الاصداراتمشاهد

المسار الحرج للعلاقات التركية الأوروبية

تمرُّ العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي بمرحلة حرجة وتصعيد متبادل بلغ ذروته في قضية اللاجئين بتسهيل وصولهم إلى الحدود اليونانية لتشكيل ضغط على الأوروبيين من أجل دعم حماية أمن حدود تركيا. بعد أن شكلت العملية العسكرية التي قام بها نظام الحكم في سوريا بدعم من حلفائه مؤخرًا على إدلب تهديدًا للأمن القومي التركي، والتي انتهت بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في موسكو([1]).

ولم يكنْ ما سبق الملف الإشكالي الوحيد بين أنقرة وبروكسل، بل أثير في الآونة الأخيرة أيضًا ملف عضوية تركيا في حلف الناتو، عندما دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أواخر 2019 إلى ضرورة “تحديث حلف الناتو لنفسه من أجل مواجهة التهديدات، حتى لا تضطر الدول الأعضاء للبحث عن بدائل”([2]). وهو ما يزيد من قلق الأوروبيين حول توجه تركيا إلى تعزيز علاقاتها بشكل أكبر مع روسيا، خصوصًا بعد رفع الأخيرة لتوريدات وصفقات الأسلحة إلى تركيا وأهمها منظومة (إس-400) وهو ما يراه الاتحاد الأوروبي تهديدًا للأمن الدفاعي لأراضيه، وتهديدًا لتماسك حلف الناتو أيضًا الذي تعتبر تركيا أحد أعضائه الفاعلين.

ولا تقتصر الملفات الخلافية بين أنقرة وبروكسل على ما سبق فحسب، بل أيضًا يواجه ملف عضوية تركيا الاتحاد الأوروبي عراقيل مستمرة منذ عام 2012، بعد أن حققت تركيا تقدمًا في تصنيف (تقرير التقدم) الذي تقوم بإعداده مفوضية الاتحاد الأوروبي للنظر في المعايير المطلوبة للدخول ضمن منظومة الاتحاد بالنسبة لتركيا، لكن هذا المؤشر بدأ بالانخفاض منذ ذلك العام ما جعل مسألة دخول الأخيرة إلى الاتحاد الأوروبي أكثر تعقيدًا. وقد أوضحت ذلك العام الماضي صراحة فريديريكا ريس، نائب رئيس مجموعة تجديد أوروبا -أكبر مجموعة وسطية تنشط حاليًا في البرلمان الأوروبي- عندما اعتبرت أن: “المطالب التركية للعضوية لم تعد ذات معنى الآن، لاسيما بعد التوغل العسكري الأخير ضد المسلحين الأكراد في شمال شرق سوريا، وشراء معدات عسكرية متطورة من روسيا وفي ظلِّ حالة الانسداد السياسي المستمر بشأن قبرص”([3]). وعليه فإن مستقبل العلاقات بين الجانبين دخل في أفق ضيق، وارتفع حجم التجاذب والاستقطاب في عديد من القضايا مما يجعل إمكانية تجاوز هذه الخلافات أصعب شيئًا فشيئًا مع مرور الوقت إذا استمر الحال على ماهو عليه خصوصًا في ما يتعلق بقضية اللاجئين.

مسار تطور العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي

بدأت العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي في إطار نظام الشراكة الذي كان أساسًا لاتفاقية أنقرة التي وقعت بين تركيا والتجمع الاقتصادي الأوربي بتاريخ 12 أيلول/سبتمبر 1963 ودخلت حيز التنفيذ بتاريخ 1 كانون الأول/ديسمبر 1964 وقد تضمنت اتفاقية أنقرة ثلاث مراحل يجب أن تمر بها تركيا لتحقيق تكاملها مع الاتحاد الأوروبي وهي المرحلة التحضيرية والمرحلة الانتقالية والمرحلة النهائية. وكان مقررًا أن يتم استكمال الاتحاد الجمركي في نهاية المرحلة الانتقالية.

وبنهاية المرحلة التحضيرية التي تضمنتها الاتفاقية تم بتاريخ 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1970 التوقيع على البروتوكول الإضافي الذي حدد أحكام المرحلة الانتقالية والالتزامات التي ستقع على عاتق الأطراف، حيث دخل هذا البروتوكول حيز التنفيذ في عام 1973. وقد أوضحت اتفاقية أنقرة في نفس الوقت وبكل صراحة، أن نظام الشراكة الذي أسسته ما هو إلا عنصر من شأنه أن يسهل عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد.

وفي عام 1999 بدأ عهد جديد في العلاقات التركية الأوروبية، حيث وافق دول أعضاء الاتحاد الأوروبي في قمة هلسنكي التي انعقدت في 10-12 كانون الأول/ ديسمبر 1999 على مبدأ قبول طلب تركيا، ومنحها وضع المرشح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بعد أن ألغت اليونان تحفظاتها بضغط أميركي. لكن تلك الدول وضعت شروطًا أساسية لبدء المفاوضات الرسمية مع تركيا، من بينها احترام الأقليات وحقوق الإنسان، بإلغاء عقوبة الإعدام، وتحسين علاقتها مع اليونان وكف يد الجيش التركي من التدخل في الشؤون السياسية. قد ساهم الموقف الفرنسي كثيرًا في اتخاذ هذا القرار بسبب تأييد الرئيس جاك شيراك لمسار انضمام تركيا للاتحاد، إذ اعترف بالجهود التي بذلتها تركيا من أجل إصلاح الدولة والنظام السياسي، كما أصرّ على ضرورة تحقيق التقارب بين شطري المتوسط. وبعد عامين وقّعت تركيا على وثيقة شراكة الانضمام في 2001 والمتضمنة تنفيذ إجراءات عديدة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، تتوافق مع معايير الاتحاد الأوروبي، كشروط على تركيا من أجل الانضمام.

وبعد وصول حزب العدالة والتنمية عام 2002 إلى السلطة قام رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة آنذاك، بجولة أوروبية شملت الدول الـ15 الأعضاء في الاتحاد لتشجيعها على تحديد موعد لبدء تركيا مفاوضات العضوية. أضحى بالنسبة لأردوغان، انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، أولوية في برنامجه. وفي قمة الاتحاد الأوروبي التي عقدت في بروكسل بتاريخ 17 كانون الأول/ ديسمبر 2004 التي شارك فيها رؤساء الدول والحكومات في الاتحاد الأوروبي، أكد الزعماء على القرار الذي اتخذته قمة هلسنكي في عام 1999، وأوضحوا أن تركيا حققت ما يكفي من المعايير السياسية، وقررت إطلاق مفاوضات الانضمام مع تركيا بتاريخ 3 تشرين الأول/أكتوبر 2005.

إلى ذلك وبعد بدء المفاوضات، طرأت تبدلات في بعض دول الاتحاد الأوروبي، أثّرت على مسار التفاوض وأعادت طرح تساؤلات عن ملف الانضمام الى الواجهة، مما أدى إلى تباطؤ المحادثات بين الفريقين من دون أي تسوية في الأفق ففي العام 2006، أوصت المفوضية الأوروبية بوقف مفاوضات الانضمام الجارية مع تركيا، ولو جزئيًا، بسبب تواصل رفض أنقرة لفتح موانئها البحرية والجوية أمام السفن والطائرات القبرصية، ورفضها أيضًا الاعتراف بعضوية قبرص في الاتحاد الأوروبي. لذا طُلب من تركيا الاعتراف الأحادي الجانب بقبرص، فرفض الطلب. لم تكن تلك القضية الوحيدة التي وتّرت المفاوضات بين الجانبين، بل أعيد طرح مسألة الأكراد والأرمن وصلاحيات الجيش. واستمر الجدل بين الأوساط بين جذب ورد في المفاوضات حتى عام 2011 حينها اقترحت المفوضية الأوروبية في وثيقة التوسع الاستراتيجية التي نشرتها إعداد جدول أعمال إيجابي بين تركيا والاتحاد الأوربي، وتم على إثره تشكيل مجموعات عمل وتم عقد الاجتماع الأول لجدول الأعمال الإيجابي في أنقرة بتاريخ 17 أيار/مايو 2012 وتم الإقرار في حصيلة الاجتماعات بأن تركيا حققت تقدمًا في بعض الجوانب بخصوص تطبيقها للمعايير المطلوبة للانضمام، وبقيت هذه المفاوضات تحقق تقدمًا وتراجعًا وأصبحت رهينة التقلبات السياسية والأوضاع في المنطقة وخصوصًا في الدول المجاورة لتركيا، كسوريا والعراق([4]).

الوصول إلى النقطة الحرجة في العلاقات

شكلت مرحلة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا عام 2016، نقطة تحول في العلاقات إذ رأت أنقرة أن الاتحاد الأوروبي لم يدعمها كفاية لمواجهة هذا الانقلاب، حيث رأى صناع القرار أن أوروبا لم تكن مساندة لتركيا في مواجهة التحدِّيات الأمنية والتهديدات التي تواجهها على المستوى الداخلي، وكذلك على المستوى الخارجي خصوصًا في سوريا والعراق المجاورَين، وفي مواجهة المجموعات الإرهابية المتعددة داخل حدودها وخارجها. وبرزت العديد من الخلافات أهمها ما يلي:

1. عمليتي غصن الزيتون ونبع السلام: عقب إعلان تركيا عن بدء عملية غصن الزيتون في منطقة عفرين شمال سوريا عام 2018 ضد جماعات كردية تتهمها تركيا بالإرهاب، عارضت عدة دول أوروبية ذلك التوجه، وهو ما اعتبرته أنقرة تصعيدًا ضدها حيث رأت أن الأوروبيين وحلف الناتو أيضًا لا يضعون مواجهة تهديدات الأمن التركي في سلم أولوياتهم، وأن تعاملهم مع هذه القضية مغاير تمامًا لطبيعة العلاقات بين الدول الأعضاء داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وكان الحال كذلك في عملية نبع السلام التي شنتها القوات التركية عام 2019 شرق نهر الفرات، والتي لاقت معارضة أوروبية أيضًا([5]).

2. إقرار معظم الدول الأوروبية ما يُعرف بقانون الإبادة الأرمنية: حيث تفيد تقارير غربية أن الدولة العثمانية ارتكبت خلال فترة الحرب العالمية الأولى مجازر ضد الأرمن أسفرت عن مقتل قرابة مليون وأربعمئة ألف أرميني، فيما تقول تركيا أن عدد هؤلاء لا يتجاوز ثلاثمائة ألف، وإن ذلك حصل بسبب ظروف الحرب، وتضيف أنقرة أن حل القضية لا يُمكن أن يكون من خلال إقرار قانون الإبادة، وإنما بنوع من المصالحة التاريخية. فهي تخشى من أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تجريم التاريخ التركي، وما يترتب على ذلك من تداعيات قانونية وسياسية وتعويضات مالية([6]).

3. الوضع في إدلب: مؤخرًا كان ما حدث في إدلب من تصعيد حرج وصلت إليه العلاقات بين الجانبين، حيث اعتبرت تركيا أن الاتحاد الأوروبي كان يماطل في إعلان دعمه لها عمليًا في شمال سوريا، حتى تم استهداف 39 جنديًا تركيا من قبل نظام الحكم في سوريا ما أدى إلى مقتلهم، وحينها اضطرت تركيا للإعلان عن عملية درع الربيع العسكرية لردع تقدم النظام ولحماية جنودها ومصالحها في منطقة إدلب، وجاء هذا التحرك بشكل منفرد بعد إدراك الحكومة التركية أن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لن يقف بفاعلية إلى جانب حماية مصالحها هناك، فسهلت تركيا كرد فعل على هذا الفتور الأوروبي مرور آلاف اللاجئين إلى الأراضي اليونانية، وإلى الآن تحاول الأطراف الأوروبية احتواء هذه الأزمة وفتح قنوات تواصل مع تركيا للحدِّ من هذا الخطر المحدق بأمن الأراضي الأوروبية([7]).

4. قضية جزيرة قبرص: شهدت تصعيدًا جديدًا أواسط عام 2019، حيث أدانت قبرص اليونانية بشدة عملية التنقيب الجديدة التي أطلقتها تركيا قبالة سواحلها، واصفة إياها بغير المشروعة. واعتبر الاتحاد الأوروبي عمليات التنقيب التركية انتهاكا لسيادة قبرص، مؤكدًا أنه سيرد بالشكل المناسب. وجاء ذلك على إثر توجه السفينة “يافوز” التركية إلى قبالة السواحل القبرصية وهي السفينة الثانية التي ترسلها أنقرة إلى تلك المنطقة للتنقيب عن النفط والغاز([8]).

المسار المستقبلي للعلاقات لم تعد النخب السياسية التركية، تعتبر الغرب مركز القوة، بل باتت تعتبره واحدًا من بين مراكز قوى أخرى كثيرة. وتعتقد الدائرة الحكومية التركية أن هذا يزيد من فرص استقلالية الحكم الذاتي لتركيا في الشؤون الدولية، خصوصًا في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، بعد أن رأت أنقرة أنها قادرة على تهديد المصالح الأوروبية وانتقل شكل العلاقة إلى الندية أكثر منه إلى الشراكة. لكن الأوروبيين بدورهم سيحاولون احتواء المخاوف التركية بشكل أكبر، وهو ما قامت به ألمانيا عندما طالبت المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته اتجاه إدلب وعدم إلقاء العبء على تركيا وحدها([9]). لكن التطمينات الأوروبية غير العملية لن تكون قادرة على إقناع أنقرة بحسن نوايا الاتحاد الأوروبي، خصوصًا بعد تمكنها من حماية أمنها بشكل منفرد في عملية درع الربيع والتوصل لتجديد اتفاق وقف إطلاق النار مع روسيا، وعليه فإن عملية احتواء الخلافات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا لن تكون سهلة التحقيق على الأقل في المدى المنظور دون تقديم ضمانات عملية قد تشمل إعادة تزويد تركيا بأنظمة دفاع كمنظومة باتريوت الألمانية، بالإضافة إلى إعادة صياغة اتفاق اللاجئين بين أوروبا وأنقرة.


([1]) “الحرب في سوريا: اتفاق روسي تركي على وقف إطلاق النار في إدلب”. بي بي سي، 5-3-2020. https://bbc.in/2xcEMJm

([2]) “أردوغان يدعو “الناتو” لتحديث نفسه ولدعم تركيا بمواجهة الإرهاب”. الأناضول، 3-12-2019. https://bit.ly/2Qt3Qma

([3]) “العلاقات التركية المضطربة مع أوروبا”. عين أوروبية على التطرف، 14-12-2019. https://bit.ly/391QiVr

([4]) “العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي”. موقع وزارة الخارجية التركية، https://bit.ly/2WpBSeX

     “العلاقات التركية الأوروبية ـ أهم الأحداث التاريخية”. قنطرة، 18-2-2003. https://bit.ly/3dcMHY0

     “العلاقات الحائرة بين تركيا والاتحاد الأوروبي”. موقع الجيش اللبناني-مجلة الدفاع الوطني، العدد 77، تموز/2011. https://bit.ly/2QtYirX

([5]) “ماهى مواقف دول الاتحاد الأوروبى من اجتياح تركيا الى عفرين وتداعيتها؟”. المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب، 17-6-2019. https://bit.ly/2J4MeZL

     “بعد تعليقها المؤقت.. الاتحاد الأوروبي يكرر مطالبة تركيا بإنهاء عملية “نبع السلام” بسوريا”. الجزيرة نت، 18-10-2019. https://bit.ly/2U3cRoh

([6]) “ما هي حدود التوتر في العلاقات التركية-الأوروبية؟”. مركز المستقبل، 3-4-2017. https://bit.ly/2WtnLW6

([7]) “إسقاط مقاتلتين و3 منظومات دفاع.. خسائر فادحة للنظام السوري أول أيام إعلان تركيا عن درع الربيع”. الجزيرة نت، 1-3-2020. https://bit.ly/3a4zcYi

    “بعد لقاء أردوغان.. الاتحاد الأوروبي متمسك باتفاقية اللاجئين”. DW، 9-3-2020. https://bit.ly/2wkIBMK

   “أردوغان يتوعد بإبقاء الحدود مفتوحة أمام المهاجرين حتى يلبي الاتحاد الأوروبي كافة مطالبه”. فرانس 24، 11-3-2020. https://bit.ly/2WtCX5w

([8]) “تركيا تثير غضب قبرص بعملية تنقيب جديدة والاتحاد الأوروبي يهدد برد مناسب”. فرانس 24، 8-7-2019. https://bit.ly/2vDI2gM

([9]) “ألمانيا: المسؤولية الإنسانية في إدلب لا تتحملها تركيا وحدها”. الأناضول، 28-2-2020. https://bit.ly/3b6aRl1

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى