الاصداراتمشاهد

معركة طرابلس بين مخاطر التصعيد وفرص الوصول إلى حل

بعد فشل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الفرقاء الليبيين في العاصمة الروسية موسكو، وانسحاب اللواء المتقاعد خليفة حفتر من الاجتماع([1])، تعود خيارات تصعيد معركة السيطرة على طرابلس إلى الواجهة في ظل وجود ملفات عالقة لا يمكن لحكومة السراج ومعسكر اللواء حفتر تجاوزها على الرغم من الوساطة الروسية التركية، خصوصًا بعد تدخل الأخيرة بإعلان نيتها إرسال قوات عسكرية لدعم حكومة السراج([2]) الأمر الذي دفع باتجاه تصعيد معسكر حفتر لعملية السيطرة على طرابلس، وعليه فإن مسار الاحتواء الروسي التركي قد يؤتي نتائج عكسية في حال لم تتم مواكبته من قبل اللاعبين الفاعلين الآخرين في الملف الليبي خاصة الأوروبيين والولايات المتحدة.

تشير حدة التجاذبات الدولية إلى عدم وجود أرضية خصبة بعد لبناء حل سياسي مستدام يتم عبره حل القضايا الرئيسية الخلافية ومنها مصير السلاح في أيدي الجماعات المسلحة في ليبيا، والاعتراف بحكومة السراج كممثل شرعي للبلاد، بالإضافة إلى دمج البرلمانين المنعقدين في طرابلس وطبرق ضمن برلمان موحد. وقد حاولت وثيقة اتفاق وقف إطلاق النار التي تم عرضها على الفرقاء في موسكو وضع الخطوط العريضة لتعزيز عامل الثقة لكن لم يكن ذلك كافيًا لإقناع حفتر بالتوقيع.

بالمقابل تتجه الأنظار نحو مسارات التفاوض التي يسعى الاتحاد الأوروبي بناءها في مؤتمر برلين الذي سينعقد في وقت قريب، حيث تتطلع العديد من الأوساط الأوروبية إلى إمكانية تحقيق اختراق في ضبط انتشار السلاح وتطبيق قرار مجلس الأمن([3]) ما سينعكس بالتالي على تحقيق وقف إطلاق نار دائم ما يوقف عملية زحف حفتر إلى طرابلس.

خارطة السيطرة العسكرية ومسار التصعيد

التغير الأهم الذي شهدته خارطة السيطرة العسكرية هو تمكن قوات خليفة حفتر من الاستيلاء على مدينة سرت الاستراتيجية المطلة على البحر المتوسط، ليؤمن بذلك حفتر طرفي الخليج البحري الغني بالنفط بين مدينة بنغازي من جهة الشرق ومدينة سرت من جهة الغرب،([4]) بعد ذلك توجهت قوات حفتر لتأمين المدينة باتجاه الغرب وفتحت جبهات قتال في مناطق الوشكة وأبوقرين.

كما أصبح جنوب العاصمة طرابلس منطقة عمليات ساخنة بدءًا من السواني في الجنوب الغربي وصولًا إلى مناطق القربولي المتاخمة لمدينة ترهونة، جنوب شرقي طرابلس، والتي تعتبر قاعدة انطلاق مليشيات حفتر الأمامية نحو العاصمة. بينما يُعتبر محور وادي الربيع والقويعة، جنوب شرق طرابلس، من المحاور التي تشهد هدوءًا منذ أسابيع، بعد أن كانت مليشيات حفتر تستهدف التقدم من خلاله نحو تاجوراء، المنفذ الشرقي لطرابلس، وقطع الطريق الرابط بين العاصمة ومدينة مصراته. أما في غرب العاصمة فتسيطر مليشيات حفتر على مناطق صبراته وصرمان والعجيلات والتي لا تبعد عن طرابلس أكثر من 100 كيلومتر، لكن تهديدها يتمثّل في استهدافها لمدينة الزاوية التي تمثل حاميًا لمنطقة جنزور، منفذ العاصمة الغربي. ولهذه المناطق امتدادات عبر طرق زراعية وترابية كثيفة في مدينة الزاوية([5]).

من جهة أخرى، مثل هذا التصعيد العسكري الأخير رد فعل قوات حفتر وداعميه على دخول تركيا عسكريًا إلى طرابلس لدعم حكومة السراج، وأراد حفتر توجيه ضربة استباقية لدخول الأتراك إلى ليبيا لتوسيع نطاق سيطرته على الأرض بما يكسبه أوراق ضغط في أي مفاوضات ستحدث، وليمكنه أيضًا من تصعيد التهديد ضد العاصمة طرابلس خصوصًا من شرقها -أي مدينة سرت الاستراتيجية-.

خارطة رقم (1) مناطق النفوذ العسكري

المصدر: LIveumap

وقف إطلاق النار بين محادثات موسكو ومؤتمر برلين

حاولت كل من دولتي روسيا وتركيا إقناع الأطراف بضرورة وقف العمليات العسكرية، وإعلان وقف إطلاق نار تمهيدًا لبناء محادثات سلام بينهم، وعليه فقد أعلنت الأطراف التزامها بإيقاف العمليات العسكرية والتوجه نحو موسكو للتوقيع على اتفاق مستدام يوقف زحف حفتر نحو طرابلس([6])، لكن حفتر في اللحظات الأخيرة انسحب وعاد إلى ليبيا بعد إبدائه مرونة عالية في التوقيع على اتفاق كان ينص على مراقبة روسيا لوقف إطلاق النار عبر وفد من المراقبين تقوم بإرساله إلى ليبيا بالمشاركة مع مراقبين ترسلهم الأمم المتحدة، بالإضافة إلى تجميد إرسال قوات تركية إلى ليبيا، كما سيكون على حكومة السراج والجيش الوطني الليبي سحب القوات، وإعادتها إلى ثكناتها دون شروط، واللجوء إلى الحل السياسي فقط بما يضمن تسليم بعض الميليشيات لأسلحتها، وتقسيم المهام والصلاحيات بين حكومة السراج من جهة، والبرلمان الليبي وحفتر من جهة أخرى([7]).

بيد أن الاتفاق لم يتم التوقيع عليه لذلك فإنه لا يعتبر ملزمًا، لكنه بذات الوقت حقق اختراقًا في تقريب وجهات النظر عبر أُطر عريضة لم يبد عليها الطرفان تحفظات كثيرة، ما يمهد الطريق أمام إمكانية نجاح مؤتمر برلين الذي يهدف بشكل أساسي إلى تطبيق قرار مجلس الأمن القاضي بعدم توريد السلاح إلى ليبيا([8])، بالإضافة للوصول إلى هدنة شاملة تدفع عجلة الحل السياسي إلى الأمام. وما يعزز فرص نجاح المؤتمر الحضور الدولي الموسع له، حيث من المقرر أن تشارك كل من (الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وفرنسا وبريطانيا والصين وألمانيا وتركيا وإيطاليا والكونغو وتونس والجزائر وقطر)([9]).

أدوار الفاعلين في الملف الليبي

الولايات المتحدة الأمريكية

يسعى البيت الأبيض بقيادة الرئيس دونالد ترمب إلى تحقيق توازنات بين مصالح الدول المؤثرة في الملف الليبي وخصوصًا بين الأوروبيين والروس، لذلك قامت الولايات المتحدة مؤخرًا بعدم إظهار الدعم المباشر لأي من المعسكرين الرئيسيين في ليبيا -السراج وحفتر- خصوصًا بعد زيادة الفاعلية الروسية في ليبيا، وعليه فإن موقف واشنطن لتحقيق مصالحها سيتراوح بين اللعب على المتناقضات في العلاقات الروسية الأوروبية، بحيث تقوم أمريكا بدعم التوجهات الروسية في ليبيا مقابل تقديم الأوروبيين لضمانات وتنازلات وخصوصًا بريطانيا وفرنسا لمواكبة الاستراتيجية الأمريكية وهو بالتالي سينعكس على تحقيق إرادة البيت الأبيض ورؤيته حول حل القضية الليبية.

الاتحاد الأوروبي

يدرك الأوربيون أن عملية الوصول إلى صيغ تفاهم لتقاسم النفوذ مع بقية الفاعلين في ليبيا هو من أهم المكاسب بالنسبة لهم، لذلك فإن الدبلوماسية الأوروبية لا تسعى إلى تصعيد حدة التنافس الدولي في ليبيا خصوصًا بعد زيادة الفاعلية الروسية والتركية، وما يوضح ذلك رغبة ألمانيا في جمع كافة الدول المؤثرة في الملف الليبي في مؤتمر برلين، لذلك فإن التوجهات الأوروبية ستحاول مواكبة الاستراتيجية الأمريكية بما يتوافق مع أولويات مصالح الأولى الاستراتيجية التي تم وضعها منذ دعم سقوط القذافي عسكريًا([10]). لكن تجدر الإشارة إلى أن إيطاليا أيضًا أعلنت عن توجهها نحو زيادة فاعليتها العسكرية في ليبيا([11]) لحماية مصالحها إذا اضطرت للأمر، بيد أن ذلك يندرج ضمن سياق إبداء الأوروبيين لاستعدادهم الذهاب نحو التصعيد إذا لم تقدم بقية الأطراف تنازلات للوصول إلى تفاهمات مشتركة مستدامة في ليبيا.

روسيا

من أبرز المحددات الروسية لتدخلها في ليبيا، هو ألا تغرق في المستنقع الليبي كما حصل ذلك في سوريا، فلذلك لن تكون الاستراتيجية الروسية في إفريقيا بشكل عام([12]) وليبيا بشكل خاص مشابهة لسياسة موسكو في سوريا، حيث ستتوجه روسيا نحو إدارة فوضى المصالح بين الفاعلين عبر لعب دور الوساطة إلى جانب تركيا بين الأطراف الليبية وهو ما ظهر في محادثات موسكو التي انعقدت بين الفرقاء الليبيين مؤخرًا، بالإضافة إلى إعلان روسيا عن دعمها لجهود المبعوث الدولي غسان سلامة للوصول إلى حل شامل للأزمة الليبية([13]). وما يمكّن الروس من لعب هذا الدور هو شراكتها ودعمها لمعسكر حفتر من جهة، واستثمار علاقاتها مع تركيا للضغط على حكومة السراج لإبداء مرونة للقبول بالمقاربات السياسية مع حفتر من جهة ثانية.

تركيا

كان سلوك تركيا في دعم حكومة السراج بشكل أكثر فاعلية مؤشرًا على رغبتها بتأسيس وتأمين شبكة مصالح استراتيجية طويلة الأمد لها على سواحل المتوسط، وربطها بملفات جيو-اقتصادية مرتبطة بالتنقيب عن الغاز عن طريق الاتفاقيات التي أبرمتها مع حكومة السراج([14])، وعليه فإن من مصلحة أنقرة دفع الفرقاء وخصوصًا السراج لتحقيق حل شامل مستدام في ليبيا يضمن تنفيذ الاتفاقيات المبرمة عبر لعب دور الضامن لحكومة السراج بأي اتفاقيات دولية قادمة([15]).

بالمحصلة وبناء على توجهات الدول المؤثرة في مسار القضية الليبية ومصالحها، فإن أهم نقطة تقاطع بين سياساتهم وتوجهاتهم هو التوصل إلى حل مستدام للقضية الليبية والحيلولة دون سقوط طرابلس بيد قوات اللواء خليفة حفتر، لأن ذلك يعني شبه إنهاء لدور الطرف الآخر وهو حكومة السراج وذلك لا يتوافق مع سياسة داعميه وأبرزهم البريطانيين والإيطاليين.

 بالتالي فمن المتوقع أن يتم تثبيت وقف إطلاق النار بين المعسكرين عن طريق إرسال قوات دولية سواء بشكل منفرد أو عبر الأمم المتحدة للحيلولة دون سقوط طرابلس ولدفع عجلة الحل السياسي إلى الأمام، لكن السؤال المطروح كيف ستتم الموازنة على المدى البعيد بين شبكة المصالح الدولية المتنافسة في ليبيا خصوصًا فيما يتعلق منها بالجانب الاقتصادي والاستثمارات النفطية؟


([1]) “حفتر يغادر موسكو دون توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا.. ولافروف: طلب مهلة”. سي إن إن، 14-1-2020. https://cnn.it/2Rm09hZ

([2]) “البرلمان التركي يوافق على طلب أردوغان إرسال قوات إلى ليبيا”. بي بي سي، 2-1-2020. https://bbc.in/2touy7d

([3]) “مجلس الأمن يؤكد ضرورة التنفيذ الصارم لحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا”. موقع الأمم المتحدة، 10-6-2019. https://bit.ly/30oFCgO

([4]) “قوات حفتر تعلن سيطرتها الكاملة على مدينة سرت الليبية”. دي دبليو الألمانية، 6-1-2020. https://bit.ly/2u0fGw2

([5]) مصادر خاصة بالباحث.

     “خارطة السيطرة الميدانية في ليبيا… ومناطق مرشحة للاشتعال”. العربي الجديد، 11-1-2020. https://bit.ly/370jATY

([6]) “ليبيا: حكومة الوفاق تعلن وقف إطلاق النار بعد ساعات على إعلان مماثل من قوات حفتر”. فرانس 24، 12-1-2020. https://bit.ly/2su9VpX

([7]) “أهم بنود مسودة الاتفاق الذي يناقشه حفتر والسراج في موسكو”. سكاي نيوز عربية، 13-1-2020. https://bit.ly/2TvDEKa

     “حفتر يغادر موسكو دون توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا.. ولافروف: طلب مهلة”. سي إن إن، 14-1-2020. https://cnn.it/2Rm09hZ

([8]) “مجلس الأمن يؤكد ضرورة التنفيذ الصارم لحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا”. موقع الأمم المتحدة، 10-6-2019. https://bit.ly/30oFCgO

([9]) “مسودة مسربة لبنود مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية”. العربية نت، 15-1-2020. https://bit.ly/2uTTFzm

     “مؤتمر برلين.. قائمة المدعوين والمغيبين”. الأناضول، 16-1-2020. https://bit.ly/2FUhj0T

([10])  “Libya’s Post-Qaddafi Transition The Nation-Building Challenge”. Rand, 2012. https://bit.ly/2QY6i53

“دور أوروبا في أزمة ليبيا.. من لاعب خجول إلى متفرج متردد”. دي دبليو الألمانية، 27-12-2019.

https://bit.ly/2RlId71

([11]) “إيطاليا “مستعدة” لإرسال جنود إلى ليبيا لمراقبة وقف إطلاق النار”. الاناضول، 14-1-2020. https://bit.ly/389awfQ

     “دي مايو: من يرسل قوات لليبيا يكسب مكانة لديها”. وكالة أكي الإيطالية، 15-1-2020. https://bit.ly/2uUVL1V

([12]) “التوجُّه الروسي نحو شمال إفريقيا”. برق للسياسات، 25-7-2019. https://bit.ly/35ZHttN

([13]) “روسيا تدعم جهود المبعوث الدولي إلى ليبيا غسان سلامة”. سبوتنيك، 16-5-2019. https://bit.ly/35XWeNF

([14]) “ليبيا… ما تداعيات الاتفاق العسكري بين تركيا وحكومة السرّاج؟”. إندبيندينت عربية، 29-11-2019. https://bit.ly/30oQX0g

([15]) لمزيد من الاطلاع حول الدور التركي في ليبيا، انظر “أستانة” جديدة في ليبيا.. هل يكرر أردوغان وبوتين السيناريو السوري؟”. ميدان، 9-1-2020. https://bit.ly/2R16GzQ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى