الاصداراتمشاهد

تفعيل العلاقات الحذرة بين تركيا ولبنان

قام وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مؤخرًا بزيارة رسمية إلى لبنان([1])، لبحث عدة قضايا متعلقة بالبلدين، من بينها القضية السورية وملف اللّاجئين والتعاون الاقتصادي، بعد فتور تشهده العلاقات منذ فترة طويلة، كما أن آفاق التعاون بين البلدين محدودٌ بالتوجهات السياسية والاستراتيجية لكلا الجانبين.

من جهة أخرى أثير توتر دبلوماسي منذ مدة عندما نشر الرئيس اللبناني ميشال عون تغريدة على تويتر اتَّهم فيها الدولة العثمانية بـالقيام بممارسات “إرهابية” وبـ “إذكاء الفتن الطائفية بحق مئات الآلاف من اللبنانيين”. ما استدعى رد الخارجية التركية التي اعتبرت ما قاله عون: “إساءة سافرة للدولة العثمانية، وأن التصريحات مؤسفة للغاية وغير مسؤولة، بعد مرور أسبوع على الزيارة التي أجراها وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو إلى لبنان، وهذا لا ينسجم مع العلاقات الودية القائمة بين البلدين، وأن تصريحات عون ما هي إلا تجلٍّ مأساوي لحب الخضوع للاستعمار”([2]).

بدورها الحكومة اللبنانية قامت باستدعاء السفير التركي في لبنان للاحتجاج على صيغة رد الخارجية التركية على تصريحات عون معتبرة إياها خارجة عن الأصول الدبلوماسية، وهو ما يثير التساؤل حول توجه البلدين في علاقاتهما. وهل هذه الأحداث تؤشر على سير العلاقات نحو تعميق الخلافات بينهما أم احتوائها والمضي قدمًا باتجاه بناء علاقات قوية تجمع الجانبين.

خصوصًا بعد ظهور دعوات في لبنان منذ مدة أفصح عنها المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري عبر الإعلان عن تفعيل اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين([3])، بالإضافة إلى دعوة رئيس الحكومة اللبنانية السابق فؤاد السنيورة – المنتمي لتيار المستقبل – بضرورة تثبيت وتعزيز العلاقات الثنائية بين لبنان وتركيا القائمة على المصالح المشتركة([4]). بالإضافة إلى وجود ملفات حساسة منها طبيعة العلاقة بين تركيا وحزب الله الذي يمتلك نفوذًا واسعًا في لبنان وأصبح مؤثرًا في صناعة قرار الدولة، خصوصًا في الوقت الحالي الذي يشهد تصعيدًا إسرائيليًا وأمريكيًا ضد ممارسات حزب الله.

محددات العلاقات بين البلدين

يعود تاريخ العلاقات الحديثة بين الجانبين إلى فترة ما بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، واكتسبت العلاقات الثنائية بين تركيا ولبنان زخمًا ” بعد الزيارة الرسمية لرئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري إلى تركيا في عام 2004. وخلال السنوات التي تلت تلك الزيارة، تم تمهيد الطريق لتحسين العلاقات الثنائية في مختلف المجالات. وفي مطلع عام 2018 قام رئيس الوزراء سعد الحريري بزيارة رسمية لتركيا لبحث تطوير هذه العلاقة. لكن بالرغم من ذلك بقيت هذه المباحثات مشوبة بالحذر بسبب تعلقها بعدة ملفات منها([5]).

الملف السوري

تأثرت كل من تركيا ولبنان بحكم الأمر الواقع بمسار الأحداث المعقدة في الأراضي السورية سواء على الصعيد السياسي أو الأمني أو ملف اللاجئين –بشكل خاص- الذي أصبح يعتبر مشكلة أساسية لدى حكومتي البلدين.

كما أن لبنان حاولت _إلى حد كبير_ عدم توسيع تنسيقها مع تركيا بشأن سورية بسبب تباين المواقف تجاه القضية السورية بين البلدين ففي لبنان يدعم حزب الله وفريق 8 آذار بشكل مباشر وغير مباشر نظام الحكم في سورية ويسانده الحزب في المعارك البرية ضد فصائل المعارضة، وهو ما دفع تركيا أيضًا إلى تثبيط التنسيق بينها وبين لبنان خلال السنوات الماضية وإبقائه ضمن قنوات اتصال دبلوماسية وأمنية محدودة للتعامل مع الحالات الطارئة فقط.

لكن في 2019، حدث اختراق في علاقات البلدين تجاه هذا الملف، ففي محادثات أستانا 13 التي عُقدت في تموز/يوليو شاركت لبنان كدولة مراقبة في المباحثات، وبمشاركة تركيا كدولة ضامنة([6]). وهو ما أحدث انفراجًا في العلاقات الباردة وفتح خط تنسيق أمني وعسكري جديد بين الجانبين لتوجيه السياسات نحو مصالحهما، ولذلك قام وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في آب/أغسطس بزيارة إلى لبنان، وبحث عدة قضايا ومن بينها ملف اللاجئين، حيث تم اقتراح إقامة مؤتمر دولي لبحث عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، كما بحث أيضًا ملف الغاز والتنقيب عنه في مياه المتوسط وهو يرتبط بشكل وثيق بالوضع في سورية. وعليه فإن التوجهات الاستراتيجية والسياسية للبلدين قد تقودهما إلى مزيد من تفعيل العلاقات بحكم الضرورة، وقد تتطور العلاقة الحذرة إلى علاقة نشطة لكن بتدخل وسطاء أو محركين للعلاقة كروسيا أو الولايات المتحدة.

العلاقات الاقتصادية

وقَّع البلدان عام 1991 على اتفاق للتعاون التجاري والاقتصادي والصناعي والتقني والعلمي والذي هدف إلى توسيع نطاق السلع المتبادلة والإلغاء التدريجي للمعلومات الإدارية والمالية وتسديد المدفوعات بعملات قابلة للتحويل تمهيدًا لبناء اتفاقية تجارة حرة بينهما.

وفي عام 2010، توصل الجانبان بعد مفاوضات إلى عقد اتفاقية أشمل للشراكة لإقامة منطقة تجارة حرة تهدف إلى زيادة التعاون الاقتصادي وتعزيزه عبر إزالة الحواجز والقيود الخاصة بتجارة السلع وعبر تنمية علاقات اقتصادية متكافئة بين الطرفين من خلال زيادة التبادل التجاري بينهما وتوفير ظروف عادلة للمنافسة في التجارة بينهما. كما تم إنشاء لجنة اقتصادية مشتركة لبحث تعزيز العلاقات. وقد وجهت وزارة الاقتصاد والتجارة مطلع 2019 بضرورة تفعيل الجانب الاقتصادي بين البلدين.

في حين بلغ حجم الواردات اللبنانية من السوق التركية عام 2012 إلى حوالي 750 مليون دولار، في المقابل بلغ حجم الصادرات اللبنانية إلى تركيا 120 مليون دولار. ووصل حجم التبادل التجاري عام 2011 إلى نحو مليار دولار أي بارتفاع نسبته 22.1% عن سنة 2010. كما بلغت مستوردات لبنان من تركيا 984.9 مليار ليرة لبنانية في العام 2009 أي حوالي 86.1% من مجمل التبادل بين البلدين([7]). أما الصادرات اللبنانية إلى تركيا فوصلت إلى 311.9 مليار ليرة لبنانية أي 13.9%. أما مجمل الصادرات التركية، فقد بلغت في العام 2009 حوالي 142 مليار دولار مقارنة بصادرات لبنان التي وصلت إلى 3.484 مليار دولار في العام نفسه. وتأتي تركيا في المرتبة السادسة في جدول الدول التي يصدّر لها لبنان ويستورد منها على حد سواء بما نسبته 5% من مجمل صادراته ووارداته([8]).

من جهة أخرى تحاول تركيا إقناع لبنان بضرورة التعاون في ملف التنقيب عن الغاز بسواحل المتوسط، وقد أثير هذا الملف خلال زيارة وزير الخارجية التركي الأخيرة إلى لبنان. وتتطلع أنقرة لفتح خط تنقيب جديد لها على سواحل المتوسط منذ عام 2016 في ظل القيود الدولية المفروضة عليها حول التنقيب قرب قبرص والسواحل اليونانية، وقد أظهرت بيروت مرونة لمناقشة هذا الملف عام 2016 عندما “أشاد وسام الذهبي رئيس مجلس إدارة هيئة إدارة قطاع البترول في لبنان، بالأهمية الجغرافية لتركيا بأنها تعد جسرًا يربط بين الشرق الأوسط والقارة الأوروبية، وتعتبر سوقًا وممرًا هامًا لنقل الغاز اللبناني إلى دول القارة الأوروبية”([9]).

وضع حزب الله

بين عامي 2012-2013 تم فتح قنوات تواصل بين الحكومة التركية وحزب الله اللبناني بسبب ملف اللبنانيين الذين تم احتجازهم في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي من قبل لواء عاصفة الشمال التابع للمعارضة بسبب ارتباطهم بحزب الله، وحينها قام الأخير بالتواصل مع الحكومة التركية للضغط على الفصيل المعارض للإفراج عنهم وتم ربط مصيرهم بمصير طيارين تركيين اختطفا قرب مطار بيروت الذي يفرض عليه حزب الله سيطرته الأمنية. استمرت المفاوضات بين الأطراف الثلاثة واستخدم حزب الله ورقة ضغط الطيارين التركيين على أنقرة لإقناع فصيل عاصفة الشمال بالإفراج عن المحتجزين اللبنانيين في أعزاز، وقد تم بالفعل التوصل إلى اتفاق نص على الإفراج عن 9 لبنانيين، وإطلاق سراح الطيارين التركيين، وإخلاء سبيل 125 سجينة و12 جثة لمعارضات سوريات لدى النظام السوري([10]).

وعليه فإن العلاقة بين أنقرة والحزب تتسم بالعداء غير المعلن خصوصًا وأن حزب الله يساند نظام الحكم في سوريا بمعاركه البرية ضد المعارضة، لكن على الرغم من ذلك حاولت أنقرة إبقاء علاقتها مع حزب الله ضمن إطار الدولة اللبنانية وليس فقط الحزب خصوصًا بعد الانتهاء من ملف المختطفين اللبنانيين، وليس من المتوقع أن يتم فتح قنوات تواصل جديدة بين الحزب وتركيا خارج إطار الدولة اللبنانية وهو ما اتسمت به مواقفها عام 2006 في حرب تموز/يوليو حيث  لعبت تركيا دورًا مساهمهًا في محاولة دفع الجانب الإسرائيلي وحزب الله إلى التوصل لوقف إطلاق النار واحتواء الحرب.

وبالتالي فإن مستقبل العلاقات التركية اللبنانية سيشهد تنشيطًا محدودًا للتنسيق في ملفات مرحلية كقضية اللاجئين والوضع في سوريا، كما ستحاول تركيا أيضًا دفع لبنان للقبول بعقد اتفاق حول التنقيب عن الغاز في سواحلها، حيث تقوم تركيا بتقديم تسهيلات ومنح اقتصادية لحكومة لبنان المثقلة بالأعباء الاقتصادية داخليًا وخارجيًا. لكن التساؤل يبقى مطروحًا هل ستتطور العلاقة بين البلدين إلى التحالف الكامل أم أن حجم التعقيدات بين الجانبين وخصوصًا المتعلق بتوجهات حزب الله وحلفائه داخل الساحة اللبنانية ستحول دون إيجاد نقاط تقاطع مصالح طويلة الأمد بين أنقرة وبيروت؟

([1]) “تشاووش أوغلو يبدأ زيارة رسمية إلى لبنان”. وكالة الأناضول، 23-8-2019. https://bit.ly/2lOaxTx

([2]) “تصاعد التوتر بين لبنان وتركيا: بيروت تستدعي السفير التركي مطالبة أنقرة “بتصحيح الخطأ”. مونتي كارلو الدولية، 3-9-2019. https://bit.ly/2kc1Z8w

     “إرهاب الدولة العثمانية” تغريدة تشعل”أزمة دبلوماسية” بين تركيا ولبنان”. بي بي سي، 7-9-2019. https://bbc.in/2kHO2j0

([3]) “الاتفاق على تفعيل اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا ولبنان”. ترك برس، 23-8-2019. https://bit.ly/2AQJ6N4

([4]) “السنيورة يشدد على أهمية تعزيز العلاقات بين لبنان وتركيا”. الأناضول، 5-9-2019. https://bit.ly/2lMb74c

([5]) “Relations between Turkey and Lebanon”. Ministry of Foreign Affairs of the Republic of Turkey website, https://bit.ly/2k9yWlY

([6]) “بمشاركة العراق ولبنان للمرة الأولى.. أستانا-13 تنطلق يومي 1و2 أغسطس”. دايلي صباح التركية، 19-7-2019. https://bit.ly/2lS9QbH

([7]) “تركيا ولبنان تبحثان تعزيز التبادل التجاري”. وكالة الأناضول، 24-2-2019. https://bit.ly/2ke36Vf

([8]) “إتفاقية الشراكة لإقامة منطقة تجارة حرة بين لبنان و تركيا”. موقع الجيش اللبناني، نيسان/أبريل 2014. https://bit.ly/2kj5bzq

([9]) “مسؤول لبناني يشيد بأهمية تركيا الجغرافية لنقل الغاز إلى أوروبا”. ترك برس، 6-11-2016. https://bit.ly/2kwzm6p

([10]) “العلاقات اللبنانية ـ التركية تخرج من عنق زجاجة مخطوفي أعزاز’”. القدس العربي، 22-10-2013. https://bit.ly/2lQRqrS

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى