تعاني المدرسة في الجزائر أزمات متعددة، كما هو الحال في بقية دول المنطقة العربية حيث تحول التعليم إلى عامل من عوامل عرقلة المجتمع نحو التقدم والازدهار، وهو ما تجلى بوضوح عبر العجز الواضح في تلبية المؤسسة التعليمية للحاجات المعرفية التي يطلبها المجتمع، مما جعل المنظومة التعليمية في الوطن العربي تدخل دهاليز أزمة عميقة، تساهم في توسيع دوائر التخلف، وقد صاحب تلك الأزمة التعثر الكبير والمتكرر لمحاولات النخب الحاكمة في تقديم الإصلاحات المناسبة والمفيدة وغياب الاستراتيجيات الناجعة للتخفيف من هذه الأزمة، وهي الأزمة التي فتحت الأبواب على تدخل المجتمع لتناول تفاصيلها ومناوشتها، والتعبير عن موقفه من وضعيتها المقلقة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومختلف الفضاءات التي وفرتها تكنولوجيات الاتصال الحديثة.
ومن المعنى السابق للأزمة نجد أن المعنى المقصود (للأزمة) يتمثل في تلك الوضعية التي آلت إليها القرارات التي اتخذتها وزارة التربية الجزائرية، في إطار الإصلاحات المعتمدة، في بداية الموسم الدراسي 2016 – 2017، وردود الفعل تجاه تلك القرارات، التي جعلت من البنية الاستراتيجية لقطاع التعليم في الجزائر، يعرف حالة التوتر والارتباك بلغت أقصى درجاته، في وضعية الصدام بين قرارات الوزارة، وبين الشعور الجمعي للرأي العام، مما دفع بوزارة التربية الوقوع في حالة التوتر الشديد، نتيجة الضغوط التي مارستها الفئات الاجتماعية المتنوعة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي والمؤسسات الاتصالية، في ممارسة منظمة وغير مهيكلة مما جعل خطابها أقرب إلى هجوم منظم على غير موعد في ظاهرة أقرب إلى معركة، في سياق هجوم (كتائب)، ولكنها إلكترونية، وليست عسكرية.
تعرض قطاع التعليم في الجزائر، لأكبر أزمة منذ الاستقلال وبالذات في بداية الدخول المدرسي 2016 – 2017 ، نطلق عليها هنا بأزمة (الكتاب المدرسي) الذي جاء النتيجة الأولى للجيل الثاني للإصلاحات التي باشرت بها وزارة التربية، وقد تمثلت الأزمة في إدراج خريطة تتضمن الكيان الإسرائيلي بدلا من دولة فلسطين، في كتاب الجغرافيا للسنة الأولى متوسط، الأمر الذي اعتبرته الحكومة مجرد (خطأ) وأمرت بسحب الكتاب.
إلا أن قرار الحكومة بسحب الكتاب، واعترافها بوقوع (الخطأ) كان بمثابة القمة التي بلغتها الأزمة، من خلال الانخراط الواسع لمختلف شرائح وفئات المجتمع، في تعاطي تفاعلي غير مسبوق مع الموضوع، وهي اللحظة التي نتناولها بالدراسة من زاوية الإعلامية، والعمل على تحليل خصوصية وطبيعة إدارة هذه الأزمة، بالنسبة لطرفيها من جهة الحكومة الممثلة في وزارة التربية، والرأي العام من الجهة المقابلة.
إن بلوغ أزمة (الكتاب المدرسي) مستوى الذروة في التوتر، سبقتها مجموعة من الخطوات والعوامل، التي مهدت للوصول إلى هذه اللحظة، والتي نوردها بصفة مختصرة:
1 – الإعلان عن الانطلاق في إصلاحات الجيل الثاني، صاحبه تسريب أخبار إلى وسائل الإعلام حول قيام خبراء فرنسيين بالإعداد والإشراف على وضع المناهج الجديدة المعتمدة في التعليم في الجزائر.
2 – سارعت وزارة التربية إلى النفي بصفة رسمية أخبار تواجد خبراء فرنسيين للإعداد والإشراف على المناهج الجديدة المعتمدة من الجيل الثاني.
3- إعلان وزيرة التربية الفرنسية، عن مشاركة خبراء فرنسيين، في الإعداد والإشراف على المناهج الجديدة المعتمدة في الجزائر، الأمر الذي حول الموضوع في مواقع التواصل الاجتماعي إلى فضيحة.
4- ظهور أزمة توظيف الأساتذة المتعاقدين التي تحولت إلى قضية رأي عام، بسبب العدد الكبير لهؤلاء الأساتذة، والتعاطي القوي والواسع لوسائل الإعلام مع هذا الموضوع.
5- تسريب امتحانات شهادة الباكالوريا الأمر الذي أحدث هزة قوية في المجتمع، ودفع الحكومة إلى إعادة إجراء الامتحانات.
6 – إصدار وزيرة التربية قرارا يقضي بمعاقبة معلمة نشرت رفقة تلاميذها فيديو انتشر على نطاق واسع عبر صفحات التواصل الاجتماعي تضمن أغنية تتمحور حول مادة التربية الخلقية، قبل بداية كل حصة دراسية.
7 – اكتشاف عدد كبير من الأخطاء في الكتب المدرسية، للجيل الثاني، وانتشار تلك الأخطاء على نطاق واسع، ليأتي بعد ذلك خضوع الوزارة واعترافها بوقوع تلك الأخطاء، الأمر جعل الوزارة في موضع السخرية.
8 – حالة التناقض التي ظهرت بها وزارة التربية، في تعاطيها مع وسائل الإعلام، الأمر الذي زاد من تسريع الارتقاء بالموضوع إلى مستوى الأزمة التي نطلق عليها أزمة (الكتاب المدرسي).
9- بالرغم من إعلان وزارة التربية عن تشكيل لجنة تحقيق بعد ظهور كل مشكلة، إلا أن نتائج هذه اللجان لم تظهر فهم من ذلك عدم جدية الوزارة في قراراتها، وأن إعلانها عن تشكيل لجان التحقيق، مجرد إلهاء للرأي العام وامتصاص غضبه.
إن الخطوات المتخذة سابقا، تؤكد أن المشرفين على ملفات الشأن العام، في قطاع التعليم، وجدوا أنفسهم أمام حالة من ردود الفعل العنيفة، تواجههم كلما اتخذوا قرارا ولو كان مجرد قرار روتيني، يندرج في التسيير اليومي للقطاع، وهي الخطوات التي لم تجلب الرضا أو الاستحسان، من طرف الجمهور ونظرا لعدم توفر تلك الأجهزة الكفيلة بامتصاص الصدمات، وتقويم القرارات ومراجعتها وقراءة تداعياتها، مما جعلهم يمتلكون تلك النظرة الصدامية، من خلال الاستمرار في العمل وعدم الاهتمام بما يكون، من ردود الفعل، واتهامها بمعاداة المصلحة العليا للبلاد، وأنها ذات توجهات أيديولوجية أو حزبية مصلحية.
إن المناخ الذي اتسم به المشهد العام لحراك البلاد، منذ منتصف سنة 2014، ساهم كثيرا في رفع مستوى الاشتباك العام، وعرف مستويات متقدمة من الانخراط في القضايا الكبرى للشأن العام، وبالذات عندما فتحت ملفات الفساد في إدارة البلاد على التناول العام، وقدمت أوراقها كسلعة تداولية عبر وسائل الإعلام، التي تسابقت في حملة تنافسية عالية المستوى، سواء في الحصول على معلومات ملفات الفساد، أو درجات تسويقها، مما فتح المجال أمام الرأي العام للتعاطي معها، من مواقع مختلفة، وهي الحالة التي انتشر فيها انطباع كلي، بأن كل واحد من مكونات الرأي العام، وجد نفسه معنيا بهذه الملفات، ومجبرا على الانخراط في تفاصيلها، وهي الحالة التي عرفت تصاعدا مطردا، بداية بتفشي أجواء الشك والاضطراب على المستوى الذهني، وتباين اليقين من تداعيات ملفات الفساد، ومدى شموليتها لخريطة الشأن العام، مما رفع من مستوى الانطباع من الترقب لكل التطورات التي تحدث في مسار هذه الملفات، دون أن يتم توفير المادة الإعلامية التي تحسم مصيرها، وتحدد مدى مصداقيتها.
وعندما فقد عامل التأكيد والحسم، جاءت المرحلة الجديدة، المتمثلة في مرحلة التفاعل والانخراط الجماعي، في التعاطي مع المعطيات المتوفرة، وأخذ الموضوع على أنه حقيقة واقعية قائمة بذاتها، يجب الاقتناع بضرورة التعايش معها، وهو ما جعل الأفراد يشرعون في مرحلة تقديم المساهمات الفردية، انطلاقا من الزوايا التي ينظرون بها للموضوع، والمحددات الثقافية التي تم وضع ملفات الفساد في إطارها.
لقد عملت الكثير من المعطيات على المساهمة في توفير أجواء التشنج والاضطراب، التي مهدت لميلاد الأزمة، التي كانت محطة خريطة إسرائيل ذروتها القصوى، كون المشهد العام كان محملا بالكثير من العوامل، التي تفتح المجال على المزيد من الأزمات، التي يكون الرأي العام، قد وجد فرصته في الانتقال نحو مستويات جديدة من الممارسة التواصلية الفاعلة.
لتنزيل المقال انقر هنا
جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016
“الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات “