الاصداراتالدراسات الاستراتيجية

ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي

أولا: أهمية الكتاب

بات مفهوم ” ما بعد الإسلاموية” يستحوذ على قدر أكبر من الاهتمام الأكاديمي لدراسة تحولات الحركة الإسلامية المعاصرة على المستوى الخطابي والمنهجي، وبات هذا الاتجاه الأكثر حضورا في السردية الأكاديمية في ظل تغييرات ما بعد الربيع العربي في محاولة لفهم سياسات الأحزاب الإسلامية التي صعدت على الساحة وتولت إدارة حكومات بعض الأنظمة كما حدث في المغرب وتونس ومصر.

يعتبر كتاب ” ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي” للأكاديمي الإيراني آصف آبيات، أحد أبرز الأطروحات المعاصرة التي سعت إلى تطوير مفهوم ما بعد الإسلاموية باعتباره نموذجًا للتحليل بهدف استكشاف أبرز معالم التحول للحركة الإسلامية، وهو يسعى إلى تقديم ما بعد الإسلاموية كمشروع اجتماعي وفكري بديلا عن الإسلاموية بعد فشلها في تحقيق تغيير حقيقي على المستوى الاجتماعي والسياسي في المجتمعات التي نشأت بها.

يسعى الكتاب أيضًا إلى قياس المفهوم على نطاق واسع من النماذج الإسلاموية المتباينة في العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى المغرب من خلال رصد تطور الإسلاموية وتفاعلها مع المجتمعات الإسلامية الحديثة.

تاريخية المفهوم

تعود الجذور الأولى لطرح مفهوم: ما بعد الإسلام السياسي، إلى تسعينات القرن الماضي متأثرة بالتحولات التي شهدتها الحركات الإسلامية وتوجهها نحو القبول بالعمل السياسي والديمقراطي في نهاية الثمانينات، والمتزامنة مع توجهات الثورة الإسلامية الإيرانية 1979 وكذلك تجربة جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر بداية التسعينات.

تأسست المقولات الأولى للمفهوم على أساس من فرضية نهاية وفشل الإسلام السياسي ومن ثم انحساره وتراجعه مما أوجب وجود بديل أيديولوجي له، ويعد الباحث الفرنسي أوليفيه روا أول من أشار إلى المفهوم في كتابه: فشل تجربة الإسلام السياسي، المؤسس على فرضية الإخفاق التاريخي للإسلام السياسي، حيث يؤكد على أن تنامي الفكر الإسلاموي، الذي هو فكر سياسي في الدرجة الأولى؛ ينتهي إلى التخفف من كل ما يتقوم به السياسي فلا يجد في السياسي إلا أداة للتبشير الأخلاقي، فيعود بذلك عبر طريق أخر.

 يؤكد روا على أن الإسلاموية إخفاق تاريخي حيث لم تؤسس لمجتمع جديد كما أن الاقتصاد الإسلامي ليس إلا خطابًا بليغًا، غير أن هذا الإخفاق لا يعني بالضرورة انحسار الإسلام السياسي. مشيرًا إلى أن الإسلام السياسي فشل بسبب التناقضات الداخلية في تأسيس الدولة الإسلامية، ومع بداية الثمانينات شهدت الحركة الإسلامية تحولا إلى ما بعد الأسلمة قوامه اللجوء إلى الإسلام القومي واعتماده لإعادة أسلمة المجتمع.

في سياق متصل وبرؤية مغايرة يرى أوليفيه كاريه  أن نموذج ما بعد الأسلمة قد ظهر في الفترة من القرن العاشر وحتى التاسع عشر حينما تم الفصل بين السياسي- العسكري وبين الديني،  مشيرا إلى أن ما يشهده العالم منذ التسعينات إنما هو عودة لمرحلة ما ما بعد الأسلمة  فهي الخيار الوحيد الموجود لدى الفكر الاجتماعي والسياسي الإسلامي للهروب من الفخ الذي وجد نفسه فيه خلال القرن العشرين. 

أكد أيضا الباحث الفرنسي جيل كيبيل في دراسته الجهاد: انتشار وانحسار الإسلاموية، على أن الإسلاميين كانوا يتطلعون إلى التخلص من المأزق السياسي الذي وجدوا أنفسهم فيه بعد فشل الأيديولوجية الإسلامية وتحالف الطبقة البورجوازية المتوسطة والشباب المحرومين، من ثم تولدت لديهم الحاجة لخطاب جديد قائم على الديمقراطية وحقوق الإنسان.

لاحقا سعى آصف بيات في إطار مناقشته للتوجهات الاجتماعية والرؤى السياسية والأفكار الدينية المستحدثة في إيران في مرحلة ما بعد الخميني لرفض مقولة فشل الإسلام السياسي، مؤكدا على أن التوجهات المستحدثة في الحركة الإسلامية تأتي كتطور مرحلي وزمني في إطار تطور السياقات الاجتماعية والسياسية.

ارتبط المفهوم عند بيات في البداية بالخصوصية الإيرانية التي نجحت ثورتها الإسلامية في 1979 من تأسيس حكومة إسلامية شرعت في أسلمة المجتمع والمعرفة، فقد سعى المفهوم إلى دراسة التوجهات المعارضة للقيم الإسلاموية التي فرضت وصايتها على النظام السياسي والاجتماعي والأخلاقي.

مع تطور السياقات المختلفة في منطقة الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب الباردة بالإضافة إلى التغيرات الاجتماعية الناجمة عن العولمة والحداثة في دول المنطقة خاصة في مجالي التعليم والتثقيف، دفع إلى إحداث تحولات مختلفة داخل الحركة الإسلامية المتأثرة بتلك المتغيرات، وهو ما دفع كثير من الباحثين والمراقبين إلى محاولة تطبيق نموذج آصف بيات على نماذج أخرى مغايرة للخصوصية الإيرانية، واعتبر هؤلاء أن المفهوم ينطلق من دراسة التحولات العامة في توجهات واستراتيجيات الإسلاميين في العالم.

الإسلاموية الكلاسيكية

يقدم بيات أطروحته على أساس من نقد المنهج الإسلامي الكلاسيكي في نظرته للدولة ومقوماتها، حيث ينظر ” بيات ” للإسلاموية على أنها الأفكار والحركات التي تسعى إلى إقامة الدولة الإسلامية وتحكيم الشريعة وفرض الوصايا الأخلاقية على المجتمعات المسلمة، وعليه ترتبط بأسلمة المجتمع ككل، في حين تأتي مساعي تحقيق الرفاهية وتأمين الخدمات الاجتماعية لاحقا لتأسيس الدولة الإسلامية.

يرى بيات إلى الإسلاموية الكلاسيكية تشكلت من اتجاهان وتياران مختلفان في الاستراتيجيات ولكنهما متفقتان على الهدف الأسمى في إقامة الدولة الإسلامية، الأولى؛ وهي الإسلاموية الانتخابية التي يقودها الإصلاحيون حيث إقامة الدولة عبر الأطر الدستورية والانتخابية وتبني قيم الديمقراطية وتشكيلات المجتمع المدني من خلال الروابط المهنية والنشاط الخيري.

أما الاستراتيجية الثانية تلك التي تتبناها الحركات الراديكالية العنيفة، حيث تتبنى نهج العنف ضد الدولة المعاصرة ومؤسساتها المختلفة وتكن العداء لمنظومة القيم الغربية وقيم الديمقراطية والعلمانية والقومية، ساعية إلى تغيير الأنظمة الحاكمة بالقوة، وهي بدورها تختلف عن الحركات الجهادية العالمية.

من هنا يتضح تمايز أطروحة بيات والمقولات الأخرى التي تناولت ظاهرة الإسلام السياسي والتي قرأت الإسلام السياسي كاتجاه واحد، ورأت تحوله وتطوره فشلًا لتجربة الحركة الإسلامية. 

ماهية “ما بعد الإسلاموية” كمشروع وحالة

واجه المفهوم منذ طرحه انتقادات عدة في البداية فلم يكن مرحب به في الأوساط الأكاديمية كما يؤكد بيات حيث اعتبر البعض أن المفهوم يعبر عن تصنيف تاريخي زمني ومرحلي للتحولات الإسلاموية، كما أنه يعبر عن صورة أخرى من أشكال الإسلاموية بعد فشلها.

يشتبك بيات في كتابه مع ما قدم من نقد حول المفهوم باعتباره تطور مرحلي للإسلاموية، ويشير إلى أن أطروحته تتأسس على أن ما بعد الإسلاموية ليست فقط حالة ولكنها أيضا مشروع ونموذج يتجاوز الإسلاموية في المجالات الاجتماعية والسياسية والفكرية وهي أيضا ليست علمانية أو معادية للإسلاموية، كما أنها تمثل قطيعة خطابية عن النموذج الإسلاموي.

هنا ينظر بيات إلى ما بعد الإسلاموية كأداة تحليل منهجي للتحولات الإسلامية فهي ” تمثل السعي نحو دمج التدين بالحقوق والإيمان بالحرية والإسلام بالتحرر، فهي محاولة لقلب المبادئ المؤسسة للإسلاموية رأسا على عقب من خلال التأكيد على الحقوق بدلا من الواجبات، والتعددية محل السلطوية، والتاريخ بدلا من النصوص الجامدة، والمستقبل بدلا من الماضي”، وهي تختلف بذلك عن الإسلاموية الانتخابية التي مثلها على سبيل المثال جبهة الإنقاذ الجزائرية او الإخوان المسلمين في مصر.

يجادل الكتاب الذي بين أيدينا بأن تحولات الإسلاموية جاءت في ضوء سياقات اجتماعية وسياسية مختلفة دفعت بدرجات متفاوتة إلى إحداث نقد وإصلاح ذاتي داخل الحركة الإسلامية، كما صاحبها في ضوء خصوصيات النماذج على ظهور بوادر انعطافه ما بعد إسلاموية من خارج الحركة الإسلامية، كما تشير بعض النماذج إلى أن ما بعد الإسلاموية ليست وليدة الوقت المعاصر ولكنها ظهرت فيما قبل ظهور الإسلاموية.

ثانيا: محتوى الكتاب

يقدم الكتاب عشر روايات مفصلة عن الكيفية التي تحولت بها السياسات الإسلاموية وكذلك التحولات الحركية للإسلاموية في عشر دول ذات أغلبية مسلمة هي (إيران، مصر، إندونيسيا، تركيا، السودان، لبنان، المغرب، السعودية، سوريا، باكستان) عبر ثلاثة عقود متتالية.

الجزء الأول: نقد من الداخل

ما بعد الإسلاموية كمشروع خرجت وفقا للكتاب من رحم النقد الذاتي داخل الحركة الإسلامية وذلك في سعيها إلى تقديم بديل سياسي واجتماعي للسياسات العلمانية، وكمحاولة لتجاوز عجز الإسلاموية التقليدية الثورية والراديكالية في تحقيق تغيير شامل، هنا يقدم الكتاب مجموعة من النماذج الإسلامية التي نجحت في تجاوز مفاهيم الدولة الإسلامية بتطبيق الشريعة إلى تبني قيم الديمقراطية والحداثة بمنظور إسلامي معاصر وهي نماذج (إيران، تركيا، المغرب، إندونيسيا).

النموذج الإيراني: يتناول آصف بيات في دراسته المنطق الكامن وراء مظاهر التغير الاجتماعي والسياسي في إيران منذ اندلاع الثورة الإسلامية، مركزًا على ظهور ما بعد الإسلاموية باعتبارها المحرك لكل هذه التغيرات والذي بلغ ذروته مع الحركة الخضراء. ينطلق بيات من أن ما بعد الإسلاموية الإيرانية حملها بالأساس الطلبة والنساء والشباب والمثقفون الدينيون وموظفو الدولة وطبقة المهنيين.

يؤكد بيات إلى أن تعقيدات الدولة الإسلامية الإيرانية ساعدت على ظهور الرؤية الجديدة، كما أن أسلمة الدولة المتزايدة دفعت إلى علمنة الشريعة، مشيرًا إلى أن ظهور تيار ما بعد الإسلاموية في إيران يرجع بالأساس لثلاثة عوامل، الأول: يتمثل في فشل وتناقضات المشروع الإسلاموي، الثاني: يعبر عن التغيرات الاجتماعية والمتمثلة في (التعليم المتزايد، التمدين، التحول الاقتصادي) والمنتجة لطبقة متوسطة متعلمة حداثية راغبة في إحداث تغييرات سياسية واجتماعية، الثالث: فتمثل في المتغيرات العالمية لسياق ما بعد الحرب الباردة.

النموذج التركي: يقدم الكتاب دراستين حول تفسير عمليات التحول الخطابي والسياسي للإسلاموية داخل تركيا، تجادل الأولى لـ ” إحسان داغي” بأن تركيا تشهد تيارا يمثل قيم ما بعد الإسلاموية بقيادة حزب العدالة والتنمية، فيما تشير دراسة “جيهان توغال “إلى أن التحولات التي شهدتها الإسلاموية ليست إلا تعبيرًا عن تجذير المحافظية التركية. 

 ففي إطار مزيج متشابك من العوامل والمتغيرات الفاعلة في آليات ونتائج تحولات الإسلاميين في تركيا، يشير إحسان داغي إلى أن تركيا شهدت انعطافة ما بعد إسلاموية، حيث مثل حزب العدالة والتنمية وكيلا لهذا التيار، فقد أكد الحزب منذ تأسيسه على أنه لا يستند إلى مرجعية دينية، ولكن بالأحرى إلى ديمقراطية محافظة، تمتزج فيها الأخلاق وقيم الأسرة والفخر التاريخي مع العلمانية والديمقراطية واقتصاد السوق والعولمة، فقد سعى الحزب إلى تقديم بديل علماني حداثي للنظام الكمالي، وبينما حافظ الحزب على علاقته بالإسلام في المجال الاجتماعي، هجره كبرنامج سياسي. 

 ما بعد الإسلاموية التركية  التي ولدت من رحم المأزق السياسي الذي خلقه القمع العلماني في مواجهة الإسلاموية لا تشير حسب داغي إلى فشل الإسلام السياسي ولكنها تعبر عن بناء جديد من الخطابات والمواقف للتكيف مع السياقات السياسية والاجتماعية وذلك من خلال الانخراط في الحياة السياسية، كما أنها تعبر عن استراتيجية سياسية تنتفع بالديمقراطية في إطار خطاب جديد يمكنها من إقامة تحالفات مع مجموعات سياسية واجتماعية مختلفة، وهي تقوم على أساس التجذر داخل مؤسسات الدولة وليست معنية بالسيطرة على الدولة واستخدامها كقوة تحويلية.

على صعيد آخر لا يتفق جيهان توغال مع هذه الرؤية، فيؤكد على أن ما شهدته تركيا ليس تعبيرًا عن ما بعد الإسلاموية، ولكنه بالأحرى تجسيد للمحافظية التركية، فيؤكد على أن حزب العدالة والتنمية لا يمثل ما بعد الإسلاموية بقدر ما يجسد في جوهره “الثورة السالبة”، حيث تتصاعد سلطوية الحزب في سياساته القمعية لحرية الصحافة المعارضة لسياسته، ووضع القيود على المشروع التعددي التركي، كما أنها تقوم على قمع الأكراد، وفرض القيود على السلوكيات وأنماط الحياة العلمانية في المجال العام، منتهيا إلى أن سياسة تركيا الخارجية دليل آخر على محافظية الحزب.

النموذج المغربي: يسعى ” سامي زمني” في دراسته إلىتناول ماهية التحولات الفكرية داخل الحركة الإسلامية في المغرب، مؤكدًا على أن المغرب شهدت نموذجًا للانعطافة ما بعد الإسلاموية جسدها تياران هما: ( حزب العدالة والتنمية، حركة العدل والإحسان)، لقد ولدت تحولات الإسلاموية المغربية من رحم نقد متوالية العنف التي مارستها الجماعات الإسلامية ضد اليسار العلماني والنظام الملكي المغربي، حيث أدت تحولات النظام المغربي في تبني قيم الدمقرطة المحلية في التسعينات إلى إعطاء الفرصة للتيار الإسلامي لإحداث تحولات جذرية تتوافق مع التغيرات العامة.

يؤكد ” زمني” على أنه في الوقت الذي راهن فيه “حزب العدالة والتنمية” على تبني نهج المعارضة المتوافقة مع قواعد النظام المغربي، حيث التزم الحزب بالملكية الدستورية وانتهاج استراتيجية غير تصادمية مع النظام، رفضت “حركة العدل والإحسان” المشاركة في النظام السياسي وانتقدت الملكية لعدم قدرتها على التعامل مع قضايا الفقر والفساد. وينتهي “زمني” إلى أن الإسلام في المغرب أصبح أكثر فردانية ومرتبطا بالخيار الشخصي ومع ذلك يبقى أن أطروحة بيات غير قادرة على تفسير التحولات داخل النموذج الغربي ولا تساعد على توقع سلوك التيار السياسي.

النموذج الإندونيسي: يعرض ” نور هادي حسن” أنماط تحول الإسلاموية الإندونيسية فيما بعد سوهارتو في محاولة لفهم هذا التحول وعلاقته بترسيخ قيم الديمقراطية من خلال تيار إسلامي معتدل. يجادل “هادي حسن” بأن جذور ما بعد الإسلاموية الإندونيسية خرجت من رحم نقد الإسلاموية الراديكالية الداعية إلى تطبيق الشريعة من خلال الجهاد، كما أنها ارتبطت بقيم الحداثة والعولمة فجاءت متأثرة بصعود الطبقة المتوسطة الإسلامية، فيما عملت على تكييف مرجعيتها مع التكنولوجيا المتقدمة والمتوافقة مع الأذواق الاستهلاكية.

قدم “حزب العدالة والازدهار” النموذج الإندونيسي للتحول إلى ما بعد الإسلاموية، حيث تبنى دعوات تطبيق الشريعة من أسفل والتراجع عن فرض الشريعة بالقوة، والدعوة إلى التدين الفردي، وإعادة تنظيم الإسلاموية المعتدلة في مجموعات من المنظمات غير الحكومية في إطار الإسلام الديمقراطي كبديل للأيديولوجيا الراديكالية.

الجزء الثاني: التغير المتأرجح

يتناول الكتاب أيضا مسارات غير مكتملة من تحول بعض الحركات الإسلامية التي تشهد نمطا من التغيير والتجديد في عقيدتها في ضوء المستجدات الداخلية والخارجية، وهي مسارات على مشارف تحول إلى إنعطافه ما بعد إسلاموية كما يعدها الكتاب في ضوء سياقها الفكري والتاريخي، وهنا يقدم الكتاب نموذجين هما (مصر، لبنان). 

النموذج المصري: يتتبع “آصف بيات” مسارات تحول الإسلاموية المصرية في محاولة لاستشراف مستقبلها بعد ثورة 25 يناير فيما إن كانت ستشهد انعطافه ما بعد إسلاموية، مؤكدا أن عملية التحول الإسلاموي في مصر متأرجحة وتتجاذبها أجنحة مختلفة حيث يصر صف القيادات التاريخية داخل الإخوان على تبني المحافظة الإسلاموية، فيما يميل جناح القيادي عبد المنعم أبو الفتوح وقيادات حزب الوسط إلى رؤية أقرب لحزب العدالة والتنمية المغربي، بينما يتطلع شباب الحركة إلى انعطافة ما بعد إسلاموية وهو ما دفع إلى إقصائهم من جماعة الإخوان.

يشير ” بيات” إلى أن مسارات التحول الإسلامية في مصر ولدت من رحم التخلي عن السلاح والعنف والتحول للعمل السياسي مع الاحتفاظ بالعقيدة الإسلاموية فقادة “جماعة الإخوان المسلمين” التيار المدافع عن الديمقراطية الإسلامية، ويجادل الكاتب بأن تأرجح تحولات الإسلاميين في مصر يرجع إلى ظهور أنماط مختلفة من التدين الفردي لم يكن للإسلاميين فيها الدور الأكبر.

اضطراب الحركة الإسلامية في مصر وعجزها في تحقيق نجاح سياسي أو اجتماعي للمشروع الإسلاموي، تصاحب معه ظهور أشكال أخرى من التدين الفردي غير المنظم عبر التزام النساء وانتشار الحجاب واندماج الفن مع القومية والتدين، كما تزامن معها أنماط للتدين بين الفقراء الريفيين أو الحضريين، مع ظهور برجوازية صغيرة متدينة من العائدين من الخليج، كما ذاع صيت التيار وشهرة ظاهرة الداعية المعتدل أمثال عمرو خالد، فيما جنحت الدولة لأسلمة العلمانية فاستعادت المساحات الدينية لإضفاء الشرعية عليها.

النموذج اللبناني: يجادل الكاتب ” جوزيف الأغا” في دراسته بأن حزب الله اللبناني يشهد جملة من التحولات الفكرية والميدانية تقوده للتحول إلى ما بعد الإسلاموية المتأرجحة، حيث يؤكد بأن حزب الله نجح في الانتقال كونه جماعة منعزلة ومهمشة إلى قوى مندمجة ومؤثرة في السياسة الوطنية والدولية حتى أصبح للتنظيم اليد العليا في السياسة اللبنانية.

رصد “الأغا” مراحل تطور حزب الله الإسلاموية وصولا إلى التحولات شبه الجذرية في منطلقاته الفكرية، فقد تحول حزب الله من حركة إسلامية للاحتجاج إلى حزب سياسي، ومن جماعة مرتبطة بأيديولوجيا الخميني وولاية الفقيه الإيرانية، إلى حزب يؤمن بالدولة العصرية وفقا لخصوصيات المجتمعات مع الاحتفاظ بإيمانه بفكرة الدولة الإسلامية، كما أنه انتقل من تنظيم راديكالي إلى تنظيم يتبنى خطابا أكثر اعتدالا، وتبنى سياسة الانفتاح تجاه الجماهير اللبنانية، ومن جماعة منعزلة إلى قوة ذات أغلبية برلمانية يتحالف مع الأحزاب العلمانية، ومن جماعة طائفية تتبنى مفاهيم أهل الذمة إلى حزب يعترف بالمواطنة والحقوق والحريات.

الجزء الثالث: نقد من الخارج

على خلاف النماذج السابقة التي سعت إلى تجديد مسارات الإسلاموية لتحقيق المواءمة مع العلمانية وقيم الديمقراطية بالنقد الذاتي، شهدت بعض الدول تيارات ما بعد إسلاموية استقت منهجها من نقد الإسلاموية من الخارج، فلم يكن لها ماضٍ إسلاموي، كما لم يكن نقدها منصبًّا على إصلاح الذات، ولكن على نقد شركائهم الإسلاميين، أو تيارات قادها بعض المنشقون من الحركات الإسلامية.

النموذج السعودي: يجادل “ستيفان لاكروا” أن المملكة العربية السعودية شهدت منذ نهاية تسعينات القرن الماضي بوادر خطاب ما بعد إسلاموي، وذلك من رحم الإسلاموية التي تأسست مع جيل الصحوة الإسلامية في الستينات، حيث أن هذا الخطاب تولد عبر ما عرف بتيار “الإسلام الليبرالي”، وهو تيار جمع بين إسلاميين منشقين عن الصحوة ومجموعة من النخبة الليبرالية السعودية، وقد تبنى هذا التحالف خطاب أكثر انفتاحًا على قيم الديمقراطية والإصلاح مثل التعددية والتعايش السلمي والدستور وتحويل النظام إلى ملكية دستورية وتعزيز قيم المجتمع المدني.

ولد تيار الإسلام الليبرالي السعودي غير مكتملا عانى من الهشاشة والتفكك، حيث اتسم بنخبويته التي لا يتعدى بضعة مئات من المثقفين السعوديين، كما أنه عانى من انعدام الثقة بين الفاعلين الإسلاميين وغير الإسلاميين، وهو ما دفع إلى إحداث انشقاقات واسعة داخل النموذج، بالإضافة إلى استغلال التيار من قبل النخبة الحاكمة لتوظيفهم في الصراع السياسي، كما شهد قيادات النموذج قمعا من قبل النظام أضعفت من تشكيلاته.

النموذج الباكستاني: على غرار نشأة الإسلام الليبرالي السعودي يجادل “حميراء اقتدار” على أن باكستان شهدت مسارات مختلفة داخل الحركة الإسلامية قادها مجموعة من القيادات المنشقة عن أبرز الأحزاب الإسلامية التاريخية وهي “جماعت إسلام” التي أسسها أبو الأعلى المودودي، تبنت التيارات الوليدة نموذج حداثي ما بعد إسلاموي يسعى إلى العلمنة عبر الاعتدال المستنير، بهدف إحداث تغيير شامل بالمجتمع.

يؤكد “اقتدار” أن التحولات التاريخية والاجتماعية داخل باكستان دفعت بعض الإسلاميين للانشقاق عن حزب الجماعة الإسلامية، مؤكدا على تولد تياران متناقضان من المنشقين، أحدهما، راديكالي؛ قادته جماعة عسكر طيبة متأثرة بالحرب الأفغانية، أما الآخر؛ فيبشر بـ “الليبرالية الإسلامية” قاده جناح “جاويد غامدي” المرتبط بنظام برويز مشرف، وجناح “جماعة الهدى” التي أسستها الداعية فرحت هاشمي والتي اعتمدت على شعار الإيمان الفردي ووجدت لها شعبية بين النساء والطبقة الميسورة.

الجزء الرابع: هل هي ما بعد إسلاموية مستمرة؟

في نهايته يسعى الكتاب للتأكيد على أن ما بعد الإسلاموية ليست وليدة عقد التسعينات في القرن الماضي، كما أنها ليست قائمة على نقد الإسلاموية وفشلها، ولكن هناك بعض النماذج ما بعد الإسلاموية لها تاريخ أبعد لم تكن نتاج تحول في خطاب الإسلاموية فهي إما سابقة لها أو متزامنة معها وتمثل (سوريا والسودان) نموذجان لذلك.

النموذج السوداني: يجادل “عبد الوهاب الأفندى” على أن الحالة السودانية تعبر عن حالة فريدة من الانعطافة نحو ما بعد الإسلاموية، حيث أن التوجهات ما بعد الإسلاموية لم تكن وليدة التحولات من الإسلاموية، ولكنها سبقتها في القرن التاسع عشر على يد الحركة المهدية الجديدة، حيث تعتبر السودان البلد الوحيد الذي دخل القرن العشرين بمزاج ما بعد إسلاموي، تولد هذا النموذج تحت سيادة الاحتلال البريطاني للبلاد.

 يذهب الأفندي إلى أن المهدية الجديدة مثلت مراجعة وإعادة تشكل مثيرة للأيديولوجيا الإسلامية الثورية كي تستطيع التكيف مع التحديات التي مثلها النظام الاستعماري والتحديث، كما أن الإسلاموية السودانية تم تأطيرها بالفعل في حالة “ما بعد إسلاموية”، كما صاحب صعود الإسلاموية ظهور مشروعات ما بعد إسلاموية أخرى في خمسينات القرن الماضي وذلك من رحم الانشقاق من الإسلاموية وعلى رأسها حركة التحرير الإسلامي والحزب الجمهوري.

النموذج السوري: يشير “توماس بريه” إلى أن جذور الانعطافه ما بعد الإسلاموية في سوريا تعود إلى السنوات الأولى لتأسيس جماعة الإخوان السورية في أربعينات القرن الماضي، حيث قبل الإخوان السوريين بالتوجهات ما بعد الإسلاموية مثل الحكم البرلماني والتعددية السياسية والمواطنة وذلك ارتباطا بالسياقات التاريخية والسياسية لنشأتها وارتباطها بالطبقة البرجوازية السورية، وهي بذلك لا تكون تعبيرا عن نقلة فكرية من داخل الإسلاموية.

يشير بيريه إلى استمرار الإخوان كتوجه ما بعد إسلاموي بالإضافة إلى ظهور شبكات ما بعد إسلاموية مكونة من النشطاء العاديين الذين تبنوا مطالب المعارضة العلمانية، يأتي ذلك في ظل صعود تيار الإسلاموية الذي مثله العلماء المرتبطون بالنظام السوري المطالبين بأسلمة المجتمع.

ثالثا: رؤية نقدية

شهدت محاولات تطبيق مقولات ما بعد الإسلاموية على كافة نماذج إسلامية متعددة مجموعة من الملاحظات، حيث أكد الباحث حسام تمام على أنها غير صالحة لتفسير جميع الظواهر الدينية والسياسية الحالية في العالم الإسلامي، وأن عموميتها من شأنها أن تخفي ما يمتاز به مسار المجتمعات الإسلامية من تعقيد وتركيب، موضحًا أن هناك خطأ كبيرًا في إطلاقية القول بنهاية الإسلام السياسي أو ما بعد الإسلاموية، مردّه الأساسي هو التعميم وعدم إدراك تركيبية الحالة الإسلامية وتعقيدها.

يتابع تمام تأكيده بأن أطروحة ما بعد الإسلام السياسي تستبعد تيارا فاعلا في الحالة الإسلامية السياسية وهو تيار السلفية، حيث تركز الأطروحة على رصد تصاعد ظاهرة المثقفين الجدد وقراءتهم الحداثية للنصوص الدينية، بينما تعتمد السلفية على النصوصية التقليدية التراثية، مؤكدا على أن معظم الدراسات التي طرحت فكرة نهاية الإسلام السياسي تركزت على حالة الإخوان المسلمين وما تفرع من مدرستهم، وهو ما لا يمكن تعميمه على بقية الحالة الإسلامية التي يتعدد فيها الفاعلون.

تشير أيضا هبة رؤوف عزت في قراءتها للأطروحة على أن اعتبار اللجوء لآليات قصيرة الأجل وبيئة مرنة ومطالب تتعلق بالحريات والحقوق الفردية والديمقراطية هو حكر على الحركات الجديدة يغفل الحراك الجيلي داخل الحركات والذي وضح جليا في العقد الأخير قبل وبعد ثورات الربيع العربي والذي بدأ في المراوحة بين أدوات مختلفة للفعل والحشد، وتحرر من بعض القيود التنظيمية.

تتابع عزت بأن أطروحة ما بعد الإسلاموية توحي بأن التحول ذاتي مرتبط بارتباكات أو إخفاقات المشروع الإسلامي السياسي، بصرف النظر عن بنية الدولة ذاتها وسلطاتها السيادية في تعاملها مع المشهد الإسلامي بل والواقع السياسي برمته. فضلاً عن تحولاتها الداخلية من حيث علاقتها بالمجتمع وخلفية النخب الحاكمة وشبكات المصالح وتغير منطقها كدولة وفلسفة علاقتها بالمجتمع.

ننتهي من ذلك إلى أن أطروحة ما بعد الإسلاموية شهدت محاولات عدة لتطوير مقولاتها المنهجية، ولكنها تبقى وحدة تحليل متحيزة وغير كافية لتفسير كافة التغيرات الإسلاموية خاصة صعود تيارات السلفية بأجنحتها المختلفة وتطور خطابها وتنوع استراتيجيتها في الآونة الأخيرة، فهي تشكلت أيضا من مثقفين وشباب وحركة نسوية سلفية وجهادية.

تعاني الأطروحة من التداخل وعدم وجود خطوط منهجية فاصلة وناظمة بين النموذج ما بعد الإسلاموية و الإسلاموية الانتخابية، وكذلك عدم الفصل بينها وبين العلمنة، وهو ما يشير إلى أن ما بعد الإسلاموية كمشروع غير مستقل ولا يقدم جديدا، لكنه بالأحرى، يسعى إلى تحقيق المواءمة بين الإسلام والعلمانية كوسيلة لتحقيق نجاح سياسي، وهذه المواءمة غالبا ما دفعت إلى تناقض خطاب وممارسة منتسبي هذا التيار ومن ثم فقدانه لقواعد شعبية عريضة في دول مختلفة خاصة الشرق الأوسط.

ارتباط بعض النماذج التي قدمها الكتاب أيضا بسياسة الأنظمة وتكييف خطابها ليتماهى مع خطاب الأنظمة على حساب المشروع والفكرة كما في (المغرب، السودان، سوريا، السعودية) كما أن جنوح بعض النماذج إلى التسلطية أو استخدام السلاح للهيمنة أحيانا كما يعرض الكتاب (تركيا، لبنان) يشير إلى وجود أزمة منهجية ومرجعية للمشروع.

يبقى إفراط الأطروحة في الاعتماد على التفسير الاجتماعي للتحولات الفكرية الإسلامية لدى الشباب والمثقفين الجدد والنساء محل نقاش حول قدرة ثبات تلك التوجهات وبنيتها المرجعية بعيدا عن العاطفة وعلى أسس تعقل القضايا وتحديد علاقتها بالمجتمع والدولة والجماعات الإسلامية الأخرى، وهو ما يفسر صعوبة قدرة الأطروحة على استشراف المستقبل وقراءة تحولات الجماعات الإسلامية المستقبلية. في النهاية يمكن القول بأن بعض مقولات ما بعد الإسلاموية ولدت هشة غير قادرة على الصمود ولم تستطع كسب الحاضنة الشعبية، ولكنها تظل نخبوية؛ فيما تتمدد تيارات متطرفة أخرى لكسب تلك الحاضنة، كذلك ولدت ضعيفة بسبب ارتباطها بالأنظمة الحاكمة تؤدي وظيفة محددة مؤقتا، كما أن بعض النماذج التي وصلت للحكم عانت من سقوط مدوي بسبب عدم امتلاكها مشروع كامل لإحداث تغيير مجتمعي شامل.

“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“

جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى