أخبارالدراسات الاستراتيجيةتقدير موقف

الانتخابات المحلية التركية

الدلالات والأبعاد

مقدمة

يشهد الداخل التركي تحولات متسارعة على وقع المفاجآت التي أحدثتها الانتخابات المحلية التي جرت في31 مارس/ أذار 2019، فالنتائج الأولية للانتخابات جاءت بعكس ما يتمناه حزب العدالة والتنمية، حيث أظهرت مخرجاتها خسارته لرئاسة بلديات أهم المدن الكبرى كأنقرة وأنطاليا، ولا تزال النتائج في مدينة إسطنبول قيد الفرز بعد اكتشاف بعض الأخطاء التي رافقت عملية فرز الأصوات بحسب ما ذكره نائب رئيس حزب العدالة والتنمية علي إحسان يافوز[1].

وتسود حالة من الترقب بين الأوساط التركية المختلفة لوقت الإعلان عن النتائج النهائية المنتظرة بعد البت في موضوع الطعون وإعادة الفرز لكامل الأصوات في إسطنبول. وبجميع الأحوال وحتى إن أفضت إعادة الفرز إلى حصول العدالة والتنمية على رئاسة بلدية المدينة فإنه لن يكون سوى رد اعتبار رمزي لصالح الحزب؛ لأن ذلك لن يغير بشكل كبير من طبيعة التحولات التي أفرزتها الانتخابات المحلية، والتي أشارت إلى عودة نوع من الثقل السياسي والاقتصادي للمعارضة إذ نجحت في الوصول إلى مقاعد رئاسة البلديات بأهم المدن الكبرى كأول مرة منذ 2002.

وفي هذا السياق تُناقش الورقة تقييم الأثر الانتخابي المستقبلي على سلوك حزب العدالة والتنمية من خلال توصيف مجريات المعركة الانتخابية وطبيعة الأحزاب المتنافسة وأهدافها ودلالاتها وأبعادها السياسية المحتملة.

السياق العام للانتخابات

اعتُبرت الانتخابات المحلية لـ 2019 ذات طابع مغاير تماماً عن كل الانتخابات التي شهدتها تركيا في العامين الأخيرين، حيث شكلت فرصة أخيرة لجميع الأحزاب المتنافسة في تحديد موقعها ضمن الخارطة السياسية في البلاد قبل موعد الانتخابات الرئاسية في عام 2023، لذا كان من الطبيعي أن يرتفع خط التنافس لدرجة أنه وصل إلى إدخال عامل السياسة الخارجية في أجندات وتوجهات الأحزاب، ورغم أن الانتخابات لا تشمل في جوهرها إطار السياسات العامة للدولة ولا تدخل ضمن صلاحياتها كونها تُعنى بالجانب الخدمي والإداري للمناطق والبلديات إلا أنها مسّت بشكل مباشر مُحددات السياسات المتبعة الداخلية والخارجية للحزب الحاكم، وقد يبدو هذا نتاجاً طبيعياً تبعاً لطبيعة العلاقة التكاملية بين رئيس البلدية وناخبيه المبنية على وجود تماس مباشر مع الشعب. ومن شأن ذلك أن يُحدث علاقة تأثير متبادل بين الناخب والمسؤول الساعي لمنصب الرئاسة.

وعلى صعيد آخر، أظهرت الانتخابات رغبة الناخبين إيصال رسائل تنبيهية لحزب العدالة والتنمية، والتي قد تُفسَّر بأنها رسالة جادة مفادها: “ضرورة إعادة النظر في توجهاته السياسية في البلاد، الداخلية والخارجية وعلى مستويات الاقتصاد والسياسة”. وهو الأمر الذي ظهر بخطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال كلمة له في العاصمة أنقرة عقب الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات[2].

هذا الواقع لا يُعبر بالضرورة عن خسارة ساحقة، فعلى الصعيد العملي حقق الحزب بتحالفه مع حزب الحركة القومية أغلبية ساحقة في الفوز برئاسة 56 بلدية[3] من أصل 81 وحافظ على نفس نسبة الأصوات في انتخابات 2014، وحقق اختراق ملموس في المناطق ذات الغالبية الكردية بفوزه بأربع مدن[4] هي: شرناق – آغري- موش- بيتليس. هذه المدن صوتت دائمًا لصالح حزب الاتحاد الديمقراطي وغيرها من الأحزاب الكردية.

بالمقابل فقد ألقت الانتخابات بثقلها على كاهل حزب العدالة والتنمية وكشفت مكامن ضعفه من خلال محاولته استعادة عامل الثقة مع ناخبيه على أثر التصدعات التي حصلت في الانتخابات الرئاسة 2018 والأزمات التي مرت بها البلاد. على رأسها الملف الاقتصادي الداخلي والذي لعب دوراً رئيسياً في تحديد نتائج الانتخابات بسبب مرور البلاد في أزمة اقتصادية متراكمة منذ بداية العام 2018، عدا عن نشوء علاقة سياسية معقدة ومضطربة داخلياً بدأت منذ تحويل النظام إلى رئاسي بموجب التعديلات الدستورية التي أجريت في 2017، وصولاً إلى تثبيتها في انتخابات برلمانية رئاسية في يونيو/ حزيران 2018.

وخارجياً ارتبطت بالعديد من الملفات؛ خاصةً العلاقة مع القوى الغربية وروسيا، وتأثيرها على الواقع الاقتصادي للبلاد، إضافة إلى آثار الأزمات المتعلقة بالملف السوري ومحاربة القوى الكردية المصنفة كقوى إرهابية وما خلقته من حالة انقسام في الداخل التركي نظرًا لأثرها الكبير على الواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.

أحزاب متنافسة

خاض الانتخابات تحالفات حزبية رئيسة وأخرى فرعية. الأولى تحالف الشعب الذي ينضوي فيه حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية واللذان تحالفا بعد عام 2016، وقد شهدت الفترة ما بين 2017 – 2018 تقوية هذا التحالف بعد تجاوز الخلافات الجانبية والتقاء مصالحهما بعد إدراك حزب العدالة صعوبة تمرير التعديلات الدستورية الرئاسية من دون إسناد حليف قوي له، وتتبعه لمؤشرات تراجع ناخبيه في الانتخابات البرلمانية 2015،  كذلك حزب الحركة القومية الذي رأى ضالته في التحالف مع حزب العدالة بعد استشعاره المخاطر على البلاد عقب حادثة الانقلاب إلى جانب تداركه فجوة الانشقاقات، والتي انتهت بخروج كتلة ميرال آكشنار وتشكيل الحزب الجيد[5]، ما يفسر أن الحزب أراد أن يثبت لمنافسه أنه ليس مجرد موجة عابرة وإن عوامل بقائه أكبر من فنائه، فتوّج ذلك بتحالفه مع حزب العدالة، وقد اتبع الحزبان في الانتخابات المحلية تكتيكاً خاصاً اعتمد على الوتر القومي والعاطفي بهدف التشويش على منافسيه من أحزاب المعارضة، في المقابل مثلت الجهة المنافسة لتحالف الشعب، تحالف الأمة والذي يضم حزب الشعب الجمهوري ذو التوجه الكمالي وصاحب الأقدمية في قائمة الأحزاب التركية مع حزب المعارضة الرئيس والحزب الجيد المؤسس حديثاً وكان من الطبيعي تشكيل هذا التحالف لتحقيق نوع من التوازن التنافسي أمام كتلة تحالف الشعب.

ويُضاف إلى جانب الكتل الصلبة الرئيسية أحزاب فرعية، وهي حزب الشعوب الديمقراطي ذو التوجه القومي الكردي، وحزب السعادة ذو الطابع الإسلامي، لكنهما لا يمثلان وزناً حزبياً في الخارطة السياسية أمام بقية الأحزاب، ومع ذلك فقد كان للصوت الكردي دور مهم في قلب المعادلة في مدينة إسطنبول عبر تصويت غالبية الناخبين الأكراد في المناطق الغربية المحسوبة على حزب الشعوب الديمقراطية لصالح حزب الشعب الجمهوري، وهو الجانب الذي لعب عليه حزب الشعوب الديمقراطي كردِّ اعتبار عن خسارته في معقله جنوب شرق البلاد من قبل حزب العدالة والتنمية.

استراتيجيات وأهداف حزبية

اتسمت الانتخابات بطابع تنافسي مبطن بالأهداف الخفية والمعلنة، ورغم أنها انتخابات مخصصة لإدارة البلديات المحلية إلا أنها نالت اهتمام داخلي وعربي طغى على موضوع مؤتمر القمة العربية المنعقد بنفس التوقيت في تونس. إضافة إلى أنها تأتي كمرحلة أخيرة لما قبل انتخابات 2023 فهي شكلت مفترق طرق بالنسبة للأحزاب الرامية لتحسين موقعها السياسي لأن انتخابات الإدارة تُؤطر العلاقة سياسياً بين الناخبين والأحزاب خاصة في رمزية الاستحواذ على رئاسة المدن الكبرى، فمن جهة حزب تحالف الشعب نظر للانتخابات كفرصة أخيرة له لاستعادة موقعه التقليدي الذي كان عليه قبل عشر سنوات، إذ شهدت الانتخابات الرئاسية البرلمانية في 2018 تراجعاً ملحوظاً لشعبيته بعد عجزه عن إيجاد حلول جذرية لمشكلة تضخم الاقتصاد وتدهور أسعار الصرف للسيولة التركية، إضافة إلى استبعاده عدداً من قيادات الحزب كأحمد داود أوغلو وعبد الله غولن الرفاق القدامى له، وظهور النزعة القومية في خطاباته السياسية والإسلامية في بعض المواضع، وعليه فإن الانتخابات كانت بمثابة فرصة أخيرة سعى من خلالها لتعويض ما خسره سابقاً، لكن اتضح أن الآليات المستخدمة لم تكن كافية لتحقيق انتصارات ساحقة كتلك التي حظي بها طيلة 13 عشر عاماً منذ 2002، وعملياً اتبع في تحالفه مع حزب الحركة القومية تكتيكاً معيناً تمثل في جعل حزب الحركة القومية يسحبَ مرشحيه من 16 مدينة لصالحه، مقابل سحبه مرشحين تابعين له من رئاسة 3 بلديات لصالح الحركة وتحالف مع حزب الحركة القومية في 30بلدية كبرى و20بلدية للمدن كما قدم حزب الحركة القومية دعمه لحزب العدالة في 27 بلدية كبرى مقابل ترشحه لبلديات أضنة ومرسين ومانيسا[6].

بالمقابل فإن تحالف الأمة تعاون مع حزب الجيد في 22 بلدية من أصل 30 وترك حزب الجيد بلديات المدن الكبرى لصالح حزب الشعب الجمهوري مقابل ترك الأخير له بلديات في المناطق الفرعية بهدف تحقيق تغيير جوهري في هذه الانتخابات والوصول إلى مقاعد الحكم والمنافسة من جديد وإيصال رسالة للجميع بأن الممنوع منذ 2002 ليس من المسلمات وبإمكانه المنافسة خارج نطاق معاقله في المدن الكبرى كمدينة اسطنبول والعاصمة انقرة، ولاشك من أن أحزاب المعارضة لعبت على وتر عامل الأزمات الاقتصادية للتأثر على صوت الناخبين عبر تحميل مسؤوليتها لحزب العدالة والتنمية، مع العلم أن برنامجها الانتخابي يخلو من أية حلول اقتصادية من شانها أن تنهي أزمات البلاد، وحقيقة الجميع هذه المرة لم يقدم برامج معالجة حقيقة للأزمات الداخلية مقارنة مع البرامج التي تم تقديمها في الشق الخدمي وتخطيط المدن والعمران.

أما عن الأحزاب المتبقية فمن الجدير ذكره وجود عامل تأثير حزب الشعوب الديمقراطي والذي اختار أن يناور داخل مناطق نفوذه جنوب شرق البلاد،  وكان يؤكد في برنامجه الانتخابي على التأثير على حزب العدالة والتنمية لكن تأثيره لم يأت كالضربة الكبرى التي تلقاها من قبل حزب العدالة واختراق نفوذه في مناطق ذات غالبية كردية، وبالنسبة لحزب السعادة فكان سقف طموحاته أن يقوم بعملية استقطاب بهدف الظهور للأصوات الناخبة التي لم تصوت لحزب العدالة والتنمية؛ على اعتبار أن حزب السعادة يتلاقى إلى حد ما من حيث التوجه الأيديولوجي مع حزب العدالة والتنمية.

نتائج ودلالات

نظراً للأزمات الراهنة التي تمر فيها البلاد فإن الانتخابات المحلية دفعت أكثر من 57 مليون ناخب للإدلاء بأصواتهم وهي نسبة غير مسبوقة وتُعبر عن غاية الناخب في إيصال رسائله ديمقراطياً لصناع القرار، وإن ثمة تعريف عام للحالة فهو احترام الجميع للعملية الديمقراطية وممارستها وتفضيل المواطن وجعله مصدر التشريع، واحترام كلمته ومبادئه وحقه في الديمقراطية وهو جانب شهدت به صحيفة الغارديان [7] عبر وصفها العملية الانتخابية بأنها إثبات لمرونة الديمقراطية التركية وحيويتها.

وأظهرت النتائج غير الرسمية فوز حزب العدالة وتحالفه مع حزب الحركة القومية بنسبة 51.74 %  وفاز بـ 778 بلدية مدينة وناحية كمرتبة أولى بين الأحزاب، مقابل نسبة 37.64 % لـتحالف الأمة وبـ 242 بلدية، والحركة القومية على  236بلدية، والشعوب الديمقراطي بـ 63 بلدية، وبقية الأحزاب بـ 42 بلدية، وبناء عليه فإن الحزب الحاكم فاز بـ 44.95 % من إجمالي البلديات. في حين فاز حزب الشعب الجمهوري بـ 30.25 %، وحزب الجيد المعارض بـ 7.39 %، وحزب الحركة القومية بـ6.80 %، وحزب الشعوب الديمقراطية بـ 4.01 %، وبقية الأحزاب 6.60 % [8].

 وقد وصلت نسبة من أدلوا بأصواتهم إلى 84 %، نحو 45 % أعطوا أصواتهم لحزب العدالة والتنمية و30 % لحزب الشعب الجمهوري، وبالاستناد إلى لنتائج الأولية، لوحظ أن حزب العدالة حافظ على نفس النسبة التي حصل عليها في انتخابات 2014، وحقق انتصارًا ساحقاً في المناطق الفرعية وفي قلب الأناضول، لكنه خسر في العاصمة أنقرة بفارق 3% من الأصوات، وخسر حلفاؤه في الحركة القومية رئاسة ولاية أضنة معقلهم الرئيسي بفارق 10 % وفي أزمير حقق حزب الشعب الجمهوري انتصاراً بفارق كبير بلغ 20 % بالمقابل رفع حزب الشعب الجهوري نسبته بنقطتين مئويتين، بينما تراجعت نسبة حزب الحركة القومي وحزب الشعوب الديمقراطي والسعادة بما يقارب ثلاثة درجات مئوية عن الانتخابات السابقة باستثناء حزب الجيد لأنه لم يكن مشكل آنذاك. ومن خلال التمعن بهذه النتائج فإن الطابع العام يفضي إلى تراجع حزب العدالة والتنمية مقارنة مع انتخابات 2014 التي حقق فيها انتصارات بفارق كبير على منافسيه فحصل على رئاسة 18 بلدية في المدن الكبرى من أصل 30 بما فيها إسطنبول وأنقرة، في حين تقلص الفارق في انتخابات 2019 من 18 إلى15 من أصل 30 في المدن الكبرى[9]، مقابل توسعه أكثر في المناطق الفرعية. وقد ساهمت عدة عوامل في التأثير على نتائج الانتخابات ألقت بأثرها على حزب العدالة والتنمية وفق ما يأتي:

التراجع الاقتصادي

يُعتبر قطاع الاقتصاد المُحدد الرئيس التفاعلي في تركيا بين الشعب والحكومة وهو الأكثر حساسية بالنسبة للمواطن التركي، والذي بدأ يعبر عن استيائه من موضوع تراكم الأزمات الاقتصادية المتصاعدة منذ مطلع 2018 فقد تراجع النمو الاقتصادي إلى 5% مقارنة مع العام 2017، وارتفعت نسبة التضخم إلى 20 %، وتراجع معدل دخل الفرد بما يُقارب 500 دولار وبلغت نسبة البطالة 10%[10]وفقدت الليرة التركية قيمتها أمام الدولار بمعدل 30% [11]، وعلى الرغم من كل المحاولات التي قام بها الحزب الحاكم لحلحلة الوضع الداخلي الاقتصادي إلا أنها باءت بالفشل ولم يقتنع بها الناخب التركي، لاسيما أن المبررات كانت دائماً في نظره غير منطقية عندما يتم ربطها بمؤثرات خارجية، كما أن الحلول الجزئية لم تضع حداً لنسبة التضخم وتُحقق استقرار دائم لليرة التركية، ولأن غالبية الاستثمارات الاقتصادية والمشاريع موجودة في المدن الكبرى غرب البلاد فقد قاد ذلك إلى انعكاس أثرها في الانتخابات المحلية التي وجه فيها الناخب رسالته الأولى والتي عكست امتناع شريحة كبيرة من المواطنين عن الإدلاء بأصواتهم لصالح حزب العدالة والتنمية الذي ركز في حملته الانتخابية على الهوية وتجنيد كاريزما هوية الزعيم في حال كان ينتظر منه تقديم مشاريع تتضمن حلول ناجعة.

امتعاض شعبي من المسار السياسي للحكومة

رغم أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نجح في تحويل النظام إلى رئاسي إلا أن ذلك التحول لم يحظ بغالبية مناصريه سواء من داخل الحزب أو من شرائح متعددة من الشعب، فالنظام الرئاسي الذي وسع من صلاحيات رئيس الجمهورية سمحت له بالتدخل في كل صغيرة وكبيرة في البلاد وهو مشهد لم يكن يدخل في مزاجية المواطن التركي ولم يكن متكيف معه، فقد باتت تنظر أطياف واسعة من شرائح ليبرالية غير متشددة وطيف من إسلاميين محافظين للحزب الحاكم على أنه لم يعد يمثل كافة أطياف المجتمع، وأن نفوذه قد تخطى المجال المسموح، وأن استبعاد الحزب لشخصيات كانت مؤثرة ولها شعبية كأحمد داواد أوغلو وغيرهم من رؤساء البلديات أثار حفيظة حواضن تلك الشخصيات، والتي تمتلك تاريخاً طويلاً كرئيس بلدية أنقرة السابق مليح كوكتش الذي استمر في منصبه قرابة 25 عاماً، وبناء عليه ربما دفعت هذه الأسباب إلى امتناع هذه الشرائح التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية في المدن الكبرى.

الناخب الكردي

لعب صوت الناخب الكردي دوراً بارزاً في غرب البلاد بالتأثير على نتائج الانتخابات، وكما تم ذكره آنفاً فإن حزب الشعوب الديمقراطي عمل جاهداً في مناطق نفوذه جنوب شرق البلاد من خلال الحملات الانتخابية على حشد وتجييش الصوت الكردي ضد حزب العدالة والتنمية، وجميع المؤشرات تُفضي إلى أن حاضنة حزب الشعوب الديمقراطية في المدن الكبرى من الشرائح الكردية قد أدلت بأصواتها لصالح حزب الشعب الجمهوري المعارض؛ ويعود السبب إلى ملف الصراع المتصاعد في السياسة الخارجية التركية الماثلة في طبيعة تعاطي الحزب الحاكم مع ملف حزب العمال الكردستاني والصراع في شمال سوريا، وبات من المعروف بأن الأولويات التركية تُعنى بإقصاء أي دور كردي في شمال سوريا يحاول التفكير في إنشاء دولة كردية في مناطقها الحدودية الجنوبية، ويُعد هذا الملف من أحد الركائز الأولى لسياسات تركيا في الأمن القومي، ويدخل في تشعب معقد مع حلفاء تركيا في الغرب كأمريكا التي تدعم وحدات حماية الشعب الكردية والتي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية، ومجمل ذلك انعكس على الأجواء الانتخابية المحلية وأبعدت الصوت الكردي المتواجد في المناطق الكبرى عن التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية.

خلاصة

بناء على توصيف المشهد الانتخابي المحلي والسياق العام الذي جاء به، وتفنيداً لأهداف واستراتيجيات الأحزاب المتنافسة والنتائج الأولية للانتخابات ودلالاتها السياسية فيمكن الخلوص إلى ما يأتي:

_ أفصحت الانتخابات عن أجواء ديمقراطية للمرة الثانية إلى حد كبير مقارنة مع شبه انعدامها مع بعض الدول، وتمثلت في جرأة الحزب الحاكم الاعتراف بنتائجها والقول بأنها لم تكن على المستوى المطلوب وهذه شهادة تحسب له في تقبله للنقد والبناء عليه.

_ رغم أن الانتخابات محلية إدارية ولن تصل إلى مستوى تغيير في صلاحيات رئاسية في ملفات السياسة للدولة إلا أن النظر في نتائجها خاصة في المدن الكبرى يُعتبر مهم، وتتطلب الوقوف عندها كونها تفسح المجال لمعرفة عوامل التأثير في توجهات الناخبين، وقد برز ذلك بوضوح عبر إحجام أطياف واسعة في المدن الكبرى التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية، مقابل ذهاب تلك الأصوات لأحزاب المعارضة وهو ما يعطي مؤشر للاتجاه العام الذي قد تمر به الانتخابات القادمة في 2023.

_ نتائج الانتخابات أوصلت رسالة الناخب -بحسب اعتراف حزب العدالة والتنمية- بضرورة إحداث مراجعة عامة لسياساته الداخلية والخارجية لاسيما ملف الاقتصاد، فالفترة الحالية ممتدة لأربع سنوات وقد تكون فترة كافية أمام الحزب إذا ما أراد ترميم جدار الثقة وعودته لموقعه القديم، فالإصلاح الاقتصادي وتعديل الخطاب السياسي سيرسمان توجهاً جديداً خلال الفترة المقبلة.

_ قد يكون ملف إسطنبول أحد أهم المداخل التي يستطيع حزب العدالة والتنمية تشكيل أرضية جديدة فيها والبناء عليها في حال تم حسم رئاستها لصالح المعارضة، فالمؤشرات الحالية تشير إلى تقلص الفارق مع حزب الشعوب الجمهوري، ولا زالت العديد من الصناديق في انتظار إعادة فرز للأصوات، ومن المرجح في حال استمر النهج على ما هو عليه أن يصعد من جديد نجم العدالة والتنمية بحلة جديدة مع بن علي يلدريم، فالرمزية التي يتمتع بها الحزب تعود إلى ولادته من رحم هذه المدينة ولم تخرج عن رئاسته منذ 2001، ومنها يستطيع الحزب الولوج لبقية المدن الكبرى كما نجح في ذلك سابقاً في مرحلة الصعود، لكن الأمر هذه المرة يتطلب استيعاب صوت الناخب وتقديم شيء ملموس له في البعدين السياسي والاقتصادي وقبول التعددية الديمقراطية.

_ لا بد من التأكيد على أن هذه الانتخابات ومهما كانت نتائجها النهائية فهي لن تغير من السياسة الداخلية والخارجية للدولة؛ بعد حصر السلطات الرئيسية بشخص الرئيس في ظل النظام الرئاسي، لكنها ستحدد توجه 81 ولاية للمواطنين الأتراك في انتخابات 2023 والذين سيحسمون مصير تاريخ كامل لحزب العدالة والتنمية إما في الاستمرار أو العزلة.

_ لن تؤثر الانتخابات على ملف اللاجئين السوريين بالنظر والركون إلى صلاحيات رئاسة البلديات المحصورة في القطاع الخدمي والإداري للمدن والبلديات، ولكن بذات الوقت أفصحت الانتخابات عن رسالة للحزب الحاكم تنبه بضرورة الاستعجال في تقديم حلول للملف السوري وتقليل من آثاره خارجياً على الداخل التركي.

_  بالنظر إلى كل العناصر التي أثرت على مسار الانتخابات فإن نتائجها  قد تدفع بالحزب الحاكم إلى إعادة تقييم ومراجعة لسلوكه وسياساته وتقديمه حلول ناجعة للمشاكل الداخلية إذا ما أراد البقاء في صدارة المشهد السياسي العام.

 

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات 

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات © 2019

 

 

[1] https://bit.ly/2YQKBWi

الشرق، أخطاء  لآلاف الأصوات من مرشحي حزب العدالة، ن- بتاريخ 1-4-2019، شوهد بـ نيسان/ إبريل 2019

[2] https://bit.ly/2WBQeWA

يني شفق بالعربي، كلمة الرئيس أردوغان من العاصمة أنقرة عقبد الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات المحلية، شوهد بـ 5- نيسان/ إبريل 2019

[3] https://bit.ly/2CKuSio

وكالة الأناضول، الرئيس التركي حزب العدالة فاز بـ56 ولاية من البلديات، ن- بتاريخ- 1- نيسان/ إبريل 2019، شوهد بـ 5- ابريل/ نيسان 2019

[4] https://bit.ly/2YM927k

تركيا بالعربي، المحافظات التركية وفق نتائج الانتخابات البلدية، ن- بتاريخ- 1- ابريل/ نيسان 2019، شوهد بـ 5 إبريل/ نيسان 2019

[5] https://bit.ly/2Hh77SW

الجزيرة، ميرال أكشنار تنافس أردوغان، شوهد بـ 5- ابريل/ نيسان 2019

[6] https://bit.ly/2CZ0zVh

أورينت نت، ألية التحالفات بين الأحزاب، ن- بتاريخ 28- 3- 2019، شوهد، بـ5- إبريل/ نيسان 2019

[7] https://bit.ly/2HYILNW

ترك برس نقلا عن الغارديان، الديمقراطية التركية أثبتت مرونتها وحيويتها، ن- بتاريخ 5- إبريل/ نيسان 2019، شوهد بـ 5- إبريل 2019

[8] https://bit.ly/2WyCAU4

الجزيرة، بالأرقام تعرف على أبرز نتائج الانتخابات المحلية التركية، ن- بتاريخ 1- ابريل/ نيسان 2019، شوهد بـ 5- نيسان/ابريل 2019

[9] https://bit.ly/2I0Qlrr

الجزيرة، المحليات التركية فوز العدالة والتنمية، ن- بتاريخ 2- ابريل 2019، شوهد بـ 5- ابريل/ نيسان 2019

[10] https://bit.ly/2I3dKbN

محمد عبد الحميد أوغلو، مدونات الجزيرة، نظرة على الاقتصاد التركي لعام 2018، ن0 بتاريخ 17- 4- 2018، شوهد بـ 5- ابريل/ نيسان 2019

[11] https://bit.ly/2WRzTx3

ترك برس، كيف أثر ت التقلبات الاقتصادية على الانتخابات المحلية في تركيا، ب- بتاريخ 5- ابريل/ نيسان 2019، شوهد بـ 5- ابريل/ نيسان 2019

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى