الاصداراتمتفرقات 1مقال رأي

تطور الأفهام

 
710

كثيرة هي النظريات التي ثبتت وأصبحت قانونًا نُسلّم به بداهة اليوم، والتي كانت بالأمس نظرة غيرت مناهج البشرية وافتتحت بالإنسانية والعلم عصرًاً جديدًاً.

حينما نعود لقانون النسبية لأينشتاين الذي كان جلّ همه أن يتجاوز مفاهيم عصره، ليبتكر نظريات جديدة ينشد بها خط البداية والتطور بعيدًا عن الاستهلاك والتبعية والتقليد نجد أنه:

  • غيّر الكثير من المفاهيم: المكان والزمان، الكتلة والطاقة.
  • على إثرها تم تعديل الأسس النظرية لميكانيكا نيوتن التي كانت قائمة ل ٢٠٠ سنة.
  • أضيف الزمن كبعد رابع مع الأبعاد المكانية الثلاث.
  • أدت مفاهيم النسبية لظهور علوم جديدة كليًا مثل: الفيزياء الفلكية وعلم الكون.

من هنا ندرك كم أثّرت هذه النظريات والقوانين على صياغة العقول وتغيير المفاهيم وتحديد علاقة الأشياء والأفكار بالبعد الزماني، فمثلًا، بعد أن كانت الأمور إما ثابتة وإما متغيرة، إما أبيض وإما أسود، اتسعت حدودها وتحولت إلى ثابت بالنسبة لغيره لكنه هو نفسه متحرك، ثم في نفس الزمن متغيرات منها سريعة ومنها بطيئة، مما يعني أن بعض ما نراه ثابتًا هو في الحقيقة متغير، لكن نسبة لتغيرنا الزمني نراه ثابتًا.

كما أم بعض المواد تتغير كل عشر سنوات، وبعضها كل مئة سنة، وبعضها يحتاج لألف سنة وبعضها لمليون سنة وأكثر. لذلك فهي ثابتة بالنسبة للأقل منها زمنًا ومتحركة مشاهدة بالنسبة للأكبر منها. وبدأت بالتالي درجات الرمادي بالظهور ثم أطياف اللون المتعددة، لتكسر احتكار الأبيض والأسود للألوان.

خلاصة ذلك ..

لو أن أينشتاين فكر بطريقة تقليدية _أن من قبلي لهم عقول، وبالتالي من أنا لأملك فهمًا أكثر منهم_ لم يكن ليقدم للبشرية هذه الفائدة العلمية؟!

لكنه لم يكن هوائيًا، بل آمن بالتراكم العلمي الذي يعمل على تطوير جزءًا أو مبدأ حتى ولو تراكمت السنون والأزمان وتوالت على تطبيقه، وبتواضعه العلمي لم يقل إن كل من سلف كانوا جهالًا، بل درس نظرياتهم وعرف صوابها من خطئها حتى لا يكررها وبذلك يتجنب الخروج عن التراكم المعرفي والالحاد بالعلم والمنطق الذي عمل لإنضاجه؛ فالتزم مبدأ التراكم وبنى نظريته التجديدية التي افتتح بها عصرًاً جديدًاً.

على مر العصور التي شهدت تطورًا وحضارةً لم يكن لسان أحد من علمائها: هل بنظريتك تلك تعتبر نفسك أكثر فهمًا ممن سبقوك؟!

 بل درسوها وقرأوها وعملوا على تجاربهم النقدية وربما ساهموا في إنضاجها، لأن البديهي الذي عرفوه أن تراكم المعرفة أدى إلى نضج العقل أكثر وتطوره مع تعقيدات الحياة.

وما لم يغيره السابقون قد يكون حان وقت تغييره بالنسبة للزمان والمكان والأحوال الذي نعيش به، وما شاهدوه هم ثابتاً قد نراه اليوم بوضوح متغيرًا!

ما يجب تأكيده أن هذا الأمر لا ينتقص من السابقين ولا من العلماء الحاليين، وفي كلٍ حقيقة وخير تتقدم الحياة بهم، وتزداد تركيباتها ويرتفع منسوب تراكمها العلمي، فتكثر الأسئلة وتتوالد الإشكاليات، ويأخذ العقل الإنساني على عاتقه حمل أمانة الإستخلاف في الأرض، يفكر ويبحث، ثم يُعمِل تفكيره النقدي فيُطوِّر ويتطوَّر ثم تنضج مخرجاته وتتحسن وسائله ويفتح للإنسانية أفقًا أوسع.

ولو تأملنا بعين التجديد قول الله: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) فجورهه حديث عن الماضي، فيه التراكمات المعرفية والتراكمات القيمية والأخلاقية، ماضٍ يحوي التفاعل الإنساني ومجموع تجاربه.
والآية دعوة مفتوحة للاتصال بالماضي والبحث عن صالحه والتدقيق في محتواه لا إلقاءه وراء ظهورنا صالحه وطالحه.

ثم يكمل تعالى: (وبالآخرة هم يوقنون) إشارة للمستقبل، هنا البناء على ما سبق، هنا النظر للأمام، هنا دعوة للتفكير الاستراتيجي ليبلغ التبصر منك حدّ الآخرة وتفاصيل الآخرة. الآخرة تلك التي سيتحقق فيها كمال العدل والرحمة والسلام وكمال العلم أيضًا! أليس هذا الكمال الذي يُدعى المتقون للإيمان والعمل به؟ إذن لن نبلغ ذاك الكمال إلا بالعودة للموروث البشري ونُعمل به أدوات تفكيرنا النقدي ونبني عليه أسس مستقبلنا المنشود ونبدع بتطويره على بصيرة منا حتى يكتب الله لهذا المستقبل بداية جديدة.

مستقبل يبدأ من إقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، وادخل برحمتنا الكمال والحضارة والريادة التي كنت تنشدها وتؤمن بها وتعمل لها جسر تفاعل بين الماضي والحاضر والمستقبل، لا تهدمه أوهام المغضوب عليهم ولا الضالين.

التطور سنة الله في خلقه، إن لم نُعمِل تطويرنا وفق سننه تتجمد العقول وتضمر الأفكار وتتخلف المجتمعات، لذا فالتجديد الدائم للأمور مع الأخذ بالعامل النسبي لها مهمة تنبري لها عقول وجهود المصلحين.

إن موجات التجديد هذه لا تستثني أمة و لا منهجًا و لا علمًا و لا معرفة ولا دينا، بل تدخل مجالات الحياة كلها (الإنسانية ,الاجتماعية، الدينية ,الاقتصادية) وهذا طبيعي لأن هذه العلوم نضجت بعقول وإدراكات و أفهام ووسائل بشرية كانت بنت زمانها وظروفها، وأجابت على أسئلة واقعها التي افتتحت بها عصرًا جديدًا، لتتوالى الأسئلة و تنتظر من يجيب عنها.

هكذا تتراكم المعرفة وتتسع شبكة العلوم ويرتقي العقل المبدع لابتكار أدوات تقوم بمهمات أكثر تعقيدًا وصعوبة، تُسهّل أمور الناس وتُؤمّن لهم النماء والنهضة والحياة الطيبة.

للتحميل من هنا

الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى