الاصداراتمقال رأي

متى تخلى الإنسان عن حريته

85
 

ولد الإنسان حراً، وتمتع بهذه الحرية منذ بدايات خلق البشرية الأولى، وعاش الحرية في سفوح الجبال الشاهقة وداخل الكهوف الصخرية، وتمتع بالحرية حينما عاش بداياته الأولى متنقلاً بحرية بين شِعَب الجبال والقمم الشاهقة، وحينما اعتمد على الصيد والتقاط الثمار لتوفير متطلبات استمراره، وحينها وصفت حياته بالبسيطة والبدائية الغير مرتبطة بوشائج اجتماعية ومنتجات اقتصادية وأنماط حكم ومفردات سياسية.

وأيقن الإنسان منذ البدايات الأولى أهمية حاجته إلى مقومات الاستمرار على قيد الحياة، ودفعته للبحث عن الاجتماع البشري سعياً وراء الأمن والاستئناس، ودفعته غريزته الطبيعية نحو النزول من أعالي الجبال نحو السهول، وانعكس هذا السلوك المستجد على نمط معيشته وحياته العامة، حينما ترك سفوح الجبال وهبط إلى قيعان الأودية والسهول تغيرت احتياجاته، وغير من أنماط سكناه ومعيشته، وترك التقاط الثمار وبدأ بزراعتها وانتظار موسم الحصاد، مما أسهم في التوجه نحو الاستقرار وبناء البيوت الصغيرة من الطين أو الطين والحجارة، وتربية الحيوانات وتدجينها.

وبدأت الفكرة تروق للإنسان البدائي، وبدأت رحلته تسير نحو تلبية غرائزه وتطوير أدواته، وبدأت عجلة الحياة تدور، وبدأ التاريخ البشري بالتبلور حينما تضاعف بناء البيوت الطينية البدائية حول بعضها البعض لتشكل أوائل التجمعات البشرية منذ القِدَم، وهنا بدأ الإنسان يتخلى عن بعض حريته شيئاً فشيئاً على حين غفلة مستكيناً لمتطلبات حياته العامة ومعيقات البيئة.

واستمر مسلسل التنازلات حينما خرج من بين أفراد تلك المجتمعات البدائية زعيم صغير ليمثلهم ويتدبر أمورهم، ويفصل بينهم في الخصومات، ويضع الحدود، وتَصَدَرَ المشهد تحت شعار الحاجة إلى زعيم أو قائد، واستمر في لعب هذا الدور بدون وجود مبادئ ولوائح يحتكم لها، وتعاظمت سلطته وتفاقمت أدواره، وتحول إلى نمرود أو متغطرس، يبطش بمن يشاء، ويختلس أموال من يشاء، ويستبد بمن يشاء، وصنع لنفسه تلك الهالة بتدرج مستغل انشغال العوام وحاجتهم لشخص يدير شؤونهم العامة، واعتقد في ساعة غفلة أو لحظة انبهار بأنه نصف إله أو سليل الآلهة أو إله، وأبسطهم قال: “أنا ممثل الإله وظله على الأرض”، معتقداً بأنه يتمتع بمميزات خارقة لا توجد لدى باقي البشر.

واستغل هذا المخلوق الضعيف دوره الاجتماعي الاعتيادي الذي كُلف به أو أنيط به داخل مجتمعه البدائي البسيط ليدشن لنفسه منظومة من الطغيان، وتوسع ليؤسس لنفسه أعوان، ومن أعوانه من تمنطق برداء رجال المعبد وكهنته، وتصدروا مشهد تدعيم هذا الطاغية، وتجاهل رجال الدين بأن الدور المنوط بهم هو تدعيم سعادة البسطاء “عوام الناس”، وإرشادهم إلى خالق الكون، لا تخديرهم بفتاوى سلطانية، وعلى حين غفلة دشن الطاغية أجهزة أمنية وتنفيذية، تحت شعار بسط الأمن والاستقرار، واستغلها لتعزيز وتدعيم وجوده على كرسي التسلط لا لأن تتوسع وتبتكر الخدمات ووسائل الرفاهية لجموع الشعب وبسطاء الأحياء القديمة في مملكته الظلامية، بل استُغِلَت تلك المؤسسات والأجهزة لفرض المزيد من الضرائب والقهر والقمع،  لترهب بها البسطاء وتفرض عليهم ما يثقل كاهلهم، ونسج من حوله طوائف ومنظومات تعتاش كالبق على ظهور البهايم، نعم استحمر شعبه فأطاعوه.

وحينما استفحل مشهد الطغيان، وانتشرت غالبية سلوكيات ومظاهر الظلم، غضب خالق هذا الكون ومسيره “تبارك في عُلاه”، وكانت غضبة تجاه تلك الصنوف من الطغاة، وكانت غضبة لتمنح البسطاء ممن تعايشوا مع الظلم بريقاً من الأمل، لتمنحهم بذور الحرية، ولتحرك فطرتهم نحو الحرية التي تمتعوا بها منذ البدايات الأولى لخلق البشرية، ولم يحسنوا الحفاظ عليها، وضاعت من أيديهم على حين غرة.

وحينما هبط الإنسان البدائي من سفوح الجبال ليستأنس بغيره من البشر في السهول والواحات الخصبة كان مبتغاه الأمن والغذاء والاستقرار والإعمار، وبعد مرور الوقت بدأ يفتقد لكل ما طمع به، وبدأت حياته تميل إلى الشقاء والتعاسة، وداخل البيئات الجديدة قدر الله لهذه المجتمعات نمو بذور جديدة داخل أصلاب الرجال، وتنحو نحو الإصلاح، وتكشفت تلك المجتمعات عن تناقضات داخلها، وتعدد لم يخطُر ببال الإنسان البدائي في سنواته الأولى التي عاشها داخل هذه المتجمعات الوليدة، وحينما نبت توجه جديد قاده بعض أصحاب النخوة والمروءة والصلاح، وتصدر هذا المشهد من عرف عنهم النقاء والزهد أو المرجلة والكاريزما، وبدأت تزدهر الدعوات الرافضة للظلم والمطالبة بالحرية والعدالة والكرامة والتنمية، وكلما ارتفع صوت هذه الفئة زاد القمع والتنكيل تجاه الشعب، والتهم جاهزة، والتخوين جاهز، واتهم الطاغية وأعوانه تلك الفئات بالإرهاب، وقالوا بأنها تحمل أجندات خارجية وهدفها تخريب المجتمعات البشرية، وقال عنها الكهان وسدنة المعبد بأنها مجموعات من الزنادقه، وهذا ما قالوه واتهموا به زكريا ويحيى عليهما السلام وغيرهم…، وهذا هو مبرر مجمل الطغاة على مر العصور.

وحينما استفحل الظلم والقتل والتشريد والحرمان بعث الله بالرسل والأنبياء والمصلحين، وبدأت عجلة التاريخ تدور مجدداً، وتتوقف في بعض الأحيان وتعاود الكرة مجدداً، وكلما زادت المطالب الشعبية زاد غضب الطاغية وأعوانه، وزاد القمع والبطش، وفي خضم هذا المشهد تطورت الأدوات والوسائل البشرية، وأوجدت الحضارة البشرية اتجاهات جديدة تُحَرِكُها الحروب والصراعات على السلطة والموارد، وهنا بدأ يُكتب التاريخ، وبدأت تدون حركة الإنسان، وبدأ الإنسان في خضم هذه المتغيرات والصراعات يتحسس حريته المسلوبة، ويستشعر الحنين للفطرة، وهنا ظهرت الحركات الإنسانية التي تمجد قيمة الإنسان وتهتم بالعقل وتولي أهمية نحو التفكير وإعمال الفِكر ونحو تلبية احتياجات الإنسان، وبدأ يتحسس الإنسان حاجتهُ إلى عِقد اجتماعي يربطه بالحاكم وتسير وفقه الرعية ومؤسسات المجتمعات البشرية، ويبين الحقوق والواجبات، ويحدد الآليات والوسائل التي تمنع وتُحد من ظهور الطغاة.

للتحميل من هنا

الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى