في ظل التنافس الأمريكي الإيراني على المنطقة.

وعلى الرغم من توكيد وجود أزمة حكومية في العراق تبحث من ورائها بعض الجهات عن صفات الشخص المتوافق عليه من كل الأطراف، إلا أن حقيقة الأمر تُظهرث أزمةً أكثر عمقًا، تتمحور حول النظر في مصير العراق ودوره المستقبلي في صُلب المعادلات والتوازنات الإقليمية، ومدى قدرة أبنائه على استعادة دوره التاريخي الذي خسره منذ تدخل أمريكا المباشر في العراق وإسقاطها القيادة العراقية في 2003 قبل الاحتلال. إضافة إلى دور إيران المتعاظم في إدارة شؤون العراق الداخلية والتحكم بمفاصل القرار السيادي.

الأمر الذي طرح عدة تساؤلات عن حقيقة الأزمة الحقيقة التي يعيشها العراق والتي تعددت حولها الرؤى في تفسير وتشخيص واقعه، إذ من غير المنطقي اختزال ما يجري في العراق بأنه مجرد أزمة داخلية داخل البيت الشيعي المنقسم على نفسه بعد اغتيال قاسم سليماني والذي سمح غيابه بظهور انكشاف استراتيجي في كامل المنطقة، بالإضافة إلى ظهور الخلافات العلنية بين قادة المليشيات الشيعية لا سيما داخل الحشد الشعبي المكوَّن من عدة كتائب وفصائل منها من يتبع مباشرة للمرجعية الدينية في إيران كحزب الله العراقي وسرايا السلام ومنظمة بدر. ويُضاف لكل ذلك ازدياد الانقسامات داخل الكتل البرلمانية العراقية التي تتنافس فيما بينها على قسمة النفوذ والمناصب الوزارية حيال ولادة أي حكومة مرتقبة.

وعليه فإن الإشكالية الأساسية التي سيناقشها البحث، تتمحور حول التوصيف الدقيق للأزمة التي يعاني منها العراق والتي ترتبط بشكل مباشر في أطراف خارجية مؤثرة كإيران التي تتخذ من العراق الخط الدفاعي الأول عن طهران، إلى جانب البحث في تفاصيل أزمة الحكومة الحالية وأزماتها والدوافع التي أدت إلى ظهور محمد توفيق علاوي إلى واجهة الحكم والأسباب الجوهرية لفشله في تشكيل الحكومة وتداعيات كل ذلك على مستقبل العراق في المرحلة القادمة.

العراق مرحلة تكريس نظام المحاصصة

قبل الخوض في تفاصيل أزمة الحكومة الحالية والتوقف عند أسباب انفراط العقد الشيعي المتنامي من جراء الفراغ الذي تركه قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس، وصولًا إلى توصيف حالة النزاع بين الأحزاب السنية الكردية مع التيارات الشيعية، لا بد من الإشارة إلى الدوافع الرئيسية التي أدت إلى وصول العراق إلى طريق مسدود بشكل تام لأول مرة منذ ستة عشر عامًا.

 تعددت الرؤى وتباينت المواقف في توصيف الحالة العراقية خاصة بعد مرحلة الغزو الأمريكي في العام 2003، التي أدت إلى تحويل العراق إلى دولة فاشلة تحكمها كيانات ظاهرية تقتسم ثروات البلاد على حساب ملايين العراقيين، وقد خلُصت بعض الرؤى إلى أن أصل مشكلة العراق تعود لفشل إداري للحكومات المتعاقبة على العراق واختزال دورها على قسمة المناصب واحتكار ثروات البلاد على حساب تغيب المصلحة العليا للبلاد، بالمقابل رأت طروحات أخرى أن مشكلة العراق سببها كثرةُ التدخلات الخارجية بعد مرحلة حقبة صدام حسين والتي فتحت مجال العراق للاستثمار الدولي وتحويله لساحة نفوذ ومصالح بين أمريكا وإيران[3].

ويبدو أن الطروحات المذكورة رغم انحياز كل واحدة منها في توصيف الحالة العراقية إلى اتجاه داخلي أو خارجي، إلا أنهما تحتويان على حقائق ومعطيات لا يمكن تجاهلها، لكن بنفس الوقت يمكن طرح رؤية ثالثة تتمحور حول علاقة فساد الحكومات المتعاقبة على العراق مع الدول المؤثرة الرئيسية التي استطاعت عبر هذه الحكومات تأمين مصالحها الاستراتيجية وهو ما أفقد العراق دوره الحيوي والفاعل في المنطقة وإخراجه من دائرة التأثير كدولة فاعلة في الشرق.

الوضع المتدهور في العراق يعود في جوهره داخليًا إلى نظام المحاصصة الطائفي الذي تمت مأسسته في الدستور العراقي منذ عام 2005، حيث تم التوافق بين الكتل والتيارات السياسية على توزيع السلطة على أن يكون رئيس الدولة كرديًا ورئيس الحكومة شيعيًا، ورئيس البرلمان سنيًا، وقد قاد ذلك إلى تكريس ركائز الطائفية وتجاهل الهوية العربية للعراقيين وعزل العراق عن نطاقه العربي، واجتثاث الكوادر البعثية من مسؤولين سياسيين وضباط عسكريين كانوا عماد النظام في حقبة الرئيس الراحل صدام حسين، كما ركز الدستور آنذاك خاصة في عهدتي نوري المالكي وخلفه حيدر العبادي على تحديد العلاقة بين الدين والدولة وإعطاء مرتبة عليا للأولى في الساحة العراقية، الأمر الذي ولّد حالة من تنافس المرجعيات الدينية فيما بعد بين النجف وكربلاء على حساب تغييب مفاهيم دولة المواطنة التعددية العراقية والأمن الوطني[4].

وخارجيًا أدى التآمر على إسقاط الجمهورية العراقية في عهد الرئيس الراحل صدام حسين إلى فتح المجال أمام التدخلات الخارجية على رأسها إيران التي عملت على استمالة بعض مكونات شيعة العراق لخدمة تطلعاتها في المنطقة وقد استغلَّت شيعة العراق الموالية لها في ملء الفراغ السياسي ولعب دور بارز في العملية السياسية، في المقابل هندست الولايات المتحدة مناطق انتشارها في العراق وأنشأت قواعد ثابتة في عدة مناطق معظمها قريب من منابع حقول النفط، وبهذين الدورين الأمريكي والإيراني تحول العراق مع مرور الوقت إلى ساحة نفوذ مشتركة ومصالح متبادلة تحميها الأدوات المحلية عبر الحكومات الشكلية ولاحقًا عبر المليشيات النافذة لصنع القرار كحزب الله العراقي والمعروف أن بعض كتائبه تتبع بولائها المباشر لطهران[5].

تحولات جذرية

لقد سبَّب قرار انسحاب القوات الأمريكية من العراق في 2011، أول المنعطفات المهمة التي سمحت لإيران باستغلال الفراغ الأمريكي، واستطاعت عبر أذرعها تحويل العراق لخط دفاع أول عن طهران، وجعلته ركيزتها الأولى للانطلاق نحو تنفيذ مشروعها في المنطقة[6]، وهذا ما يفسر عمليات الفرز داخل الحكومة العراقية التي أنتجت فوضى من المليشيات والتيارات السياسية والدينية النافذة داخل البرلمان العراقي، والتي أشرفت على حماية مصالح إيران في العراق الاقتصادية منها والعسكرية والأمنية طيلة السنوات الماضية، فيما يبدو مؤخرًا أن الحدثين المهمين الذين أربكا حسابات إيران في المنطقة، هما مقتل قاسم سليماني، واستمرار الاحتجاجات المناوئة لنفوذها في كامل المنطقة، وقد أدى كل ذلك إلى تأزم الوضع العراقي بعد سلسلة من حكومات رعت مصالحها كحقبة نوري المالكي- وحيدر العبادي- وعادل عبد المهدي، وصولًا إلى حالة الانسداد الراهنة التي تعكس فشل جهود إيران في تشكيل حكومة على مقاسها.

وبناء عليه ثمّة الآن تساؤل مشروع عن سبب وصول الحكومة العراقية إلى مرحلة الفراغ السياسي وتأزم حالة الصراع بين الكتل البرلمانية والتيارات السياسية، ولعل موجة الاحتجاجات المستمرة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019، كانت أحد عناوين المرحلة الحرجة التي يمر بها العراق والتي عقدت الوضع الداخلي أكثر مما كان عليه في الحكومات السابقة، حيث تفجر الشارع العراقي تزامنًا مع ما يمر به الإقليم من لبنان إلى سورية وليبيا واليمن من تحولات جذرية في كافة المجالات وبموجبه خرج جيل عراقي جديد ناشئ من رحم الحركات الاحتجاجية منذ 2011، فتمرد على كل القيم والمبادئ التي كانت راسخة في حقبتي البعث والطائفية ذات الميول المتعددة من المرجعيات، حيث كان المطلب الأول الذي رفعه المحتجون المطالبة في دولة المواطنة والتعددية التي تحترم كل المكونات، مع ضمان كل الحقوق وإنهاء حالة الفساد المتجذّرة داخل أروقة الأحزاب منذ عشرات السنيين، وكان لافتًا خروج غالبية المدن الشيعية في وسط وجنوب البلاد باحتجاجات سرعان ما ارتفعت من مطالب إصلاحية واجتماعية إلى سياسية حملت شروط تغيير كامل المنظومة السياسية التي تتوارث مناصب الدولة على أساس محاصصة منذ 15 عام، وتكليف شخص لمنصب رئاسة الوزراء من خارج المنظومة السياسية، وسن قانون جديد لإجراء انتخابات مبكرة[7].

ولا يخفى أن تأثير الحراك منذ تشرين الأول/ أوكتوبر 2019، ورغم تعرضه لحملات عنف ممنهجة أودت بحياة أكثر من 600 عراقي ومئات الجرحى، إلا أنه كان مختلفًا عن كل الاحتجاجات السابقة التي شهدها العراق، من خلال تجاوز الشارع لكل الرموز المقدسة، وإسقاط شرعيتها الدينية من خلال حرق صور رموز رجال المقاومة والمرجعيات التابعة لإيران، وهو الأمر الذي تمت ترجمته عمليًا بممارسة عدة اعتداءات على مراكز الثقل الديني في كربلاء والنجف من قبل المتظاهرين.

ورغم أن الحراك استطاع إحداث تأثير كبير على كامل رموز الحكومة العراقية، إلا أنه لا يعد هو السبب الأول والأخير في إيصال حالة الحرج لذروتها عند محتكري العملية السياسية في العراق، بل كشفت الاحتجاجات عن نسبة اللامبالاة والصمت عند صناع القرار عن الكم الهائل من الأزمات التي وصل إليها العراق كملفات الفساد والعجز المالي، ونهب الأموال والمشاريع الوهمية، وتردي الوضع المعيشي والخدمي والصحي، وأزمات قطاع الطاقة والسيولة المالية[8] كما في الشكل أدناه:

تفاعلات الحكومة وصراع التيارات

لقد تسببت تداعيات الاحتجاجات العراقية إلى جانب مقتل قاسم سليماني تغيرًا جذريًا في كامل الحسابات السياسية للمتحكمين في مفاصل القرار السيادي ومن خلفهم إيران الطرف الرئيس والفاعل في الشأن العراقي الداخلي.

حيث ترك غياب سليماني عن المشهد العراقي فراغًا واضحًا لا يزال قائمًا رغم كل محاولات إيران في إعادة ترتيب البيت الشيعي، حيث كان لسليماني الفضل الأول في نسج خيوط التحالفات بين أواصر القوى الشيعية واستطاع طيلة أزمات العراق خلال العقدين الأخيرين أن يبني كتلة شيعية صلبة يعتمد عليها في وقت الأزمات، وكان ذلك لافتًا قبل الأشهر الأخيرة من مقتله عبر مساهمته المباشرة في الانخراط في الساحتين العراقية واللبنانية وتوجيه إملاءات دقيقة للأطراف السياسية والشخصيات التابعة لإيران، وكان الهدف الأساسي من وراء كل ذلك إنهاء حالة الاحتجاجات في العراق وتوظيفها بما يخدم تطلعات إيران ضمن مسار تنافسها مع الولايات المتحدة.

لكن يبدو أن كل الجهود تكللت بالفشل بعد مقتل سليمان والذي أعقبه ظهور علني للانقسامات داخل المنظومة السياسية في العراق، حيث اختلف التيار الصدري مع من تحالف معه سابقًا الحزب الشيوعي على وقع تقلبات مواقف الصدر خلال محاولته تصدر المشهد السياسي، كما خف التنسيق بين تيار الحكمة وائتلاف النصر من جهة، وازدادت الخلافات بين تيار الحكمة والمجلس الإسلامي الأعلى من جهة أخرى، فائتلاف الفتح الذي كان يوحده أبو مهدي المهندس، دبّت بين قواه السياسية الخلافات ولم يحافظ على تماسكه جراء انفراد قيادته بقرار دعم المرشح الأخير توفيق علاوي دون الرجوع إليهم، مما دفع كتلة صادقون التابعة لعصائب أهل الحق لتبني موقف مغاير آنذاك، أما كتلة بدر بزعامة هادي العامري انفردت بالتوافق مع توجهات الصدر في دعم مرشح لتشكيل الحكومة يضمن من خلاله مناصب وحصص وزارية.[9]

وفي ظل تزايد التنافس والتباين في وجهات النظر بين الكتل والتيارات البرلمانية، طغى على السطح صعود دور مقتدى الصدر الذي يرأس أكبر كتلة داخل البرلمان تحت مسمى كتلة سائرون ليمارس دور رجل المهمات الصعبة في إعادة ترتيب البيت الشيعي، ووفقًا لبعض المصادر فإن الصدر غداة مقتل سليماني نسج تفاهمات مع حزب الله اللبناني بهدف توحيد جهود الفصائل المدعومة من إيران، فتم عقد اجتماع في مدينة قم الإيرانية مع ضباط ومسؤولين إيرانيين، وتم بموجبه عقد صفقة مع مقتدى الصدر تقتضي قيام الصدر بلجم حركة الاحتجاجات العراقية وتوظيفها ضد التواجد الأمريكي في العراق، مقابل إطلاق يده في تشكيل الحكومة العراقية وترشيح شخص لمنصب رئاسة الوزراء يضمن من خلاله مصالحه داخل الوزارة كونه صاحب أكبر كتلة في البرلمان، كما أخطرت إيران قادة المليشيات الموالين لها في العراق لترك الخلافات جانبًا مع الصدر والالتزام بتوجهاته، وإحداث إجماع على أن الصدر سيكون له الصوت الرئيسي في المقاومة[10].

وعن سبب اختيار إيران للصدر والاعتماد عليه في منع انهيار القوة الشيعية في العراق، يعود إلى تاريخ الصدر نفسه كونه ينتمي إلى عائلة دينية ذات نفوذ لها تاريخ من التمرد المناهض للحكومة في الفترة الرئاسية لحقبة الرئيس الراحل صدام حسين، إضافة إلى تمتع الصدر بقاعدة شعبية في الشارع العراقي والتي رأت إيران فيها إمكانية قيام الصدر في السيطرة على الاحتجاجات واحتوائها، الأمر الذي جعل الصدر يتبع طرق ملتوية ومتناقضة في تنفيذ أجنداته، حيث عكس سلوكه عن دور موارب فهو تارة تزعم مطالب الحراك وتبنى مطالب خاصة فيما يتعلق بترشيح شخصية من خارج العملية السياسية ليست على صلة مع سلطة الأحزاب، وتارة أخرى ينقلب على الحراك ويهددهم ويرسل فرق لتنفيذ مهمات خاصة كما حدث لما بات يعرف بفرق القبعات الزرق، والتي اتضح أنها عبارة عن أداة من أدوات الصدر لقمع المتظاهرين.

ومن الواضح أن خطط الصدر المدعومة مع إيران اصطدمت بتحديات الحراك، إذ لم يستطع رغم محاولته في 23 كانون الثاني/ يناير 2020، في تحشيد مظاهرة مليونية عراقية ضد التواجد الأمريكي، كما لم يستطع النجاح في استكمال ما تم الاتفاق عليه في قُمْ الإيرانية، باستثناء أنه دفع بعادل عبد المهدي للاستقالة لإفساح المجال لترتيب حكومة جديدة وتقديم مرشح جديد يقوم بمهمة احتواء الحراك وإيمائهم أنه مرشح من قبلهم ومُنفذ لمطالبهم، لكن رغم كل محاولات الصدر إلا أنَّ تقلباته بين أولويات سياساته من إيران والميليشيات والإصلاح ومحاربة الفساد والوجود الأمريكي، أدت إلى خسائر كبيرة على مستوى سمعته ومكانته داخل البيت الشيعي ويمكن حصرها بتراجع الثقة بينه وبين الشعب العراقي الذي وضع الصدر وعوده على المحك وعرّى صِدقيته في تنفيذها كالوعود التي أطلقها في حصر السلاح بين الدولة وضبط المليشيات، كذلك لم يعد يُنظر إلى كتلته على أنها ذات كفاءة وطرف معتدل تستطيع تحقيق مطالب العراقيين، بل على العكس تم تصنيف كتلته على أنها أداة من أدوات إيران بعد تأييدها لمطالب المليشيات التي حرفت الأنظار من التركيز على محاربة الفاسدين من سياسيين وقادة مليشيات، إلى التركيز على تكريس نظرية المؤامرة الإيرانية والتي تتبنى أن ما يحدث في العراق هو بسبب مخططات أمريكية[11].

وفي ظل حالة الاستعصاء الصدري لجأ مؤخرًا لدعم المرشح توفيق علاوي بعد تفاهمات نسجها مع كتلة الفتح بقيادة هادي العامري، وتم بموجبها دفع الأخير للواجهة بهدف تكليفه إنشاء حكومة تخفف من حدة التوترات وتحرف الأنظار عن انكشاف الصدر أمام قاعدته الشعبية.

حكومة توفيق علاوي ضحية صراع الأحزاب

كان لافتًا الآلية التي تم فيها اختيار المرشح توفيق علاوي وإظهاره على أنه المخلص لأزمات العراق، فهي تشبه لحد كبير آلية تكليف رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، حيث تم تجاوز فكرة تحديد الكتلة النيابية الأكثر عددًا داخل مجلس النواب، وذلك بعد تفاهمات بعض القوى السياسية، خاصة الائتلافين اللذين يمتلكان أكبر عدد من المقاعد وهما سائرون والفتح، وذلك خلافًا للطريقة التي يقرها الدستور العراقي في المادة 76 منه والتي تنص على أن يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددًا بتشكيل مجلس الوزراء. وهنا حدثت المفارقة التي عكست ذوبان حدة الخلافات السياسية داخل الأحزاب الشيعية وهمت في الإسراع حول ضرورة حسم منصب رئاسة الوزراء لا سيما بعد تعثرها طيلة شهرين بعد استقالة عادل عبد المهدي، وتوجيه عدة انتقادات لحكومة تصريف الأعمال.

وبناء عليه وبعد التوافق الحذر بين كتلتي فتح – سائرون تم اختيار وتكليف محمد توفيق علاوي بمباركة مقتدى الصدر وهادي العامري،[12] لكن بالمقابل أضحى علاوي محل نزاع جديد بين التيارات الشيعية والسنية والكردية، فرغم محاولة مباركة الصدر ودفعه بعلاوي للواجهة، إلا أن ذلك لم يكتب له النجاح مع حالة التحالف التي نشأت بين الأحزاب السنية والكردية والتي رأت أن علاوي اختار شخصيات سياسية لحكومته من دون الرجوع لبقية الأحزاب وأخذ مشورتها، وهو الأمر الذي سبب توترًا بين رئيس البرلمان محمد الحلبوس مع المرشح محمد علاوي، حيث تم اتهامه بأنه نسج تفاهمات مع الأطراف السياسية الداعمة له كتيار الصدر والذي حاول أن يزيل كل العراقيل أمام علاوي والذي على ما يبدو ورط نفسه بلعبة كبرى حولته لضحية صراع بين التيارات الشيعية والسنية وقد اتضح ذلك من خلال تباين مواقف التيارات كما يأتي:

تيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم طالب بحصة وزارة النفط مقابل دعمه لعلاوي وتخويله باختيار تشكيلية وزارية.

كتلة دولة القانون بزعامة نوري المالكي رفضت تمرير حكومة علاوي وتشكيلته حتى قبل التفاوض بشأنها بسبب أن المالكي كان على خلاف سابق مع شخص علاوي ويعتبره من المناوئين له منذ حقبته في 2003.

كتلة النصر بزعامة حيدر العبادي كانت قد طرحت اسم علاوي في جولات المفاوضات الأولى ثم خولته لاختيار تشكيلة الوزارة.

التِّيار الشيعي الليبرالي بقيادة إياد علاوي زعيم ائتلاف الوطنية رفض بقوة تكليف علاوي أيضًا وذهب لإقناع الكرد بالاعتراض عليه رغم أنه ابن عمه وكان عضوًا في حركة الوفاق التابعة لإياد علاوي، كما أنه كان عضوًا لفترة في حزب الدعوة ومن المفترض أن يكون قريبًا للمالكي والعبادي إلا أنهم رافضين له.

القوى الكردية قدمت ورقة فيها قائمة من الشروط تضمن من خلالها حصتها الوزارية مقابل تمريرها لحكومة علاوي.

 الحزب الديمقراطي قدَّم دعمًا مشروطًا لعلاوي وطالب بوزارة المالية مع وزارتين خدميتين في بداية المفاوضات الأمر الذي لاقى رفضًا صريحًا من توفيق علاوي.

القوى السنية البارزة بقيادة رئيس البرلمان السني محمد الحلبوس كان من أبرز الرافضين لتمرير حكومة علاوي خاصة بعد توجيه اتهام لعلاوي بأنه أقرب للتيارات والأحزاب الشيعية التي تسعى لتهميش حقوق المكونين السني والكردي في السلطة التنفيذية وسلب مناصبهم، الأمر الذي دفع الحلبوس بالتعاون مع الكتل الكردية إلى عرقلة جلستين للبرلمان لمنع إعطاء الثقة لعلاوي.

ووفقا لنواب في البرلمان العراقي كشفوا عن فشل محاولات وسطاء في إقناع الحلبوس وعلاوي بالجلوس وجهًا لوجه والتفاوض بشأن الحكومة الجديدة، فبينما يتمسك الأول بعدد من الحقائب الوزارية، ويصر على تكليف أسماء محددة بإدارتها، يريد الثاني أن يعين الشخصيات التي يختارها بمحض إرادته، دون تشاور مع الأحزاب، حتى وإن كانت مثيرة للجدل. واعتبرت المصادر أن اعتراض الحلبوس على تشكيلة علاوي كانت بهدف عرقلة انعقاد البرلمان لمنحها الثقة.

ويقول مقربون من رئيس البرلمان: إن الحلبوس عقد اجتماعًا وصف بالحاسم مع الزعيم الكردي البارز مسعود البارزاني[13]، للتباحث بشأن المشاركة في الحكومة الجديدة، إذ أقر الجانبان بأن أية حكومة قادمة ينبغي أن تكون ممثلة لجميع مكونات العراق، وعلى قاعدة الشراكة الوطنية، مع ضرورة أن يتضمن البرنامج الحكومي رؤية واضحة في الإعداد لإجراء الانتخابات المبكرة وبأسرع وقت ممكن تلبية لمطالب المتظاهرين. وفي تحد صريح لرغبة القوى السياسية الشيعية الموالية لإيران، اتفق الحلبوس والبارزاني على استمرار التعاون مع التحالف الدولي لمساعدة العراق على مواجهة خطر الإرهاب، والقضاء على فلول داعش، على أن يتضمن برنامج حكومة علاوي خطة واضحة لإعادة الهيبة إلى مؤسسات الدولة وصيانة السلم الاجتماعي وإنهاء التدخلات الخارجية، وحصر السلاح بيد الدولة، وإنهاء المظاهر العسكرية غير الرسمية. وبالرغم من أن مواقف الطرفين تشير إلى وجود خط رجعة يسمح بالتوافق على شكل حكومة علاوي إلا أن جوهر مواقفهما الثنائية دلت على رفضهن لعلاوي والذي لجأ في نهاية المطاف لتقديم اعتذاره عن استكمال مهمته مدعيًا أنّ أطرافًا سياسية وحزبية تسعى لضمان مصالحها هي التي عرقلت جهوده، ووجه بنفس الوقت نداء للمحتجين في ضرورة التمسك بمطالهم والاستمرار في الحراك لرفع التأثر والضغط على الحكومة.

ومع تخلي علاوي عن مهمته عادت الأزمة إلى المربع الأول فأرسلت إيران أمين عام مجلس الأمن القومي الجنرال علي شامخاني إلى العراق في 8 آذار/ مارس 2020 لرأب الصدع بين التيارات وإعادة الأمور لنصابها من جديد وذلك خشية من فقدانها قوة التأثر داخل التيارات الشيعية الموالية لها داخل العراق، وحسب تسريبات الزيارة التي استمرت ليوم واحد فإن شامخاني سعى إلى إعادة التموضع وملء الفراغ الذي تركه قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، بخصوص إعادة ترتيب البيت السياسي الشيعي، وكان الاجتماع الذي عقده مع زعامات الأحزاب الشيعية، يدلل بما لا يقبل الشك بأن إيران تمضي في استراتيجية جمع الأطراف بعد الخلافات السياسية التي وقعت بين هذه القوى[14].

خاتمة

بناءً على ما ذُكِر فإن العراق ومنذ 2003، لم يخرج من أتون حرب الاستنزاف على كافة الأصعدة، سواء على الصعيد المحلي بين زعامة التيارات والأحزاب السياسية والدينية، والتي تحاول الحفاظ على نظام المحاصصة الطائفي، أو بين التجاذبات الإقليمية والدولية التي تسعى اليوم لتصفية كامل حساباتها في الساحة العراقية، إذ يسعى بعض قادة الفصائل كحزب الله العراقي والمدعوم من إيران في جر العراق لساحة حروب تدميرية مقابل بقاء سلطتها النافذة العسكرية على البلاد وبما يخدم تطلعات إيران ومشروعها في المنطقة، لذا ورغم كل التحولات السياسية التي مر بها العراق فإنه اليوم بأسوأ حالاته علمًا أن العديد من الفرص كانت متوفرة  لدى زعماء الطوائف لنقل البلاد من حالة التشظي إلى التعافي والاستشفاء، لكن لغة المصالح والمناصب والتبعية للخارج جعلت من العراق يفقد موقعه الحيوي وجعلته مصنفًا في دائرة الدولة الهشة والضعيفة رغم امتلاكه على حيز كبير من قطاع النفط كثاني بلد، لكن استشراء الفساد عبر الحكومات المتعاقبة إلى جانب فساد رموز السلطة شكلت قناعة بدأت تترسخ عند كافة مكونات الشعب العراقي وخاصة المكونات الشيعية مفادها أن المنظومة السياسية لم تعد تصلح للتدوير أو الإنعاش، ولعل استباحة الأجواء العراقية في السنوات الأخيرة من قبل إسرائيل والتحالف الدولي زادت من حالة الامتعاض الشعبي على نفوذ إيران والتي تتحّمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية في تفتيت العراق وتمزيق أواصره وحواضره على حساب تنفيذ مشروعها التوسعي الهش. الذي يظهر في الوقت الراهن تآكله مع حالة العزلة الاقتصادية والتي قد تصل لعزلة كلية مع تفشي فيروس كورونا وامتداده بسببها إلى العراق.

ومن ناحية أخرى فإن مأزق العراق الحالي بحكومته الشاغرة سياسيًا قد يستمر في الاستعصاء في ظل بلوغه ذروة التعقيد، والخيارات ستبقى محصورة في الإبقاء على الوضع حيثما هو عليه أي الاستمرار بحالة الفراغ السياسي كونها تخدم القوى والأحزاب المسيطرة على الوزارات، أو العودة لإعادة ترشيح أسماء مكررة كما يدور الآن في محاولة بعض القوى السياسية في إعادة تكليف عادل عبد المهدي ونوري المالكي ومصطفى الكاظمي، أو خيار اللجوء لتشكيل حكومة دائمة تكمل الفترة المتبقية من الدورة البرلمانية إلى 2022. وكل هذه الطروحات متوقفة على آلية التوافق بين كل الكتل والتيارات التي تفتقر لقرار وطني وسيادي في ظل استمرار محاولات إيران اتباع سياسة ملء الفراغ والتوازن لنفوذها في العراق وهو الأمر غير المضمون في ظل وصول إيران لأقصى أنواع الضغوط والأزمات داخليًا ما يفسر أن هناك فرصة أمام العراقيين في استغلال الظروف الموضوعية إذا ما أرادوا إعادة اعتبار العراق كدولة لها ثقلها الحيوي في كامل المنطقة.

“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020 


[1] http://bit.ly/2vUSGjr

الشرق، ارتفاع عدد الإصابات بفيروس كورونا في العراق إلى 67، ن- بـ 9- مارس- 2020.

[2] http://bit.ly/2xsolsD

مركز الروابط للدراسات، اعتذار علاوي عراق المحاصصة والتحالفات، ن- بـ 9 مارس – 2020.

[3] http://bit.ly/3aTcCBX

الشرق الأوسط، أزمة الحكم في العراق… محاصصة طائفية أم تدخلات إيرانية، ن- بـ 21- فبراير- 2020.

[4] http://bit.ly/2vobuqY

محمد عبد العاطي، الجزيرة، ظروف كتابة مسودة الدستور العراقي، شوهد بـ 12- مارس- 2020.

[5] http://bit.ly/2ILD18B

نون بوست، حزب الله العراقي.. أداة إيرانية فوق القانون، ن- بـ 8- مارس – 2020.

[6] http://bit.ly/3aTEtly

هدى الشيمي، الهيمنة الإيرانية على العراق، ن- بـ 18- نوفمبر- 2019.

[7] http://bit.ly/2TNpd3S

ماهر القدرات، المركز العربي للبحوث، المظاهرات العراقية 2019 هل تكون بداية تحقّق المشروع الوطني وتجاوز نظام المُحاصصة الطائفي، ن- بـ 9- ديسمبر- 2019.

[8] http://bit.ly/2wX6IAQ

شذى خليل، مركز الروابط للدراسات، أزمات العراق بين الفساد والسياسة، ن- بـ 11- فبراير- 2020.

[9] http://bit.ly/2WaEq0k

نون بوست، العراق: البيت الشيعي وأزمة التصدع، ن- بـ 12- مارس- 2020.

[10] https://reut.rs/2xBEX1h

REUTERS 

To preserve Shi’ite power in Iraq, Iran-backed groups turn to renegade cleric FEBRUARY 24, 2020

[11] http://bit.ly/39QPpjQ

نون بوست، إيران وإعادة ترتيب البيت الشيعي العراقي، ن- بـ 9- فبراير- 2020.

[12] http://bit.ly/2IK3GCN

مركز المستقبل للدراسات، هل تنتهي الأزمة العراقية بتكليف علاوي رئيسًا للوزراء، ن- بـ 4- فبراير- 2020.

[13] http://bit.ly/2U5Xudt

العرب، تنسيق سني كردي لإفشال تمرير حكومة علاوي في البرلمان العراقي، ن-بـ 18- فبراير- 2020.

[14] http://bit.ly/2wPNv4n

تنسيق سني كردي لإفشال تمرير حكومة علاوي في البرلمان العراقي، شوهد بـ 12- مارس 2020.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى